الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

وأنشد (١) السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه ، رحمه الله تعالى : [الطويل]

تأمّل أطلال الهوى فتألّما

وسيما الجوى والسّقم منها تعلّما

أخو زفرة هاجت له منه (٢) ذكرة

فأنجد في شعب الغرام وأتهما

وأنشد (٣) السلطان في وجهة للصّيد أعملها ، وأطلق أعنّة الجياد في ميادين ذلك الطّراد وأرسلها قوله : [الكامل]

حيّاك يا دار الهوى من دار

نوء السّماك بديمة مدرار

وأعاد وجه رباك طلقا مشرقا

متضاحكا بمباسم النّوّار

أمذكّري دار الصّبابة والهوى

حيث الشّباب يرفّ (٤) غصن نضار

عاطيتني عنها الحديث كأنما

عاطيتني عنها كؤوس عقار

إيه وإن أذكيت نار صبابتي

وقدحت زند الشّوق بالتّذكار

يا زاجر الأظعان وهي مشوقة

أشبهتها في زفرة وأوار

حنّت إلى نجد وليست دارها

وصبت إلى هنديّة والقار (٥)

شاقت به برق الحمى واعتادها

طيف الكرى بمزارها المزوار (٦)

ومن شعره في غير المطولات (٧) : [الطويل]

لقد زادني وجدا وأغرى بي الجوى

ذبال (٨) بأذيال الظّلام قد التفّا

تشير وراء الليل منه بنانة

مخضّبة والليل قد حجب الكفّا

تلوح سنانا حين لا تنفح الصّبا

وتبدو (٩) سوارا حين تثني له العطفا

قطعت به ليلا يطارحني الجوى

فآونة يبدو وآونة يخفى

__________________

(١) النص مع بيتي الشعر في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٢).

(٢) في النفح : «له نار ذكرة».

(٣) النص والقصيدة في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٢ ـ ١٣) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ١٠٣).

(٤) في أزهار الرياض : «يروق حسن نضار».

(٥) في النفح : «هنديّة والغار».

(٦) رواية البيت في أزهار الرياض هي :

لكنها شامت به برق الحمى

واعتادها طيف الكرى بمزار

 (٧) الأبيات في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٦) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ١٦٩).

(٨) الذّبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة ، وأراد المصباح الذي يصفه ابن زمرك في هذه الأبيات.

(٩) في النفح : «وتبدي».

٢٠١

إذا قلت لا يبدو أشال لسانه

وإن قلت لا يخبو الصّبابة إذ لفّا (١)

إلى أن أفاق الصّبح من غمرة الدّجى

وأهدى نسيم الروض من طيبه عرفا

لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي

وقد شفّها من لوعة الحبّ ما شفّا

وممّا ثبت له في صدر رسالة (٢) : [الطويل]

أزور بقلبي معهد الأنس والهوى

وأنهب من أيدي النسيم رسائلا

ومهما سألت البرق يهفو من الحمى

يبادره (٣) دمعي مجيبا وسائلا

فياليت شعري والأماني تعلّل

أيرعى لي الحيّ الكرام الوسائلا؟

وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم

يوالون بالإحسان من جاء سائلا؟

ومن أبياته الغراميات (٤) : [الوافر]

قيادي قد تملّكه الغرام

ووجدي لا يطاق ولا يرام (٥)

ودمعي دونه صوب الغوادي

وشجوي (٦) فوق ما يشدو (٧) الحمام

إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي

على الدّنيا وساكنها السّلام

وفي غرض يظهر من الأبيات (٨) : [الطويل]

ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف

قضى رجع طرفي من محاسنه الوطر (٩)

فأبصرت أشباه الرياض محاسنا

وفي خدّه جرح بدا منه لي أثر

فقلت لجلّاسي خذوا الحذر إنما

به وصب من أسهم الغنج والحور

ويا وجنة قد جاورت سيف لحظه

ومن شأنها تدمي من اللّمح بالبصر

تخبّل للعينين جرحا وإنما

بدا كلف منه على صفحة القمر

__________________

(١) في النفح : «لا يخفى الضياء به كفّا» وفي أزهار الرياض : «لا يخبو الضياء به كفّا».

(٢) نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٦) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ١٧٠).

(٣) في أزهار الرياض : «يبادر به».

(٤) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ٢٨٨) ونفح الطيب (ج ١٠ ص ١٦ ـ ١٧).

(٥) يرام : يطلب. لسان العرب (روم).

(٦) في الكتيبة : «وشوقي».

(٧) في الكتيبة : «يشكي». وفي النفح : «يشكو».

(٨) الأبيات في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٧).

