الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

وفاته : قال شيخنا أبو بكر بن شبرين : توفي بسجلماسة في صفر عام ستة عشر وسبعمائة.

محمد بن محمد بن عبد الله بن مقاتل (١)

من أهل مالقة ، يكنى أبا بكر.

حاله : من كتاب الإكليل : نابغة (٢) مالقية ، وخلف وبقيّة ، ومغربي الوطن ، أخلاقه مشرقيّة. أزمع الرحيل إلى المشرق ، مع اخضرار العود وسواد المفرق (٣) ، فلمّا توسّطت السفينة اللّجج ، وقارعت الثّبج (٤) ، مال (٥) عليها البحر فسقاها كأس الحمام ، وأولدها قبل التمام ، وكان فيمن اشتملت عليه أعوادها ، وانضمّ على نوره سوادها ، جملة (٦) من الطلبة والأدباء ، وأبناء السراة الحسباء ، أصبح كلّ منهم مطيعا ، لداعي الرّدى وسميعا ، وأحيوا فرادى وماتوا جميعا ، فأجروا الدموع حزنا ، وأرسلوا العبرات عليهم مزنا. وكأنّ (٧) البحر لمّا طمس سبل (٨) خلاصهم وسدّها ، وأحال (٩) هضبة سفينتهم وهدّها ، غار على نفوسهم النّفيسة واستردها (١٠). والفقيه أبو بكر مع إكثاره ، وانقياد نظامه ونثاره ، لم أظفر من أدبه إلّا بالقليل التافه ، بعد وداعه وانصرافه.

فمن ذلك قوله وقد أبصر فتى عاثرا (١١) : [الكامل]

ومهفهف هافي المعاطف أحور

فضحت أشعّة نوره الأقمارا

زلّت له قدم فأصبح عاثرا

بين الأنام لعا (١٢) لذاك عثارا

لو كنت أعلم ما يكون فرشت في

ذاك المكان الخدّ والأشفارا (١٣)

__________________

(١) ترجمة ابن مقاتل في الدرر الكامنة (ج ٤ ص ٣١٣) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧١).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧١).

(٣) اخضرار العود وسواد المفرق : كنايتان عن الشباب.

(٤) الثّبج : الموج. لسان العرب (ثبج).

(٥) في النفح : «هال».

(٦) في النفح : «من جملة».

(٧) في الأصل : «وكان» والتصويب من النفح.

(٨) في النفح : «سبيل».

(٩) في النفح : «وأهال».

(١٠) في النفح : «فاستردّها».

(١١) هذه المقطوعة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧١).

(١٢) لعا : كلمة دعاء لمن عثر ، ومعناها : أنعشه الله.

(١٣) الأشفار : أهداب العيون. لسان العرب (شفر).

٢٦١

وقال متغزّلا (١) : [الطويل]

أيا لبني الرّفاء تنضي ظباؤهم

جفون ظباهم والفؤاد (٢) كليم

لقد قطّع الأحشاء منهم مهفهف

له التّبر خدّ واللّجين أديم

يسدّد إذ يرمي قسيّ حواجب

وأسهمها من مقلتيه تسوم

وتسقمني عيناه وهي سقيمة

ومن عجب سقم جناه سقيم

ويذبل جسمي في هواه صبابة

وفي وصله للعاشقين نعيم

وفاته : توفي في حدود أخريات عام تسعة وثلاثين وسبعمائة غريقا بأحواز الغبطة من ساحل ألمريّة.

محمد بن أحمد بن أحمد بن صفوان القيسي

ولد الشيخ أبي الطاهر ، من أهل مالقة.

من كتاب الإكليل : نبيل فطن ، متحرك ذهن ، كان أبوه ، رحمه الله ، يتبرّم بجداله ، ويخشى مواقع رشق نباله ، ويشيم بأرقّ الاعتراض في سؤاله ، فيشفق من اختلال خلاله ، إذ طريقه إنما هي أذواق لا تشرح ، وأسرار لا تفضح. وكان ممن اخترم ، وجدّ حبل أمله وصرم ، فأفل عقب أبيه ، وكان له أدب يخوض فيه.

فمن ذلك ، وقد أبصر فتى وسيما على ريحانه : [البسيط]

بدر تجلّى على غصن من الآس

يبري ويسقم فهو الممرض الآسي

عادى المنازل إلّا القلب منزلة

فما له وجميع الناس من ناس

وقال :

يا عالما بالسّرّ والجهر

وملجأي في العسر واليسر

جد لي بما أملته منك

مولاي (٣) واجبر بالرّضا كسري

وفاته : في عام خمسة وسبعمائة.

محمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوي (٤)

من أهل ألمريّة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بنسبه ، وقد مرّ ذكر أبيه في العمّال.

__________________

(١) المقطوعة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧١ ـ ٣٧٢).

(٢) في النفح : «فالفؤاد».

(٣) في الأصل : «يا مولاي» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) ترجمة البلوي في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٩٧).

٢٦٢

حاله : هذا (١) الرجل من أبناء النّعم ، وذوي البيوتات ، كثير السكون والحياء ، آل به ذلك أخيرا للوثة (٢) لم يستفق منها ، لطف الله به. حسن الخطّ ، مطبوع الأدب ، سيّال الطبع ، معينه. وناب عن بعض القضاة ، وهو الآن رهين ما ذكر ، يتمنّى أهله وفاته (٣) ، والله وليّ المعافاة بفضله (٤).

وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه (٥) : من أولي الخلال (٦) البارعة والخصال ، خطّا رائقا ، ونظما بمثله لائقا ، ودعابة يسترها تجهّم ، وسكوتا (٧) في طيّه إدراك وتفهّم. عني بالرواية (٨) والتقييد ، ومال في النظم إلى بعض التوليد ، وله أصالة ثبتت (٩) في السّرو عروقها ، وتألّقت في سماء المجادة بروقها ، وتصرّف بين النيابة في الأحكام الشرعية ، وبين الشهادات العملية (١٠) المرعية.

