الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقال (١)

وكم من رجال قد رأينا ودولة (٢)

فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال فماتوا والجبال جبال (٣)

وقال (٤) : وقد مرّ من ذكر الشريف القاضي أبي علي حسين بن يوسف بن يحيى الحسني في عداد شيوخه وقال : حدّثني أبو العباس الرّندي عن القاضي أبي العباس بن الغمّاز (٥) ، قال : لمّا قدم القاضي أبو العباس بن الغماز من بلنسية ، نزل بجاية ؛ فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع (٦) ، فجاء عبد الحق يوما ، وعليه برنس أبيض ، وقد حسنت شارته ، وكملت هيئته ، فلمّا نظر إليه ابن الغماز أنشده : [الخفيف]

لبس البرنس الفقيه فباهى

ورأى أنه المليح فتاها (٧)

لو زليخا رأته حين تبدّى

لتمنّته أن يكون فتاها

وقال أيضا : إن ابن الغمّاز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزّيتونة ، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلّوه (٨). وجاء حفيد له صغير ، فأخبره أنه أهلّه ، فردّهم معه ، فأراهم إياه ، فقال : ما أشبه الليلة بالبارحة. وقد (٩) وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع بن سالم (١٠) ، فأنشدنا فيه : [الطويل]

توارى هلال الأفق عن أعين الورى

وأرخى حجاب الغيم دون محيّاه

فلمّا تصدّى لارتقاب شقيقه

تبدّى له دون الأنام فحيّاه

__________________

(١) في الوافي بالوفيات : «... طول دهرنا سوى ... فيه قلت وقالوا».

(٢) في وفيات الأعيان وعيون الأنباء : «وكم قد رأينا من رجال ودولة».

(٣) في المصدرين السابقين : «فزالوا» بدل «فماتوا». ورواية عجز البيت في الوافي بالوفيات هي :

ومال فزالت والجبال جبال

(٤) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٢٢).

(٥) هو أحمد بن محمد بن الحسن بن الغماز الأنصاري ؛ ولي قضاء بجاية ، وتوفي بتونس سنة ٦٩٣ ه‍. عنوان الدراية (ص ٧٠).

(٦) لعبد الحق بن ربيع ترجمة ضافية في عنوان الدراية (ص ٣٢).

(٧) تاها : فعل ماض من التيه ، والألف للإطلاق ، وأصل القول : تاه.

(٨) لم يهلّوه : لم يروه. لسان العرب (هلل).

(٩) كلمة «وقد» غير واردة في النفح.

(١٠) هو سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي ، المتوفى سنة ٦٣٤ ه‍. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.

١٤١

وجرى في ذكر أبي عبد الله بن النجار (١) ، الشيخ التعالمي من أهل تلمسان ، فقال (٢) : ذكرت يوما قول ابن الحاجب فيما يحرّم من النساء بالقرابة ، وهي «أصول وفصول ، أول أصوله ، وأول فصل من كل أصل وإن علا» ، فقال : إن تركّب لفظ التّسمية العرفية من الطّرفين حلّت ، وإلّا حرمت ، فتأمّلته ، فوجدته كما قال : لأن أقسام هذا الضابط أربعة : التّركيب من الطرفين ، كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت ، والتركيب (٣) من قبل الرجل كابنة الأخ والعمّ مقابله كابن الأخت والخالة.

وذكر الشيخ الرئيس أبا محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي. وقال (٤) : كان ينكر إضافة الحول إلى الله عزّ وجلّ ، فلا يجيز أن يقال : «بحول الله وقوّته» ، قال : لأنه لم يرد إطلاقه (٥) ، والمعنى يقتضي امتناعه ؛ لأنّ الحول كالحيلة ، أو قريب منها.

وحكى (٦) عن شيخه أبي زيد عبد الرحمن الصّنهاجي (٧) ، عن القاضي أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدّكالي ، أنه اختصم عنده رجلان في شاة ، ادّعى أحدهما أنه أودعها الآخر ، وادّعى الآخر أنها ضاعت منه ، فأوجب اليمين على المودع (٨) أنها ضاعت من غير تضييع ، فقال : كيف أضيّع ، وقد شغلتني حراستها عن الصلاة ، حتى خرج وقتها؟ فحكم عليه بالغرم ، فقيل له في ذلك ، فقال : تأوّلت قول عمر : و «من ضيّعها فهو لما سواها أضيع».

وحكى عن الشيخ الفقيه رحلة الوقت أبي عبد الله الآبلي ، حكاية في باب الضّرب ، وقوة الإدراك ، قال (٩) : كنت يوما مع القاسم بن محمد الصّنهاجي ، فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها : [السريع]

خيرات ما تحويه مبذولة

ومطلبي تصحيف مقلوبها

__________________

(١) هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن النجار ، وترجمته في التعريف بابن خلدون (ص ٤٧) ونيل الابتهاج (ص ٢٣٩) وجذوة الاقتباس (ص ١٩٠) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٢٢٤).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٢٥).

(٣) في النفح : «التركب».

(٤) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨).

(٥) إطلاق الأسماء على الله سبحانه وتعالى مختلف فيه بين العلماء.

(٦) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٢٩).

(٧) في النفح : هو أبو زيد عبد الرحمن بن يعقوب بن علي الصنهاجي المكتب.

(٨) في النفح : «المودع عنده أنها».

(٩) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣١ ـ ٢٣٢).

١٤٢

فقال لي : ما مطلبه؟ فقلت : «نارنج». ودخل (١) عليه وأنا عنده بتلمسان الشيخ الطبيب (٢) أبو عبد الله الدبّاغ المالقي (٣) ، فأخبرنا أن أديبا استجدى وزيرا بهذا الشّطر : «ثمّ حبيب قلّما ينصف» فأخذته وكتبته ، ثم قلبته وصحّفته ، فإذا به (٤) : قصبتا ملفّ شحمي.

وقال : قال (٥) شيخنا الآبلي : لما نزلت تازة مع أبي الحسن بن برّي ، وأبي عبد الله التّرجالي ، فاحتجت إلى النوم ، وكرهت قطعهما إلى (٦) الكلام ، فاستكشفت منهما عن معنى هذا البيت للمعري : [الطويل]

أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا

ونحن بوادي عبد شمس وهاشم

فجعلا يفكّران فيه ، فنمت حتى أصبحا ، ولم يجداه ، وسألوني عنه ، فقلت : معناه «أقول لعبد الله لمّا وهي سقاؤنا ، ونحن بوادي عبد شمس : شم لنا برقا».

قلت : وفيه نظر (٧). وإن استقصينا مثل هذا ، خرجنا عن الغرض.

مولده : نقلت من خطه : كان (٨) مولدي بتلمسان أيام أبي حمّو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيّان. وقد وقفت على تاريخ ذلك ، ورأيت (٩) الصّفح عنه ؛ لأن أبا الحسن بن موسى (١٠) سأل أبا الطاهر السّلفي عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت أبا الفتح بن زيّان بن مسعدة (١١) عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت (١٢) محمد بن علي بن محمد اللبّان عن سنّه فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت حمزة بن يوسف السّهمي عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت أبا بكر محمد بن علي النفزي (١٣) عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت أبا إسماعيل التّرمذي عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت الشافعي (١٤) عن

__________________

(١) في النفح : «دخل عليه الآبلي وأنا ...».