(٩) الأحوى : الأسمر ، ومن كان لونه لون صدإ الحديد. الوطر : الحاجة. لسان العرب (هوى) و (وطر).

٢٠٢

وممّا يرجع إلى باب الفخر ، ولعمري لقد صدق في ذلك (١) : [الطويل]

ألائمة (٢) في الجود والجود شيمتي (٣)

جبلت على آثارها (٤) يوم مولدي

ذريني فلو أنّي أخلّد بالغنى

لكنت ضنينا بالذي ملكت يدي

ومن مقطوعاته (٥) : [المتقارب]

لقد علم الله أنّي امرؤ

أجرّر ثوب العفاف القشيب

فكم غمّض الدهر أجفانه

وفازت قداحي بوصل الحبيب

وقيل رقيبك في غفلة

فقلت أخاف الإله الرّقيب

وفي مدح كتاب «الشّفا» (٦) طلبه الفقيه أبو عبد الله بن مرزوق عندما شرع في شرحه (٧) : [الطويل]

ومسرى ركاب للصّبا قد ونت به

نجائب سحب للتراب نزوعها

تسلّ سيوف البرق أيدي حداتها

فتنهلّ خوفا من سطاها دموعها

ومنها :

ولا مثل تعريف الشّفاء حقوقه

فقد بان فيه للعقول جميعها

بمرآة حسن قد جلتها يد النّهى

فأوصافه يلتاح فيه بديعها

نجوم اهتداء ، والمداد يجنّها

وأسرار غيب واليراع تذيعها

لقد حزت فضلا يا أبا الفضل شاملا

فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها

ولله ممّن قد تصدّى لشرحه

فلبّاه من غرّ المعاني مطيعها

فكم مجمل فصّلت منه وحكمة

إذا كتم الإدماج منه تشيعها

محاسن والإحسان يبدو خلالها

كما افترّ (٨) عن زهر البطاح ربيعها

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٧) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ١٠).

(٢) في الأصل : «يا لائمي» والتصويب من نفح الطيب. وفي أزهار الرياض : «ولائمتي».

(٣) في النفح : «شيمة».

(٤) في المصدرين : «إيثارها».

(٥) الأبيات في أزهار الرياض (ج ٢ ص ١٠) ونفح الطيب (ج ١٠ ص ١٧).

(٦) كتاب «الشفا» للقاضي عياض بن موسى اليحصبي ، واسمه كاملا : «الشفا ، بالتعريف بحقوق المصطفى».

(٧) البيتان في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٧ ـ ١٨).

(٨) افترّ : ابتسم. مختار الصحاح (فرر).

٢٠٣

إذا ما أصول المرء طابت أرومة (١)

فلا عجب أن أشبهتها فروعها

بقيت لأعلام الزمان تنيلها

هدى ولأحداث الخطوب تروعها

ومما امتزج فيه نثره ونظمه ، وظهر فيه أدبه وعلمه ، قوله يخاطبني جوابا عن رسالة خاطبت بها الأولاد ، وهم مع مولانا أيّده الله بالمنكّب (٢) : [مخلع البسيط]

ما لي بحمل الهوى يدان

من بعد ما أعوز التّداني

أصبحت أشكو إلى (٣) زمان

ما بتّ منه على أمان

ما بال عينيك تسجمان

والدّمع يرفضّ كالجمان؟

ناداك والإلف عنك وان

والبعد من بعده كواني؟ (٤)

يا شقّة (٥) النفس ، من هوان

لجج (٦) في أبحر الهوان

لم يثنني (٧) عن هواك ثان

يا بغية القلب (٨) قد كفاني (٩)

يا جانحة الأصيل ، أين يذهب قرصك المذهّب ، وقد ضاق بالشوق المذهب. أمست شموس الأنس محجوبة عن عيني ، وقد ضرب البعد الحجاب بينها وبيني. وعلى كل حال ، من إقامة وارتحال. فما محلك من قلبي محلا بينها. وما كنت لأقنع من وجهك تخيّلا وشبيها. ومن أين انتظمت لك عقول التّشبيه واتّسقت ، ومن بعض المواقع والشمس لو قطعت. صادك منذور ، وأنت تتجمل بثوبي زور ، وجيب الظلام على دينارك حتى الصباح مزرور ، ووراءك من الغروب غريم لا يرحم ، ومطالب تتقلّب منه في كفّه المطالب. ويا برق الغمام من أي حجاب تبتسم ، وبأي صبح ترتسم ، وأي غفل من السحاب تسم. أليست مباسم الثغور ، لا تنجد بأفقي ولا تغور؟ هذا وإن كانت مباسمك مساعدة ، والجوّ ملبس لها من الوجوم شعارا ، فلطالما ضحكت فأبكت الغوادي ، وعقت الرائح والغادي. أعوذ بواشم البروق ، بنواسم الطّفل والشروق ، ذوات الزائرات المتعددة الطّروق ، فهي التي قطعت وهادا ونجادا ، واهتدت بسيف الصباح من السحاب قرابا ومن البروق نجادا ، واهتدت خبر الذين أحبّهم

__________________

(١) الأرومة : الأصل. لسان العرب (أرم).

