الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

وخوضا في الماء غير المرهوف. ثم قصدوا دار الشيخ البائس علي بن أحمد بن نصر ، نفاية البيت ، ودردى القوم ، ممسوخ الشكل ، قبيح اللّتغ ، ظاهر الكدر ، لإدمان المعاقرة ، مزنون بالمعاقرة والرّبت على الكبرة ، ساقط الهمّة ، عديم الدّين والحشمة ، منتمت في البخل والهلع ، إلى أقصى درجات الخسّة ، مثل في الكذب والنميمة ، معيّب المثانة ، لا يرق بوله ، ولا يجفّ سلسه ، فاستخرجوه مبايعا في الخلافة ، منصوبا بأعلى كرسي الإمامة ، مدعوما بالأيدي لكونه قلقا لا يثبت على الصّهوة ، مختارا لحماية البيضة ، والعدل في الأمة ، مغتما للذبّ عن الحنيفية السّمحة ، وصعدوا به إلى ربوة بإزاء قلعتنا ، منتترا باب البنود (١) ، مستندا إلى الربض ، مطلا على دار الملك ، قد أقام له رسم الوزارة ابن مطرون الكاري ، الكسح الدروب برسم المسومة ، الحرد ، المهين الحجة ، فحل طاحونة الغدر ، وقدر السّوق والخيانة ، واليهودي الشكل والنّحل ، وقرعت حوله طبول الأعراس ، إشادة بخمول أمره ، واستهجان آلته ، ونشرت عليه راية فال رأيها ، وخاب سعيها ، ودارت به زعنفة من طغام من لا يملي ولا يزيد المكا والصّغير من حيله ، وانبثّت في سكك البلد مناديه ، وهتف أولياء باطله باسمه وكنيته ، وانتجزوا مواعيد الشيطان فأخلفت ، ودعوا سماسير الغرور فصمّت ، وقدحوا زناد الفتنة فصلدت وما أوارت. ولحين شعرنا بالحادثة ، ونظرنا إلى مرج الناس ، واتصل بنا ريح الخلاف ، وجهير الخلعان ، استعنّا بالله وتوكلنا عليه ، وفوّضنا أمرنا إلى خير الناصرين ، وقلنا : ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين ، واستركبنا الجند ، وأذعنا خبر العطاء ، وأطلقنا بريح الجهاد ، ونفير الجلاد. وملأنا الأكفّ بالسلاح ، وعمرنا الأبراج بالرجال ، وقرعنا طبول الملك ، ونشرنا ألوية الحق ؛ واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة ، وخاطبنا فقيه الرّبض ، نخبر مخبره ؛ ونسبر غوره ، فألفيناه متواريا في وكره ، مرعيا على دينه ، مشفقا من الإخطار برمّه ، مشيرا بكمّه. وتفقّدنا البلد ، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة ، وفخمت الجملة ، أنهدنا الجيش ، وليّ أمرنا ، الذي اتخذناه ظهيرا ؛ واستنبطناه مشيرا ، والتزمناه جليسا وصهيرا ، ولم ندخر عنه محلّا أثيرا ، الشيخ الأجلّ ، أبا سعيد عثمان ابن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحّو ، ممهّد الرعب بقدومه ، والسّعد في خدمتنا بخدمه ، في جيش كثيف الجملة ، سابغ العدّة ، مزاح العلة ، وافر النّاشية ، أخذ بباب الربض وشعابه ، ولفّ عليه أطنابه ، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلّا كلّا ولا ، حتى داسه

__________________

(١) باب البنود : أحد أبواب مدينة غرناطة ، وما يزال قائما حتى اليوم. راجع نهاية الأندلس للأستاذ محمد عبد الله عنان (ص ٢٩٤) ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر للدكتورة مريم قاسم طويل (ص ٢٩٤).

٤١

بالسّنابك ، وتخلّفه مجرّ العوالي ، ومجرى السوابق ، وهو الحمى الذي لا يتوعد ، والمجد الذي لا يغرب ، فلو لا تظاهر مشيخته بشعار السّلم ؛ واستظلاله بظلال العافية ، لحثّ الفاقرة ، ووقعت به الرّزيّة. وفرّ الأعداء لأول وهلة ، وأسلموا شقيّهم أذلّ من وتد في قاع ، وسلحفة في أعلى يفاع ، فتقبّض عليه ، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه ، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم ، ثعلبان مكيدة ، وشكيّة ضلال ومظنّة فضيحة ، وأضحوكة سمر. فتضرّع بين أيدينا ، وأخذته الملامة ، وعلاه الخزي ، وثلّ إلى المطبق ، حتى نستدعي حكم الله في جرمه ، ونقتضي الفتيا في جريرته ، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثائرة ، والحمد لله من يومها ، واجتثّت شجرة الخلاف من أصلها ، فالحمد لله الذي أتمّ نوره ولو كره الكافرون (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٩) (١). وما ذا رابهم منّا ، أصغر الله منقلبهم ، وأخزى مردّهم ، واستأصل فلكهم؟ أولا يتبنى أمر وارثه ، ثم عوده إلينا طواعية ، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه ، ومددنا ظلال الأمن دفعة ، وأنفأنا رمق الثغور ، حين لم يجدوا حيلة إلّا ما عرفوا من أمنه ، وبلوا من حيطته وتسوّغا من هدنة ، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفّة ، وأظهر الله علينا من نعمة. ربّنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهمّ ألبسنا سريرتنا ، وعاملنا بدخلتنا فيهم ، وإن كنّا أردنا لجماعتهم شرّا ، وفي دينهم إغماضا ، وعن العدل فيهم عدولا ، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا ، وتستكشفه من خبيئتنا ، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم ؛ واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم ، ورعي صلاحهم ، وتكيف آمالهم ، فصل لنا عادة صنعك فيهم ، ومسّلنا طاعتهم ، واهد بنا جماعتهم ، وارفع بنظرنا إطاعتهم ، يا أرحم الراحمين.

ولما أسفر صبح هذا الصّنع عن حسن العفو ، واستقرّ على التي هي أزكى ، وظهر لنا ، لا تخاف بالله دركا ولا تخشى ، وأن سبيل الحق أنجى ومحجّته أحجى ، خاطبنا كم نجلو نعم الله قبلنا عليكم ، ونشيد بتقوى الله بناديكم ، وعنايته لدينا ولديكم ، ونهدي طرف صنعه الجميل قبلنا إليكم ليكسبكم اعتبارا ، فزجّوا الله وقارا ، وتزيّدوا يقينا واستبصارا ، وتصفّوا العين من اختار لكم اختيارا. وهو حسبنا ونعم الوكيل ، والله يصل سعدكم ، ويحرس مجدكم. كتب في كذا. والسلام عليكم ، ورحمة الله وبركاته.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ ، الآية ١٣٩. ومتبّر : هالك.

٤٢

الجهاد في شعبان من عام سبعة وستين وسبعمائة :

اقتضى نظر الحزم ، ورأى الاجتهاد للإسلام إطلاق الغارات على بلد الكفرة من جميع جهات المسلمين ، فعظم الأثر ، وشهر الذكر ، واكتسحت الماشية ، وألحم السيف. وكان ثغر برغة ، الفائزة به يد الكفرة ، لهذه السنين القريبة ، قد أهمّ القلوب ، وشغل النفوس ، وأضاق الصدور ، لانبتات (١) مدينة رندة ، بحيث لا يخلص الطّيف ، ولا تبلغ الرسالة من الطّير وغيرها إلى ناحية العدو ، فوقع العمل على قصده واستعانة الله عليه ، واستنفر لمنازلته أهل الجهات الغربية من مالقة ورندة ، وما بينهما ، ويسّر الله في فتحه ، بعد قتال شديد ، وحرب عظيمة ، وجهاد شهير ، واستولى المسلمون عليه ، فامتلأت أيديهم أثاثا وسلاحا ورياشا وآلة ، وطهّرت للحين مساجده ، وزيّنت بكلمة الله مشاهده ، وأنست بالمؤمنين معاهده ، ورتّبت فيه الحماة والرماة ، والفرسان الكماة ، واتّصلت بفتحة الأيدي ، وارتفعت العوائق ، وأوضحت بين المسلمين وأخوانهم السبل ، والحمد لله. وتوجّهت بفتحه الرسائل ، وعظمت المنن الجلائل ، وفرّ العدو لهذا العهد عن حصن السهلة ، من حصون الحفرة اللّويشيّة ، وسدّ الطريق الماثلة ، وذلك كله في العشر الأوسط لشعبان من هذا العام. ثم أجلب المسلمون في رندة في أخرياته وقصدوا باغة وجيرة فاستنزلوا أهلها ، وافتتحوها ، فعظمت النعمة ، واطّرد الفتح ، واتسعت الجهة.