شعره : ومن شعره فيما خاطبني به ، مهنئا في إعذار أولادي ، أسعدهم الله ، افتتح ذلك بأن قال :

قال يعتذر عن خدمة الإعذار ، ويصل المدح والثناء على بعد الدار ، وذلك بتاريخ الوسط من شعبان في عام تسعة وأربعين وسبعمائة (١١) : [الكامل]

لا عذر لي عن خدمة الإعذار (١٢)

ولئن (١٣) نأى وطني وشطّ مزاري

أو عاقني عنه الزمان وصرفه

تقضي الأماني (١٤) عادة الأعصار

قد كنت أرغب أن أفوز (١٥) بخدمتي

وأحطّ رحلي (١٦) عند باب الدار

بادي (١٧) المسرّة بالصنيع (١٨) وأهله

متشمّرا فيه بفضل إزاري (١٩)

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٩٧).

(٢) في النفح : «إلى لوثة». واللّوثة : اختلاط في العقل يشبه الجنون. لسان العرب (لوث).

(٣) في النفح : «موته».

(٤) كلمة «بفضله» غير واردة في النفح.

(٥) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٩٨).

(٦) في النفح : «الاتصال».

(٧) في النفح : «وسكونا».

(٨) في النفح : «بالدراية».

(٩) في النفح : «نبتت».

(١٠) في النفح : «العلمية».

(١١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ١٩٦ ـ ١٩٧).

(١٢) الإعذار : طعام يتخذ لسرور حادث. لسان العرب (عذر).

(١٣) في الأصل : «وإن» والتصويب من النفح.

(١٤) في الأصل : «نقض الأمان» والتصويب من النفح.

(١٥) في الأصل : «أفوت».

(١٦) في الأصل : «وأخطر حلّي».

(١٧) في الأصل : «باب» والتصويب من النفح.

(١٨) في الأصل : «بالضبع» وكذا لا يستقيم المعنى.

(١٩) في الأصل : «إزار» بدون ياء ، والتصويب من النفح.

٢٦٣

من شاء أن يلقى الزمان وأهله

ويرى جلا الإشعاع في الأفكار (١)

فليأت حيّ ابن الخطيب ملبّيا

فيفوز بالإعظام والإكبار

كم ضمّ من صيد (٢) كرام فضلهم (٣)

يسمو ويعلو في ذوي الأقدار

إن جئت ناديه فنب (٤) عنّي وقل

نلت المنى بتلطف ووقار

يا من له الشرف القديم ومن له ال

حسب الصميم العدّ يوم فخار

يهنيك ما قد نلت من أمل به

في الفرقدين النّيّرين لساري (٥)

تجلاك قطبا كلّ تجر (٦) باذخ

أملان مرجوّان في الإعسار (٧)

عبد الإله وصنوه قمر العلا

فرعان من أصل زكا ونجار (٨)

ناهيك من قمرين في أفق العلا

ينميهما نور من الأنوار

زاكي الأرومة (٩) معرق (١٠) في مجده

جمّ الفضائل طيّب الأخبار

رقّت طبائعه وراق جماله

فكأنما خلقا من الأزهار

وحلت (١١) شمائل حسنه فكأنما

خلعت عليه رقّة الأسحار

فإذا تكلّم قلت طلّ (١٢) ساقط

أو وقع درّ من نحور جواري

أو فتّ مسك الحبر (١٣) في قرطاسه

بالروض (١٤) غبّ الواكف المدرار

تتبسّم (١٥) الأقلام بين بنانه

فتريك نظم الدرّ في الأسطار (١٦)

فتخال من تلك البنان كمائما

ظلّت (١٧) تفتّح ناضر النّوّار

تلقاه فيّاض الندى متهلّلا

يلقاك بالبشرى والاستبشار

__________________

(١) في النفح : ويرى جلالا شاع في الأقطار.

(٢) في الأصل : «جيد» والتصويب من النفح.

(٣) في النفح : «قدرهم».

(٤) في الأصل : «إذ حيث ناديه فقف ...» والتصويب من النفح.

(٥) في الأصل : «يسار» والتصويب من النفح.

(٦) في النفح : «مجد».

(٧) في الأصل : «الاعتبار» والتصويب من النفح.

(٨) في الأصل : «وبحار» والتصويب من النفح. والنّجار : الأصل. لسان العرب (نجر).

(٩) الأرومة : أصل الشجرة ويستعار للحسب. محيط المحيط (أرم).

(١٠) في الأصل : «مغرق» والتصويب من النفح.

(١١) في الأصل : «وجلّت» ، وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١٢) في الأصل : «ظلّ» والتصويب من النفح.

(١٣) في النفح : «حبر المسك».

(١٤) في النفح : «فالروض».

(١٥) في الأصل : «تتّسم» والتصويب من النفح.

(١٦) في النفح : «الأمطار».

(١٧) في الأصل : «كأنما نهلت ...» والتصويب من النفح.

٢٦٤

بحر البلاغة قسّها وأيادها

سحبانها خبر من الأخبار (١)

إن ناظر العلماء فهو إمامهم

شرف المعارف ، واحد النّظّار

أربى على العلماء بالصّيت الذي

قد طار (٢) في الآفاق كل مطار

ما ضرّه إن لم يجيء متقدّما

بالسّبق (٣) يعرف آخر المضمار

إن كان أخّره الزمان لحكمة

ظهرت وما خفيت كضوء نهار

الشمس تحجب وهي أعظم نيّر (٤)

وترى من الآفاق إثر دراري

يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم

بكرا تزفّ لكم من الأفكار

جاءتك من خجل على قدم الحيا

قد طيّبت بثنائك المعطار

وأتت (٥) تؤدّي بعض حقّ واجب

عن نازح الأوطان والأوطار (٦)

مدّت يد التّطفيل نحو علاكم

فتوشّحت (٧) من جودكم ) بنضار

فابذل لها في النّقد صفحك إنها

تشكو من التّقصير (٩) في الأشعار

لا زلت في دعة وعزّ دائم

ومسرّة تترى (١٠) مع الأعمار (١١)

ومن السّلطانيات قوله من قصيدة نسيبها : [الطويل]

تبسّم ثغر الدهر في القضب الملد

فأذكى الحياء (١٢) خجلة وجنة الورد

ونبّه وقع الطّلّ ألحاظ نرجس

فمال إلى الوسنان ، عاد إلى الشّهد (١٣)

وثمّ لسبر (١٤) الروض في مسكة الدّجى

نسيم شذا الخير كالمسك والنّدّ

وغطّى ظلام الليل حمرة أفقه

كما دار مسودّ العذار على الخدّ

وباتت قلوب الشّهب تخفق رقّة

لما حلّ بالمشتاق من لوعة الوجد

وأهمى عليه الغيم أجفان مشفق

يذكّره (١٥) فاستمطر الدّمع للخدّ

__________________

(١) في النفح : «حبر من الأحبار».

