الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

فأجابني بلسان حال واعتنى

لا الشمس تحكيها فأحكيها أنا

وصرفت وجهي نحو غصن أملد

قد رام يشبه قدّها لمّا انثنى

فضحكت هزءا عند هزّ قوامها

إذا رام أن يحكى قواما كالقنا

وكتبت إليه في غرض يظهر من الأبيات : [الطويل]

جوانحنا نحو اللقاء جوانح

ومقدار ما بين الدّيار قريب

وتمضي الليالي والتزاور معوز

على الرغم منّا إنّ (١) ذا لغريب

فديتك عجّلها لعيني زيارة

ولو مثل ما ردّ اللّحاظ مريب

وإنّ لقائي جلّ عن ضرب موعد

لأكرم ما يهدى الأريب أريب

فراجعني بقوله ، والتجنّي شيمة : [الطويل]

لعمرك ما يومي إذا كنت حاضرا

سوى يوم صبّ من عداه يغيب

أزور فلا ألفي لديك بشاشة

فيبعد منّي الخطو وهو قريب

فلا ذنب للأيام في البعد بيننا

فإني لداعي القرب منك مجيب

وإنّ لقاء جاء من غير موعد

ليحسن لكن مرّة ويطيب

وإحسانه كثير ، وفيما ثبت كفاية لئلّا نخرج عن غرض الاختصار.

محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي (٢)

يكنى محمد أبا بكر ، أخو الذي قبله.

حاله : تلوه في الفضل والسّراوة ، وحسن الصورة ، ونصاعة الطّرف ، مرب عليه بمزيد من البشاشة والتنزّل ، وبذل التودّد ، والتبريز في ميدان الانقطاع ، متأخر عنه في بعض خلال غير هذا. ذكيّ الذهن ، مليح الكتابة ، سهلها ، جيّد العبارة ، متأتّي اليراع ، مطلق اليد ، حسن الخطّ ، سريع بديهة المنثور ، معمّ ، مخول في التخصّص والعدالة. كتب الشّروط بين يدي أبيه ، ونسخ كثيرا من أمّهات الفقه ، واستظهر كتبا ، من ذلك «المقامات الحريرية». وكتب بالدار السلطانية ، واختصّ بالمراجعة عمّن بها ، والمفاتحة أيام حركات السلطان عنها إلى غيرها. حميد السيرة ، حسن الوساطة ، نجديّ الجاه ،

__________________

(١) في الأصل : «وإنّ» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) ترجمة أبي بكر محمد بن محمد ابن قطبة الدوسي في نثير فرائد الجمان (ص ٣١٨) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ١٦٧).

١٦١

مشكور التصرّف ، خفيف الوطأة. وولّي الخطابة العليّة ، مع الاستمساك بالكتابة. ولم يؤثر عنه الشعر (١) ، ولا عوّل عليه.

محمد بن محمد بن محمد بن قطبة الدّوسي

يكنى أبا بكر ، وقد ذكرنا أباه وعمّه ، ويأتي ذكر جدّه.

حاله : نبيل المقاصد في الفن الأدبي ، مشغول به ، مفتوح من الله عليه فيه ، شاعر مطبوع ، مكثر ، انقاد له مركب النظم ، في سنّ المراهقة ، واشتهر بالإجادة ، وأنشد السلطان ، وأخذ الصّلة ، وارتسم لهذا العهد في الكتابة. وشرع في تأليف يشتمل على أدباء عصره.

شعره : ومما خاطب به أحد أصحابه : [الطويل]

إذا شمت من نحو الحمى في الدّجا برقا

أبى الدّمع إلّا أن يسيل ولا يرقى

ومهما تذكّرت الزمان الذي مضى

تقطّعت الأحشاء من حرّ ما ألقى

خليليّ ، لا تجزع لمحل فأدمعي

تبادر سقيا في الهوى لمن استسقى

وما ضرّ من أصبحت ملك يمينه

إذا رقّ لي يوما وقد حازني رقّا

فنيت به عشقا وإن قال حاسد

أضلّ الورى من مات في هاجر شقّا

تلهّب قلبي من تلهّب خدّه

فيا نعم ذاك الخدّ فاض بأن أشقى

ومنها :

وكم من صديق كنت أحسب أنه

إذا كذبت أوهامنا رفع الصّدقا

محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي (٢)

ابن عمّ المذكورين قبله ، يكنى أبا القاسم.

حاله : حسن (٣) الصورة ، لازم القراءة على شيوخ بلده ، ونظم الشعر على الحداثة ، وترشح للكتب بالدار السلطانية مع الجماعة ، ممن هو في نظمه.

__________________

(١) قال عنه ابن الأحمر إنّ الشعر فتح له بابه وهو صغير ، وأتى منه بما ملأ الأقطار بالكثرة ، وأورد له بعض في «نثير فرائد الجمان» (ص ٣١٩ ـ ٣٢٠).

(٢) ترجمة أبي القاسم محمد بن محمد ابن قطبة الدوسي في الكتيبة الكامنة (ص ٢٧٢).

(٣) يبدو أن نظرة ابن الخطيب لأبي القاسم تغيرت عند تأليف الكتيبة الكامنة ، فهو هناك يذمّه وينعته بأقبح النعوت ، على خلاف ما ورد هنا.

١٦٢

ومن شعره ، كتب إليّ بما نصّه : [الكامل]

احسب وحدّه يوم رأسك ربما

تعطي السّلامة في الصراع سلّما

محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي

أخو الفقيه أبي بكر بن القاسم بن محمد المذكور.

حاله : شاب حسن فاضل ، دمث ، متخلّق ، جميل الصورة ، حسن الشكل ، أحمر الوجنتين. حفظ كتبا من المبادىء النحوية ، وكتب خطّا حسنا ، وارتسم في ديوان الجند مثل والده ، وهو الآن بحاله الموصوفة.

شعره : قيّد أخوه لي من الشعر الذي زعم أنه من نظمه ، قوله : [المتقارب]

حلفت بمن ذاد عنّي الكرى

وأسهر جفني ليلا طويلا

وألبس جسمي ثياب النّحول

وعذّب بالهجر قلبي العليلا

ما حلت عن ودّه ساعة

ولا اعتضت منه سواه بديلا

محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى

ابن عبد الرحمن بن يوسف بن جزيّ الكلبي (١)

من أهل غرناطة وأعيانها ، يكنى أبا عبد الله.

أوّليّته : تنظر في اسم أبيه في ترجمة المقرئين والعلماء.

حاله : من أعلام الشّهرة على الفتاوة ، وانتشار الذكر على الحداثة ، تبريزا في الأدب ، واضطلاعا بمعاناة الشعر ، وإتقان الخطّ ، وإيضاحا للأحاجي والملغزات. نشأ بغرناطة في كنف والده ، رحمه الله ، مقصور التّدريب عليه ، مشارا إليه في ثقوب الذهن ، وسعة الحفظ ، ينطوي على نبل لا يظهر أثره على التفاتة ، وإدراك ، تغطّي شعلته مخيّلة غير صادقة ، من تغافله. ثم جاش طبعه ، وفهق حوضه ، وتفجّرت ينابيعه ، وتوقّد إحسانه.