(٢) الأبيات في أزهار الرياض (ج ٢ ص ١٠ ـ ١١).

(٣) في الأصل : «من» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من أزهار الرياض.

(٤) في الأصل : «كوان» والتصويب من أزهار الرياض.

(٥) في الأزهار : «يا شقوة».

(٦) في الأزهار : «لججت».

(٧) في الأصل : «لم يثن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من أزهار الرياض.

(٨) في الأصل : «القلوب» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من أزهار الرياض.

(٩) في الأصل : «كفان» والتصويب من أزهار الرياض.

٢٠٤

مستظرفا مستجادا ، فعالها ولعلها ، والله يصل في أرض الوجود نهلها وعلّها ، وأن يبل ظعين الشوق بنسيمها البليل ، وأن نعوضه من نار الغليل ، بنار الخليل ، وخير طبيب يداوي الناس وهو عليل. فشكواي إلى الله لا أشكو إلى أحد. هل هو إلّا فرد تسطو رياح الأشواق على ذبالته ، وعمر الشوق قد شبّ على الطّوق ، ووهب الجمع للفرق ولم يقنع بالمشاهدة بالوصف دون الذّوق. وقلب تقسم أحشاؤه الوجد ، وقسم باله الغور والنّجد. وهموم متى وردت قليب القلب ، لم تبرح ولم تعد ، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

أستغفر الله يا سيدي الذي يوقد أفكاري حلو لقائه ، وأتنسّم أرواح القبول من تلقائه ، وأسأل الله أن يديم لي آمالي بدوام بقائه. إن بعد مداه ، قربت منّا يداه ، وإن أخطأنا رفده أصبنا نداه. فثمرات آدابه الزّهر تجيء إلينا ، وسحائب بنانه الغرّ تصوّب دوالينا أو علينا ، على شحط هواه ، وبعد منتواه. ولا كرسالة سيدي الذي عمّت فضائله وخصّت ، وتلت على أولياء نعمته أنباء الكمال وقصّت ، وآي قضى كل منها عجبا ، ونال من التماح غرّتها واجتلاء صفحتها أربا. فلقد كرمت عنه بالاشتراك في بنوّته الكريمة نسبا ، ووصلت لي بالعناية منه سببا. تولّى سيدي خيرك من يتولّى خير المحسنين ، ويجزل شكر المنعمين. أما ما تحدّث به من الأغراض البعيدة العذيبة ، وأخبر عنه من المعاني الفريدة العجيبة ، والأساليب المطيلة ، فيعجز عن وصفه ، وإحكام رصفه ، القلم واللسان ، ويعترف لها بالإبداع المستولي على أمد الإحسان البديع وحسّان. ولقد أجهدت جياد الارتجال ، في مجال الاستعجال ، فما سمحت القريحة إلّا بتوقّع الآجال ، وعادت من الإقدام إلى الكلال. فعلمت أن تلك الرسالة الكريمة ، من الحق الواجب على من قرأها وتأمّلها ، أن لا يجري في لجّة من ميادينها ، ويديم يراع سيدي الإحسان كرينها ، لكن على أن يفسح الرياض للقصي مدى ، ويقتدي بأخلاق سيدي التي هي نور وهدى ، فإنه والله يبقيه ، ويقيه ممّا يتّقيه ، بعد ما أعاد في شكوى البين وأبدى ، وتظلّم من البعد واستعدى ، ورفع حكم العتاب عن ذرات النّسيم والاقتعاب ، ورعى وسيلة ذكرها في محكم الكتاب. وولّى فضله ما تولّى ، وصرف هواه إلى هوى المولى أن صور السعادة على رأيه ، أيّده الله تجلّى ، وثمرة فكره المقدس ، أيّده الله تتحلّى. شكر الله له عن جميع نعمه التي أولى ، وحفظ عليه مراتب الكمال التي هو الأحقّ بها والأولى. وقد طال الكلام ، وجمحت الأقلاح. ولسيدي وبركتي الفضل ، أبقى الله بركته ، وأعلى في الدارين درجته ، والسلام الكريم يخصّكم ، من مملوككم ابن زمرك ، ورحمة الله وبركاته ، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين.