(٢) في الأصل : «كان» والتصويب من النفح.

(٣) في الأصل : «السّبق» والتصويب من النفح.

(٤) في الأصل : «تبر» والتصويب من النفح.

(٥) في الأصل : «وأنت» والتصويب من النفح.

(٦) في الأصل : «الإمكان والأفكار» والتصويب من النفح.

(٧) في الأصل : «فتوحّشت» والتصويب من النفح.

(٨) في النفح : «حليكم».

(٩) في الأصل : «شكوى التقصير ..» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١٠) تترى : متتابعة. محيط المحيط (ترى).

(١١) في الأصل : «الأعصار» والتصويب من النفح.

(١٢) في الأصل : «الحيا» ، وكذا ينكسر الوزن.

(١٣) في الأصل : «فمال الوسنان وعاد إلى الشهد» وكذا ينكسر الوزن.

(١٤) في الأصل : «سبر» وكذا ينكسر الوزن.

(١٥) في الأصل : «بذكره» وكذا يختل الوزن.

٢٦٥

ومنها :

كأن (١) لم أقف في الحيّ وقفة عاشق

غداة افترقنا والنّوى رندها يعدي (٢)

وناديت حادي العيس عرّج لعلّني

أبثّك وجدي إن تمرّ على نجد

فقال اتّئد يا صالح ما لك ملجأ

سوى الملك المنصور في الرّفق والرّفد

وممّا خاطبني به قوله : [الخفيف]

علّلوني ولو بوعد محال

وحلّوني ولو بطيف خيال

واعلموا أنني أسير هواكم

لست أنفكّ إنما (٣) عن عقال

فدموعي من بينكم في انسكاب

وفؤادي من سحركم في اشتغال

يا أهيل الحمى كفاني غرامي

حسبي (٤) ما قد جرّ ... (٥) ال

من مجيري من لحظ ريم ظلوم

حلّل الهجر بعد طيب الوصال

ناعس الطّرف أسمر الجفن مني

طال منه الجوى بطول الليالي (٦)

بابليّ اللّحاظ أصمى فؤاده

ورماه من غنجه بنبال

وكسا الجسم من هواه نحولا

قصده في النّوى بذاك النحال

ما ابتدا في الوصال يوما بعطف

مذ روى في الغرام باب اشتغال

ليس لي منه في الهوى من مخبر

غير تاج العلا وقطب الكمال

علم الدين عزّه وسناه

ذروة المجد بدر أفق الجلال

هو غيث النّدى وبحر العطايا

هو شمس الهدى فريد المعالي (٧)

إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا

صفحة الطّرس حلّيت باللآلي (٨)

أو دجا الخطب فهو فيه شهاب

راية الصبح في ظلال (٩) الضلال

أو يني العضب فهو في الأمن ماض

صادق العزم ضيق المجال

لست تلقى مثاله في زمان

جلّ في الدّهر يا أخي عن مثال

قد نأى حبّي ما (١٠) له عن دياري

لا لجدوى ولا لنيل نوال

__________________

(١) في الأصل : «كأني» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «يعدّ» ، وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «إلّا» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «حسبي بما» وكذا ينكسر الوزن.

(٥) بياض في الأصل.

(٦) في الأصل : «الليال» بدون ياء.

(٧) في الأصل : «المعال» بدون ياء.

(٨) في الأصل : «باللآل» بدون ياء.

(٩) في الأصل : «ظلل» وكذا ينكسر الوزن.

(١٠) كلمة «ما» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.

٢٦٦

لكن اشتقت أن أرى منه وجها

نوره فاضح لنور الهلال

وكما همت فيه ألثم كفّا

قد أتت بالنّوال قبل السؤال

سأل (١) ابن الخطيب عذرا أجابت

تلثم النّعل قبل شسع (٢) النعال

وتوفّي حقّ الوزارة عمن

هو ملك لها على كل حال

محمد بن محمد بن الشّديد (٣)

من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله.

حاله : ذكر في الإكليل بما نصّه (٤) : شاعر مجيد حوك الكلام ، ولا يقصر فيه عن درجة الأعلام. رحل إلى الحجاز لأوّل أمره فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه ، وعمّيت أنباؤه ، وعلى هذا العهد وقفت له على قصيدة بخطّه غرضها نبيل ، ومرعاها غير وبيل ، تدلّ على نفس ونفس ، وإضاءة قبس ، وهي : [الوافر]

لنا في كلّ مكرمة مقام

ومن فوق النجوم لنا مقام

روينا من مياه المجد لمّا

وردناها وقد كثر الزحام

ومنها :

فنحن هم وقل لي من سوانا

لنا التّقديم قدما والكلام

لنا الأيدي الطّوال بكلّ ضرب (٥)

يهزّ به لدى الروع الحسام

ونحن اللّابسون لكلّ درع

يصيب السّمر (٦) منهنّ انثلام

بأندلس لنا أيام حرب

مواقفهنّ في الدنيا عظام

ثوى (٧) منها قلوب الرّوم خوفا (٨)

يخوّف منه في المهد الغلام

حمينا جانب الدين احتسابا

فها هو لا يهان ولا يضام

وتحت الراية الحمراء منّا

كتائب لا تطاق ولا ترام

بنو نصر وما أدراك ما هم

أسود الحرب والقوم الكرام

__________________

(١) في الأصل : «سألها» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) الشّسع : قبال النّعل. محيط المحيط (شسع).

(٣) ترجمة ابن الشديد في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٢).

(٤) النص مع القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٣).

(٥) في النفح : «صوب».

(٦) في الأصل : «الشّمس» والتصويب من النفح ؛ لأن كلمة «السّمر» أنسب للمعنى.

(٧) ثوى : أقام. لسان العرب (ثوى).

(٨) في النفح : «خوف».