(٢) كلمة «الطبيب» غير واردة في النفح.

(٣) في النفح : «المالقي المتطبب».

(٤) في النفح : «فإذا هو».

(٥) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٣٣).

(٦) في النفح : «عن الكلام ، فاستكشفتهما».

(٧) في النفح : «قلت : وفي جواز مثل هذا نظر».

(٨) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٩٨ ـ ١٩٩).

(٩) في النفح : «ولكني رأيت».

(١٠) في النفح : «مؤمن».

(١١) قوله : «بن مسعدة» غير وارد في النفح.

(١٢) في النفح : «سألت علي بن محمد اللبان».

(١٣) في النفح : «محمد بن عدي المنقري».

(١٤) في النفح : «سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنّه فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت الشافعي ...».

١٤٣

سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإني سألت مالك بن أنس عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، ليس من المروءة إخبار الرجل عن سنّه (١).

وفاته : توفي بمدينة فاس في أخريات محرم من عام تسعة وخمسين وسبعمائة ، وأراه توفي في ذي حجة من العام قبله. ونقل إلى تربة سلفه بمدينة تلمسان حرسها الله.

محمد بن عياض بن محمد بن عياض بن موسى اليحصبي

من أهل سبتة ، حفيد القاضي الإمام أبي الفضل عياض ، يكنى أبا عبد الله.

حاله : قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : كان من عدول القضاة ، وجلّة سراتهم ، وأهل النزاهة فيهم ، شديد التحري في الأحكام والاحتياط ، صابرا على الضعيف فيهم والملهوف ، شديد الوطأة على أهل الجاه وذوي السّطوة ، فاضلا ، وقورا ، حسن السّمت ، يعرّفه كلامه أبدا ، ويزينه ذلك لكثرة وقاره ، محبّا في العلم وأهله ، مقرّبا لأصاغر الطلبة ، ومكرّما لهم ، ومعتنيا بهم ، معملا جهده في الدّفع عنهم ، لما عسى أن يسوءهم ؛ ليحبّب إليهم العلم وأهله ، ما رأينا بعده في هذا مثله. سكن مالقة مع أبيه عند انتقال أبيه إليها ، إلى أن مات أبوه سنة خمس وخمسين وستمائة.

حدّثني شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب ، وجرى ذكر إعرابه لفظ من حديثه عن شيوخه ، قال : دخلت على القاضي المذكور ، فسأل أحدنا عن أبيه ، فقال : ابن فلان. وذكر معرفة مشتركة بين تجّار فاس ، فقال : أيهما الذي ينحت في الخشب ، والذي يعمل في السلاح؟ فما فطن لقصده لسذاجته. وحدّثني عن ذكر جزالته أنها كانت تقع له مع السلطان مستقضيه ، مع كونه مرهوبا ، شديد السّطوة ، وقائع تنبىء عن تصميمه ، وبعده عن الهوادة ؛ منها أن السلطان أمر بإطلاق محبوس كان قد سجنه ، فأنفذ بين يدي السلطان الأمر للسّجّان بحبسه ، وتوعّده إن أطلقه. ومنها إذاعة ثبوت العيد في أخريات يوم كان قد أمل السلطان البروز إلى العيد في صباحه ، فنزل عن القلعة ينادي: عبد الله ، يا ميمون ، أخبر الناس عن عيدهم اليوم ، وأمثال ذلك.

مشيخته : قرأ بسبتة ، وأسند بها ، فأخذ عن أبي الصبر أيوب بن عبد الله الفهري وغيره ، ورحل إلى الجزيرة الخضراء ، فأخذ بها كتاب سيبويه وغيره تفقيها على النحويّ الجليل أبي القاسم عبد الرحمن بن القاسم القاضي المتفنن. وأخذ بها أيضا كتاب «إيضاح الفارسي» عن الأستاذ أبي الحجاج بن مغرور ، وأخذ بإشبيلية وغيرها

__________________

(١) في النفح : «المروءة للرجل أن يخبر بسنّه».

١٤٤

عن آخرين. وقرأ على القاضي أبي القاسم بن بقيّ بن نافحة ، وأجاز له. وكتب له من أهل المشرق جماعة كثيرة ، منهم أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر بن أبي الفتح الصّيدلاني ، وأجاز له بأصبهان ، وهو سبط حسن بن مندة ، أجاز له في شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وتحمل عن أبي علي الحداد ، شيخ السّلفي الحافظ عن محمود الصيرفي ونظائرهما ، وجماعة من إصبهان كثيرة كتبوا له بالإجازة. وكتب له من غيرها من البلاد نيّف وثمانون رجلا ، منهم أحد وستون رجلا كتبوا له مع الشيخ المحدث أبي العباس المغربي ، والقاضي أبي عبد الله الأزدي ، وقد نصح على جميعهم في برنامجيهما ، واستوفى أبو العباس الغربي نصوص الإسترعات ، وفيها اسم القاضي أبو عبد الله بن عياض.

من روى عنه : قال الأستاذ أبو جعفر ، رحمه الله : أجاز لي مرتين اثنتين (١). وقال : حدّثني أبو عبد الله مشافهة بالإذن ، أنبأنا أبو الطاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي كتابة من دمشق ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الرّازي ، المعروف بابن الحطّاب ، بالحاء المهملة ، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الوهاب البغدادي بالفسطاط ، أخبرنا موسى بن محمد بن عرفة السمسار ببغداد ، قال أبو عمرو بن أحمد بن الفضل النّفزي : أخبرنا إسماعيل بن موسى ، أخبرنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يأتي على الناس زمان ، الصّابر منهم على دينه ، كالقابض على الجمر».

هذا الإسناد قريب يعزّ مثله في القرب لأمثالنا ، ممن مولده بعد الستمائة ، وإسماعيل بن موسى من شيوخ التّرمذي ، قد خرّج عنه الحديث المذكور ، لم يقع له في مصنّفه ثلاثي غيره.

مولده : بسبتة سنة أربع وثمانين وخمسمائة.

وفاته : توفي بغرناطة يوم الخميس الثامن والعشرين لجمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة.

محمد بن عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى

ابن عياض اليحصبي

من أهل سبتة ، ولد الإمام أبي الفضل ، يكنى أبا عبد الله.

__________________

(١) في الأصل : «اثنين» وهو خطأ نحوي.

١٤٥

حاله : كان فقيها جليلا ، أديبا ، كاملا. دخل الأندلس ، وقرأ على ابن بشكوال كتاب الصّلة ، وولي قضاء غرناطة. قال ابن الزّبير : وقفت على جزء ألّفه في شيء من أخبار أبيه ، وحاله في أخذه وعلمه ، وما يرجع إلى هذا ، أوقفني عليه حفدته بمالقة.

وفاته : توفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة.

محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن سعيد

ابن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان

ابن عبد السلام بن جبير الكناني (١)

الواصل إلى الأندلس.