وكانت مما خوطبت به الجهة المرينيّة (٢) من إملائي :

المقام الذي نبشره بالفتح ونحيّيه ، ونعيد له خبر المسرّة بعد أن نبديه ؛ ونسأل الله أن يضع لنا البركة فيه ، ونشرك مساهمته فيما نهصره من أغصان الزهور ونجنيه ، ونعلم أن عزّة الإسلام وأهله أسنى أمانيه ، وإعانتهم أهمّ ما يعنيه. مقام محلّ أخينا الذي نعظم قدره ، ونلتزم برّه ، ونعلم سرّه في مساهمة المسلمين وجهره ؛ السلطان الكذا ، الذي أبقاه الله في عمل الجهاد ونيّته ؛ متكفلة بنشر كلمة الله طويّته ، متممة من ظهور الدين الحنيف أمنيته ، معظّم جلاله ، ومجزل ثنائه ، ومؤمّل عادة احتفاله بهذا الوطن الجهادي واعتنائه ، أيّد الله أمره ، وأعزّ نصره. سلام كريم عليكم ، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله ، واصل سبب الفتوح ، ومجزل مواهب النّصر الممنوح ، ومؤيد الفئة القليلة بالملائكة والرّوح ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيّه ، الآتي بنور الهدى بيّن الوضوح ، الداعي من قبوله ورضوانه إلى المنهل المورود والباب المفتوح ، والرّضا عن آله وأصحابه ، أسود السّروج وحماة السّروح ، والمقتفين

__________________

(١) الانبتات : الانقطاع. لسان العرب (بتت).

(٢) المراد بالجهة المرينية بلاط بني مرين بفاس.

٤٣

نهجه في جهاد عدوّ الله بالعين القارّة والصدر المشروح ، والدعاء لمقامكم العلي بالعز الرفيع الصّروح ، فإنا كتبناه إليكم ، كتب الله لكم سبوغ المواهب ، ووضوح المذاهب ، وعزة الجانب ، وظفرة الكتائب. من حمراء غرناطة حرسها الله ، ونعم الله واكفة السحائب ، كفيلة بنيل الرغائب ، والله يصل لنا ولكم عوارف اللطائف ، ويجعل الشّهيد دليلا على الغائب. وإلى هذا وصل الله إعزازكم ، وحرس أحوازكم ، وعمر بالحقيقة من أمراد مجازنا ومجازكم. فإنّا بادرنا تعريفكم بما فتح الله علينا من الثغر العزيز على الإسلام ، العائد رزؤه الفادح على عبادة الأصنام ، ركاب الغارات ، وممكّن حياة المضرّات ، ومخيف الطريق السابلة ؛ والمسارح الآهلة ، حصن برغة. ويسّر الله في استرجاعه ، مع شهرة امتناعه ، وتطهّر من دنس الكفّار ، وأنيرت مئذنته بكلمة الشهادة الساطعة الأنوار ، وعجلنا ذلك على حين وضعت الحرب فيه أوزارها ، ووفت الأوتار أوبارها ، فسار الكتاب إليكم ، وأجير الأجر لم يجفّ عرقه ، وعذر الاستعجال لاحبة طرقه. ولما عدنا إلى حضرتنا ، بعد ما حصّناه وعمّرناه ، وأجزلنا نظر الحزم له وفرقناه ، لم تكد البنود لمسرّة فتحه أن تعاد إلى أماكن صونها ، مرتقبة عادة الله في عونها ، حتى طرقت الأنباء السارة بتوالي الصنع وانفراده ، بتشفيع أفراده ، وذلك أن أهل رندة ، حرسها الله ، نافسوا جيرانهم من أهل مالقة ، كان الله لجميعهم ، وتولّى شكر صنيعهم ، فيما كان من امتيازهم بحصن برغة ، الجار المصاقب لها ، فحميت هممهم السنيّة ، وهانت في الله موارد المنيّة ، وتضافر العمل والنيّة ، وظهر نجح المقاصد الدينية في إتاحة الفتوح الهنيّة ، فوجهوا نحو حصن وحبر ، وهو الداين صحر المدينة ونحرها ، والعدوّ الذي لا يفتر عن ضرّها ، والحيّة الذكر التي هي مروان أمرها ؛ ففتحوه بعون الله وقوته ، وتهنّوا بعده سلوك الطريق ، وإشاعة الريق ، ومراصد الحرس ، ومجلوّ الجرس ، وأنصفوا ، وانصرفوا إلى حصن باغة ، من مشاهد تلك الحفرة ، فناشبوه القتال ، وأذاقوه الوبال ، وفوقوا إليه النّبال ، ففتحه الله فتحا هينا ، لم تفتّ فيه للمسلمين نفس ، ولا تطرّق لنصر التيسير لبس ، فقابلنا بها لشكر هذه النعم المتوالية ، والمنن المتقدّمة والتالية ، وأعدنا الأعلام إلى مراكزها المشرفة المراقب ، والطبول إلى قرعها عملا من الإشارة بالواجب ، وشكرنا الله على اتصال المواهب ، ووضوح المذاهب ، وخاطبنا مقامكم الذي نرى الصّنائع متواترة بنيّته الصالحة وقصده ، ويعتد في الحرب والسلم بمجده ، علما بأن هذه المسرّات ، نصيبكم منها النصيب الأوفى ؛ وارتياحكم إلى مثلها لا يخفى. ونحن نرقب ما تنجلي عنه هذه النكايات التي تفتّت كبد العدو تتاليها ، وتروع أحوازه وما يليها ، ولا بدّ له من امتعاض يروم به صرع المعرّة ، ويأبى الله أن ذلك يأتي بالكرّة ، والله يجعلها محركات لحتفه المرقوب ، وحينه المجلوب ، ويحقق حقّ القلوب ، في نصرة المطلوب ، عرّفناكم بما تريدون

٤٤

عملا بواجب برّكم ، ومعرفة بقدركم ، وما يتزايد نعرفكم به ، ويتصل سبب التأكيد والتعجيل بسببه ، والسلام.

الغزاة إلى حصن أشر (١) :

وفي أوائل شهر رمضان بعده ، أعمل السلطان الحركة السعيدة إلى حصن أشر ، وهو قفل الثغر الذي فضّه الطاغية ، وسورها الذي فرغه الكفر ، وجارحه المحلّق على البلاد ، والمتحكم لو لا فضل الله في الأموال والأولاد ، فتأذن الله برد مغتصبه ، والشّفا من وصبه ، وأحاط به وناصبه الحرب ، ففتحه الله على يده عنوة ، على سموّ ذروته ، وبعد صيته وشهرته ، واختيار الطاغية في حاميته بعد حرب لم يسمع بمثله ، فاز بمزية الحمد فيها السلطان ، لمباشرته إياها بنفسه ، وحمل كلّها فوق كاهله ، واتّقاد ما حمد من الحميّة بتحريضه. ثم لما كان بعد الفتح من استخلاص القصبة وسدّ ثلمها بيده ، ومصابرة جو القيظ عامّة يومه ، فحاز ذكرا جميلا وحلّ من القلوب محلّا أثيرا ، ورحل منها ، بعد أن أسكن بها من الفرسان رابطة متخيرة ، ومن الرّماة جملة ، وتخلّف سلاحا وعدّة ، فكان الفتح على المسلمين ، في هذا المعقل العزيز عليهم جليلا ، والمنّ من الله جزيلا ، والصنع كثيرا ، وصدرت المخاطبة للمغرب بذلك ، على الأسلوب المرسل الخلي من السجع الغني.