٢٦٧

لهم في حربهم فتكات عمرو

فللأعمار عندهم انصرام

يقول : عداتهم مهما ألمّوا

أتونا ما من الموت اعتصام

إذا شرعوا الأسنّة يوم حرب

فحقّق أنّ ذاك هو الحمام

كأنّ رماحهم فيها نجوم

إذا ما أشبه الليل الغمام (١)

أناس تخلف الأيام ميتا

بحيّ منهم فلهم دوام

رأينا من أبي الحجاج شخصا

على تلك الصفات له قيام

موقّى العرض محمود السجايا

كريم الكفّ مقدام همام

يجول بذهنه في كلّ شيء

فيدركه وإن عزّ المرام

قويم الرأي في نوب الليالي

إذا ما الرأي فارقه القوام

له في كلّ معضلة مضاء

مضاء الكفّ ساعده (٢) الحسام

رؤوف قادر يغضي ويعفو

وإن عظم اجتناء واجترام

تطوف ببيت سؤدده القوافي

كما قد طاف بالبيت الأنام

وتسجد في مقام علاه شكرا

ونعم الرّكن ذلك والمقام

أفارسها إذا ما الحرب أخنت (٣)

على أبطالها ودنا الحمام

وممطرها إذا ما السّحب كفّت

وكفّ أخي الندى أبدا غمام

لك الذكر الجميل بكلّ قطر

لك الشرف الأصيل المستدام

لقد جبنا (٤) البلاد فحيث سرنا

رأينا أنّ ملكك لا يرام

فضلت ملوكها شرقا وغربا

وبتّ لملكها يقظا وناموا (٥)

فأنت لكلّ معلوّة مدار

وأنت لكلّ مكرمة إمام

جعلت بلاد أندلس إذا ما

ذكرت تغار مصر والشآم

مكان أنت فيه مكان عزّ

وأوطان حللت بها كرام

وهبتك من بنات الفكر بكرا

لها من حسن لقياك ابتسام

فنزّه طرف مجدك في حلاها

فللمجد الأصيل بها اهتمام

__________________

(١) في النفح : «القتام».

(٢) في النفح : «ساعدها».

(٣) أخنت على أبطالها : أتت عليهم وأهلكتهم. لسان العرب (خنا).

(٤) في الأصل : «جينا» والتصويب من النفح.

(٥) في الأصل : «ونام» والتصويب من النفح.

٢٦٨

محمد بن مسعود بن خالصة بن فرج بن مجاهد

ابن أبي الخصال الغافقي (١)

الإمام البليغ ، المحدّث الحجّة ، يكنى أبا عبد الله. أصله من فرغليط من شقورة ، من كورة جيّان ، وسكن قرطبة وغرناطة.

حاله : قال ابن الزّبير عند ذكره : ذو الوزارتين ، أبو عبد الله بن أبي الخصال. كان من أهل المعارف الجمّة ، والإتقان لصناعة الحديث ، والمعرفة برجاله ، والتقييد لغريبه ، وإتقان ضبطه ، والمعرفة بالعربية واللغة والأدب ، والنّسب والتاريخ ، متقدما في ذلك كله. وأما الكتابة والنظم ، فهو إمامهما المتفق عليه ، والمتحاكم فيهما إليه.

ولما ذكره أبو القاسم الملّاحي بنحو ذلك قال : لم يكن في عصره مثله ، مع دين وفضل وورع.

قال أبو عمرو ابن الإمام الإستجّي في سمط الجمان ، لما ذكره : البحر الذي لا يماتح ولا يشاطر ، والغيث الذي لا يساجل ولا يقاطر ، والروض الذي لا يفاوح ولا يعاطر ، والطّود الذي لا يزاحم ولا يخاطر ، الذي جمع أشتات المحاسن ، على ماء غير ملح ولا آسن ؛ وكثرت فواضله ، فأمنت المماثل والمحاسن ، الذي قصرت البلاغة على محتده ، وألقيت أزمة الفصاحة في يده ، وتشرّفت الخطابة والكتابة باعتزائهما إليه ، فنثل كنانتها ، وأرسل كمائنها ، وأوضح أسرارها ودفائنها ، فحسب الماهر النّحرير ، والجهبذ العلّامة البصير إذا أبدع في كلامه ، وأينع في روض الإجادة نثاره ونظامه ، وطالت قنى الخطيّة الذبل أقلامه ، أن يستنير بأنواره ، ويقتضي بعض مناهجه وآثاره ، وينثر على أثوابه مسك غباره ، وليعلم كيف يتفاضل الخبر والإنشاء ، ويتلو إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

وعضّه العقور أبو نصر في قلائده ، حيث قال (٢) : «هو وإن كان خامل المنشأ نازله ، لم ينزله المجد منازله ، ولا فرّع للعلاء هضابا ، ولا ارتشف للسّنا رضابا ، فقد تميّز بنفسه ، وتحيّز من أبناء (٣) جنسه ، وظهر بذاته ، وفخر بأدواته».

__________________

(١) يكنى ابن أبي الخصال أبا عبد الله ، وترجمته في المعجب (ص ٢٣٧ ، ٢٤٠) والذخيرة (ق ٣ ص ٧٨٦) وقلائد العقيان (ص ١٧٤) والمطرب (ص ١٨٧) وبغية الملتمس (ص ١٣١) والصلة (ص ٨٥٤) ورايات المبرزين (ص ١٨٨) والمعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص ١٥٢) والمغرب (ج ٢ ص ٦٦) والمقتطف من أزاهر الطرف (ص ٨٧ ، ٨٩) وبغية الوعاة (ص ١٠٤).

(٢) قلائد العقيان (ص ١٧٤).

(٣) كلمة «أبناء» ساقطة في القلائد.

٢٦٩

مشيخته : قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في الصلة (١) : روى عن الغساني ، والصّدفي ، وأبي الحسن بن الباذش ، وأبي عمران بن تليد ، وأبي بحر الأسدي ، وأبي عبد الله النّفزي ، وجماعة غيرهم.

تواليفه : قال الأستاذ : وأمّا كتبه وشعره وتواليفه الأدبية ، فكل ذلك مشهور ، متداول بأيدي الناس ، وقلّ من يعلم بعده ، أن يجتمع له مثله ، رحمه الله.