أوّليّته : دخل جدّه عبد السلام بن جبير في طالعة بلج بن بشر بن عياض القشيري في محرم ثلاث وعشرين ومائة. وكان نزوله بكورة شدونة. وهو من ولد ضمرة بن كنانة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. بلنسي الأصل ، ثم غرناطي الاستيطان. شرّق ، وغرّب ، وعاد إلى غرناطة.

حاله : كان (٢) أديبا بارعا ، شاعرا مجيدا ، سنيّا فاضلا ، نزيه المهمة ، سريّ النفس ، كريم الأخلاق ، أنيق الطريقة في الخط. كتب بسبتة (٣) عن أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن ، وبغرناطة عن غيره من ذوي قرابته ، وله فيهم أمداح كثيرة. ثم نزع عن ذلك ، وتوجّه إلى المشرق. وجرت بينه وبين طائفة من أدباء عصره ، مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته. ونظمه فائق ، ونثره بديع. وكلامه المرسل ، سهل حسن ، وأغراضه جليلة ، ومحاسنه ضخمة ، وذكره شهير ، ورحلته نسيجة وحدها ، طارت كل مطار ، رحمه الله.

رحلته : قال من عني بخبره (٤) : رحل ثلاثا من الأندلس إلى المشرق ، وحجّ في كل واحدة منها. فصل عن غرناطة أول ساعة من يوم الخميس لثمان خلون من شوال ، ثمان وسبعين وخمسمائة ، صحبة أبي جعفر بن حسان ، ثم عاد إلى وطنه

__________________

(١) ترجمة ابن جبير في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٥٩٥) والتكملة (ج ٢ ص ١٠٩) وزاد المسافر (ص ٧٢) والنجوم الزاهرة (ج ٦ ص ٢٢١) وشذرات الذهب (ج ٥ ص ٦٠) والمغرب (ج ٢ ص ٣٨٤) ونفح الطيب (ج ٣ ص ١٣٨) ومقدمة كتابه «رحلة ابن جبير».

(٢) النص في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٧ ـ ٦٠٨).

(٣) في الذيل : «في شبيته».

(٤) راجع الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٥٩٦).

١٤٦

غرناطة لثمان بقين من محرم واحد وثمانين ، ولقي بها أعلاما يأتي التعريف بهم في مشيخته ، وصنّف الرحلة المشهورة ، وذكر مناقله فيها وما شاهده من عجايب البلدان ، وغرايب المشاهد ، وبدايع الصّنايع ، وهو كتاب مؤنس ممتع ، مثير سواكن النفوس إلى الرّفادة على تلك المعالم المكرمة والمشاهد العظيمة.

ولما (١) شاع الخبر المبهج بفتح بيت المقدس على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي (٢) ، قوي عزمه على عمل الرحلة الثانية ، فتحرك إليها من غرناطة ، يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول من سنة خمس وثمانين وخمسمائة ، ثم آب إلى غرناطة يوم الخميس لثلاث عشرة (٣) خلت من شعبان سبع وثمانين. وسكن غرناطة ، ثم مالقة ، ثم سبتة ، ثم فاس (٤) ، منقطعا إلى إسماع الحديث والتصوّف ، وتروية ما عنده. وفضله بديع ، وورعه يتحقق ، وأعماله الصالحة تزكو. ثم رحل الثالثة من سبتة ، بعد موت زوجته عاتكة أم المجد بنت الوزير أبي جعفر الوقّشي (٥) ، وكان كلفا بها ، فعظم وجده عليها. فوصل مكة ، وجاور بها طويلا ، ثم بيت المقدس ، ثم تجوّل بمصر والإسكندرية ، فأقام (٦) يحدّث ، ويؤخذ عنه إلى أن لحق بربه.

مشيخته : روى بالأندلس عن أبيه ، وأبي الحسن بن محمد بن أبي العيش ، وأبي عبد الله بن أحمد بن عروس ، وابن الأصيلي. وأخذ العربية عن أبي الحجاج بن يسعون. وبسبتة عن أبي عبد الله بن عيسى التميمي السّبتي. وأجاز له أبو الوليد بن سبكة ، وإبراهيم بن إسحاق بن عبد الله الغسّاني التونسي ، وأبو حفص عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي الميّانجي ، نزيلا مكة ، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي الفنكي ، وأبو الحجاج يوسف بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد البغدادي ، وصدر الدين أبو محمد عبد اللطيف الحجري رئيس الشّافعية بأصبهان. وببغداد العالم الحافظ المتبحر نادرة الفلك أبو الفرج ، وكناه أبو الفضل ابن الجوزي. وحضر بعض مجالسه الوعظية وقال فيه : «فشاهدنا رجلا ليس بعمرو ولا زيد ، وفي جوف الفرا كلّ الصّيد» ، وبدمشق أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن عبد الله بن عباس السّلمي الجواري ، وأبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون ، وأبو الطاهر

__________________

(١) انظر : الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٥ ـ ٦٠٦).

(٢) في الذيل : «بوري».

(٣) في الأصل : «عشر» والتصويب من الذيل.

(٤) في الذيل : «ثم فاس ثم سبته».

(٥) في الذيل : «أبي جعفر أحمد بن عبد الرحمن الوقشي».

(٦) في الذيل : «فأقام بها».

١٤٧

بركات الخشوعي ، وسمع عليه ، وعماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني من أئمة الكتاب ، وأخذ عنه بعض كلامه ، وغيره ، وأبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الأخضر بن علي بن عساكر ، وسمع عليه ، وأبو الوليد إسماعيل بن علي بن إبراهيم والحسين بن هبة الله بن محفوظ بن نصر الرّبعي ، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن أبي سعيد الصّوفي ، وأجازوا له ، وبحرّان الصّوفي العارف أبو البركات حيّان بن عبد العزيز ، وابنه الحاذي حذوه.

من أخذ عنه : قال ابن عبد الملك (١) : أخذ (٢) عنه أبو إسحاق بن مهيب ، وابن الواعظ ، وأبو تمام بن إسماعيل ، وأبو الحسن بن (٣) نصر بن فاتح بن عبد الله البجّائي ، وأبو الحسن بن علي الشّادي (٤) ، وأبو سليمان بن حوط الله ، وأبو زكريا ، وأبو بكر يحيى بن محمد بن أبي الغصن (٥) ، وأبو عبد الله بن حسن بن مجبر (٦) ، وأبو العباس بن عبد المؤمن البنّاني (٧) ، وأبو (٨) محمد بن حسن اللّواتي ، وابن (٩) تامتيت ، وابن محمد الموروري ، وأبو عمر بن سالم ، وعثمان بن سفيان بن أشقر التّميمي التونسي.

وممّن أخذ عنه (١٠) بالإسكندرية ، رشيد الدين أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله ، وبمصر رشيد الدين بن العطّار ، وفخر القضاة ابن الجيّاب ، وابنه جمال القضاة.