٢٠٥

وخاطبني كذلك ، وهو من الكلام المرسل : أبو معارفي ، ووليّ نعمتي ، ومعيد جاهي ، ومقوّم كمالي ، ومورد آمالي ، ممن توالى نعمه عليّ ، ويتوفّر قسمه لدي ؛ وأبوء له بالعجز ، عن شكر أياديه التي أحيت الأمل ، وملأت أكفّ الرغبة ، وأنطقت الحدائق ، فضلا عن اللسان ، وأياديه البيض وإن تعددت ، ومننه العميمة وإن تجدّدت ، تقصر عن إقطاع أسمى شرف المجلس في الروض الممطور بيانه. فماذا أقول ، فيمن صار مؤثرا إليّ بالتقديم ، جاليا صورة تشريفي ، بالانتساب إليه في أحسن التقويم ... (١) وإني ثالث اثنين أتشرف بخدمتها ، وأسحب في أذيال نعمتها : [الطويل]

خليليّ ، هل أبصرتما أو سمعتما

بأكرم من تمشي إليه عبيد؟

اللهمّ ، أوزعني شكر هذا المنعم ، الذي أثقلت نعمه ظهر الشكر ، وأنهضت كمال الحمد ، اللهمّ أدم بجميع حياته ، وأمتع بدوام بقائه الإسلام والعباد ، وأمسك بيمن آرائه رمق ثغر الجهاد. يا أكرم مسئول ، وأعزّ ناصر. تفضّل سيدي ، والفضل عادته ، بالتعريف بما يقرّ عين التطلّع ويقنع غلّة التشوّف. ولقد كان المماليك لما مثلنا بين يدي مولانا ، أيّده الله ، لم يقدم عملا عن السؤال ولا عن الحال ، إقامة لرسم الزيارة ، وعملا بالواجب ، فإنني أرى الديار بطرفي ، فعلى أن أرى الديار بعيني ، وعلى ذلك يكون العمل إن شاء الله. وإن سأل سيدي شكر الله احتفاءه ، وأبقى اهتمامه ، عن حال المماليك ، من تعب السفر ، وكدّ الطريق ، فهي بحمد الله دون ما يظنّ. فقد وصلنا المنكّب تحت الحفظ والكلاءة ، محرزين شرف المساوقة ، لمواكب المولى ، يمن الله وجهته ، وكتب عصمته ، واستقرّ جميعنا بمحلّ القصبة ، وتاج أهبتها ، ومهبّ رياح أجرائها ، تحت النعم الثرّة ، والأنس الكامل الشامل. قرّب الله أمد لقائكم ، وطلع على ما يسرّ من تلقائكم. ولما بلغنا هذه الطّيّة ، وأنخنا المطيّة ، قمنا بواجب تعريفكم على الفور بالأدوار ، ورفعنا مخاطبة المالك على الابتدا. والسلام.

مولده : في الرابع عشر من شوال ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.

انتهى السفر السادس هنا ، والحمد لله ربّ العالمين

* * *

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٠٦

ومن السفر السابع المفتتح بقوله

ومن الطّارئين منهم في هذا الباب

محمد بن أحمد بن محمد بن أبي خيثمة الجبّائي

سكن غرناطة ، يكنى أبا الحسن.

حاله : كان مبرّزا في علوم اللسان نحوا ولغة وأدبا ، متقدما في الكتابة والفصاحة ، جامعا فنون الفضائل ، على غفلة كانت فيه.

مشيخته : روى عن أبي الحسن بن سهل ، وأبي بكر بن سابق ، وأبي الحسن بن الباذش ، وأبي علي الغساني وغيرهم. وصحب أبا الحسن بن سراج صحبة مواخاة.

تواليفه : صنّف في شرح غريب البخاري مصنّفا مفيدا.

وفاته : توفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وخمسمائة.

محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد الإستجّي الحميري

من أهل مالقة ، وأصله من إستجّة ، انتقل سلفه إلى مالقة ، يكنّى أبا عبد الله.

حاله : كان من جملة حملة العلم ، والغالب عليه الأدب ، وكان من أهل الجلالة ، ومن بيت علم ودين. أقرأ ببلده ، وقعد بالجامع الكبير منه ، يتكلّم على صحيح البخاري ، وانتقل في آخر عمره إلى غرناطة.

وقال الأستاذ (١) : كان من أبرع أهل زمانه في الأدب نظما ونثرا.