الغزاة المعملة إلى أطريرة (٢) :

في شهر شعبان من عام ثمانية وستين وسبعمائة ، كانت الحركة إلى مدينة أطريرة بنت إشبيلية ، وبلدة تلك الناحية الآمنة ، مهاد الهدنة البعيدة عن الصّرمة ، حرك إليها بعد المدى ، وآثرها بمحض الرّدى ، من بين بلاد العدا ، ما أسلف به أهلها المسلمين ، من قتل أسراهم في العام قبله. فنازلها السلطان أول رمضان ، وناشبها الحرب واستباح المدينة وربضها عنوة ، ولجأ أهلها إلى قصبتها المنيعة ، ذات الأبراج المشيّدة ، وأخذ القتال بمخنّقهم ، وأعان الزحام على استنزالهم ، فاستنزلوا على حكم المسلمين ، فيما يناهز خمسة ، بما لم يتقدمه عهد ؛ ولا اكتحلت به في هذه المدة عين ، ولا تلقته عنها أذن ، وامتلأت أيدي المسلمين ، بما لم يعلمه إلّا الله ، من شتّى الغنائم ، وأنواع الفوائد ، واقتسم الناس السّبي ربعا على الأكفال والظهور ، وتقديرا بقدر الرجال ، وحملا فوق الظهور للفرسان ، وعمرانا للسروج

__________________

(١) أشر : بالإسبانيةIznajor ، وهو حصن يقع على ضفة نهر شنيل.

(٢) أطريرة : بالإسبانيةUtrera وهي مدينة تقع جنوب شرقي إشبيلية. راجع : أزهار الرياض (ج ٤ ص ٦٠).

٤٥

والأعضاد بالصّبية ، وبرز الناس إلى ملاقاة السلطان ، في هول من العزّ شهير من الفخر ، وبعيد من الصيت ، قرّت له أعينهم ، وقعد لبيعتهم أياما تباعا ، وملأ بهم البلاد هدايا وتحفا والحمد لله ، وصدرت المخاطبة بذلك إلى السلطان بالمغرب بما نصه من الكلام المرسل من إنشائي.

الغزاة إلى فتح جيّان :

وفي آخر محرم من عام تسعة وستين وسبعمائة ، كانت الحركة الكبرى إلى مدينة جيان ، إحدى دور الملك ، ومدن المعمود ، وكرسيّة الإمارة ، ولو أن المدن الشهيرة افتتحها الله عنوة ، ونقل المسلمون ما اشتملت عليه من النّعم والأقوات والأموال والأنعام والأثواب والدّواب والسّلاح ، ومكّنهم من قتل المقاتلة ، وسبي الذرية ، وتخريب الديار ، ومحو الآثار ، واستنساف النّعم ، وقطع الأشجار. وهذا الفتح خارق ، تعالى أن يحيط به النّظم والنثر. فذكره أطير ، وفخره أشهر. وصدرت في ذلك المخاطبة من إملائي إلى ملك المغرب. وأصاب الخلق عقب القفول في هذه الغزاة ، مرض وافد ، فشا في الناس كافة ، وكانت عاقبته السّلامة ؛ وتدارك الله بلطفه ، فلم يتّسع المجال لإنشاد الشعراء ، ومواقف الإطراء ، إلى شغل عن ذلك.

الغزاة إلى مدينة أبدة :

وفي أول ربيع الأول من هذا العام ، كان الغزو إلى مدينة أبدة ، واحتلّ بظاهرها جيش المسلمين ، وأبلى السلطان في قتالها ، وقد أخذت بعد جارتها جيّان أقصى أهبة ، واستعدّت بما في الوسع والقوة ، وكانت الحرب بها مشهورة. وافتتحها المسلمون فانتهبوها ، وأعفوا مساكنها العظيمة البناء ، وكنائسها العجيبة المرأى ، وألصقوا أسوارها بالثّرى ، ورأوا من سعة ساحتها ، وبعد أقطارها ، وضخامة بنائها ، ما يكذّب الخبر فيه المرأى ، ويبلّد الأفكار ، ويحيّر النّهى. ولله الحمد على آلائه التي لا تحصى. وقفل المسلمون عنها ، وقد أخربوها ، بحيث لا تعمر رباعها ، ولا تأتلف حجورها وجموعها. وصدرت المخاطبة بذلك إلى صاحب المغرب من إنشائي بما نصّه :

وإلى هذا العهد جرت الحادثة على ملك قشتالة ، بطره بن أدفونش بن هراندة بن شانجه ، وهو الذي تهيأ به الكثير من الصّنع للمسلمين ، بمزاحمة أخيه أندريق في الملك وتضييقه عليه ، وحياز سبعة من كبار أصحابه ، وأهل ملّته إليه ، وافتقار بطره المذكور إلى إعانة المسلمين ، وإجلابهم على من آثر طاعته ضدّه ، فانهزم بظاهر حصن منتيل ، ومعه عدد من فرسان المسلمين ، ولجأ إلى الحصن على غير أهبة

٤٦

ولا استعداد ، فأخذ أخوه الذي هزمه بمخنّقه ، وأدار على الحصن البناء ، وفرّ جيش المحصور ، فاجتمع فلّه بأحواز أبدة ، وراسلوا المسلمين في مظاهرتهم على استنقاذهم ، فتوجهت الفتيا بوجوب ذلك. ووقع الاستنفار والاحتشاد حرصا على تخليصه ، ليسبّب بقاؤه بقاء الفتنة تستأصل الكفر ، وتشغل بعض العدو ببعضه.

وفي أثناء هذه المحاولة تباطن الحاين المحصور بمن معه ، وبعد عليه الخلاص من ورطته ، ومساهمة المسلمين إياه في محنته ؛ وانقطعت عنه الأنباء بفرج من كربته ، فداخل بعض أمراء أخيه وظهرائه ، ممن يباشر حصاره ، وكان قومسا شهيرا من المدد الذي ظاهره ، من أهل إفرنسية ، ووعده بكل ما يطمع من مال ومهد ، وتوفية عهد ، فأظهر له القبول ، وأضمر الخديعة. ولما نزل إليه ، سجنه ومن لحق به من الأدلّاء وأولي الحرّة بالأرض وأمسكه ، وقد طيّر الخبر إلى أخيه ، فأقبل في شرذمة من خواصّه وخدّامه ، فهجم عليه وقتله ، وأوسع العفو من كان محصورا معه ، وطير إلى البلاد برأسه ، وأوغر التّبن في جثّته ، ولبس ثياب الحزن من أجله ، وإن كان معترفا بالصّواب في قتله ، وخاطب البلاد التي كانت على مثل الجمر من طاعة الجاهر بمظاهرة المسلمين ، وما جرّ ذلك من افتتاح بلادهم ، وتخريب كنائسهم ، والإتيان على نعمهم ، فأجابته ضربة ، واتفقت على طاعته ، فلم يختلف عليه منها اثنان ، إلّا ما كان من مدينة قرمونة. واجتمعت كلمة النصارى ، ووقع ارتفاع شتاتهم ، وصرفوا وجوههم إلى المسلمين ، وشاع استدعاؤهم جميع من بأرض الشرق من العدوّ الثقيل ببرجلونة (١) ، وعدوّ الأشبونة ، والعدو الثّقيل الوطأة بإفرانسيّة. وقد كان الله ، جلّ جلاله ، ألهم أهل البصائر النظر في العواقب ، والفكر فيما بعد اليوم أعمل. ووقع لي إذن السلطان ، المخلي بيني وبين النصائح ، في مخاطبة سلطان النصارى المنكوب لهذا العهد ، فأشرت عليه بالاحتراز من قومه ، والتّفطّن لمكايد من يحطب في حبل أخيه ، وأريته اتخاذ معقل يحرز ولده وذخيرته ، ويكون له به الخيار على دهره ، واستظهرت له على ذلك بالحكايات المتداولة ، والتواريخ المعروفة ، لتتّصل الفتنة بأرضهم ، فقبل الإشارة وشكر النصيحة ، واختار لذلك مدينة قرمونة المختصّة بالجوار المكتّب ، من دار ملكهم إشبيلية ، فشيّد هضابها ، وحصّن أسوارها ، وملأها بالمخازن طعاما وعدّة ، واستكثر من الآلات ، واستظهر عليها بالثّقات ، ونقل إليها المال والذخيرة ، وسجن بها رهان أكابر إشبيلية ، وأسرى المسلمين ، وبالغ في ذلك ، فيما لا غاية وراءه ولا مطمع ، ولا ينصرف إلى مصرعه الذي دعاه القدر إليه ، حتى تركها عدّة خلفه ، وأودع

__________________

(١) هي مدينة برشلونة ، عاصمة مملكة أراغون في أيام ابن الخطيب.