ولمّا فقد والده ، رحمه الله ، ارتسم في الكتابة ، فبذّ جلّة الشعراء ، إكثارا واقتدارا ، ووفور مادة ، مجيدا في الأمداح ، عجيبا في الأوضاع ، صدّيقا في النّسيب ، مطبوعا في المقطوعات ، معتدلا في الكتابة ، نشيط البنان ، جلدا على العمل ، سيّال

__________________

(١) ترجمة محمد بن جزي في الكتيبة الكامنة (ص ٢٢٣) ونثير فرائد الجمان (ص ٢٩٢) وأزهار الرياض (ج ٣ ص ١٨٩) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٧٠).

١٦٣

المجاز ، جموح عنان الدّعابة ، غزلا ، مؤثرا للفكاهة. انتقل إلى المغرب لشفوف خصله ، على ما قد قسّم الحظوظ. سبحانه من رزقه بهذه البلاد ، فاستقرّ بباب ملكه ، مرعيّ الجناح ، أثير الرتبة ، مطلق الجراية ، مقرّر السّهام ، معتبا وطنه ، راضيا عن جيرته ، ديدن من يستند إلى قديم ، ويتحيّز إلى أصالة.

تواليفه : أخبرني عند لقائه إياي بمدينة فاس في غرض الرسالة ؛ عام خمسة (١) وخمسين وسبعمائة ، أنه شرع في تأليف تاريخ غرناطة ، ذاهبا هذا المذهب الذي انتدبت إليه ، ووقفت على أجزاء منه تشهد باضطلاعه ، وقيّد بخطّه من الأجزاء الحديثة والفوائد والأشعار ما يفوت الوصف ، ويفوق الحدّ. وجرى ذكره في «التاج» بما نصه (٢) :

«شمس في سماء (٣) البلاغة بازغة ، وحجّة على بقاء الفطرة الغريزية (٤) في هذه البلاد المغربية بالغة ، وفريدة وقت أصاب من فيها نادرة أو نابغة ، من جذع (٥) بن علي القادح ، وجرى (٦) من المعرفة كل بارح ، لو تعلّقت الغوامض بالثريّا لنالها ، وقال أنا لها. وربما غلبت الغفلة على ظاهره ، وتنطبق (٧) أكمامها على أزاهره ، حتى إذا قدح في الأدب زنده ، تقدّم المواكب بنده ، إلى خطّ بارع ، يعنو طوال الطويل منه إلى سرّ وبراعة ، كما ترضى المسك والكافور عن طرس وحبر.

شعره : فمن غرامياته وما في معناها قوله (٨) : [الطويل]

متى يتلاقى شائق ومشوق

ويصبح عاني (٩) الحبّ وهو طليق

أما أنها أمنيّة عزّ نيلها

ومرمى لعمري في الرّجاء (١٠) سحيق

ولكنني (١١) خدعت (١٢) قلبي تعلّة

أخاف انصداع القلب فهو رقيق

وقد يرزق الإنسان من بعد يأسه

وروض الرّبى بعد الذبول يروق

__________________

(١) في الأصل : «خمس» وهو خطأ نحوي.

(٢) قارن بالكتيبة الكامنة (ص ٢٢٣ ـ ٢٢٤).

(٣) كلمة «سماء» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الكتيبة الكامنة.

(٤) في الكتيبة : «العربية هي بالمغربية بالغة».

(٥) في الكتيبة : «من جذع أبرّ على القارح».

(٦) في الكتيبة : «وزجر ... كل سانح ، لا بارح».

(٧) في الأصل : «وتنطفق» ولا معنى له. وفي الكتيبة الكامنة : «وانطبق كمامه».

(٨) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦).

(٩) في الأصل : «عير» وقد اخترنا هذه الكلمة من الكتيبة ؛ لأنها أكثر ملاءمة للمعنى.

(١٠) في الأصل : «الرجا» وهكذا ينكسر الوزن.

(١١) في الأصل : «ولكني» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(١٢) في الكتيبة : «خادعت».

١٦٤

تباعدت لما زادني القرب لوعة

لعلّ فؤادي من جواه يفيق

ورمت شفاء الداء بالداء مثله

وإني (١) بألّا أشتفي لحقيق

وتالله ما للصّبّ في الحبّ راحة

على كلّ حال إنه لمشوق

ويا (٢) ربّ قد ضاقت عليّ مسالكي (٣)

فها أنا في بحر الغرام غريق

ولا سلوة ترجى ولا صبر (٤) ممكن

وليس إلى وصل الحبيب طريق

ولا الحبّ عن تعذيب قلبي ينثني

ولا القلب للتّعذيب منه يطيق

شجون يضيق الصّدر عن زفراتها

وشوق نطاق الصبر عنه يضيق

نثرت عقود الدّمع ثم نظمتها

قريضا فذا درّ وذاك عقيق

بكيت أسى حتى بكى حاسدي معي

كأنّ عذولي عاد وهو صديق (٥)

ولو أنّ عند الناس بعض محبّتي

لما كان يلفى (٦) في الأنام مفيق

أيا عين كفّي الدمع ما بقي الكرى

إذا منعوك النّوم (٧) سوف تذوق

ويا نائما (٨) عن ناظريّ أما ترى (٩)

لشمسك من بعد الغروب شروق؟

رويدك رفقا بالفؤاد فإنه

عليك وإن عاديته (١٠) لشفيق

نقضت عهودي ظالما بعد عقدها

ألا إنّ عهدي كيف كنت وثيق

كتمتك حبّي (١١) يعلم الله مدّة

وبين ضلوعي من هواك حريق

فما زلت بي حتى فضحت (١٢) فإن أكن

صبرت (١٣) فبعد (١٤) اليوم لست أطيق

وقال (١٥) : [الكامل]

ومورّد الوجنات معسول اللّمى

فتّاك لحظ (١٦) العين في عشّاقه

__________________

(١) في الكتيبة : «فإني».

(٢) في الكتيبة : «أيا».

(٣) في الكتيبة : «مذاهبي».

(٤) في الكتيبة : «ولا الصبر».

(٥) في الكتيبة الكامنة : «... حتى بكت لي حسّدي كأنّ عدوّي صار وهو ...».

(٦) في الأصل : «يلقى» والتصويب من الكتيبة.

(٧) في الكتيبة : «اليوم».

(٨) المصدر نفسه : «غائبا».

(٩) المصدر نفسه : «يرى».

(١٠) المصدر نفسه : «عذّبته».

(١١) المصدر نفسه : «حبّا».

(١٢) المصدر نفسه : «حتى افتضحت».

(١٣) المصدر نفسه : «صبوت».

(١٤) في الأصل : «بعد» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

(١٥) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص ٢٢٤).