تصانيفه : منها نظمه. قال ابن عبد الملك (١١) : «وقفت منه على مجلد متوسط يكون على (١٢) قدر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس. ومنه جزء سماه «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح» في مراثي زوجه أم المجد. ومنه جزء سماه «نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان». «وله ترسيل بديع ، وحكم مستجادة» ، وكتاب رحلته. «وكان أبو الحسن الشّادي يقول : إنها ليست من تصانيفه ، وإنما قيّد معاني ما

__________________

(١) الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٦ ـ ٦٠٧).

(٢) في الذيل : «روي عنه».

(٣) في الذيل : «وأبو الحسن ابن أبي نصر فاتح بن ...».

(٤) في الذيل : «وابن محمد الشاري».

(٥) في الذيل : «أبو بكر يحيى بن عبد الملك بن أبي الغصن».

(٦) في الأصل : «مجير» والتصويب من الذيل.

(٧) في الذيل : «وآباء العباس : ابن عبد المؤمن والنباتي».

(٨) في الذيل : «وابن محمد».

(٩) في الذيل : «ابن».

(١٠) في الذيل : «وممن روي عنه».

(١١) الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٨).

(١٢) كلمة «على» ساقطة من الذيل والتكملة.

١٤٨

تضمنته ، فتولى ترتيبها ، وتنضيد معانيها بعض الآخذين عنه ، على ما تلقاه منه». والله أعلم.

شعره : من ذلك القصيدة الشهيرة التي نظمها ، وقد شارف المدينة المكرّمة طيبة ، على ساكنها من الله أفضل الصلوات ، وأزكى التسليم (١) : [المتقارب]

أقول وآنست بالليل نارا

لعلّ سراج الهدى قد أنارا

وإلّا فما بال أفق الدّجى

كأنّ سنا البرق فيه استطارا

ونحن من الليل في حندس

فما باله قد تجلّى نهارا؟

وهذا النّسيم شذا المسك قد

أعير أم المسك منه استعارا؟

وكانت رواحلنا تشتكي

وجاها فقد سابقتنا ابتدارا

وكنّا شكونا عناء السّرى

فعدنا نباري سراع المهارى

أظنّ النفوس قد استشعرت

بلوغ هوى تخذته شعارا

بشائر صبح السّرى آذنت

بأنّ الحبيب تدانى مزارا

جرى ذكر طيبة ما بيننا

فلا قلب في الركب إلّا وطارا

حنينا إلى أحمد المصطفى

وشوقا يهيج الضلوع استعارا

ولاح لنا أحد مشرقا

بنور من الشّهداء استنارا (٢)

فمن أجل ذلك ظلّ الدّجى

يحلّ عقود النجوم انتثارا

ومن طرب الرّكب حثّ الخطا

إليها ونادى البدار البدارا

ولمّا حللنا فناء الرسول

نزلنا بأكرم مجد (٣) جوارا

وحين دنونا لفرض السلام

قصرنا الخطا ولزمنا الوقارا

فما نرسل اللّحظ إلّا اختلاسا

ولا نرجع (٤) الطّرف إلّا انكسارا

ولا نظهر الوجد إلّا اكتتاما

ولا نلفظ القول إلّا سرارا

سوى أننا لم نطق أعينا

بأدمعها غلبتنا انفجارا

وقفنا بروضة دار السلام (٥)

نعيد السلام عليها مرارا

__________________

(١) القصيدة في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٢ ـ ٦٠٣). وورد منها الأبيات الثلاثة الأول في نفح الطيب (ج ٣ ص ٢٣٥).

(٢) في الأصل : «استعارا» ، والتصويب من الذيل والتكملة.

(٣) في الذيل والتكملة : «خلق».

(٤) في الذيل والتكملة : «نرفع».

(٥) رواية صدر البيت في الذيل والتكملة هي : وقفنا بروضته للسلام.

١٤٩

ولو لا مهابته في النفوس

لثمنا الثّرى والتزمنا الجدارا

قضينا بزورته (١) حجّنا

وبالعمرتين (٢) ختمنا اعتمارا

إليك إليك نبيّ الهدى

ركبت البحار وجبت القفارا

وفارقت أهلي ولا منّة

وربّ كلام يجرّ اعتذارا

وكيف نمنّ على من به

نؤمّل للسيّئات اغتفارا

دعاني إليك هوى كامن

أثار من الشوق ما قد أثارا

فناديت (٣) لبّيك داعي الهوى

وما كنت عنك أطيق اصطبارا

ووطّنت نفسي بحكم (٤) الهوى

عليّ وقلت رضيت اختيارا

أخوض الدّجى وأروض السّرى

ولا أطعم النوم إلّا غرارا

ولو كنت لا أستطيع السبيل

لطرت ولو لم أصادف مطارا (٥)

وأجدر من نال منك الرضى

محبّ ثراك (٦) على البعد زارا

عسى لحظة منك لي في غد

تمهّد لي في الجنان القرارا

فما ضلّ من بمسراك (٧) اهتدى

ولا ذلّ من بذراك استجارا

وفي غبطة من منّ الله عليه لحجّ بيته ، وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم يقول (٨) : [المتقارب]

هنيئا لمن حجّ بيت الهدى

وحطّ عن النّفس أوزارها

وإنّ السعادة مضمونة

لمن حجّ (٩) طيبة أوزارها

وفي مثل ذلك يقول (١٠) : [المتقارب]

إذا بلغ المرء (١١) أرض الحجاز

فقد نال أفضل ما أمّ له (١٢)

__________________

(١) في الذيل : «بزورتنا».

(٢) في الذيل : «وبالعمرين».

(٣) في الأصل : «فناديتك» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذيل والتكملة.

(٤) في الذيل : «لحكم».

(٥) أخذه من قول الأعمى التطيلي من موشحة تامة :

امتنع النوم وشطّ المزار ولا قرار

طرت ولكن لم أصادف مطار

ديوان الأعمى التطيلي (ص ٢٦١) وجيش التوشيح (ص ٢٤) وتوشيع التوشيح (ص ١٠٦).

(٦) في الذيل : «ذراك».

(٧) في الذيل : «بهداك».

(٨) البيتان في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٤) ونفح الطيب (ج ٣ ص ٢٤١).

(٩) في الذيل : «حلّ».

(١٠) البيتان في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٤) ونفح الطيب (ج ٣ ص ٢٣٦).

(١١) في النفح : «العبد».

(١٢) في الأصل والذيل والتكملة : «أمّله» ، والتصويب من النفح.

١٥٠

وإن (١) زار قبر نبيّ الهدى

فقد أكمل الله ما أمّله (٢)

وفي تفضيل المشرق (٣) : [الكامل]

لا يستوى شرق البلاد وغربها

الشرق حاز الفضل باستحقاق (٤)

انظر (٥) جمال (٦) الشمس عند طلوعها

زهراء تعجب (٧) بهجة الإشراق

وانظر إليها عند الغروب كئيبة

صفراء تعقب ظلمة الآفاق

وكفى بيوم طلوعها من غربها

أن تؤذن الدنيا بعزم (٨) فراق

وقال في الوصايا (٩) : [الطويل]

عليك بكتمان المصائب واصطبر

عليها فما أبقى الزمان شفيقا

كفاك من الشكوى (١٠) إلى الناس أنها (١١)

تسرّ عدوّا أو تسيء (١٢) صديقا

وقال (١٣) :

لصانع (١٤) المعروف فلتة عاقل

إن لم تضعها في محلّ عاقل (١٥)

كالنفس في شهواتها إن لم تكن

وقفا (١٦) لها عادت بضرّ عاجل

نثره : من حكمه قوله (١٧) : إن شرف الإنسان فشرف (١٨) وإحسان ، وإن فاق فتفضّل وإرفاق (١٩) ، ينبغي أن يحفظ الإنسان لسانه ، كما يحفظ الجفن إنسانه. فربّ كلمة تقال ، تحدث عثرة لا تقال. كم كست فلتات الألسنة الحداد ، من ورائها ملابس

__________________

(١) في النفح : «فإن».