٤٧

بها ولده وأهله ، ولجأ إليها بعض من خدّامه ممن لا يقبل مهدنة ضدّه ، ولا يقرّ أمان عدوه ، والتفوا على صغير من ولده كالنّحل على شهده ، ولجأوا إلى المسلمين ، فبغّض عليهم الكرّة والفتح بقاء هذا الشّجى المعترض في حلقه ، وأهمّه تغيير أمره ، وجعجع به المسلمون لأجله ، وأظهروا لمن انحاز بقرمونة الامتساك بعهده ، فعظم الخرق ، وأظهر الله نجح الحيلة ، وصدّق بها المخيّلة ، وتفتّر الأمر ، وخمدت نار ذلك الإرجاف ، واشتغل الطاغية بقرمونة ، بخلال ما خوطب به صاحب الأرض الكبيرة (١) ، فطمّعه في المظاهرة ، وتحطّب له ملك قشتالة ، وعقد السّلم مع صاحب برطغال (٢) والأشبونة ، ونشأت الفتن بأرضهم ، وخرجت عليهم الخوارج ، فأوجب إزعاجه إلى تلك الجهة ، وإقرار ما بالبلاد المجاورة للمسلمين من الفرسان والحماة تقاتل وتدافع عن أحوازها ، وجعل الخصص موجّهة قرمونة ، وانصرف إلى سدّ الفتوق التي عليه بلطف الحيلة ، ببواطن أرضه ، وأحشاء عمالته ، وصار في ملكه أشغل من ذات النّحيين ، فساغ الرّيق ، وأمكن العذر ، وانتهز الغرّة ، واستؤنفت الحركة ، فكانت إلى حصن منتيل والحويز ، ففتحهما الله في رمضان من عام سبعين وسبعمائة ، ثم إلى ثغر روطة ، ففتحه الله عن جهد كبير ، واتصل به حصن زمرة ، فأمّن الإسلام عادية العدوّ بتلك الناحية ، وكبس أهل رندة بإيعاز من السلطان إليها وإلى من بالجبل ، جبل الفتح ، حصن برج الحكيم والقشتور ، فيسّر الله فتحهما في رمضان أيضا.

ثم كانت الحركة إلى الجزيرة الخضراء (٣) ، باب الأندلس ، وبكر الفتح الأول ، فكانت الحركة إليها شهر ذي الحجة من العام المذكور. ووقع تحريض الناس بين يدي قصدها في المساجد بما نصّه :

معاشر المسلمين المجاهدين ، وأولي الكفاية عن ذوي الأعذار من القاعدين ، أعلى الله بعلوّ أيديكم كلمة الدين ، وجعلكم في سوى الأجر والفخر من الزاهدين ، اعلموا ، رحمكم الله ، أن الإسلام بالأندلس ساكن دار ، والجزيرة الخضراء بابه ، ومبعد مغار ، والجزيرة الخضراء ركابه ، فمن جهتها اتصلت في القديم والحديث أسبابه ، ونصرته على أعدائه وأعداء الله أحبابه ، ولم يشكّ العدو الكافر الذي استباحها ، وطمس بظلمة الكفر صباحها ، على أثر اغتصابها ، واسوداد الوجوه المؤمنة لمصابها ، وتبديل محاربها ، وعلوق أصله الخبيث في طيّب تراثها ، أن صريع الدين الحنيف بهذا الوطن الشريف لا ينتعش ولا يقوم ، بعد أن فري الحلقوم ، وأن الباقي

__________________

(١) الأرض الكبيرة هي فرنسا.

(٢) برطغال : هي البرتغال portugal.

(٣) راجع : أزهار الرياض (ج ٤ ص ٧٢).

٤٨

رمق يذهب ، وقد سدّ إلى التّدارك المذهب ، لو لا أن الله دفع الفاقرة (١) ووقاها ، وحفظ المسكنة واستبقاها ، وإن كان الجبل (٢) عصمة الله نعم البقية ، وبمكانه حفّت التقية ، فحسبك من مصراع باب فجع بثانيه ، ومضايق جوار حيل بينه وبين أمانيه. والآن ، يا عباد الله ، قد أمكنكم الانتهاز ، فلا تضيّعوا الفرصة ، وفتر المخنّق فلا تسوّغه غصّة ، واعمروا البواطن بحميّة الأحرار ، وتعاهدوا مع الله معاهد الأولياء الأبرار ، وانظروا للعون من الذّراري والأبكار ، والنشأة الصّغار ، زغب الحواصل في الأكوار ، والدين المنتشر بهذه الأقطار ، واعملوا للعواقب تحمدوا عملكم ، وأخلصوا لله الضمائر يبلّغكم من فضله أملكم ، فما عذر من سلّم في باب وكره ، وما ذا ينتظر من أذعن لكيد عدوّه ومكره. من هذه الفرضة ، دخل الإسلام تروّع أسوده ، ومن هذه الجهة طلع الفتح الأول تخفق بنوده ، ومنها تقتحم الطير الغريب ، إذا رامت الجواز وفوده ، فيبصر بها صافّات والدليل يقوده. الباب المسدود ، يا عباد الله ، فافتحوه ، وجه النّصر تجلّى يا عباد الله فالمحوه ، الداء العضال يا عباد الله فاستأصلوه ، حبل الله يا رجال الله قد انقطع فصلوه. في مثلها ترخص النفوس الغالية ، في مثلها تختبر الهمم العالية ، في مثلها تشهر العقائد الوثيقة ، وتدسّ الأحباس العريقة ، فنضّر الله وجه من نظر إلى قلبه ، وقد امتلأته حميّة الدين ، وأصبح لأن تكون كلمة الله هي العليا متهلّل الجبين.

اللهمّ إنّا نتوسّل إليك بأسرار الكتاب الذي أنزلته ، وعناية النبيّ العربي الذي أوفدت من خصوص الرّحمات وأجزلت ، وبكل نبيّ ركع لوجهك الكريم وسجد ، وبكل وليّ سدّه من إمدادك كما وجد ، ألا ما رددت علينا ضالّتنا الشاردة ، وهنّأتنا بفتحها من نعمك الواردة ، يا مسهل المآرب العسرة ، يا جابر القلوب المنكسرة ، يا وليّ الأمة الغريبة ، يا منزل اللطائف القريبة ، اجعل لنا من ملائكة نصرك مددا ، وأنجز لنا من تمام نورك الحقّ موعدا. ربّنا آتنا من لدنك رحمة ، وهيّئ لنا من أمرنا رشدا.

فوقع الانفعال ، وانتشرت الحميّة ، وجهزت الأساطيل. وكانت منازلتها يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر المذكور ، وعاطاها المسلمون الحرب ، فدخلت البنية وهي المدينة الملاصقة لها عنوة ، قتل بها من الفرسان الدّارعة عدّة ، وصرفت الغنائم إلى المدينة الكبرى ، فرأوا من أمر الله ، ما لا طاقة لهم به ، وخذلهم الله جلّ

__________________

(١) الفاقرة : الداهية التي تكسر الفقار ، والجمع فواقر. محيط المحيط (فقر).

(٢) المقصود هنا جبل الفتح ، أي جبل طارق.

٤٩

جلاله ، على منعة الأسوار وبعد مهاوي الأغوار ، وكثرة العدّ والعدد ، وطلبوا الأمان لأنفسهم ، وكان خروجهم عنها يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر المذكور ، السعيد على المسلمين ، في العيد والسرور ، برد الدين ، ولله الحمد على آلائه ، وتوالي نعمه وإرغام أعدائه.