(١٦) في الأصل : «فتّاك بلحظ» ، وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

١٦٥

الخمر بين لثاته والزّهر في

وجناته والسّحر في أحداقه

ميّاد (١) غصن البان في أثوابه

ويلوح بدر التّمّ في أطواقه

من للهلال (٢) بثغره أو خدّه (٣)

هب أنه يحكيه في إشراقه

ولقد تشبّهت الظّباء (٤) بشبهة

من خلقه وعجزن عن أخلاقه

نادمته وسنا محيّا الشمس قد

ألقى على الآفاق فضل رواقه

في روضة ضحكت ثغور أقاحها

وأسال (٥) فيها المزن من آماقه

أسقيه كأس سلافة كالمسك في

نفحاته والشهد عند مذاقه

صفراء لم يدر الفتى أكواسها

إلّا تداعى همّه لفراقه

ولقد تلين الصّخر (٦) من سطواته

فيعود للمعهود من إشفاقه

وأظلّ أرشف من سلافة (٧) ثغره

خمرا تداوي القلب من إحراقه

ولربما عطفته عندي (٨) نشوة

تشفي (٩) الخبال بضمّه وعناقه

أرجو نداه (١٠) إذا تبسّم ضاحكا

وأخاف منه العتب في إطراقه

أشكو القساوة من هواي (١١) وقلبه

والضّعف من جلدي ومن ميثاقه

يا هل لعهد قد مضى من عودة

أم لا سبيل بحالة للحاقه

يا ليت (١٢) لو كانت لذلك حيلة

أو كان يعطى المرء باستحقاقه

فلقد يروق الغصن بعد ذبوله

ويتمّ (١٣) بدر التّمّ بعد محاقه

__________________

(١) في الأصل : «ينادى غصن ...» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

(٢) في الأصل : «للهلاك» والتصويب من الكتيبة.

(٣) في الكتيبة : «بخدّه أو ثغره».

(٤) في الأصل : «الظبا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

(٥) في الأصل : «وأمال» ، وقد اخترنا هذه الكلمة من الكتيبة لأنها أكثر ملاءمة للمعنى.

(٦) في الكتيبة : «الصمّ».

(٧) في الكتيبة : «أقاحي».

(٨) في الكتيبة : «نحوي».

(٩) في الأصل : «فشفى الخيال» والتصويب من الكتيبة.

(١٠) في الكتيبة : «رضاه».

(١١) في الكتيبة : «هواه».

(١٢) في الأصل : «يا ليت شعري لو ...» وهكذا ينكسر الوزن ، ولذلك حذفنا كلمة «شعري» ليستقيم الوزن ، كما في الكتيبة الكامنة.

(١٣) في الكتيبة : «ويروق».

١٦٦

ومما اشتهر عنه في هذا الغرض (١) : [الكامل]

ذهبت حشاشة قلبي المصدوع (٢)

بين السّلام ووقفة التوديع

ما أنصف الأحباب يوم وداعهم

صبّا (٣) يحدّث نفسه برجوع

أنجد بغيثك (٤) يا غمام فإنني

لم أرض يوم البين فعل (٥) دموع

من كان يبكي الظاغنين بأدمع

فأنا الذي أبكيهم بنجيع

إيه وبين الصّدر مني والحشا

شجن طويت على شجاه ضلوعي (٦)

هات الحديث عن (٧) الذين تحمّلوا

واقدح (٨) بزند الذّكر نار ولوعي

عندي شجون في التي جنت النّوى (٩)

أشكو الغداة (١٠) وهنّ في توديع (١١)

من وصلي الموقوف أو من سهدي (١٢) ال

موصول أو من نومي المقطوع (١٣)

ليت الذي بيني وبين صبابتي

بعد (١٤) الذي بيني وبين هجوعي

يا قلب (١٥) لا تجزع لما فعل النّوى (١٦)

فالحرّ ليس لحادث بجزوع

أفبعد (١٧) ما غودرت في أشراكه

تبغي النّزوع؟ ولات حين نزوع

ومهفهف مهما هبت ريح الصّبا

أبدت له عطفاه عطف مطيع

جمع المحاسن وهو منفرد بها

فاعجب لحسن مفرد مجموع

والشمس لو لا إذنه ما آذنت

خجلا وإجلالا له بطلوع (١٨)

__________________

(١) القصيدة في نثير فرائد الجمان (ص ٢٩٦ ـ ٢٩٨) ، وبعضها في نفح الطيب (ج ٨ ص ٧٧ ـ ٧٨) وأزهار الرياض (ج ٣ ص ١٩٧).

(٢) في الأصل : «الصدوع» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من نثير فرائد الجمان.

(٣) في النثير : «صبّ».

(٤) في النثير : «بدمعك».

(٥) في الأصل : «قلّ» والتصويب من نثير فرائد الجمان.

(٦) في الأصل : «ضلوع» والتصويب من النثير.

(٧) في النثير : «على».

(٨) في النثير : «تقدح».

(٩) في النثير وأزهار الرياض : «من أي أشجاني التي جنت الهوى». وفي النفح : «من أي أشجاني التي جنت النوى»

(١٠) في النفح وأزهار الرياض : «العذاب».

(١١) في المصادر الثلاثة : «تنويع».

(١٢) في المصادر الثلاثة : «هجري».

(١٣) في هذا البيت والبيتين التاليين مصطلحات الحديث وهي : الموقوف ، والموصول ، والمقطوع ، والصحيح ، والموضوع ، والمسند.

(١٤) في النثير : «مثل».

(١٥) في النثير : «يا قلبي».

(١٦) في النثير : «الهوى».

(١٧) في الأصل : «أبعد» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من نثير فرائد الجمان.

(١٨) في الأصل : «مطلوع» ، والتصويب من النثير.

١٦٧

ما زلت أسقي خدّه من أدمعي

حتى تفتّح عن رياض ربيع

إن كان يرنو عن نواظر شادن

فلربّ ضرغام بهنّ صريع

عجبا لذاك الشعر زاد بفرقه

حسنا كحسن الشّعر بالتّصريع

منع الكرى ظلما وقد منع الضّنا

فشقيت (١) بالممنوح والممنوع

جرّدت ثوب العزّ عني طائعا

أتراه يعطفه عليّ خضوعي؟

لم أنتفع (٢) لبسا من الملبوس في

حبّي ولا بعذاري المخلوع

بجماله استشفعت في إجماله

ليحوز أجر منعّم وشفيع

يا خادعي عن سلوتي وتصبّري (٣)

لو لا الهوى ما كنت بالمخدوع

أوسعتني بعد (٤) الوصال تفرّقا

وأثبتني سوءا لحسن صنيعي

أسرعت فيما ترتضي فجزيتني (٥)

بطويل هجران إليّ سريع (٦)

أشرعت رمحا من قوامك ذابلا (٧)

فمنعت من (٨) ماء الرّضاب شروعي

خذ من حديث تولّعي وتولّهي

خبرا صحيحا ليس بالمصنوع (٩)

يرويه خدّي مسندا عن أدمعي

عن مقلتي عن قلبي المصدوع (١٠)

كم من ليال في هواك قطعتها

وأنا (١١) لذكراهنّ في تقطيع

لا والذي طبع الكرام على الهوى

ويعزّ سلوان (١٢) الهوى المطبوع

ما غيّرتني الحادثات ولم أكن

بمذيع سرّ للعهود مضيع

لا خير في الدنيا وساكنها (١٣) معا

إن كان قلبي منك غير جميع

وقال في غير ذلك في غرض يظهر من الأبيات : [الطويل]

وقالوا عداك البخت والحزم عندما

غدوت غريب الدّار منزلك الفنت

__________________

(١) في النثير : «فسقيت».