(٢) في الذيل : «أمّ له».

(٣) الأبيات في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦١٠ ـ ٦١١).

(٤) في الذيل والتكملة : «باسترقاق».

(٥) في الأصل : «انظر إلى جمال» وكذا ينكسر الوزن.

(٦) في الذيل والتكملة : «لحال».

(٧) في المصدر نفسه : «تصحب».

(٨) في المصدر نفسه : «بوشك».

(٩) البيتان في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦١٢ ـ ٦١٣).

(١٠) في الأصل : «بالشكوى» ، وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذيل والتكملة.

(١١) في الذيل والتكملة : «أنه».

(١٢) في الذيل والتكملة : «تسوء».

(١٣) البيتان في الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٩ ـ ٦١٠).

(١٤) في الأصل : «وصانع» والتصويب من الذيل والتكملة.

(١٥) في الذيل والتكملة : «قابل».

(١٦) في الذيل : «وفقا».

(١٧) قابل بالذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٨ ـ ٦٠٩).

(١٨) في الذيل والتكملة : «فبفضل».

(١٩) في الذيل والتكملة : «وإنفاق ، ينبغي للإنسان أن يحفظ لسانه».

١٥١

حداد (١). نحن في زمن لا يحظى فيه بنفاق ، إلّا من عامل بنفاق. شغل الناس عن طريق الآخرة بزخارف الأغراض ، فلجّوا في الصّدود عنها والإعراض ، آثروا دنيا هي أضغاث أحلام ، وكم هفت في حبها من أحلام ، أطالوا فيها آمالهم ، وقصروا أعمالهم ، ما بالهم ، لم يتفرغ لغيرها بالهم ، ما لهم في غير ميدانها استباق (٢) ، ولا بسوى هواها اشتياق (٣). تالله لو كشفت الأسرار ، لما كان هذا الإصرار ، ولسهرت العيون ، وتفجّرت من شؤونها الجفون (٤). فلو أن عين البصيرة من سنتها هابّة ، لرأت جميع ما في الدنيا ريحا (٥) هابّة ، ولكن استولى العمى على البصائر ، ولا يعلم الإنسان (٦) ما إليه صائر. أسأل الله هداية سبيله ، ورحمة تورد نسيم الفردوس وسلسبيله ، إنه الحنّان المنّان لا ربّ سواه.

ومنها (٧) : فلتات الهبات ، أشبه شيء بفلتات الشّهوات. منها نافع لا يعقب ندما ، ومنها ضارّ يبقي في النفس ألما. فضرر الهبة وقوعها عند من لا يعتقد لحقّها أداء ، وربما أثمرت (٨) عنده اعتداء. وضرر الشهوة أن لا توافق ابتداء ، فتصير لمتبّعها (٩) داء ، مثلها كمثل السّكر يلتذّ صاحبه بحلاوة (١٠) جناه ، فإذا صحا يعرف (١١) قدر ما جناه. عكس هذه القضية هي الحالة المرضية.

مولده : ببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، وقيل : بشاطبة سنة أربعين وخمسمائة.

وفاته : توفي بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين لشعبان أربع عشرة وستمائة.

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد

بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن شبرين (١٢)

يكنى أبا بكر ، شيخنا الفقيه القاضي المؤرخ الكاتب البارع ، رحمة الله عليه.

__________________

(١) في الذيل والتكملة : «من ملابس الحداد».

(٢) في الذيل والتكملة : «استنان».

(٣) في الذيل والتكملة : «استنان».

(٤) في الذيل : «العيون».

(٥) في الذيل : «ريح».

(٦) في الذيل : «المرء».

(٧) الذيل والتكملة (ج ٥ ص ٦٠٩).

(٨) في الأصل : «أثرت» ، والتصويب من الذيل والتكملة.

(٩) في الذيل : «فتعود لمستعملها».

(١٠) في الذيل : «بحلو».

(١١) في الذيل : «تعرّف».

(١٢) ترجمة ابن شبرين في الكتيبة الكامنة (ص ١٦٦) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠) واللمحة البدرية (ص ٦٤ ، ٩٠ ، ٩٨) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٨٥).

١٥٢

أوّليّته : أصله (١) من إشبيلية ، من حصن شلب من كورة باجة ، من غربيّ صقعها ، يعرفون فيها ببني شبرين معرفة قديمة. ولّي جدّه القضاء بإشبيلية ، وكان من كبار أهل العلم ، تشهد بذلك الصلاة. وانتقل أبوه منها عند تغلّب العدو عليها عام ستة وأربعين وستمائة ، فاحتل رندة ثم غرناطة ، ثم انتقل إلى سكنى سبتة ، وبها ولد شيخنا أبو بكر ، وانتقل عند الحادثة إلى غرناطة (٢) ، فارتسم بالكتابة السلطانية ، وولّي القضاء بعدة جهات ، وتأثّل مالا وشهرة ، حتى جرى مجرى الأعيان من أهلها.

حاله : كان (٣) فريد دهره ، ونسيج وحده في حسن السّمت والرّواء (٤) ، وكمال الظّرف وجمال الشّارة ، وبراعة الخطّ ، وطيب المجالسة ، خاصّيا ، وقورا ، تام الخلق ، عظيم الأبّهة ، عذب التّلاوة لكتاب الله ، من أهل الدين والفضل والعدالة ، تاريخيّا ، مقيّدا ، طلعة اختيار أصحابه ، محققا لما ينقله ، فكها مع وقاره ، غزلا ، لوذعيّا ، عليّ شأن الكتابة ، جميل العشرة ، أشدّ الناس على الشّعر ، ثم على المحافظة ، ما يحفظه من الأبيات من غير اعتيام ولا تنقيح ، يناغي الملكين في إثباتها ، مقرّرة التواريخ ، حتى عظم حجم ديوانه ، تفرّدت أشعاره بما أبرّ على المكثرين ، مليح الكتابة ، سهلها ، صانعا ، سابقا في ميدانها ، راجحا كفّة المنثور. وكانت له رحلة إلى تونس ، اتّسع بها نطاق روايته. وتقلّب بين الكتابة والقضاء ، منحوس الحظ في الاستعمال ، مضيّقا فيه ، وإن كان وافر الجدّ ، موسّعا عليه.