وفي وسط ربيع الأول من عام أحد وسبعين وسبعمائة ، أعمل الحركة إلى أحواز إشبيلية دار الملك ، ومحل الشّوكة الحادّة ، وبها نائب سلطان النصارى ، في الجمع الخشن من أنجاد فرسانهم ، وقد عظم التضييق ببلدة قرمونة ، المنفرد بالانتزاء على ملك النصارى ، والانحياز إلى خدمة المسلمين ، فنازل المسلمون مدينة أشونة (١) ، ودخلوا جفنها عنوة ، واعتصم أهلها بالقصبة ، فتعاصت ، واستعجل الإقلاع منها لعدم الماء المروي والمحلّات ، فكان الانتقال قدما إلى مدينة مرشانة وقد أحدقوا بها ، وبها العدّة والعديد من الفرسان الصّناديد ، ففتحها الله سبحانه ، إلّا القصبة ، واستولى المسلمون فيها ، وفي جارتها ، من الدواب والآلات على ما لا يأخذه الحصر ، وقتل الكثير من مقاتلتها ، وعمّ جميعها العدم والإحراق ، ورفعت ظهور دواب المسلمين من طعامها ما تقلّه أظهر مراكب البحار ، ما أوجب في بلاد المسلمين التّوسعة ، وانحطاط الأسعار ، وأوجب الغلاء في أرض الكفّار ، وقفل ، والحمد لله ، في عزّ وظهور ، وفرح وسرور.

مولده السعيد النّشيئة (٢) ، الميمون الطلوع والجيئة :

المقترن بالعافية ، منقولا من تهليل نشأته المباركة ، وحرز طفولته السعيدة ، في نحو ثلث ليلة الاثنين والعشرين من جمادى الآخرة عام تسعة وثلاثين وسبعمائة. قلت : ووافقه من التاريخ الأعجمي رابع ينير من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين (٣) لتاريخ الصّفر. واقتضت صناعة التعديل بحسب قيمودا وبطليموس ، أن يكون الطالع ببرج القمر ؛ لاستيلائه على مواضع الاستقبال المتقدم للولادة ، ويكون التخمين على ربع ساعة وعشر ساعة ، وثلث عشر الساعة السادسة من ليلة الاثنين المذكورة ، والطالع من برج السّنبلة ، خمس عشرة درجة ، وثمان وأربعون دقيقة من درجة. كان الله له في الدنيا والآخرة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) أشونه ، بالإسبانية : Osuna ، وهي مدينة من كور إستجة الأندلس. الروض المعطار (ص ٦٠).

(٢) النشيئة : النشأة.

(٣) الصواب : ٢١ كانون الثاني من عام ١٣٣٨ م.

٥٠

محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر

ابن قيس الخزرجي الأنصاري (١)

من ولد سعد بن عبادة ، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ابن سليمان بن حارثة بن خليفة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمر بن يعرب بن يشجب بن قحطان بن هميسع بن يمن بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم صلّى الله عليه وعلى محمد الكريم. أمير المسلمين بالأندلس ودايلها خدمة النّصريين بها. يكنى أبا عبد الله ، ويلقب بالغالب بالله.

أوّليّته : وقد اشتهر عند كثير ممن عني بالأخبار أن هذا البيت النّصري من ذرّية سعد بن عبادة سيد الخزرج ، وصاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وصنّف الناس في اتصال نسبهم بقيس بن سعد بن عبادة غير ما تصنيف. وأقوى ما ذكر قول الرّازي : دخل الأندلس من ذرّية سعد بن عبادة رجلان ، نزل أحدهما أرض تاكرونّا ، ونزل الآخر قرية من قرى سقر سطونة ، تعرف بقرية الخزرج ، ونشأ بأحواز أرجونة من كنبانيّة (٢) قرطبة ، أطيب البلاد مدرة ، وأوفرها غلّة ، وهو بلده ، وبلد جدّه ، في ظل نعمة ، وعلاج فلاحة ، وبين يدي نجدة وشهرة ، بحيث اقتضى ذلك ، أن يفيض شريان الرياسة ، وانطوت أفكاره على نيل الإمارة ، ورآه مرتادو أكفاء الدول أهلا ، فقد حوا رغبته ، وأثاروا طمعه.

حدّث شيخنا الكاتب الشاعر ، محمد بن محمد بن عبد الله اللّوشي اليحصبي ، وقد أخبرني أنه كان يوجد بمدينة جيّان رجل من أهل الماليّة ، وكان له فرس أنثى من عتاق الخيل ، على عادة أولي المالية ، وكان له من أهل الثغور ، من ارتباط الخيل ، والتنافس في إعداد القوة. وشهرت هذه الفرس في تلك الناحية ، وبعث الطّاغية ملك الروم في ابتياعها ، فعلقت بها كفّ هذا الرجل ، وآثر بها نفسه ، وازداد غبطة بها لديه ، ورأى في النوم قائلا يقول له : سر إلى أرجونة ، بفرسك ، وابحث عن رجل اسمه كذا ، وصفته كذا ، فأعطه إياها ، فإنه سيملك جيّانا وسواها ، ينتفع بها عقبك. وأرجىء الأمر ، فعرض عليه ثانية ، وحثّ في ذلك في الثّالثة ، فسأل ثقة له خبيرا بتلك الناحية وأهلها ، فقال له المخبر ، وكان يعرف بابن يعيش ، فوصفه له ، فتوجه الفقيه إلى

__________________

(١) ترجمة أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر في المغرب (ج ٢ ص ١٠٩) والبيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٩٦ ، ٣٤١) واللمحة البدرية (ص ٣٦).

(٢) كنبانية : كلمة إسبانيةCampana ، وتعني الأرض الجرداء. راجع نفح الطيب (ج ٤ ص ١٩١) حاشية المحقق.

٥١

أرجونة ، ونزل بها ، وتسومع به ، وأقبل السلطان وأظهاره ، وتكلموا في شأنه ، فذكر غرضه فيه ، وأظهر العجز عن الثّمن ، وسأل منه تأخير بعضه ، فأسعفه ، واشترى منه الفرس بمال له خطر. فلما كمل له القصد ، طلب منه الخلوة به في المسجد من الحصن ، وخرج له عن الأمر ، وأعطاه بيعته ، وصرف عليه الثّمن ، واستكتمه السلطان خيفة على نفسه ، وانصرف إلى بلده.

قال : وفي العام بعده ، دعا إلى نفسه بأرجونة ، وتملّك مدينة جيّان ، واختلف في السبب الذي دعاه إلى ذلك ، فقيل : إن بعض العمال أساء معاملته في حقّ مخزني ، وقيل غير ذلك.

حاله : هذا الرجل كان آية من آيات الله في السّذاجة والسلامة والجمهورية ، جنديّا ، ثغريّا شهما ، أيّدا ، عظيم التّجلّد ، رافضا للدّعة والرّاحة ، مؤثرا للتقشف ، والاجتراء باليسير ، متبلغا بالقليل ، بعيدا عن التّصنّع ، جافي السلاح ، شديد العزم ، مرهوب الإقدام ، عظيم التّشمير ، مقريا لضيفه ، مصطنعا لأهل بيته ، فظّا في طلب حظّه ، محميا لقرابته وأقرانه وجيرانه ، مباشرا للحروب بنفسه ، تتغالى الحكاة في سلاحه ، وزينة دبوره. يخصف النعل ، ويلبس الخشن ، ويؤثر البداوة ، ويستشعر الجدّ في أموره. سعد بيوم الجمعة ، وكان فيه تملّكه جيّان ؛ ثم حضرة الملك غرناطة ، وقيل : يوم قيامه شرع فيه الصّدقة الجارية على ضعفاء الحضرة ، ومنائهم إلى اليوم. وتملك مدينة إشبيلية (١) في أخريات ربيع الأول من عام ظهوره ، وهو عام تسعة وعشرين وستمائة نحوا من ثلاثين يوما. وملك قرطبة في العشر الأول لرجب من العام المذكور ، وكلاهما عاد إلى ملك ابن هود.

ولما تمّ له القصد من تملّك البيضة ، والحصول على العمّال ، مباشرا للحسابات بنفسه ، فتوفّر ماله ، وغصّت بالصامت خزائنه ، وعقد السّلم الكبير ، وتهنّأ أمره ، وأمكنه الاستعداد ، فأنعم الأهواء ، وملأ بطن الجبل المتصل بالقلعة حبوبا مختلفة ، وخزائن درّة ، ومالا وسلاحا وارية ظهرا ، وكراعا ، فوجد فائدة استعداده ، ولجأ إلى ما ادّخره من عتاده.