من روى عنه : روى عنه ابن بشكوال ، وابن حبيش ، وابن مضاء وغيرهم ، وكل ذلك ذكره في رحاله ، وهو أعرف بتقدّمه في احتفاله.

شعره : وله شعر كثير ، فمن إخوانياته ما خاطب به أبا إسحاق بن خفاجة : [الكامل]

هبّ النسيم هبوب ذي إشفاق

يذهبن الهوى بجناحه الخفّاق

وكأنما صبح الغصون بنشوة

باحت لها سرائر العشاق

وإذا تلاعبت الرياح ببانه

لعب الغرام بمهجة المشتاق

مه يا نسيم فقد كبرت عن الصّبا

لم يبق من تلك الصّبابة باق

إن كنت ذاك فلست ذاك ولا

أنا قد أذنت (٢) مفارقي بفراق

ولقد عهدت سراك من عدد الهوى

والموت في نظري وفي استنشاق

أيام لو عنّ السّلوّ لخاطري

قرّبته هديا (٣) إلى أشواقي (٤)

الهوى إلفي والبطالة مركبي

والأمن ظلّي والشباب رواقي (٥)

في حيث قسّمت المدامة قسمة

ضيزى (٦) لأن السكر من أخلاقي (٧)

لا ذنب للصّهباء أني غاصب

ولذاك قام السكر باستحقاق

ولقد صددت الكأس فانقبضت بها

من بعدها انبسطت يمين السّاقي

وتركت في وسط النّدامى خلّة

هامت بها الوسطى من الأعلاق

فاستسرفوني مذكرين وعندهم

أنى أدين اللهو دين نفاق

وحبابها نفث الحباب وربما

سدكت يد الملسوع منه براق

__________________

(١) المراد «صلة الصلة».

(٢) في الأصل : «أذنتك» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) الهدي : ما يهدى إلى الحرم من النّعم. لسان العرب (هدى).

(٤) في الأصل : «أشواق».

(٥) في الأصل : «رواق».

(٦) القسمة الضّيزى : الناقصة الجائرة. محيط المحيط (ضاز).

(٧) في الأصل : «من أخلاق».

٢٧٠

وكأنه لما توقّر فوقها (١)

نور تجسّم من ندى الأحداق

لو بارح نفح النّوى في روضة

فأثارها وسرى عن الأحداق

ولقد جلوا والله يدرأ كيدهم

فتّانة الأوصاف والأعراق

أغوى بها إبليس قدما آدم (٢)

والسّرّ يرمى في هواها الباقي (٣)

تالله أصرف نحوها وجد الرضا

لو شعشعت برضا أبي إسحاق

ومن نسيبه (٤) : [المنسرح]

وليلة عنبريّة الأفق

رويت فيها السرور من طرق

وكنت حرّان فاقتدحت بها

نارا من الرّاح برّدت حرقي (٥)

وافت (٦) بها (٧) عاطلا وقد لبست

غلالة فصّلت من الحدق

فاجا (٨) بها الدهر من بنيه دجى (٩)

لقيته كالإصباح في نسق (١٠)

قامت لنا في المقام أوجههم

وراحهم بالنجوم والشّفق

وأطلع (١١) البدر من ذرى غصن

تهفو عليه القلوب كالورق

من عبد شمس بدا سناه وهل

ذا (١٢) النور (١٣) إلّا لذلك (١٤) الأفق

مدّ بحمراء من مدامته

بيضاء كفّ (١٥) مسكيّة العبق

فخلتها وردة منعّمة

تحمل من سوسن على طبق

__________________

(١) في الأصل : «من فوقها» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «أدما».

(٣) في الأصل : «وهي السّر يرتمي في هواها الباق».

(٤) القصيدة في المغرب (ج ٢ ص ٦٧) والذخيرة (ق ٣ ص ٧٩٣).

(٥) في الأصل : «حرق».

(٦) في الذخيرة : «حلّت».

(٧) في المصدرين : «بنا».

(٨) في الأصل : «فأجا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المغرب. وفي الذخيرة : «فجاءها الدهر ...». وفاجا : أي : فاجأ ، وقد خففها لكي لا ينكسر الوزن.

(٩) في الذخيرة : «هوى».

(١٠) رواية عجز البيت في المصدرين هي : بفتية كالصباح في نسق.

(١١) في المغرب : «واطّلع».

(١٢) في الأصل : «ذاك» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(١٣) في المغرب : «البدر».

(١٤) في الأصل : «لذاك» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(١٥) في الذخيرة : «كفّا».

٢٧١

يشرب في الراح حين يشربها (١)

ما غادرت مقلتاه من رمق (٢)

وقال (٣) : [المنسرح]

يا حبذا ليلة لنا سلفت

أغرت بنفسي الهوى وما (٤) عرفت

دارت بظلمائها المدام فكم

نرجسة من بنفسج قطفت

وقال في مغنّ زار ، بعده أغبّ وشطّ المزار (٥) : [الكامل]

وافى وقد عظمت عليّ ذنوبه

في غيبة قبحت بها آثاره

فمحا إساءته لنا (٦) إحسانه

واستغفرت لذنوبه أوتاره

وقال يعتذر عن استبطاء مكاتبة (٧) : [الطويل]

ألم تعلموا (٨) والقلب رهن لديكم

يخبّركم (٩) عني بمضجره (١٠) بعدي؟

فلو (١١) قلّبتني (١٢) الحادثات مكانكم

لأنهبتها وفري وأوطأتها (١٣) خدّي

ألم تعلموا أني وأهلي وواحد (١٤)

فداء (١٥) ولا أرضى بتفدية (١٦) وحدي؟

ومن قوله في غرض المدح يخاطب تاشفين بن علي ، ويذكر الوقعة بكركى ، يقول فيها : [البسيط]

الله أعطاك فتحا غير مشترك

وردّ عزمك عن فوت إلى درك

__________________

(١) في الأصل : «نشرت ... حين نشرتها» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين ، وجاء في الذخيرة : «بالراح» بدل : «في الراح».

(٢) في المغرب : «من رمقي».

(٣) البيتان في الذخيرة (ق ٣ ص ٧٩٣ ـ ٧٩٤). وبغية الوعاة (ص ١٠٥).