وجرى ذكره في كتاب «التاج المحلّى» بما نصّه :

خاتمة المحسنين ، وبقية الفصحاء اللّسنين ، ملأ العيون هديا وسمتا ، وسلك من الوقار طريقة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ما شئت من فضل ذات ، وبراعة أدوات. إن خطّ ، نزل ابن مقلة عن درجته وإن خطّ. وإن نظم أو نثر ، تبعت البلغاء ذلك الأثر. وإن تكلّم أنصت الحفل لاستماعه ، وشرع لدرره النّفيسة صدق أسماعه. وفد على الأندلس عند كائنة سبتة ، وقد طرحت النّوى برحاله ، وظعن عن ربعه بتوالي إمحاله ، ومصرّف بلاده ، والمستولي على طارفها وتالدها ، أبو عبد الله بن الحكيم ، قدّس الله صداه ، وسقى منتداه ، فاهتزّ لقدومه اهتزاز الصّارم ، وتلقاه تلقي الأكارم ، وأنهض إلى لقائه آماله ، وألقى له قبل الوسادة ماله ، ونظمه في سمط الكتّاب ، وأسلاه عن أعمال

__________________

(١) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠).

(٢) في تاريخ قضاة الأندلس : «ثم عاد عند الحادثة التي كانت بها في أواخر عام ٧٠٥ إلى غرناطة».

(٣) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠).

(٤) في المصدر السابق : «وجمال الرواء».

١٥٣

الأقتاد ، ونزل ذمامه تأكّدا في هذه الدول ، وقوفي له الآتية منها على الأول ، فتصرّف في القضاء بجهاتها ، ونادته السيادة هاك وهاتها ، فجدّد عهد حكّامه العدول من سلفه وقضاتها. وله الأدب الذي تحلّت بقلائده اللّبات والنّحور ، وقصرت عن جواهره البحور. وسيمرّ من ذلك في تضاعيف هذا المجموع ما يشهد بسعة ذرعه ، ويخبر بكرم عنصره ، وطيّب نبعه.

مشيخته : قرأ (١) على جدّه لأمّه الأستاذ الإمام (٢) أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي ، وسمع على الرئيس أبي حاتم ، وعلى أخيه أبي عبد الله الحسين ، وعلى الأستاذ أبي إسحاق الغافقي ، وعلى الشريف أبي علي بن أبي الشرف ، وعلى الإمام أبي عبد الله بن حريث. وسمع على العدل أبي فارس عبد العزيز الجزيري. وسمع بحضرة غرناطة على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، وعلى العدل أبي الحسن بن مستقور ، وعلى الوزير أبي محمد بن المؤذن ، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد. وبمالقة على الخطيب ولي الله تعالى ، أبي عبد الله الطّنجالي ، وعلى الوزير الصّدر أبي عبد الله بن ربيع ، وعلى القاضي العدل أبي عبد الله بن برطال. وببجاية على الإمام أبي علي ناصر الدين المشذالي ، وعلى أبي العباس الغبريني. وبتونس على أبي علي بن علوان ، وعلى قاضي الجماعة أبي إسحاق (٣) بن عبد الرّفيع ، وسمع على الخطيب الصّوفي وليّ الله تعالى ، أبي جعفر الزيات ، والصوفي أبي عبد الله بن برطال ، وعلى الصدر أبي القاسم محمد بن قائد الكلاعي. وأجازه عالم كثير من أهل المشرق والمغرب.

شعره : وشعره متعدّد الأسفار ، كثير الأغراض. وفي الإكثار مجلّل الاختيار ، فمنه قوله (٤) : [الطويل]

أخذت بكظم الرّوح يا (٥) ساعة النوى

وأضرمت في طيّ الحشا لاعج الجوى

فمن مخبري يا ليت شعري متى اللّقا

وهل تحسن الدنيا وهل يرجع الهوى؟

سلا كلّ مشتاق وأكثر ) وجده

وعند النّوى (٧) وجدي وفي ساكن الهوى

ولي نيّة ما عشت في حفظ عهدهم

إلى يوم ألقاهم وللمرء ما نوى

__________________

(١) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠).

(٢) كلمة «الإمام» ساقطة في تاريخ قضاة الأندلس.

(٣) اسمه في المصدر السابق : إبراهيم بن عبد الرفيع.

(٤) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ١٧٠ ـ ١٧١).

(٥) في الكتيبة الكامنة : «في ساعة».

(٦) في الكتيبة الكامنة : «وأقصر».

(٧) في الكتيبة الكامنة : «اللوى».

١٥٤

وقال : [المنسرح]

باتوا فمن كان باكيا يبك

هذي ركاب الشرى بلا شكّ

فمن ظهور الرّكاب معملة

إلى بطون الرّبى إلى الفلك

تصدّع الشّمل مثلما انحدرت

إلى صبوب جواهر السّلك

كن بالذي حدّثوا على ثقة

ما في حديث الفراق من إفك

من النّوى قبل لم أزل حذرا

هذا النّوى جلّ (١) مالك الملك

وقال : [السريع]

يا أيها المعرّض اللّاهي

يسوؤني هجرك والله

يا (٢) ليت شعري كم أرى فيك

لا أقفك عن ويّه وعزاه (٣)

ويحي مغيري إلى باخل واه

من ذا الذي رآه (٤)

من يرد الله فيه فتنة

يشغله في الدنيا بتيّاه

يا غصن البان ألا عطفة

على معنّى جسمه واه؟

أوسعني بعدك ذلّا وقد

را يثنيا (٥) عندك ذا جاه

ذكرك لا ينفكّ عن خاطري

وأنت عني غافل ساه

يكفيك يا عثمان من جفوني

لو كان ذنبي ذنب جهجاه

هيهات لا معترض لي على

حكمك أنت الآمر النّاهي (٦)

قلت : جهجاه المشار إليه رجل من غفّار ، قيل : إنه تناول عصا الخطبة من يد عثمان ، رضي الله عنه ، فكسرها على ركبته ، فوقعت فيها الأكلة فهلك.

وقال : [البسيط]

يا من أعاد صباحي فقده حلكا

قتلت عبدك لكن لم تخف دركا

مصيبتي ليست كالمصائب لا

ولا بكائي عليها مثل كلّ بكا

فمن أطالب في شرع الهوى بدمي

لحظي ولحظك في قتلي قد اشتركا

__________________

(١) في الأصل : «جلّ مني مالك ...» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «فيا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) عجز هذا البيت مضطرب ، لم أهتد إلى تقويمه.

(٤) البيت مضطرب في الوزن والمعنى معا.

(٥) في الأصل : «يثنى» وهكذا ينكسر الوزن.

(٦) في الأصل : «الناه».