سيرته : تظاهر لأول أمره بطاعة الملوك بالعدوة وإفريقية ، يخطب لهم زمانا يسيرا ، وتوصل بسبب ذلك إلى إمداد منهم وإعانة ، ولقبل ما افتتح أمره بالدعاء للمستنصر العباسي ببغداد ، حاذيا حذو سميّه ابن هود ، للهج العامة في وقته ، بتقلد تلك الدعوة ، إلى أن نزع عن ذلك كله.

__________________

(١) في المغرب : «وقد ملك إشبيلية وقتل ملكها المعتضد الباجي».

٥٢

وكان يعقد للناس مجلسا عاما ، يومين في كل أسبوع ، فترتفع إليه الظلامات ، ويشافه طالب الحاجات ، وتنشده الشعراء ، وتدخل إليه الوفود ، ويشافه أرباب النصائح في مجلس اختصّ به أهل الحضرة ، وقضاة الجماعة ، وأولي الرتب النّبيهة في الخدمة ، بقراءة أحاديث من الصّحيحين ، ويختم بأعشار من القرآن. ثم ينتقل إلى مجلس خاص ، ينظر فيه في أموره ، فيصرف كل قصد إلى من يليق به ذلك ، ويؤاكل بالعشيّات خاصته من القرابة ؛ ومن يليهم من نبهاء القوّاد.

أولاده : أعقب ثلاثة من الذكور ، محمدا وليّ عهده وأمير المسلمين على أثره ؛ والأميرين أبا سعيد فرج ، وأبا الحجاج يوسف ؛ توفّيا على حياته ؛ حسبما يتقرر بعد إن شاء الله.

وزراء دولته : وزر له جماعة ؛ الوزير أبو مروان عبد الملك بن يوسف بن صناديد ، زعيم قاعدة جيّان ؛ وهو الذي مكّنه من ناصية جيّان المذكورة. واستوزر علي بن إبراهيم الشّيباني من وجوه حضرته ، وذوي النّسب من الفضلاء أولي الدّماثة والوقار. واستوزر الرئيس أبا عبد الله ابن الرئيس أبي عبد الله الرّميمي. واستوزر الوزير أبا يحيى ابن الكاتب من أهل حضرته ، وغيرهم ممن تبلغ به الشهرة مبلغا فيهم.

كتّابه : كتب له من الجلّة جماعة ، كالكاتب المحدّث الشهير أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن سعيد اليحصبي اللّوشي ، ولما توفي كتب عنه ولده أبو بكر بن محمد. هؤلاء مشاهير كتّابه ، ومن المرؤوسين أعلام ، كأبي بكر بن خطاب وغيره.

قضاته : ولي له قضاء الجماعة ، القاضي العالم الشهير ، أبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري ، من جلّة أهل الأندلس في كبر البيت ، وجلالة المنصب ، وغزارة العلم. ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الجليل بن غالب الأنصاري الخزرجي. ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد السلام التميمي ، وهذا الرجل من أهل الدين والأصالة ، وآخر قضاة العدل. ثم ولي بعده الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عياض بن موسى اليحصبي. ثم ولي بعده الفقيه القاضي الحسيب أبو عبد الله بن أضحى ، وبيته شهير ، ولم تطل مدته. وولي بعده آخر قضاته أبو بكر محمد بن فتح بن علي الإشبيلي ، الملقب بالأشبرون.

٥٣

الملوك على عهده :

بمرّاكش المأمون إدريس ، مأمون الموحّدين ، مزاحما بأبي زكريا يحيى بن الناصر بن المنصور بن عبد المؤمن بالجبل. ولما توفي المأمون ولي الرشيد أبو محمد عبد الواحد في سنة ثلاثين وستمائة ، وولي بعده أبو حفص عمر بن إسحاق المرتضى ، إلى أن قتله إدريس الواثق أبو دبّوس في عام خمسة وستين. وولي بعده يسيرا بنو عامر بن علي بمراكش ، وتعاقب منهم على عهده جلّة ؛ كالأمير عثمان وابنه حمو ، وأخيه أبي يحيى بن عبد الحق. واستمرّ الملك في أسنّ أملاكهم ، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو إلى آخر أيامه.

وبتلمسان ، شبيهه يغمراسن بن زيّان ، أول ملوكهم ، وتقدمه أخوه أكبر منه برهة. ويغمراسن أول من أثّل الملك ، وحاز الذّكر ، واستحق الشهرة.

وبتونس ، الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص. وخاطبه السلطان المترجم به ، والتمس رفده ، وقد حصل على إعانته ، وولي بعد موته ولده المستنصر أبو عبد الله ، ودامت أيامه إلى أول أيام ولد السلطان المترجم له عام أربعة وسبعين.

وبقشتالة هراندة بن ألهنشة بن شانجه الإنبرطور. وهراندة هذا هو الذي ملك قرطبة وإشبيلية ، ولما هلك ولي بعده ألفنش ولده ثلاثا وثلاثين سنة ، واستمرّ ملكه مدة ولايته ، وصدرا من دولة ولده بعده.

وبرغون جايمش ابن بطره ابن ألفونش قمط برجلونه. وجايمش هذا هو الذي ملك بلنسية وصيّرها دار ملكه من يد أبي جميل زيّان بن مردنيش.

لمع من أخباره : قام ابن أبي خالد بدعوته بغرناطة ، كما ذكر في اسمه ، ودعاه وهو بجيّان ، فبادر إليها في أخريات رمضان من عام خمسة وثلاثين وستمائة ، بعد أن بعث إليه الملأ من أهلها ببيعتهم مع رجلين من مشيختهم ؛ أبي بكر (١) الكاتب ، وأبي جعفر التّيزولي.

قال ابن عذاري في تاريخه (٢) : أقبل وما زيّه بفاخر ، ونزل (٣) عشي اليوم الذي

__________________

(١) في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٣٤٢): «أبي بكر ابن الكاتب ، وأبي جعفر النمزولي».

(٢) البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٣٤٢).

(٣) في البيان المغرب : «ونزل بخارج غرناطة على أن يدخلها من الغد غدوا ثم بدا له غير ذلك فدخلها مع غروب الشمس يوم نزوله».

٥٤

وصل بخارج غرناطة ، على أن يدخلها من الغد ، ثم بدا له فدخلها عند غروب الشمس ، نظرا للحزم.

وحدّث أبو محمد البسطي قال (١) : عاينته (٢) يوم دخوله وعليه شاشيّة (٣) ملفّ مضلعة أكتافها مخرّقة (٤). وعند ما نزل بباب جامع القصبة ، كان مؤذن المغرب في الحيعلة ، وإمامه يومئذ أبو المجد المرادي قد غاب ، فدفع الشيخ السلطان إلى المحراب ، وصلّى (٥) بهم ، على هيئته تلك ، بفاتحة الكتاب. و (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (١) (٦). والثانية ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) (٧). ثم وصل قصر باديس ، والشمع بين يديه (٨).

وفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة ، صالح طاغية الروم ، وعقد معه السّلم الذي طاحت في شروطه جيّان. وكان واقع بالعدو الراتب تجاه حضرته ، المختص بحصن بليلش على بريد من الحضرة ، وكان الفتح عظيما ، ثم حالفه الصّنع بما يضيق المجال عن استيعابه. وفي حدود اثنين وستين وستمائة صالح طاغية الروم ، وعقد معه السلم ، وعقد البيعة لولي عهده ، واستدعى القبائل للجهاد.

مولده : في عام خمسة وتسعين وخمسمائة بأرجونة ، عام الأرك (٩).

وفاته : في منتصف جمادى الثانية من عام واحد وسبعين وستمائة ، ورد عليه وقد أسنّ ، جملة من كتّاب الزّعائم ، يقودون جيشا من أتباعهم ، فبرز إلى لقائهم بظاهر حضرته ، ولما كرّ آئبا إلى قصره ، سقط ببعض طريقه ، وخامره خصر ، وهو راكب ، وأردفه بعض مماليكه ، واسمه صابر الكبير ، وكانت وفاته ليلة الجمعة التاسع

__________________

(١) النص في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٣٤٢ ـ ٣٤٣).

(٢) في البيان المغرب : «فعاينته».