(٢) في النثير : «لم أقنع بسقامي الملبوس في ...».

(٣) في النثير : «ويا خادعي ... ومصبّري».

(٤) في النثير : «بعدا بفضل تقرّبي وجزيتني سوءا ...».

(٥) في النثير : «فأثبتني».

(٦) في النثير : «صريع».

(٧) في الأصل : «دايلا» والتصويب من النثير.

(٨) في النثير : «في».

(٩) في النثير : «... تولعي وصبابتي ... ليس بالموضوع». وفي النفح : «أو من حديث تولّهي وتولّعي ... ليس بالموضوع».

(١٠) في النفح : «المفجوع».

(١١) في النثير : «قلبي».

(١٢) في الأصل : «وبرّ سوا أن» ، والتصويب من نثير فرائد الجمان.

(١٣) في النثير : «الدنيا وفي لذاتها إن كان جمعي منك ...».

١٦٨

ألم يعلموا أنّ اغترابي حرامة

وأن ارتحالي عن دارهم هو البخت؟

نعم لست أرضى عن زماني أو أرى

تهادي السفن المواخر والبخت

لقد سئمت نفسي المقام ببلدة

بها العيشة النّكراء والمكسب السّحت

يذلّ بها الحرّ الشريف لعبده

ويجفوه بين السّمت من سنة ستّ

إذا اصطافها المرء اشتكى من سمومها

أذى ويرى فيه أدّا يبتّ

ولست كقوم في تعصبّهم عتوا

يقولون بغداد لغرناطة أخت

رغبت بنفسي أن أساكن معشرا

مقالهم زور وودّهم مقت

يدسّون في لين الكلام دواهيا

هي السّمّ بالآل المشود لها لتّ

فلا درّ درّ القوم إلّا عصيبة

إليّ بإخلاص المودّة قد متّوا

وآثرت أقواما حمدت جوارهم

مقالهم صدق وودّهم بحت

لهم عن عيان الفاحشات إذا بدت

تعام وعن ما ليس يعينهم صمت

فما ألفوا لهوا ولا عرفوا خنى

ولا علموا أنّ الكروم لها بنت

به كل مرتاح إلى الضّيف والوغى

إذا ما أتاه منهما النبأ البغت

وأشعث ذي طمرين أغناه زهده

فلم يتشوّف للذي ضمّه التّخت

صبور على الإيذاء بغيض على العدا

معين على ما يتّقي جأشه الشّتّ (١)

ولي صاحب مثلي يمان جعلته

جليسي نهارا أو ضجيعي إذا بتّ

وأجرد جرّار الأعنّة فارح

كميت وخير الخيل قدّاحها الكمت

تسامت به الأعراق في آل أعوج

ولا عوج في الخلق منه ولا أمت

وحسبي لعضّات النوائب منجدا

عليها الكميت الهند والصّارم الصّلت

قطعت زماني خبرة وبلوته

فبالغدر والتّخفيف عندي له نعت

ومارست أبناء الزمان مباحثا

فأصبح حبلي منهم وهو منبتّ

وذي صلف يمشي الهوينا ترفّقا

على نفسه كيلا يزايلها السّمت

إذا غبت فهو المروة القوم عندهم

له الصّدر من ناديهم وله الدّست

وإن ضمّني يوما وإياه مشهد

هو المعجم السّكيت والعمّة الشّخت

فحسبي عداتي أن طويت مآربي

على عزمهم حتى صفا لهم الوقت

وقلت لدنياهم إذا شئت فاغربي

وكنت متى أعزم فقلبي هو البتّ

وأغضيت عن زلّاتهم غير عاجز

فماذا الذي يبغونه لهم الكبت؟

__________________

(١) الشّتّ : المتفرّق. محيط المحيط (شتت).

١٦٩

وقال (١) : [الكامل]

لا تعد ضيفك إن ذهبت لصاحب

تعتدّه لكن تخيّر وانتق

أو ما ترى الأشجار مهما ركّبت

إن خولفت أصنافها لم تغلق (٢)

ومنه في المقطوعات : [السريع]

وشادن تيّمني حبّه

حظّي منه الدّهر هجرانه

مورّد الخدين حلو اللّمى

أحمر مضني الطّرف وسنانه

لم تنطو الأغصان في الروض بل

ضلّت له تسجد أغصانه

يا أيها الظّبي الذي قلبه

تضرّم في القلب نيرانه

هل عطفة ترجى لصبّ شبح

ليس يرجى عنك سلوانه؟

يودّ أن لو زرته في الكرى

لو متّعت بالنوم أجفانه

قد رام أن يكتب ما نابه

والحبّ لا يمكن كتمانه

فأفضيت أسراره واستوى

إسراره الآن وإعلانه

وقال (٣) : [مخلع البسيط]

نهار وجه وليل شعر

بينهما الشّوق يستثار

قد طلبا بالهوى فؤادي

فأين (٤) لي عنهما الفرار؟

وكيف يبغي النجاة شيء

يطلبه الليل والنهار؟

وقال في الدّوبيت :

زارت ليلا وأطلعت فجرها

صبحا فجمعت بين صبح وظلام

لما بصرت بالشمس قالت يا فتى

جمع الإنسان بين الأختين حرام

وقال في غرض التّورية (٥) : [الطويل]

أبح لي يا روض (٦) المحاسن نظرة

إلى ورد ذاك الخدّ أروي به الصّدى (٧)

وبالله لا تبخل عليّ بعطفة (٨)

فإني رأيت (٩) الرّوض يوصف بالنّدى

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٨٣).

(٢) في النفح : «تعلق» بالعين غير المعجمة.

(٣) الأبيات في نثير فرائد الجمان (ص ٣٠٢).

(٤) في النثير : «وأين».

(٥) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٢٧) ونثير فرائد الجمان (ص ٣٠٠).

(٦) في الأصل : «... لي في رياض المحاسن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٧) في المصدرين : «... الخدّ كنت لك الفدا».

(٨) في الكتيبة : «بقطفة».

(٩) في المصدرين : «عهدت».

١٧٠

وقال (١) : [السريع]

وعاشق صلّى ومحرابه

وجه غزال ظلّ يهواه

قالوا تعبّدت (٢)؟ فقلت نعم

تعبّدا يفهم معناه

وقال وهو مليح جدّا (٣) : [الخفيف]

وصديق شكا بما (٤) حمّلوه

من قضاء يقضي بطول (٥) العناء

قلت فاردد ما حمّلوك عليهم

قال من يستطيع (٦) ردّ القضاء؟

وقال (٧) : [المتقارب]

لسانان هاجا (٨) من خاصماه

لسان الفتى ولسان القضا

إذا لم تحز واحدا منهما

فلست أرى لك أن تنطقا

وقال (٩) : [الكامل]

تلك الذّؤابة (١٠) ذبت من شوقي لها

واللّحظ يحميها بأيّ سلاح

يا قلب فانجح (١١) لا إخالك ناجيا

من فتنة الجعديّ والسفّاح (١٢)

وإحسانه كثير. ويدل بعض الشيء على كلّه ، ويحجر طلّ الغيث على وبله.