شعره : منقولا من خط الوزير الرّاوية أبي محمد عبد المنعم بن سماك ، وقد ذكر أشياخه فقال : الشيخ المتفنن الأديب ، البارع ، الشاعر المفلق ، قرأ على أشياخها ، وأقرأ وهو دون العشرين سنة. وكانت بينه وبين الأستاذ المقرئ الشهير أبي العباس ، الملقب بالوزعي ، قرابة ، وله قصيدة أولها : [الكامل]

ما للنسيم لدى الأصيل عليلا ومنها :

حتى النسيم إذا ألّم بأرضهم

خلعوا عليه رقّة ونحولا

__________________

(١) هو ابن الزبير ، صاحب كتاب «صلة الصلة».

٢٠٧

وكان يقول : كان الأستاذ أبو العباس يستعيدني هذا البيت ويقول : نعم أنت قريبي. وقدم على غرناطة ، أظنّ سنة تسع وثلاثين وستمائة.

محنته : قال الأستاذ : جرى له قصة ، نقل بعض كلامه فيها ، على بعض أحاديث الكتّاب من جهة استشهاد أدبي عليه فيها ، غالب أدبه ، فأطلق عنان الكلام ، وما أكثر مما يطاق فيما يأنفه إدراكات تلك الأفهام ، ولكل مقام مقال ، ومن الذي يسلم من قيل وقال. وكان ذلك سبب الانقطاع ، ولم يؤت من قصر باع ، وانتقل إلى غرناطة ، فتوفي في أثر انقطاعه وانتقاله.

شعره : من ذلك قوله في غرض يظهر من الأبيات : [الطويل]

قضوا في ربى نجد ففي القلب مرساه

وغنّوا إن أبصرتم (١) ثمّ مغناه

أما هذه نجد أما ذلك الحمى؟

فهل عميت عيناه أم صمّ (٢) أذناه؟

دعوه يوفّي ذكره باتّشامه

ديون هواه قبل أن يتوفّاه

ولا تسألوه سلوة فمن العنا

رياضة من قد شاب في الحب فوداه (٣)

أيحسب من أصلى فؤادي بحبّه

بأني (٤) سأسلو عنه ، حاشاه حاشاه؟

متى غدر الصّبّ الكريم وفى (٥) له

وإن أتلف القلب الحزين تلافاه

وإن حجروا معناه وصرّحوا به

فإن معناه أحقّ بمعناه

ويا سابقا عيس الغرام سيوفه

وكلّ إذا يخشاه في الحبّ يخشاه

أرحها فقد ذابت من الوجد والسّرى

ولم يبق إلّا عظمها أو بقاياه

ويا صاحبي عج بي على الخيف (٦) من منى

وما للتعنّي (٧) لي بأنّي ألقاه

وعرّج على وادي العقيق لعلّني

أسائل عمّن كان بالأمس مأواه

وقل للّيالي قد سلفن بعيشه

وعمر على رغم العذول قطعناه

هل العود أرجوه أم العمر ينقضي

فأقضي ولا يقضى الذي أتمنّاه؟

__________________

(١) في الأصل : «إن أبصرتم» وهكذا ينكسر الوزن ، لذلك جعلنا همزة القطع همزة وصل.

(٢) في الأصل : «صمّت» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) الفود : معظم شعر الرأس مما يلي الأذن. محيط المحيط (فود).

(٤) في الأصل : «أني أسلو ...» وكذا ينكسر الوزن.

(٥) في الأصل : «وفّى» بتشديد الفاء ، وكذا ينكسر الوزن.

(٦) الخيف : ما انحدر عن غلظ الجبل. محيط المحيط (خيف).

(٧) في الأصل : «وما التعني لي من بأني ألقاه» وكذا لا يستقر الوزن والمعنى معا.

٢٠٨

ومن شعره أيضا ، قوله ، رحمه الله : [الطويل]

سرت من ربى نجد معطّرة الرّيّا

يموت لها قلبي وآونة يحيا

تمسّح أعطاف الأراك بليلة

وتنثر كافورا على التربة اللّميا

وترتدّ (١) في حجر الرياض مريضة

فتحيي بطيب العرف من لم يكن يحيا

وبشرى (٢) بأنفاس الأحبّة سحرة

فيسرع دمع العين في إثرها جريا

سقى (٣) الله دهرا ذكره بنعيمه

فكم لجفوني عند ذكراه من سقيا

نآني (٤) محيّاه الأنيق وحسنه

ومن خلقي قد كنت لا أحمل النأيا

وبي رشأ من أهل غرناطة غدا

يجود بتعذيبي ويبخل باللّقيا

رماني فصابني (٥) بأول نظرة

فيا عجبا من علّم الرّشأ الرّميا

وبدّد جسمي نوره وكأنه

أشعّة شمس قابلت جسدي مليا

تصوّر لي من عالم الحسن خالصا

فمن عجب أن كان من عالم الدنيا

وهمّ بأن يرقى إلى الحور جسمه

فثقّلته كتبا وحمّلته حليا

إذا ما انثنى أو لاح أو جاح أو رنا

سبا القصب والأقمار والمسك والضيا

رعى الله دهرا كان ينشر وصله

برود طواها البين في صدره طيّا

مشيخته : ومما يشتمل على أسماء شيوخه ، ويدلّ على تبحّره في الأدب ورسوخه ، إجازته أبا الوليد إسماعيل بن تبر الأيادي ، وعندها يقال : أتى الوادي : [الخفيف]