(٣) في المصدر نفسه : «دخوله بشاية». والشاية والشاشية : لباس حربي محشو بالقطن لوقاية المحارب.

(٤) في المصدر نفسه : «مقطعة».

(٥) في المصدر نفسه : «فصلّى بهم على هيئة سفره بفاتحة ...».

(٦) سورة النصر ١١٠ ، الآية ١.

(٧) سورة الإخلاص ١١٢ ، الآية ١.

(٨) في البيان المغرب : «ثم خرج إلى قصر باديس ابن حبوس والشمع بين الأبواب يتّقد ...».

(٩) كانت وقعة الأرك سنة ٥٩١ ه‍ ـ وليس سنة ٥٩٥ ه‍ ، وذلك بين المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن ، وكان النصر فيها للموحدين ، وكان عدد قتلى النصارى ثلاثين ألفا ، واستشهد من المسلمين نحو الخمسمائة. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢١٨).

٥٥

والعشرين لجمادى الثانية المذكورة ، ودفن بالمقبرة الجامعة العتيقة بسنام السّبيكة ، وعلى قبره اليوم منقوش :

«هذا قبر السلطان الأعلى ، عزّ الإسلام ، جمال الأنام ، فخر الليالي والأيام ، غياث الأمة ، غيث الرحمة ، قطب الملة ، نور الشريعة ، حامي السنّة ، سيف الحق ، كافل الخلق ، أسد الهيجاء ، حمام الأعداء ، قوام الأمور ، ضابط الثغور ، كاسر الجيوش ، قامع الطغاة ، قاهر الكفرة والبغاة ، أمير المؤمنين ، علم المهتدين ، قدوة المتقين ، عصمة الدين ، شرف الملوك والسلاطين ، الغالب بالله ، المجاهد في سبيل الله ، أمير المسلمين ، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الأنصاري ، رفعه الله إلى أعلى عليّين ، وألحقه بالذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين ، والشهداء والصالحين. ولد ، رضي الله عنه ، وأتاه رحمة من لدنه ، عام أحد وتسعين وخمسمائة ، وبويع له يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان عام خمسة وثلاثين وستمائة ، وكانت وفاته يوم الجمعة بعد صلاة العصر التاسع والعشرين لجمادى الآخرة عام أحد وسبعين وستمائة ، فسبحان من لا يفنى سلطانه ، ولا يبيد ملكه ، ولا ينقضي زمانه ، لا إله إلّا هو الرحمن الرحيم».

ومن جهة أخرى : [البسيط]

هذا محلّ العلى والمجد والكرم

قبر الإمام الهمام الطاهر العلم

لله ما ضمّ هذا اللحد من شرف

ومن شيم علوية الشّيم

بالجود والباس ما تحوي صفائحه

لا بأس عنترة ولا ندى هرم

مغني الكرامة والرضوان يعهده

فخر الملوك الكريم الذات والشيم

مقامه في كلا يومي ندى ووغى

كالغيث في مجد وكالليث في أجم

مآثر تليت آثارها سورا

تقرّ بالحق فيها جملة الأمم

كأنه لم يسر في محفل لجب

تضيق عنه بلاد العرب والعجم

ولم يباد العدا منه ببادرة

يفتر منها الهدى عن ثغر مبتسم

ولم يجهز لهم خيلا مضمرة

لا تشرب الماء إلّا من قليب دم

ولم يقم حكم عدل في سياسته

تأوي رعيته منه إلى حرم

من كان يجهل ما أولاه من نعم

وما حواه لدين لله من حرم

فتلك آثاره في كل مكرمة

أبدى وأوضح من نار على علم

لا زال تهمي على قبر تضمّنه

سحائب الرحمة الوكّافة الدّيم

٥٦

محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر

ابن محمد بن أبي الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري ،

المنصور بن أبي عامر (١)

معظّم الظّفر ، وخدن السّعد ، وملقى عصيّ الجدّ ، وجوّ رياح الشهرة ، وديوان فنون السياسة ، وحجاج الدولة العبشميّة (٢) ، في التّخوم المغربية ، المزيّ (٣) بالظّرف وكمال السّجية ، والجهاد العظيم ، العريق في بحبوحة بلاد الكفار ، رحمه الله تعالى.

أوّليّته : دخل جدّه عبد الملك الأندلس مع طارق مولى موسى بن نصير في أول الداخلين من المغرب ، وكان له في فتحها أثرا جميلا ، وإلى ذلك أشار مادحه محمد بن حسان (٤) : [الطويل]

وكلّ عدوّ أنت تهزم (٥) عرشه

وكلّ فتوح عنك يفتح بابها

وإنّك (٦) من عبد المليك الذي له

حلى فتح قرطاجنّة (٧) وانتهابها

ونزل عبد الملك الجزيرة الخضراء لأول الفتح ، فساد أهلها ، وكثر عقبه بها ؛ وتكررت فيهم النّباهة ، وجاوروا الخلفاء بقرطبة. وكان والد محمد هذا ، من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان. سمع الحديث ، وأدّى الفريضة ، ومات منصرفا عن الحج بإطرابلس.

حاله : كان هذا الرجل بكر الدهر ، وفائدة الأيام ، وبيضة العمر ، وفرد الخلق في اضطراد السّعد ، وتملد العاجل من الحظ ، حازما ، داهية ، مشتملا على أقطار السؤدد ، هويّا إلى الأقاصي ، وطموحا ، سوسا حميّا ، مصطنعا للرجال ، جالبا

__________________

(١) ترجمة المنصور العامري في البيان المغرب (ج ٢ ص ٢٥٦) والذخيرة (ق ٤ ص ٥٦) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٥٩) والحلة السيراء (ج ١ ص ٢٦٨) ومطمح الأنفس (ص ٣٨٨) وجذوة المقتبس (ص ١٧ ، ٧٨) وبغية الملتمس (ص ٢١ ، ١١٥) والمعجب (ص ٧٢) وكتاب العبر (م ٤ ص ٣١٨) والمغرب (ج ١ ص ١٩٥) والمختصر في أخبار البشر (ج ٢ ص ١١٧ ، ١٣٦) وتتمة المختصر في أخبار البشر (ج ١ ص ٤٧٧) ونفح الطيب (ج ١ ص ٣٨٢).

(٢) العبشمية : نسبة إلى عبد شمس ، وهي من أوصاف الدولة الأموية. محيط المحيط (شمس).

(٣) المزيّ : الظريف. محيط المحيط (مزي).

(٤) البيتان في البيان المغرب (ج ٢ ص ٢٥٦) وجاء فيه أن المادح هو محمد بن حسين الشاعر العالم بأخبار الأندلس.

(٥) في البيان المغرب : «تهدم».

(٦) في الأصل : «برأيك» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من البيان المغرب.

(٧) في الأصل : «قرطبة» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من البيان المغرب.

٥٧

للأشراف ، مستميلا للقلوب ، مطبقا المفاصل ، مزيحا للعلل ، مستبصرا في الاستبداد ، خاطبا جميل الذكر ، عظيم الصبر ، رحيب الذّرع ، طموح الطرف ، جشع السيف ، مهادي جياد العقاب والمثوبة ، مهيبا ، جزلا ، منكسف اللون ، مصفر الكفّ ، آية الله ، جلّ جلاله ، في النّصر على الأعداء ومصاحبة الظّفر ، وتوالي الصّنع.

نباهته : قال المؤرخ (١) : سلك سبيل القضاء (٢) في أوّليّته ، مقتفيا آثار عمومته وخؤولته ، يطلب (٣) الحديث في حداثته. وكتب منه كثيرا ، ولقي الجلّة من رجاله ، ثم صحب الخليفة الحكم (٤) متحزّبا في زمرته ، وولي له الأعمال من القضاء والإمامة ، ثم استكفاه ، فعدل عن سبيله ، وصار في أهل الخدمة. ثم اختصّه بخدمة أمّ ولده هشام ، فزاد بخاصّته لولي العهد ، عزّا ومكانة من الدولة ، فاحتاج الناس إليه ، وغشوا بابه ، وبلغ الغاية من أصحاب السلطان معه ، إسعاف ، وكرم لقاء ، وسهولة حجاب ، وحسن أخلاق ، فاستطار ذكره ، وعمّر بابه ، وساعده الجدّ. ولمّا صار أمر المسلمين إليه ، بلغ (٥) التي لا فوقها عزّا وشهرة.