وفاته : اتصل بنا خبر وفاته بفاس مبطونا في أوائل ثمانية وخمسين وسبعمائة. ثم تحقّقت أن ذلك في آخر شوال من العام قبله (١٣).

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٨٣).

(٢) في الأصل : «تعبد» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة.

(٣) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٨) ونثير فرائد الجمان (ص ٣٠١).

(٤) في الكتيبة : «لما».

(٥) في المصدرين : «بفرط».

(٦) في الأصل : «يستطع» وهو خطأ نحوي لأنه ليس مجزوما ، وكذا أيضا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٧) كلمة «وقال» ساقطة في الأصل.

(٨) في الأصل : «هجيا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٩) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٨٣).

(١٠) في النفح : «الذوائب».

(١١) في الكتيبة : «فانج وما إخالك».

(١٢) أراد بالجعدي الشّعر الذي عبّر عنه بالذؤابة ، وأراد بالسفّاح اللّحظ ، وفي الكلمتين تورية.

(١٣) كذا جاء في نفح الطيب (ج ٨ ص ٧٠ ـ ٧١).

١٧١

محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم

ابن يحيى بن محمد بن الحكيم اللخمي (١)

يكنى أبا القاسم.

حاله : من كتاب «عائد الصلة» : فرع دوحة الأصالة والخصوصيّة ، والعلم والدين ، والمكانة والجلالة ، مجلي بيته ، ومجدّد مآثره برّا ، ومجاملة ، وخيريّة. نشأ بأطراف جملته من الفنون ؛ من حساب وفريضة وأدب وقراءة ووثيقة ، إلى خطّ حسن ، وأدب تكفّله ، حتى انقاد له أو كاد. أعبط في وقيعة الطاعون قاضيا ببعض الجهات ، وكاتبا للدار السلطانية ، فكانت فيه الفجيعة عظيمة.

وجرى ذكره في «التاج المحلّى» بما نصّه (٢) : «من فروع (٣) مجد وجلالة ، ورث الفضل لا عن كلالة. أشرف ، مجيد ، معظّم ، مخوّل في العشيرة ، وصل لباب المجد بفرائد الخلال الأثيرة ، وأصبح طرفا في الخير والعفاف ، واتّصف من العدالة بأحسن اتّصاف ، وسلك (٤) من سنن سلفه ، أثر هاد (٥) لا يزال يرشده ويدلّه ، ويسدّده فيما يعقده أو يحلّه ، واتّسم بميسم الحياء ، والحياء خير كله ، إلى نزاهة لا ترضى بالدّون ، ونجابة تتهالك في صون الفنون ، وطمح في هذا العهد إلى نمط في البلاغة رفيع ، وجنح إلى مساجلة ما يستحسنه من مخترع وبديع ، وصدرت منه طرف تستملح ، وتستحلى إذا استحلى. ونحن نورد ما أمكن من آياته ، ونجلي بعض غرره وشيّاته.

شعره : ومن مقطوعات آياته : [الطويل]

وهبّت فهزّت عندما أن (٦) رأت به

الطّلا مثل الطفل يرضع في المهد

وروض (٧) حباه المزن خلعة برقة

وباتت رباه من حباه على وعد

يحدّثنا عن كرمها ماء (٨) مزنها

فتبدي ابتسام الزّهر في لثمة الخدّ

عجبنا لما رأينا من برّها (٩)

بدور حباب الكأس تلعب بالنّرد

__________________

(١) ترجمة محمد بن محمد ابن الحكيم اللخمي في الكتيبة الكامنة (ص ١٩٦).

(٢) قارن بالكتيبة الكامنة (ص ١٩٦).

(٣) في الكتيبة : «فرع محمدة وجلالة».

(٤) في المصدر نفسه : «واقتفى».

(٥) في الأصل : «هذا» والتصويب من الكتيبة.

(٦) كلمة «أن» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.

(٧) في الأصل : «والروض حياه» وهكذا ينكسر الوزن.

(٨) في الأصل : «ما من» وهكذا ينكسر الوزن ، ولا معنى له.

(٩) صدر هذا البيت مضطرب ، ومنكسر الوزن.

١٧٢

وقال : [الطويل]

شربنا وزنجيّ الدّياجي موقد

مصابيح من زهر النجوم الطّوالع

عقارا رأته حين أقبل حالكا

فجاءت بمصفرّ من اللون فاقع

عجبت لها ترتاع منه وإنها

لفي الفرقد قرّت لدم المدامع (١)

وقال : [الخفيف]

لاح في الدّرّ والعقيق (٢) فحيّا

أم مزاج أدّاه صرف المحيّا؟

من بنات الكروم والرّوم بكرا

أقبلت ترتدي حياء (٣) يهيّا

خلتها والحباب يطفو عليها

شفقا فوقه نجوم الثّريّا

قهوة كالعروس في الكأس تجلى

صاغ من لؤلئتها (٤) المزج حليا

وقال : [البسيط]

ويوم أنس صقيل الجوّ ذي نظر

كأنه من وميض البرق قد خلقا

ما زلت فيه لشمس الطّست مصطحبا

وبالنجوم وبالأكواس مغتبقا

صفراء كالعسجد المسبوك إن شربت

تبدي احمرارا على الخدّين مؤتلقا

كذلك الشمس في أخرى عشيّتها

إذا توارت أثارت بعدها شفقا

وقال (٥) : [الطويل]

بنفسي حبيب صال (٦) عامل قدّه

عليّ ولمّا ينعطف وهو كالغصن

ويا عجبا منه متى صار ذابلا

ونضرته لم تنأ عن خوطه اللّدن (٧)

وأعجب من ذا أن سيف لحاظه

يمزّق أفلاذ الحشا وهو في الجفن

وقال (٨) : [الكامل]

بأبي وغير أبي غزال نافر

بين الجوانح يغتدي ويروح

قمر تلألأ واستنار جبينه (٩)

غارت به بين الكواكب يوح

__________________

(١) عجز البيت منكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «العقيق» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «حيا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «لؤلئها» وهكذا ينكسر الوزن.

(٥) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ١٩٧).

(٦) في الكتيبة : «مال».

(٧) في الأصل : «ونضرته تنار عن حوطة اللّدن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٨) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ١٩٧).

(٩) في الأصل : «حبيبه» والتصويب من الكتيبة.