(٤) في الذخيرة : «وقد».

(٥) البيتان في قلائد العقيان (ص ١٧٥) وبغية الملتمس (ص ١٣١) والمطرب (ص ١٨٧) والذخيرة (ق ٣ ص ٧٩٦).

(٦) في الذخيرة : «بنا».

(٧) الأبيات في قلائد العقيان (ص ١٧٧) والمطرب (ص ١٨٨) والذخيرة (ق ٣ ص ٧٩٧).

(٨) في الذخيرة : «ألم تسألوا».

(٩) في الذخيرة : «فيخبركم».

(١٠) في المصادر : «بمضمره».

(١١) في القلائد والمطرب : «ولو».

(١٢) في المطرب والذخيرة : «قبلتني».

(١٣) في الأصل : «واودلّاتها». والتصويب من المصادر الثلاثة.

(١٤) في المصادر : «وواحدي».

(١٥) في الأصل : «فدا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر.

(١٦) في المطرب : «بتقدمتي».

٢٧٢

أرسل عنان جواد أنت راكبه

واضمم يديك ودعه في يد الملك

حتى يصير إلى الحسنى على ثقة

يهدي سبيلك هاد غير مؤتعك

قد كان بعدك للأعداء مملكة

حتى استدرّت عليهم كورة الفلك

سارت بك الجرد (١) أو طار الفضاء (٢) بها

والحين قد قيّد الأعداء في شرك

فما تركت كميّا غير منعفر

ولا تركت نجيعا غير منسفك

ناموا وما نام موتور على حنق

أسدى إذا فرصة ليست (٣) من السلك

فصبّحتهم جنود الله باطشة

والصبح من عبرات الفجر في مسك

من كل مبتدر كالنّجم منكدر

تفيض أنفسهم غيظا من المسك

فطاعنوكم بأرماح وما طعنت

وضاربوكم بأسياف ولم تحك

تعجّل النّحر فيهم قبل موسمه

وقدّم الهدي منهم كلّ ذي نسك

فالطير عاكفة والوحش واقفة

قد أثقلتها لحوم القوم عن حرك

عدت على كل عاد منهم أسر

بعثن (٤) في حنجر (٥) رحب وفي حنك

كلي هنيئا مريئا واشكري ملكا

قرتك أسيافه في كل معترك

فلو تنضّدت الهامات إذ نشرت

بالقاع للغيظان بالنّبك

أبرح وطالب بباقي الدهر ماضيه

فيوم بدر أقامه الفيء في فدك

وكم مضى لك من يوم بنت له

في ماقط برماح الحظّ مشتبك

بالنّقع مرتكم بالموت ملتئم

بالبيض مشتمل بالشمر محتبك

فحص القباب إلى فحص الصعاب

إلى أريولة مداسات إلى السّكك

وكم على حبر محمود وجارته

للرّوم من مرتكل غير متّرك

وفّيت للصّفر حتى قيل قد غدروا

سموت تطلب نصر الله بالدّرك

فأسلمتهم إلى الإسلام غدوتهم

وأذهب السيف ما بالدّن من حنك

يا أيها الملك السامي بهمّته

إلى رضى الله لا تعدم رضى الملك

ما زلت تسمعه بشرى وتطلعه

أخرى كدرّ على الأجياد منسلك

بيّضت وجه أمير المؤمنين بها

والأرض من ظلمة الإلحاد في حلك

__________________

(١) الجرد : جمع أجرد وهو الفرس السبّاق. محيط المحيط (جرد).

(٢) في الأصل : «الفضا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٣) كلمة «ليست» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.

(٤) في الأصل : «بعثّه» وهكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٥) المراد الحنجرة وهي الحلقوم.

٢٧٣

فاستشعر النّصر واهتزّت منابره

بذكر أروع للكفار محتنك

فأخلدك ولمن والاك طاعته

خلود برّ بتقوى الله ممتسك

وافيت والغيث زاخر قد بكى طربا

لمّا ظفرت وكم بلّله من الضّحك

وتمّم الله ما أنشأت من حسن

بكل منسبك منه ومنتمك

وعن قريب تباهي الأرض من زهير

سماها بها غضّة الحبك

فعد وقد واعتمد واحمد وسد وأبد

وقل وصل واستطل واستول وانتهك

وحسبك الله فردا لا نظير له

تغنيك نصرته عن كل مشترك

ومن قوله في غرض الرثاء ، يرثي الفقيد أبا الحسن بن مغيث (١) : [البسيط]

الدهر ليس على حرّ بمؤتمن

وأيّ علق تخطّته يد الزمن

يأتي العفاء (٢) على الدنيا وساكنها

كأنه (٣) أدبر لم يسكن إلى سكن

يا باكيا فرقة الأحباب عن شحط (٤)

هلّا بكيت فراق الرّوح للبدن؟

نور (٥) تقيّد (٦) في طين (٧) إلى أجل

وانحاز (٨) علوا (٩) وخلّى الطين في الكفن (١٠)

كالطير في شرك يسمو إلى درك

حتى تخلّص من سقم ومن درن

إن لم يكن في رضى الله اجتماعهما

فيا لها صفقة تمّت على غبن (١١)

__________________

(١) وردت من هذه القصيدة فقط الأبيات الثالث والرابع والسادس والسابع في المعجب (ص ٣١٣ ـ ٣١٤) منسوبة إلى ابن طفيل ، صاحب رسالة «حي بن يقظان».

(٢) في الأصل : «العفا» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «كأن» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) الشّحط : البعد.

(٥) النور : كناية عن الروح.

(٦) في المعجب : «تردّد».

(٧) الطين : كناية عن البدن.

(٨) في المعجب : «فانحاز».

(٩) في الأصل : «عنوا» ، والتصويب من المعجب.

(١٠) في المعجب : «الكفن».

(١١) في الأصل : «... الله التقي وهما فيا لها صفقه بثّت على دغن» ، والتصويب من المعجب.

والغبن : الخطأ.