الثناء عليه : قال : وفي الدولة العامرية ، وأعين محمد على أمره ، مع قوة سعده ، بخصال مؤلفة لم تجتمع لمن قبله ، منها الجود ، والوقار ، والجدّ والهيبة ، والعدل والأمن ، وحبّ العمارة ، وتأمير المال ، والضبط للرعية ، وأخذهم بترك الجدل والخلاف والتّشغّب ، من غير وهن في دينه ، وصحّة الباطن ، وشرح كل فضل ، وجلب كلّ ما يوجب عن المنصور فيه.

غزواته وظهوره على أعدائه :

واصل ، رحمه الله ، الغزو بنفسه ، فيما يناهز خمسين غزوة ، وفتح فيها البلاد ، وخضد شوكة الكفر ، وأذلّ الطواغيت وفضّ مصاف الكفّار ، وبلغ الأعماق ، وضرب على العدو الضرائب ، إلى أن تلقّاه عظيم الروم بنفسه وأتحفه بابنته في سبيل الرغبة في صهره ، فكانت أحظى عقائله ، وأبرّت في الدين والفضل على سائر أزواجه ، وعقد اثني عشر بروزا إلى تلقي ملوك الروم القادمين عليه مصطهرين بإلحاح سيفه ، منكبّين على لثم سريره.

__________________

(١) النص في البيان المغرب (ج ٢ ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨) بتصرف.

(٢) في البيان المغرب : «القضاة».

(٣) في البيان المغرب : «فطلب».

(٤) هو خليفة الأندلس الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، المعروف بالحكم المستنصر ، وقد حكم الأندلس من سنة ٣٥٠ ه‍ ـ إلى سنة ٣٦٦ ه‍.

(٥) في الأصل : «فبلغ».

٥٨

شعره : ومما يؤثر من شعره (١) : [الطويل]

رميت بنفسي هول كلّ عظيمة (٢)

وخاطرت والحرّ الكريم يخاطر (٣)

وما صاحبي إلّا جنان مشيّع

وأسمر خطّيّ وأبيض باتر (٤)

ومن شيمتي (٥) أني على كلّ (٦) طالب

أجود بمال لا تقيه المعاذر

وإني لزجّاء الجيوش إلى الوغى

أسود تلاقيها أسود خوادر

فسدت (٧) بنفسي أهل كلّ سيادة

وكاثرت (٨) حتى لم أجد من أكاثر

وما شدت بنيانا (٩) ولكن زيادة

على ما بنى عبد المليك وعامر

رفعنا العوالي (١٠) بالعوالي سياسة (١١)

وأورثناها في القديم معافر (١٢)

وبلغ في ملكه أقطار المغرب ، إلى حدود القبلة (١٣) ، وبمدينة فاس ، إثر ولده المقلّد فتح تلك الأقطار ، ونهد أولئك الملوك الكبار.

دخوله غرناطة : قال صاحب الديوان في الدولة العامرية ، وقد مرّ ذكر المنصور ، قومس الفرنجة بمدينة برشلونة : وهذه الأمة أكثر النصرانية جمعا ، وأوسعها ، وأوفرها من الاستعداد ، وما أوطىء من الممالك والبلاد ، وفتح من القواعد ، وهزم من الجيوش. وقفل المنصور عنها ، وهو أطمع الناس في استئصالها ؛ ثم خصّهم بصائفة سنة خمس وسبعين ، وهي الثالثة عشرة (١٤) لغزواته؛

__________________

(١) الأبيات في البيان المغرب (ج ٢ ص ٢٧٤) والحلة السيراء (ج ١ ص ٢٧٤) ونفح الطيب (ج ١ ص ٣٨٣). وورد منها ثلاثة أبيات في المغرب (ج ١ ص ٢٠٣).

(٢) في البيان المغرب : «كريهة».

(٣) في البيان المغرب والحلة السيراء : «مخاطر».

(٤) الجنان : القلب. المشيّع : الجريء. الأسمر : الرمح. الخطيّ : المنسوب إلى الخط وهو موضع باليمامة كانت تصنع منه الرماح. الأبيض : السيف. لسان العرب (جنن) و (شيع) و (سمر) و (خطط) و (بيض).

(٥) في الحلة السيراء : «شيمي».

(٦) كلمة «كلّ» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الحلة السيراء.

(٧) في الحلة والبيان : «لسدت».

(٨) في النفح : «وفاخرت ... من أفاخر».

(٩) في المغرب : «بيتا لي».

(١٠) في الأصل : «العلى» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر الأربعة.

(١١) في المغرب : «بسالة». وفي الحلة : «حديثه». وفي البيان المغرب والنفح : «حديثة».

(١٢) رفعنا العوالي : رفعنا المجد. والعوالي : الرماح. معافر : قبيلة المنصور العامري.

(١٣) تقع بلاد القبلة في جنوب المغرب.

(١٤) في الأصل : «عشر» وهو خطأ نحوي.

٥٩

وقد احتفل لذلك ، واستبلغ في النّفير ، واستوفى أتمّ الأبّهة ، وأكمل العدّة ، فجعل طريقه على شرقي الأندلس ؛ لاستكمال ما هنالك من الأطعمة ، فسلك طريق إلبيرة ، إلى بسطة ، إلى تدمير ؛ وعزم في هذه الغزوات بريل ملك فرنجة ونازل مدينة برجلونة ؛ فدخلها عنوة يوم الاثنين النصف من صفر ، سنة أربع وسبعين أو خمس بعدها.

قلت : وفي دخول المنصور بجيشه بلد إلبيرة ؛ ما يحقق دعوى من ادّعى دخول المعتمدين من أهل الأندلس لذلك العهد ؛ إذ كان يصحب المنصور في هذه الغزوة ، من الشعراء المرتزقين بديوانه من يذكر ؛ فضلا عن سائر الأصناف على ندارة هذا الصنف من الخدام ؛ بالنسبة للبحر الزاخر من غيرهم.

والذي صحّ أنه حضر ذلك ، أبو عبد الله محمد بن حسين الطّبني ، أبو القاسم حسين بن الوليد ، المعروف بابن العريف ، أبو الوضّاح بن شهيد ، عبد الرحمن بن أحمد ، أبو العلا صاعد بن الحسن اللغوي ، أبو بكر زيادة الله بن علي بن حسن اليمني ، عمر بن المنجم البغدادي ، أبو الحسن علي بن محمد القرشي العباسي ، عبد العزيز بن الخطيب المحرود ، أبو عمر يوسف بن هارون الزيّادي ، موسى بن أبي طالب ، مروان بن عبد الحكم بن عبد الرحمن ، يحيى بن هذيل بن عبد الملك بن هذيل المكفوف ، سعد بن محمد القاضي ، ابن عمرون القرشي المرواني ، علي النقاش البغدادي ، أبو بكر يحيى بن أمية بن وهب ، محمد بن إسماعيل الزبيدي ، صاحب المختصر في اللغة ، أحمد بن درّاح القسطليّ ، متنبيّ الأندلس ، أبو الفرج منيل بن منيل الأشجعي ، محمد بن عبد البصير ، الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد ، محمد بن عبد الملك بن جهور ، محمد بن الحسن القرشي ، من أهل المشرق ، أبو عبيدة حسان بن مالك بن هاني ، طاهر بن محمد المعروف بالمهنّد ، محمد بن مطرّف بن شخيص ، سعيد بن عبد الله الشّنتريني ، وليد بن مسلمة المرادي ، أغلب بن سعيد ، أبو الفضل أحمد بن عبد الوهاب ، أحمد بن أبي غالب الرّصافي ، محمد بن مسعود البلخي ، عبادة بن محمد بن ماء السماء ، عبد الرحمن بن أبي الفهد الإلبيري ، أبو الحسن بن المضيء البجلي الكاتب ، عبد الملك بن سهل ، الوزير عبد الملك بن إدريس الجزيري ، قاسم بن محمد الجيّاني.

قال المؤرخ : هؤلاء من حفظته منهم ، وهم أكثر من أن يحصوا ، فعلى هذا يتبنى القياس في ضخامة هذا الملك ، وانفساح هذا العزّ.

٦٠