١٧٣

لم يرض غير القلب منزلة فهل

يا ليت شعري بالذّراع يلوح

ومما نسب لنفسه وأنشدنيه : [الكامل]

ليل الشّباب انجاب أول وهلة

عن صبح شيب لست عنه براض

إن سرّني يوما سواد خضابه

فنصوله عن ساقي (١) ببياض

هلّا اختفى فهو الذي سرق الصّبا

والقطع في السّرقات أمر ماض

فعليه ما اسطاع (٢) الظهور بلمّتي

وعليّ أن ألقاه بالمقراض

وفاته : توفي ، رحمه الله ، بغرناطة في السابع عشر شهر ربيع الآخر عام خمسين وسبعمائة ، في وقيعة الطاعون ، ودفن بباب إلبيرة رحمة الله عليه.

محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي

ابن محمد اللّوشي اليحصبي (٣)

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف باللوشي.

أوّليّته : من لوشة ، وقرأ العلم بها ، وتعرّف بالسلطان الغالب بالله محمد قبل تصيّر الملك له ، وتقدم عنده. تضمّن ذكره الكتاب المسمّى ب «طرفة العصر في أخبار بني نصر» ، وتقرر ذلك في حرف الحاء في اسم أبي عمر اللوشي ، كاتب الدولة النّصرية ، رحمه الله.

حاله : من كتاب «عائد الصلة» : كان ، رحمه الله ، من أهل الحسب والأصالة ، شاعرا ، مدّاحا. نشأ مدلّلا في حجور الدولة النصرية ، خفيفا على أبوابها ، مفضّلا على مدّاحها. ثم تجنّى بآخرة ، ولزم طورا من الخمول في غير تشكّ ، أعرض به عن أرباب الدّنيا ، وأعرض عنه ، واقتصر على تبلّغ من علالة مؤمّل كان له خارج غرناطة ، غير مساد من ثلمه ، ولا مصلح في خلله ، أخذ نفسه بالتّقشّف ، وسوء المسكن ، والتهاون بالملبس ، حملا عليها في غير أبواب الرياضة ، مجانبا أرباب الخطط ، وفيّا لمن لحقته من السلطان موجدة ، تختلف معاملته لمن يعرفه في اليوم مرّات ، من إعراض عنه ، وقبول عليه ، ولصوق به ، كل ذلك عن سلامة ، وتهيّب نفس. مليح الدّعابة ، ذاكرا لفنون من الأناشيد ، حسن الجدّ ، متجافيا عن الأعراض.

__________________

(١) في الأصل : «ساق» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «ما استطاع» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) ترجمة محمد بن محمد اللوشي اليحصبي في الكتيبة الكامنة (ص ١٧٥) ونثير فرائد الجمان (ص ٣٢٩).

١٧٤

وجرى ذكره في «التاج» بما نصّه (١) : شاعر مفلق ، وشهاب في أفق (٢) البلاغة متألّق ، طبّق مفاصل الكلام بحسام لسانه ، وقلّد نحور الكلام (٣) ما يزري بجواهر الملوك (٤) من إحسانه. ونشأ في حجور الدولة النصرية مدللا بمتاته ، متقلبا في العزّ في أفانينه وأشتاته ، إذ لسلفه الذّمام الذي صفت منه الحياض والحمام ، والوداد الذي قصرت عنه الأنداد ، والسابقة التي أزرى بخبرها العيان ، وشهدت بها أرجونة وجيّان ، محيّز ثمرة الطيب. وله همّة عالية ، بعيدة المرمى ، كريمة المنتمى ، حملته بآخرة على الانقباض والازدراء والزهد في الازدياد والاستكثار ، والاقتصاد والاقتصار ، فعطف على انتجاع غلّته ، والتزام محلّته ، ومباشرة فلاحة صان بها وجهه ؛ ووفّاه الدهر حقّه ونجمه ، واحتجبت عقائل بيانه لهذا العهد وتقنّعت ، وراودتها النّفس فتمنّعت ، وله فكاهة وأنس الزمان مناجاة القينات ، عند البيات ، وأعذب من معاطاة الرّاح في الأقداح».

شعره : قال : وله أدب بلغ في الإجادة الغاية ، ورفع للجبين من السّنن الرّاية. ومن مقطوعاته يودع شيخنا الفقيه القاضي أبا البركات بن الحجاج : [الطويل]

رأوني وقد أغرقت في عبراتي

وأحرقت في ناري لدى زفراتي

فقالوا سلوه تعلموا كنه حاله

فقلت سلوا عني أبا البركات

فمن قال إني بالرّحيل محدّث

روت عنه أجفاني غريب ثبات

ونادى فؤادي ركبه فأجابه

ترحّل وكن في القوم بعض عدات

ومن مقطوعاته البديعة من قصيدة مجازيّة : [الطويل]

سيخطب قسّ العزم في منبر السّرى

وهل في الدّنا يوم المسير أطيق؟

وأقطع زند الهجر والقطع حقّه

فما زال طيب العمر عنّي يريق (٥)

مولده : في حدود ثمانية وسبعين وستمائة.

وفاته : في الموفّى عشرين من شهر ربيع الثاني من عام اثنين وخمسين وسبعمائة.

__________________

(١) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٧٥).

(٢) كلمة «أفق» ساقطة من الكتيبة الكامنة.

(٣) في الكتيبة : «الملوك».

(٤) في المصدر نفسه : «السلوك».

(٥) في الأصل : «يسترقّ» وهكذا ينكسر الوزن ، وفيه عيب القافية.

١٧٥

محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى

ابن الحكيم اللخمي (١)

يكنى أبا بكر.

أوّليّته : مرّت في اسم ذي الوزارتين.

حاله : من كتاب «عائد الصلة» : «كان صدر أبناء أصحاب النّعم ، وبقيّة أعلام البيوت ، ترف نشأة ، وعزّ تربية ، وكرم نفس ، وطيب مجالسة ، وإمتاع محاضرة ، وصحة وفاء ، وشياع مشاركة في جملة فاضلة ، محدّثا تاريخيا ، كاتبا بليغا ، حسن الخطّ ، مليح الدّعابة ، ظريف التوقيع ، متقدم الحيلة في باب التحسين والتنقيح ، يقرض الشعر ، ويفكّ المعمّى ، ويقوم على جمل الكتاب العزيز ، حفظا وتجويدا ، وإتقانا ، ويسرد نتف التاريخ ، وعيون الأخبار ، إلى حسن الخلق ، وكمال الأبّهة ، وحلاوة البساطة ، واحتمال المنابشة ، والمثابرة على حفظ المودة ، والاستقالة من الهفوة ، والتمسّك بالاستعتاب والمعذرة. كتب بالدار السلطانية أكثر عمره ، وتصدّر بعد في قيادة المواضع النّبيهة ، محاربا ذا قدرة في ذلك ، ومع ذلك فشائع المعروف ، ذائع المشاركة. قيّد الكثير ، ودوّن وصنّف ، وحمل عن الجلّة ممن يشقّ إحصاؤهم ، وكان غرّة من غرر هذا القطر ، وموكبا من مواكب هذا الأفق ، لم يتخلف بعده مثله.