إنّ لي عند كلّ نفحة بستا

ن من الورد أو من الياسمينا

نظرة والتفاتة أتمنّى

أن تكوني حللت فيما تلينا

ما هذه الأنوار اللائحة ، والنّوار الفائحة ، إني لأجد ريح الحكمة ، ولا مفنّد ، وأرد مورد النعمة ، ولا منكد ، أمسك دارين ينهب ، أم المندل الرطب في الغرام الملهب ، أم نفحت أبواب الجنّة ففاح نسيمها ، وتوضحت أسباب المنّة فلاح

__________________

(١) في الأصل : «ومرتد».

(٢) في الأصل : «وبشرت».

(٣) في الأصل : «سقني» وهكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «ملني». ونآني محيّاه : بعد عني.

(٥) في الأصل : «فأصابني» وهكذا ينكسر الوزن.

٢٠٩

وسيمها : [الطويل]

محيّاك أم نور الصباح تبسّما

وريّاك أم نور الأقاحي (١) تنسّما

فمن شمّ من ذا نفحة رقّ شيمة

ومن شام من ذا لمحة راق مبسما؟

أجل خلق الإنسان من عجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتفهموا أسرار الحكم وتعوا ، وإذا رأيتم رياض الجنّة فارتعوا ، يعني مجالس الذّكر ، ومأنس النظر والفكر ، ومطالع المناظرة ، ومواضع المحاضرة ، فهذه بتلك ، وقد انتظمت الجواهر النبوية في سلك ، ولهان حمى للعطارة وطيس ، بين مسك المداد وكافور القراطيس. فيا أيها المعلم الأوحد ، والعالم الذي لا تنكر أمامته ولا تجحد ، حوّمت على علم الملوك ، ولزمت بحلم طريق الحكم المسلوك ، فلم تعد أمل الحكماء ، ولم تعد إلّا بعمل العلماء ، وقد قال حكيمهم الفاضل ، وعظيمهم الذي لا مناظر له ولا مفاضل : إذا خدمت الأمراء فكن بين استلطاف واستعطاف ، تجن المعارف والعوارف دانية القطاف ، فتعلّمهم وكأنك تتعلّم منهم ، وترويهم وكأنك تروي عنهم ، فأجريت الباب ، وامتريت من العلم اللّباب ، ثم لم تبعد ، فقد فعل النحويون ذلك في يكرم ، ويعد ، ويعزّ ، ولا غرو أن تقرأ على من هو دونك ، وتستجيز الإجازة عن القوم العظام يقصدونك. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أمره الله بأن يقرأ على أبيّ بن كعب ، فهل في حيّ الخواطر الذكية من حيّ؟ فقال له ، رضي الله عنه : الله أمرك أن تقرأ عليّ ، والعناية الرّبانية تنادي إليّ إليّ ، وإذا قال لي : من أحبّ مولاي ، واستعار لزينته حلاي :

فما على الحبيب من اعتراض

وللطّبيب تصرّف في المراض (٢)

قد يرحل المرء لمطلوبه

والسبب المطلوب في الرّاحل (٣)

عجت متواضعا ، فما أبرمت في معاجك ، ولا ظلمت في السؤال نعجته إلى نعاجك ، فإنه سرّ الله ، لا يحلّ فيه الإفشاء ، وحكمة الله البالغة ، والله يؤتي الحكمة من يشاء ، وإن لبست من التواضع شعارا ، ولبست عن الترفع تنبيها على السّر المكتوم وإشعارا ، فهذه الثريّا من العجائب إذا ارتفعت في أعلى صعودها ، وأسمى راياتها الخافقة وبنودها ، نهاية وجودها الحسّي عدم ، وغاية وصفها الشّبهي أن تشبّه بقدم ، فإذا همّت بالركوع ، وشمّت في المغرب ريح الوقوع ، كان لها من السّمو القدح

__________________

(١) في الأصل : «الأقاح».

(٢) المراض : جمع مرض وهو ذو المرض. محيط المحيط (مرض).

(٣) هذا البيت على البحر السريع.