١٥٥

وقال ، وقد سبقه إليه الرّصافي ؛ وهو ظريف : [المنسرح]

أشكو إلى الله فرط بلبالي (١)

ولوعة لا تزال تذكي لي

بمهجتي حائك شغلت به

حلو المعاني طرازه عالي

سألته لثم خاله فأبى

ومنّ ذا نخوة وإذلال

وقال حالي يصون خالي

يدني فويحي بالحال والخال (٢)

يقرّبني الآل من مواعده

وأتّقي منه سطوة الآل

لكن على ظلمه وقسوته

فلست عنه الزّمان بالسالي

وقال أيضا مضمنا (٣) : [البسيط]

لي همّة كلّما حاولت أمسكها

على المذلّة في أرجاء (٤) أرضيها

قالت : ألم تك (٥) أرض الله واسعة

حتى يهاجر عبد مؤمن فيها

وقال مسترجعا من ذنبه ، ومستوحشا من شيبه : [السريع]

قد كان عيبي قبل (٦) في غيب

فمذ بدا شيبي بدا عيبي

لا عذر اليوم ولا حجّة

فضحتني والله يا شيبي

وقال (٧) : [الخفيف]

أثقلتني الذنوب ويحي وويسي

ليتني كنت زاهدا كأويس (٨)

وجرت بينه وبين السلطان ثالث الأمراء من بني نصر (٩) ، بعد خلعه من ملكه ، وانتثار سلكه ، واستقراره بقصبة المنكّب ، غريبا من قومه ، معوّضا بالسهاد من نومه ،

__________________

(١) البلبال : شدة الهمّ والوساوس. محيط المحيط (بلبل).

(٢) في الأصل : «والحال» بالحاء المهملة.

(٣) البيتان في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٠) والكتيبة الكامنة (ص ١٧٢).

(٤) في تاريخ قضاة الأندلس : «أرجا أراضيها».

(٥) في الأصل : «تكن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٦) في الأصل : «من قبل في ...» وهكذا ينكسر الوزن.

(٧) البيت في الكتيبة الكامنة (ص ١٧٢).

(٨) هو أويس القرني أحد زهّاد القرن الأول الهجري. وجاء في الكتيبة الكامنة بعد هذا البيت التالي :

إنما أصل محنتي حبّ دنيا

هي ليلى ولي بها وجد قيس

(٩) هو محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر ، الملقب بالمخلوع ، وقد حكم غرناطة من سنة ٧٠١ ه‍ إلى سنة ٧٠٨ ه‍. اللمحة البدرية (ص ٦٠).

١٥٦

قد فلّ الدهر سباته ، وتركه يندب ما فاته ، والقاضي المترجم به يومئذ مدبّر أحكامها ، وعلم أعلامها ، ومتولّي نقضها وإبرامها ، فارتاح يوما إلى إيناسه ، واجتلاب أدبه والتماسه ، وطلب منه أن يعبّر عن حاله ببيانه ، وينوب في بثّه عن لسانه ، فكتب إليه : [الطويل]

قفا نفسا فالخطب فيها يهون

ولا تعجلا إنّ الحديث شجون

علمنا الذي قد كان من صرف دهرنا

ولسنا على علم بما سيكون

ذكرنا نعيما قد تقضّى نعيمه

فأقلقنا شوق له وحنين

وبالأمس كنّا كيف شئنا وللدّنا

حراك على أحكامنا وسكون

وإذا بابنا مثوى الفؤاد ونحونا

تمدّ رقاب أو تشير عيون

فنغص من ذاك السرور مهنأ

وكدر من ذاك النّعيم معين

ونبا عن الأوطان بين ضرورة

وقد يقرب الإنسان ثم يبين

أيا معهد الإسعاد حيّيت معهدا

وجادك من سكب الغمام هتون

تريد الليالي أن تهين مكاننا

رويدك إنّ الخير ليس يهون

فإن تكن الأيام قد لعبت بنا

ودارت علينا للخطوب فنون

فمن عادة الأيّام ذلّ كرامها

ولكنّ سبيل الصابرين مبين

لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا

فلا عجب إنّ العبيد تخون

وما غضّ منّا مخبري غير أنه

تضاعف إيمان وزاد يقين

وكتب إلى الحكم بن مسعود ، وهو شاهد المواريث بهذه الدّعابة التي تستخفّ الوقور ، وتلج السّمع الموقور :

أطال الله بقاء أخي وسيدي ، لأهل الفرائض يحسن الاحتيال في مداراتهم ، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر بالاحتياط في أمواتهم ، ودامت أقلامه مشرعة لصرم الأجل المنسّأ ، معدّة لتحليل هذا الصّنف المنشّأ من الصّلصال والحمأ. فمن ميّت يغسل وآخر يقبر ، ومن أجل يطوى وكفن ينشر ، ومن رمس يفتح وباب يغلق ، ومن عاصب يحبس ونعش يطلق ، فكلما خربت ساحة ، نشأت في الحانوت راحة ، وكلما قامت في شعب مناحة ، اتّسعت للرزق مساحة ، فيباكر سيدي الحانوت وقد احتسى مرقته ، وسهّل عنقفته ، فيرى الصّعبة بالمناصب شطرا ، فيلحظ هذا برفق وينظر إلى هذا شزرا ، ويأمر بشقّ الجيوب تارة والبحث عن الأوساط أخرى. ثم يأخذ القلم أخذا رفيقا ، ويقول وقد خامره السرور : رحم الله فلانا لقد كان لنا صديقا ، وربما أدبره بالانزعاج الحثيث ، وقال مستريح منه كما جاء في الحديث. وتختلف عند ذلك

١٥٧

المراتب ، وتتبين الأصدقاء والأجانب ، فينصرف هذا ، وحظّه التهريب ، والنظر الحديد ، وينفصل هذا وبين يديه المنذر الصّيت والنعش الجديد. ثم يغشى دار الميت ويسأل عن الكيت والكيت ، ويقول : عليّ بما في البيت. أين دعاء الثّاغية والرّاغية؟ أين عقود الأملاد بالبادية؟ وقد كانت لهذا الرجل حالا في حال. وقد ذكر في الأسماء الخمسة فقيل : ذو مال. وعيون الأعوام ترنو من عل ، وأعناقهم تشرئبّ إلى خلف الكلل ، وأرجلهم تدبّ إلى الأسفاط دبيب الصّقور إلى الحجل. والموتى قد وجبت منهم الجنوب ، وحضر الموروث والمكسوب ، وقيّد المطعوم والمشروب. وعدّت الصحاح ، ووزنت الأرطال وكيلت الأقداح. والشّهود يغلظون على الورثة في الأليّة ، ويصونهم بالبتات في النشأة الأوّلية. والروائح حين تفعم الأرض طيبا ، وتهدي الأرواح شذا يفعل في إزعاجها على الأبدان فعلا عجيبا. والدلّال يقول : هذا مفتاح الباب ، والسّمسار يصيح : قام النّدا فما تنتظرون بالثبات؟ والشّاهد يصيح فتعلو صيحته ، والمشرف يشرب فتسقط سبحته. والمحتضر يهسّ ألا حيّ فلا تسمعون ، ويباهي لون العباء عليه الجواب رب أرجعون. ما هذا النّشيج والضّجيج؟ متّ كلا لم أمت. ومن حجّ له الحجيج ، فترتفع له الأصوات ، كي لا يفسح فيه الممات. ويبقر بطنه برغمه ، ويحفر له بجانب أبيه وبحذا أمّه. ثم يشرع في نفسه الفرض ، ولو أكفئت السماوات على الأرض. ويقال لأهل السّهام : أحسنوا ، فالإحسان ثالث مراتب الإسلام ، وقد نصّ ابن القاسم على أجرة القسّام. وسوّغه أصبغ وسحنون ، ولم يختلف فيه مطّرف وابن الماجشون. إن قيل إيصال الحقائق إلى أرجائها ، حسن فجزاء الإحسان إحسان ، وقيل إخراج النّسب والكسور كفايه ، فللكاهنين حلوان. اللهمّ غفرا ، ونستقيل الله من انبساط يجرّ غدرا ، ونسأل الله حمدا يوجب المزيد من نعمائه وشكرا. ولو لا أن أغفل عن الخصم ، وأثقل رحل الفقيه أبي النجم ، لأستغلّن المجلس شرحا ، ولكان لنا في بحر المباسطة سبح ، ولأفضنا في ذكر الوارث والورّاث ، وبيّنّا العلّة في أقسام الشهود مع المشتغل بنسبة الذكور مع الإناث. والله يصل عزّ أخي ومجده ، ويهب له قوة تخصّه بالفائدة وجدّه ، ويزيده بصيرة يتّبع بها الحقوق إلى أقصاها ، وبصرا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ودام يحصي الخراريب والفلوس والأطمار ، ويملأ الطّوامر بأقلامه البديعة الصّنعة ، ويصل الطّومار بالطّومار والسلام.