وجرى ذكره في «التاج المحلّى» بما نصّه (٢) : «ماجد أقام رسم (٣) المجد بعد عفائه ، فوفّى الفضل حقّ وفائه. بيته في رندة أشهر في الأصالة من بيت امرئ القيس ، وأرسى في بحبوحة الفخر من قواعد الرّضوى وأبي قيس. استولى على الجود البديع البعيد المدى ، وحجّت إليه من كل فج طلّاب النّدى ، وعشت إلى ضوء ناره فوجدت على النار التّقى والهدى. ولّي الوزارة النّصرية التي اعتصر منها طريفا بتالد ، فأحيت مآثرها الخالدة مآثر يحيى بن خالد (٤). ولمّا أدار عليها الدهر كأس النّوائب ، وخلص إليها سهمه الصّائب ، بين صحائف الكتب وصفائح الكتائب ، تطلّعت من خلالها الرائقة لباب الوجود ، وبكتها بسيل أجفانها عين الباس والجود ، وطلع على

__________________

(١) ترجمة محمد بن محمد بن الحكيم في الكتيبة الكامنة (ص ١٩٥) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٤٢).

(٢) قارن بالكتيبة الكامنة (ص ١٩٥).

(٣) في الكتيبة : «ربع».

(٤) هو يحيى بن خالد البرمكي ، وزير الخليفة هارون الرشيد.

١٧٦

أعقاب هذه الفضائل محلّى من صفحاتها ، وأعاد لو ساعده الدهر من لمحاتها ، وارتقى من الكتابة إلى المحلّ النّبيه ، واستحقّها من بعض ميراث أبيه ، وبنى وشيّد ، ودوّن فيها وقيّد ، وشهر في كتب الحديث وروايته ، وجنى (١) ثمرة رحلة أبيه ، وهو في حجر ذؤابته (٢) ، وأنشأ الفهارس ، وأحيا الأثر الدّارس ، وألّف كتابه المسمى ب «الموارد المستعدبة والمقاصد المنتخبة» فسرح الطّرف ، وروضه طيّب الجنى والعرف. وله شعر أنيق الحلية ، حاز في نمط العلية. وبيني وبين هذا الفاضل وداد صافي الحياض ، وفكاهة كقطع الرّياض ، ودعابة سحبت الدّالة أذيالها ، وأدارت الثّقة والمقة جريالها. وسيمرّ في هذا الديوان كل رائق المحيّا ، عاطر الريّا.

مشيخته : قرأ على الأستاذ أبي جعفر الحريري ، والأستاذ أبي الحسن القيجاطي ، والأستاذ إسحاق بن أبي العاصي. وأخذ عن الطّم والرّمّ ، من مشايخ المشرق والمغرب ، فمنهم الولي الصالح فضل بن فضيلة المعافري ، إلى العدد الكثير من أهل الأندلس ، كالخطباء الصلحاء أبي عبد الله الطّنجالي ، وأبي جعفر الزيّات ، وأبي عبد الله بن الكمّاد ، وغيرهم من الرّنديين والمالقيين والغرناطيين ، حسبما تضمنه برنامجه.

تواليفه : ألّف الكتاب المسمى ، «الفوائد المنتخبة والموارد المستعدبة». وكمّل التاريخ المسمى ب «بميزان العمل» لابن رشيق. ودوّن كتابا في عبارة الرؤيا سمّاه «بشارة القلوب بما تخبره الرؤيا من الغيوب» و «الأخبار المذهّبة» و «الإشارة الصّوفية ، والنّكت الأدبية». والهودج في الكتب. والإشارة في ألف إنشاده.

شعره وكتابته : قال في التاريخ ما نصّه : «وتهادته إلى هذا العهد رتب السّيادة ، واستعمل في نبيهات القيادة ؛ فوجّه إلى معقل قرطمة من كورة ريّه وهو واليه ، وبطاحه في مجرى جياده وصحر عواليه. وقد حللت مالقة صحبة الرّكب السلطاني في بعض التّوجّهات ، إلى تلك الجهات ، في بعض ما أتحف من مقعده ، المتصل المستمر ، بهديّة مشتملة على ضروب من البرّ فخاطبته مقيما لسوق الانبساط ، وغير حائد على الوداد والاغتباط ، على ما عوّل عليه من حمل الإفراط ، والانتظام في هذا المعنى والانخراط : [الطويل]

ألام على أخذ القليل وإنما

أعامل أقواما أقلّ من الذّرّ

فإن أنا لم آخذه منهم فقدته

ولا بدّ من شيء يعين على الدّهر

__________________

(١) في الكتيبة : «واجتنى ثمره رحلة إليه ؛ وهو ...».

(٢) في المصدر نفسه : «دايته ، ودوّن الفهارس ...».

١٧٧

سيدي ، أطلق الله يدك بما تملك ، وفتر عن منحك البخل لئلّا تهلك. كنت قد هوّمت ، وحذّرني القلق فتلوّمت. ولومي كما علمت سيء الخصال ، عزيز الوصال. يمطل ديني ، ويعاف طيره ورد عيني. فإذا الباب يدقّ بحجر ، فأنبأني عن ضجر ، وجار الجنب يؤخذ بالذّنب ، فقمت مبادرا وجزعت ، وإن كان الجزع مني نادرا. واستفهمت من وراء الغلق ، عن سبب هذا القلق. فقالت امرأة من سكان البوادي : رابطة الفؤاد يا قوم ، رسول خير ، وناعق طير ، وقرع إذلال ، لا فرع إدلال. حطّوا شعار الحرب والحرب ، فقد ظفرتم ببلوغ الأرب ، فتأخرت عن الإقدام ، وأنهدت إليه ، فحنّ عمر بن أبي ربيعة عمن كان بالدّار من الخدّام ، فأسفرت الوقيعة عن سلام وسلم ، ولم يزن أحد منا بكلم. ونظرت إلى رجل قرطبي الطّلعة والأخلاق ، خاو على الإطلاق ، تنهّد قبل أن يسلّم ، وارتمض لما ذهب من الشّبيهة وتألّم. شنشنة معروفة ، وعين تلك الجهات معاذ الله مصروفة. وقد حمّلته سيادتكم من المبرّة ضروبا شتّى ، وتجاوزت في المسرّات غاية حتى. ولم تضع عضوا من جسده ، فضلا عن منكبه ويده ، إلّا علّقته وعاء ثقيلا ، وناطت به زنبيلا. واستلقى كالمنيّ إذا ترك المعترك ، وعلت حوله تلك الأثقال ، وتعاورها الانتقال ، وكثر بالزّقاق القيل والقال. فلمّا تخلّصت إلى الدار ، وسترت معرفتها بالجدار ، وتناولها الاختبار الفاضح ، وبان قصورها الواضح ، فتلاشت ، بعد ما جاشت ، ونظرت إلى قعب من اللّبن الممزوق ، الذي لا يستعمل في البيوت ولا يباع في السّوق ، فأذكرتني قول الشاعر : [البسيط]

تلك (١) المكارم لا قعبان من لبن

شيبت بماء فعادت بعد أبوالا

أما زبده فرفع ، وأما جبنه فاقتيت به وانتفع ، وأما من بعثه من فضلاء الخدّام فدفع ، وكأني به قد ألحّ وصفع ، والتفت إلى قفّة قد خيطت ، وبعنق ذاك البائس قد نيطت ، رمس فيها أفراخ الحمائم ، وقلّدت بجيده كما يتقلد بالتمائم ، وشدّ حبلها بمخنقه ، وألزم منها في العاجل طائره في عنقه ، هذا بعد ما ذبحت ، وأما حشوها فربحت. ولو سلكتم الطريقة المثلى ، لحفظتم جثّتها من العفن كما تحفظ جثة القتلى ، وأظنكم لم تغفلوا هذا الغرض الأدنى ، ولا أهملتم هذه الهمم التي غريزة في المبنى. فإني رميت منها اللهو رمي المختبر ، فكلح من مرارة الصبر ، ولما أخرجتها من كفن القفّة ، واستدعيت لمواراتها أهل الصّفة ، تمثّلت تمثّل اللبيب ،

__________________

(١) في الأصل : «في تلك ...» وهكذا ينكسر الوزن.