٢٧٤

يا شدّ ما افترقا من بعد ما اعتنقا (١)

أظنّها محرقة (٢) كانت على دخن (٣)

وربّ سار إلى وجه يسرّ به

وافى وقد نبت المرعى على الدّمن

أتى إلى الله لا سمع ولا بصر

يدعو إلى الرّشد أو يهدي إلى السّنن

في كل يوم فراق لا بقاء له

من صاحب كرم أو سيّد قمن

أعيا أبا حسن فقد الذين مضوا

فمن لنا بالذي أعيا أبا حسن

كأنّ البقية في قوم قد انقرضوا

فهاج ما شاء ذاك القرن من شجن

يعدّ فدا وفي أثوابه رمز من

كل ذي خلق عمرو وذي فطن

وإنّ من أوجدتنا كلّ مفتقد

حياته لعزيز الفقد والظّعن

من للملوك إذا خفّت حلومهم

بما يقاوم ذاك الطيش من سكن

ومنها :

يا يونس لا تسر أصبحنا لوحشتنا

نشكو اغترابا وما بنّا عن الوطن

ويا مطاعا مطيعا لا عناد له

في كل أمر على الإسلام مؤتمن

كم خطت كارتجاج البحر مبهمة

فرّجتها بحسام سلّ من لسن

طود المهابة في الجلا وإن جذبت

عنانه خلوة هزّت ذرى وتر

أكرم به سببا تلقى الرسول به

لخمس واردة في الفرض والسّنن

ناهيك من منهج سمّ القصور به

هوى فمن قدر عال إلى فدن

من كل وادي التّقى يسقى الغمام به

فيستهل شروق الضّرع باللبن

تجمّلت بك في أحسابها مضر

وأصل مجدك في جرثومة اليمن

__________________

(١) في المعجب : «اعتلقا». وألف الاثنين يعود إلى الروح والبدن.

(٢) في المعجب : «هدنة».

(٣) الدّخن : الفساد.

٢٧٥

من دولة حولها الأنصار حاشدة

في طامح شامخ الأركان والقنن

من الذين هم رووا وهم نصروا

من عيسة الدّين لا من جذوة الفتن

إن يبد مطّلع منهم ومستمع

فارغب بنفسك عن لحظ وعن أذن

ما بعد منطقه وشي ولا زهر

ولا لأعلاق ذاك الدّرّ من ثمن

أقول وفينا فضل سؤدده

أستغفر الله ملء السّر والعلن

محمد ومغيث نعم ذا عوضا

هما سلالة ذاك العارض الهتن

تقيّلا هديه في كل صالحة

نصر السّوابق عن طبع وعن مرن

ما حلّ حبوته إلّا وقد عقدا

حبا بما اختار من أيد ومن منن

غرّ الأحبّة عند حسن عهدهما

وإن يؤنس في الأثواب والجنن

علما وحلما وترحيبا وتكرمة

للزائرين وإغضاء على زكن

يا وافد الغيث أوسع قبره نزلا

وروما حول ذاك الدّيم من ثكن

وطبق الأرض وبلا في شفاعته

فنعم رائد ذاك الرّيف واليمن

وأنت يا أرض كوني مرّة بأبي

مثوى كريم ليوم البعث مرتهن

وإن تردّت بترب فيك أعظمه

فكم لها في جنان الخلد من ردن

ومن شعره قوله مخمّسا ، كتب بها ، وقد أقام بمراكش يتشوق إلى قرطبة : [الطويل]

بدت لهم بالغور والشّمل جامع

بروق بأعلام العذيب لوامع

فباحت بأسرار الضمير المدامع

وربّ غرام لم تنله المسامع

أذاع بها من فيضها لا يصوّب (١)

ألا في سبيل الشّوق قلب مؤثّل

بركب إذا شاء والبروق تحمل

هو الموت إلّا أنني أتحمّل

إذا قلت هذا منهل عزّ منهل

وراية برق نحوها القلب يجنب

أبى الله إمّا كلّ بعد فثابت

وإما دنوّ الدار منهم ففائت

ولا يلفت البين المصمّم لافت

ويا ربّ حيّ البارق المتهافت

غراب بتفريق الأحبّة ينعب

__________________

(١) في الأصل : «... فيضها التصويب» وهكذا ينكسر الوزن ، ولا تتلاءم القافية مع التي تلتها.

٢٧٦

خذوا بدمي ذاك الوسيق المضرّجا

وروضا بغيض العاشقين تأرّجا

عفى الله عنه قاتلا ما تحرّجا

تمشّى الرّدى في نشره وتدرّجا

وفي كل شيء للمنيّة مذهب

سقى الله عهدا قد تقلّص ظلّه

حيا قطره يحيى الربا مستهلّه

وعى به شخصا كريما أجلّه

يصحّ فؤادي تارة ويعلّه

ويلمّه بالذكر طورا ويشعب

رماني على قرب بشرخ ذكائه

فأعشت جفوني نظرة من ذكائه

وغصّت بأدنى شعبة من سمائه

شعابي وجاء (١) البحر في غلوائه

فكلّ بقرب (٢) ردع خدّيه يركب

ألم يأته أنّى ركنت قعودا

وأجمعت عن وفز الكلام قعودا

ولم أعتصر للذّكر بعدك عودا

وأزهقني هذا الزمان صعودا

فربع الذي بين الجوانح سبسب

على تلك من حال دعوت سميعا

وذكّرت روضا بالعقاب مريعا

وتملأ الشعب المذحجي جميعا

وسربا بأكناف الرّصافة ريعا

وأحداق عين بالحمام تقلّب

ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النّخل

بحيث تجافى الطود عن دمث سهل

وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل

ولكنه للملك قام على رجل

يقيه تباريح الشمال ويحجب

فكم وجع (٣) ينتابه برسيسه

ويرتحل الفتى بأرجل عيسه

أبق أمّ عمرو في بقايا دريسه

كسحق اليماني معتليه نفيسه

فرقعته تسبي القلوب وتعجب

وبيضاء للبيض البهاليل تعتزي (٤)

وتعتزّ بالبان جلالا وتنتزي

سوى أنها بعد الصّنيع المطرّز

كساها البلى والثّكل أثواب معوز

يبكي وتبكي للزائرين وتندب

__________________

(١) في الأصل : «وجا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «قرب» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) في الأصل : «توجّع» وهكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «تعتزيه».