٢١٠

المعلّى ، وعادت قرطا تتزيّن به الآذان وتتحلّى :

وفي الشرق كأس وفي مغاربها

قرط وفي وسط السماء قدم

هذه آثار التواضع متلوّة السّور ، مجلوّة الصّور ، وكان بعضهم إذا أعطى الصّدقة ، يعطيها ويده تحت يد السّائل ، وهكذا تفهم المسائل. فإنه لما سمع النبوة تقول : اليد العليا خير من اليد السّفلى ، أراد أن يؤثر المقام الأعلى. ولما أعطى أبو بكر ، رضي الله عنه ، ماله كله ، أعطى عمر ، رضي الله عنه ، النصف من المال ، لا احتياطا على ماله ، ولكن ليقف لأبي بكر في مقام القصور عن كماله ، تفويضا وتسليما ، وتنبيها لمن كان له قلب وتعليما. ورؤي الدّارقطني ، رحمه الله عليه ، يحبس أباه بركابه ، فلا ينكر عليه ، فقيل له في ذلك ، فقال : رأيته يبادر إلى فضيلة ، فكرهت مخالفته : [البسيط]

فوق السماء وفوق الزّهر ما طلبوا

وهم إذا (١) ما أرادوا غاية نزلوا

وإلى هذا وصل الله حفظك ، وأجزك من الخيرات حظّك ، فإنه وصلتني الكرّاسة المباركة ، الدّالّة على التفنن في العلوم والمشاركة ، فبينما أنا أتلو الإجازة ، وأريق صدور البيان وإعجازه ، ألقي إليّ كتاب كريم ، إنه من أبي الوليد ، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فحرت ، ووقفت كأنني سحرت ، وقلت : ساحران تظاهرا معا ، وأحدهما قاتلي ، فكيف إذا اجتمعا : [الطويل]

فلو كان رمحا واحدا لاتّقيته

ولكنه رمح وثان وثالث

ومن لعبت بشيمته المثاني

فأحرى أن تطير به المثالث (٢)

وطار بي الشوق كلّ مطار ، وقرأت سماء فكرتي سورة الانفطار ، وكدت أصعد إلى السماء توقّدا ، واختلط بالهواء تودّدا : [الكامل]

كانت جواهرنا أوائل قبل ذان

فالآن صارت بالتحول ثوان

وجدت وراء الحسن وهي كثيفة

فوجودهن الآن في الأذهان

ولم يكف أن بهرت بالحسن الخلوب ، حتى أمرت أن أنظم على ذاك الأسلوب ، وبالحريّ لذلك النثر البديع ، الحريريّ أو البديع ، ولذلك النّظم العجيب ، المتنبي أو حبيب ، ولذلك التصوف الرقيق ، الحارث بن أسد ذي التحقيق. وأما الحديث ، فما لك تقطع تلك المسالك ، إلّا أن العربية ليس لأحد معه فيها دليل ،

__________________

(١) في الأصل : «وإذا» وكذا ينكسر الوزن.

(٢) هذا البيت على البحر الوافر.

٢١١

أستغفر الله إلّا للخليل ، لكن أصول الدين مجريّة ، تركت تلك الميادين. هنّاك الله جمع كل منقبة جليلة ، فترى الفضيلة لا تردّ فضيلة ، فمر الرديف وقد ركب غضنفرا ، أو المدّعي صفة فضل ، وكلّ الصّيد في جوف الفرا (١). من يزحم البحر يغرق ، ومن يطعم الشجر يشرق. وهل يبارى التوحيد بعمل ، أو يجارى البراق بجمل؟ ذلك انتهى إلى سدرة المنتهى ، وهل انبرى ليلطم خدّه في الثرى؟ لا تقاس الملائكة بالحدّادين ، ولا حكماء يونان بالفدادين. أفي طريق الكواكب يسلك ، وعلى الفلك الأثير يستملك؟ أين الغد من الأمس ، وظلمة الغسق من وضح الشمس؟ ولو لا ثقتي بغمام فضلك الصّيّب ، لتمثلت لنفسي بقول أبي الطيب (٢) : [الطويل]

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق

أراه غباري ثم قال له ألحق (٣)

فإن رضيت أيها العلم ، فما لجرح إذا أرضاكم. ألم تر كيف أجاري أعوج بمغرب أهوج وأجاري ذا العقال بجحش في عقال؟ ظهر بهذه الظّلمة ، ذلك الضياء ، وبضدّها تتبين الأشياء. وما يزكو بياض العاج حتى يضاف إلى سواد الأبنوس. ألفاظ تذوب رقّة ، وأغراض تملك حبّ الكريم ورقّة الزّهر ، والزّهر بين بنان وبيان ، والدرّ طوع لسان وإحسان : [الوافر]

وقالوا ذاك سحر باهليّ (٤)