١٧٨

بقول أبي تمام حبيب (١) : [الكامل]

هنّ الحمام فإن كسرت عيافة (٢)

من حائهنّ فإنهنّ حمام (٣)

ولو أن إحدى الدّجاجتين لاحت عليها مخيّلة سرّ ، لكانت من بقايا مواطني ديوك بني مرّ ، وبعث بها حلالك حلاله ، وأهدى منها اجتهاد من أحسن. ولم يكن بالهديّة ما يذكر ، ولا كانت مما ينكر ، أستغقر الله ، فلو لم تكن التّحفة ، إلّا تلك الفكاهة العاطرة والغمامة الماطرة ، التي أحسبها الأمل الأقصى ، وتجاوزت إلّا من التي لا تعدّ ولا تحصى ، للزم الشكر ووجب ، وبرز من حرّ المدح ما تيسّر واحتجب. فالمكارم وإن تغيّرت أنسابها ، وجهل انتسابها ، وادّعي إرثها واكتسابها ، إليكم تنشر يدها ، وتسعى لأقدامها ، ولبيتكم تميل بهواديها ، وبساحتكم يسيل واديها ، وعلى أرضكم تسحّ غواديها. ومثلي أعزكم الله ، لا يغضي من قدر تحفكم الحافلة ، ولا يقدر من شكرها على فريضة ولا نافلة ، ولكنها دعابة معتادة ، وفكاهة أصدرتها ودادة. ولا شكّ أنكم بما جبلتم عليه قديما وحديثا ، تغتفرون جفائي ، الذي سيّرتموه سمرا وحديثا في جنب وفائي ، وتغضون وتتحملون ، وبقول الشاعر تتمثّلون ، وأسمع من الألفاظ اللغوية التي يسرّ بها سمعي ، وإن ضمنت شتمي ووصفي : [الطويل]

بعثت بشيء كالجفاء وإنما

بعثت بعذري كالمدلّ إلى غدر

وقلت لنفسي لا تردعي فإنه

كما قيل شيء قد يعين على الدهر

وما كان قدر الودّ والمجد مثله

فخذه على قدر الحوادث أو قدري

وإن كنت لم أحسن صنيعي فإنّني

سأحسن في حسن القبول له شكري

وقدرك قدر النيل عندي وإنني

لدى قدرك العالي أدقّ من الذّرّ

قنعت وحظّي من زماني وودّكم

هباء ومثلي ليس يقنع بالنّزر

أتاني كتاب منك باه مبارك

لقيت به الآمال باهتة الثّغر

جلا من بنات الفكر بكرا وزفّها

إلى ناظري تختال في حبر الحبر

فألفاظها كالزّهر والزهر يانع

وقدر المعاني في الأصالة كالزهر

نجوم معان في سماء صحيفة

ولكنها تسري النجوم ولا تسري

تضمّن من نوع الدعابة ما به

رجوت الذي قد قيل في نشوة الخمر

__________________

(١) البيت في ديوان أبي تمام (ص ٢٤٧) من قصيدة من ٥٦ بيتا.

(٢) العيافة : زجر الطير.

(٣) الحمام ، بكسر الحاء : الموت.

١٧٩

رعى الله مسراها الكريم فجلّ ما

جلته من البشرى وأبدت من البشر

لعمري لقد أذكرتني دولة الصّبا

وأهديت لي نوع الجلال من السّحر

ولما أتت تلك الفكاهة غدوة

وجدت نشاطا سائر اليوم في بشري

ولا سيما إن كان ملحم بردها

عميد أولي الألباب نادرة العصر

نشرت بها ما قد طويت بساطه

زمانا وبي طيّ الأمور مع النشر

ونعم خليل الخير أنت محافظا

على سنن الإخلاص في السّرّ والجهر

ودونكها تلهو بها وتديرها

سحيريّة الأنفاس طيّبة النّشر

فراجعني بقوله :

وقد منّ سيدي الجواب ، محتويا على العجب العجاب ، فيالك من فكاهة كوثرية المناهل ، عنبرية المسائل ، ولو لم يكن إلّا وصف القرطبي المستوى الطّلعة ، الشّرطي الصّنعة. وأما وصف اللبن وفراخ الحمام ، فقد بسطتم في المزاح القول. وامتنعتم في الكلام الفصل. وذلك شيء يعجز عن مساجلتكم فيه أرباب البلاغة والبيان ، فكيف بمثلي ممن له القول المهلهل النّسيج الواهي البيان. ولا بدّ من عرض ذلك على سيدي القطب الكبير الإمام ، وأستاذنا علم الأعلام ، وكبير أئمة الإسلام ، فيحكم بيننا بحكم الفصل ، وينصف بما لديه من الحق والعدل. وقد كنت أحيد عن مراجعتكم حيدة الجبان ، وأميل عن ذلك ميلة الكودن (١) عن مجاراة السّمر الهجان ، وأعدل عن مساجلة أدبكم الهتّان ، عدول الأعزل عن مبارزة جيّد السّنان. إلى أن وثقت بالصفح ، وعوّلت على ما لديكم من الإغضاء والسّمح ، ووجّهت حاملة السرّ والظروف ، كي تتصل الهدايا ولا ينقطع المعروف. وأستقيل من انبساط يجرّ عذرا ، وأسأله سبحانه وتعالى حمدا يوجب المزيد من إنعامه وشكرا. دام سيدي وآماله مساعدة ، والكلمة على فضله واحد.

ومن شعره في النّسك واللّجإ إلى الله تعالى (٢) :

أيا من له الحكم في خلقه

ويا من (٣) بكربي له أشتكي

تولّ أموري ولا تسلمني

وإن أنت أسلمتني أهلك

تعاليت من مفضل (٤) منعم

ونزّهت من طالب مدرك

__________________

(١) الكودن : الفيل ، والمراد هنا البطيء في مشيه. محيط المحيط (كود).

(٢) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ١٩٦).

(٣) في الأصل : «ومن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الكتيبة الكامنة.

(٤) في الكتيبة : «من منعم مفضل».

١٨٠