٢٧٧

وكم لك بالزّهراء من متردّد

ووقفة متّسق المجامع مقصد

يسكن من خفق الجوانح باليد

ويهتك حجب النّاصر بن محمد

ولا هيبة تخشى هنالك وترهب

لنعم مقام الخاشع المتنسّك

وكانت في محلّ العبشمين المملّك

متى يورد النّفس العزيزة يسفك

وإن يسم نحو الأبلق الفرد يملك

وأي مرام رامه يتصعّب

قصور كان الماء يعشق مبناها

فطورا يرى تاجا بمفرق أعلاها

وطورا يرى خلخال أسوق سفلاها

إذا زلّ وهنا عن ذوائب يهواها

يقول هوى بدرا أو انقضّ كوكب

أتاها على رغم الجبال الشّواهق

وكلّ منيف للنجوم مراهق

وكم دفعت في الصّدر منه بعانق

فأودع في أحشائها والمفارق

حسابا بأنفاس الرياح يذرب

هي الخود من قرن إلى قدم حسنا

تناصف أقصاها جمالا مع الأدنى

ودرج كأفلاك (١) مبنى على مبنى

توافقن في الإتقان واختلف المعنى

وأسباب هذا الحسن قد تتشعّب

فأين الشّموس الكالفات بها ليلا

وأين الغصون المائسات بها ميلا

وأين الظّباء (٢) السابحات بها ذيلا

وأين الثّرى رجلا وأين الحصا خيلا

فوا عجبا لو أن من يتعجّب

كم احتضنت فيها القيان المزاهرا

وكم فاوحت فيها الرّياض المجامرا

وكم ساهرت فيها الكواكب سامرا

وكم قد أجاب الطير فيها المزامرا

عظيم من الدنيا شعاع مطنّب

كأن لم يكن يقضى بها النّهي والأمر

ويجبي إلى خزائنها البرّ والبحر

ويسفر مخفورا بذمّتها الفخر

ويصبح مختوما بطينتها الدهر

وأيامه تعزى إليها وتنسب

__________________

(١) في الأصل : «كالأفلاك» وهكذا ينكسر الوزن.

(٢) في الأصل : «الظبا» وهكذا ينكسر الوزن.

٢٧٨

ومالك عن ذات القسيّ النّواضح

وناصحة تعزى قديما لناصح

وذي أثر على الدهر واضح

يخبر عن عهد هنالك صالح

ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب

تلاقى عليه فيض نهر وجدول

تصعّد من سفل وأقبل من عل

فهذا جنوبيّ وذلك شمألي (١)

وما اتفقا إلّا على خير منزل

وإلّا فإن الفضل منه مجرّب

كأنهما في الطّيب كانا تنافرا

فسارا إلى وصل القضاء وسافرا

ولمّا تلاقى السابقان تناظرا

فقال وليّ الحق مهلا تظافرا

فكلّكما عذب المجاجة طيّب

ألم يعلما أن اللّجاج هو المقت

وأن الذي لا يقبل النّصف منبتّ

وما منكما إلّا له عندنا وقت

فلما استبان الحقّ واتجه السّمت

تقشّع من نور المودة غيهب

وإن لها بالعامريّة لمظهرا

ومستشرفا يلهي العيون ومنظرا

وروضنا على شطّي خضارة أخضرا

وجوسق ملك قد علا وتجبّرا

له ترّة عند الكواكب تطلب

أغيّره (٢) في عنفوان الموارد

وأثبته في ملتقى كل وارد

وأبرزه للأريحيّ المجاهد

وكلّ فتى عن حرمة الدين زايد

حفيظته في صدره تتلهّب

تقدّم عن قصر الخلافة فرسخا

وأصحر بالأرض الفضاء ليصرخا

فحالته أرض الشّرك فيها منوّخا

كذلك من جاس الدّيار ودوّخا

فردعته في القلب تسري وترهب

أولئك قوم قد مضوا وتصدّعوا

قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودّعوا

فهل لهم ركز يحسّ ويسمع؟

تأمّل فهذا ظاهر الأرض بلقع

إلّا أنهم في بطنها حيث غيّبوا (٣)

__________________

(١) في الأصل : «شمأل».

(٢) في الأصل : «غيره» وهكذا ينكسر الوزن ، ولا معنى له.

(٣) في الأصل : «غيّب».

٢٧٩

ألست ترى أن المقام على شفا

وأن بياض الصّبح ليس بذي خفا

وكم رسم دار للأجنّة قد عفا

وكأنّ حديثا للوفود معرّفا

فأصبح وحش المنتدى يتجنّب

ولله في الدّارات ذات المصانع

أخلّاء صدق كالنجوم الطّوالع

أشيع بينهم كلّ أبيض ناصع

وأرجع حتى لست يوما براجع

فياليتني في قسمتي أتهيّب

أقرطبة لم يثنني عنك سلوان

ولا بمثل إخواني بمغناك إخوان

وإني إذا لم أسق ماءك ظمآن

ولكن عداني عنك أمر له شان

وموطني آثار تعدّ وتكتب

لك الحقّ والفضل الذي ليس يدفع

وأنت لشمس الدّين والعلم مطلع

ولولاك كان العلم يطوى ويرفع

وكل التّقى والهدى والخير أجمع

إليك تناهى والحسود معذّب

ألم تك خصّت باختيار الخلائف

ودانت لهم فيها ملوك الطّوائف

وعضّ ثقاف الملك كلّ مخالف

بكل حسام مرهف الحدّ راعف

به تحقن الآجال طورا وتسكب

إلى ملكها انقاد الملوك وسلّموا

وكعبتها ندا الوفود ويمّموا

وفيها استفادوا شرحهم وتعلّموا

وعاذوا بها من دهرهم وتحرّموا

فنكّب عنهم صرفه المتسحّب

علوت فما في الحسن فوقك مرتقى

هواؤك مختار وتربك منتقى

وجسرك للدنيا وللدّين ملتقى

وبيتك مربوع القواعد بالتّقى

إلى فضله لأكباب تنضى وتضرب

تولّى خيار التابعين بقاءه

وخطّوا بأطراف العوالي فناءه

ومدّوا طويلا صيته وثناءه (١)

فلا زال مخلوع عليه سناءه (٢)

ولا زال سعي الكائدين يخيّب

__________________

(١) في الأصل : «وثناء».

(٢) في الأصل : «سناه».

٢٨٠