والشيء بالشيء يذكر ، قلت : ومن أظرف ما وقعت عليه في هذا المعنى ، قال بعض كتاب الدولة الحكمية (١) بمنورقة ، وقد ولّاه خطّة المواريث ، وكتب إليه راغبا

__________________

(١) هي دولة أبي عثمان سعيد بن حكم بن عمر بن حكم القرشي الذي ضبط منورقة وأقام عليها ـ

١٥٨

في الإعفاء : [الطويل]

وما نلت من شغل المواريث رقعة

سوى شرح نعش كلّما مات ميّت

وأكتب للأموات صكّا كأنهم

يخاف عليهم في الجباب التّفلّت

كأني لعزرائيل صرت مناقضا

بما هو يمحو كلّ يوم وأثبت

وقال : فاستظرفها الرئيس أبو عثمان بن حكم وأعفاه.

مولده : في أواخر أربعة وسبعين وستمائة.

وفاته : قال في العائد : ومضى لسبيله ، شهابا من شهب هذا الأفق ، وبقيّة من بقايا حلبة السّبق ، رحمه الله ، في ليلة السبت الثاني من شهر شعبان المكرم عام سبعة وأربعين وسبعمائة ، وتخلّف وقرا لم يشتمل على شيء من الكتب ، لإيثاره اقتناء النّقدين ، وعيّن جراية لمن يتلو كتاب الله على قبره على حدّ من التّعزرة والمحافظة على الإتقان. ودفن بباب إلبيرة في دار اتخذها لذلك.

محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي (١)

من أهل غرناطة ، يكنى أبا القاسم.

حاله : مجموع خلال بارعة ، وأوصاف كاملة ، حسن الخطّ ، ذاكر للتاريخ والأخبار ، مستول على خصال حميدة من حسن رواء وسلامة صدر ، إلى نزاهة الهمّة ، وإرسال السّجية ، والبعد عن المصانعة ، والتحلّي بالوقار والحشمة ، شاعر ، كاتب. ومناقبه يقصر عنها الكثير من أبناء جنسه ، كالفروسيّة ، والتجنّد ، والبسالة ، والرّماية ، والسّباحة ، والشطرنج ، متحمّد بحمل القنا ، مع البراعة ، مديم على المروءة ، مواس للمحاويج من معارفه. ارتسم في الديوان فظهر غناؤه ، وانتقل إلى الكتابة ، معزّزة بالخطط النّبيهة العلمية ، وحاله الموصوفة متّصلة إلى هذا العهد ، وهو معدود من حسنات قطره.

__________________

ـ أحسن قيام ، وهادن الأعداء ، وطالت مدته في ذلك ، وحسنت سيرته إلى أن مات سنة ٦٨٠ ه‍. ترجمته في بغية الوعاة (ص ٢٥٥) واختصار القدح المعلى (ص ٢٨) والمغرب (ج ٢ ص ٤٦٩) والحلة السيراء (ج ٢ ص ٣١٨) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص ٢٧٤) والذيل والتكملة (ج ٤ ص ٢٨) والروض المعطار (ص ٥٤٩ ، مادة : منورقة).

(١) ترجم ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص ٢٨٩) لرجل قد يكون هو نفسه المترجم له ، تحت عنوان : «الكاتب أبو القاسم محمد بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن قطبة الهرميسي» وقال إن ابن قطبة كتب له قصيدتين ، الأولى لامية ساكنة والثانية يائية ، وهذا ما ينطبق على المترجم له هنا في الإحاطة.

١٥٩

وثبت في «التاج المحلى» بما نصّه : «سابق ركض المحلّى ، أتى من أدواته بالعجائب ، وأصبح صدرا في الكتّاب وشهما في الكتائب. وكان أبوه ، رحمه الله ، بهذه البلدة ، قطب أفلاكها ، وواسطة أسلاكها ، ومؤتمن رؤسائها وأملاكها ، وصدر رجالها ، ووليّ أرباب مجالها ، فقد نثل ابنه سهامها ، فخبر عدالة وبراعة وفهما ، وألقاه بينهم قاضيا شهما ، فظهر منه نجيبا ، ودعاه إلى الجهاد سميعا مجيبا ، فصحب السّرايا الغريبة المغيرة ، وحضر على هذا العهد من الوقائع الصغيرة والكبيرة ، وعلى مصاحبة البعوث ، وجوب السّهول والوعوث ، فما رفض اليراعة للباتر (١) ، ولا ترك الدّفاتر للزمان الفاتر.

شعره : وله أدب بارع المقاصد ، قاعد للإجادة بالمراصد. وقال من الرّوضيات وما في معناها : [الطويل]

دعيني ومطلول الرّياض فإنني

أنادم في بطحائها الآس والوردا

أعلّل هذا بخضرة شارب

وأحكي بهذا في تورّده الخدّا

وأزهر غضّ البان رائد نسمة

ذكرت به لين المعاطف والقدّا

وقال : [الطويل]

وليل أدرناها سلافا كأنها

على كفّ ساقيها تضرّم نار (٢)

غنينا عن المصباح في جنح ليلها

بخدّ مدير لا بكأس عقار

وقال : [الرمل]

يومنا يوم سرور فلتقم

تصدع الهمّ بكاسات المدام

إنما الدّنيا منام فلتكن

مغرما فيها بأحلى المنام

وقال : [الطويل]

وبي منك ما لو كان للشرب ما صحا

وبالهيم ما روّت صداها المناهل

أحبّك ما هبّت من الروض نسمة

وما اهتزّ غصن في الحديقة مائل

فإن شئت أن تهجر وإن شئت فلتقبل

فإنّي لما حمّلتني اليوم حامل

وقال : [الكامل]

كم قلت للبدر المنير إذا بدا

هيهات وجه فلانة تحكي لنا

__________________

(١) في الأصل : «الباتر». والباتر : السيف القاطع. لسان العرب (بتر).

(٢) في الأصل : «نارا».

١٦٠