فقلت وفي مكان الهاء باء

وأما محاسن أبي الوليد ، فيقصر عنها أبو تمام وابن الوليد : [المتقارب]

معان لبسن ثياب الجمال

وهزّت لها الغانيات القدودا

كسون عبيدا ثياب عبيد

وأضحى لبيد لديها بليدا

وكيف أعجب من إجرائك لهذه الجياد ، وأياديك من إياد؟ أورثت هذه البراعة المساعدة ، عن قسّ بن ساعدة؟ أجدّك أنت الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أورق ، وهو يقول أيها الناس : مطر ونبات ، وآباء وأمهات ، إلى قوله : [مجزوء الكامل]

في الذاهبين الأوّلي

ن من القرون لنا بصائر

__________________

(١) قوله : «كلّ الصّيد في جوف الفرا» مثل يضرب لمن يفضّل على أقرانه. والفرا : الحمار الوحشي ، وجمعه فراء. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ١٣٦).

(٢) هو بيت من قصيدة مؤلفة من ٤٣ بيتا ، وهو في ديوان المتنبي (ص ٣٦٢).

(٣) يقول : إذا أراد سيف الدولة أن يسخر بأحمق من الشعراء أراه أثر المتنبي ، ثم أمره أن يلحق به ، لأنه لا يقدر على ذلك. والغبار واللحاق استعارة من سباق الخيل.

(٤) في الأصل : «بأهلي».

٢١٢

لمّا رأيت موارد

للموت ليس لها مصادر

أيقنت أنّي لا محا

لة حيث صار القوم صائر

إيه بغير تمويه. رجع الحديث الأول إلى ما عليه المعوّل. سألتني ، أيها السيد الذي يجب إسعافه ، أن أرغم أنف القلم حتى يجري رعافه ، وأن أكحّل جفون الأوراق بمداد الأقلام ، وأن أجمع الطّروس والأمدّة (١) ، بين إصباح وإظلام ، وأطرّز بياض السّوسن بخضرة الآس ، وأبرز العلم الأبيض تحت راية بني العباس ، فقلت مبادرا ممتثلا ، وجلت في ميدان الموافقة متمثّلا : [البسيط]

لبّيك لبّيك أضعافا مضاعفة

إنّي أجبت ولكن داعي الكرم

أتى من المجد أمر لا مردّ له

أمشي على الرأس فيه لا على القدم

دعاء والله مجاب ؛ ونداء ليس دونه حجاب : [المتقارب]

كتبت ولو أني أستطيع

لإجلال قدرك بين البشر

قددت البراعة من أنملي

كأنّ (٢) المداد سواد البصر

نعم أجزت ، سيدي الفقيه الأجل ، الخطيب الأكرم ، العالم العلم ، الأوحد الأكمل ، الحسيب الأحفل الأطول ، أبا الوليد بن الفقيه الأجل ، المعظم الموقر ، المكرم المبارك الأظهر ، المرحوم أبي زكريا يحيى بن سعيد بن قتري الأيادي القرموني ، ونبيه السّادات النجباء المباركين ، أبا القاسم أحمد ، وأبا إسحاق إبراهيم ، وأبا الحسين بتزيا. ونعمت الأغصان والشجرة ، والأقنان والثمرة ، أقرّ الله بهم أعين المجد ، ولا زالوا بدورا في مطالع السّعد ، ولا برحوا في مكارم يجنون نوّارها ، ويجتلون أنوارها ، وتفيض عليهم يد العناية الإلهية ، نهرها الكوثري ونهارها ، جميع ما رويته قراءة وسماعا ، وإجازة ومناولة ، من العلوم على اختلافها ، وتباين أصنافها ، بأي وجه رويته ، وعلى أي وصف تقلّدته ودريته ، وكذلك أجزتهم جميع ما قلته وأقوله ، من مسطور ومرسوم ، ومنثور ومنظوم ، وتصرّفت فيه من منقول ومفهوم ، وقصائدي المسماة بالرّوحانيات ، ومعشّراتي الحبيبات ، وما نظمته من الوتريات ، وشرحي لشعر أبي الطيب المسمى ب «ظهور الإعجاز بين الصدور والأعجاز» ، وكتابي المسمى «شمس البيان في لمس البنان» ، والزهرة الفائحة في الزّهرة اللائحة ، ونفح

__________________

(١) الطروس : جمع طرس وهو الصحيفة. والأمدّة : سدى الغزل والمساك في جانبي الثوب إذا ابتدئ به ، والمراد هنا : الحبر ، مفردها : مداد. لسان العرب (طرس) و (مدد).

(٢) في الأصل : «وكأن» وكذا ينكسر الوزن ، لذا حذفت الواو.

٢١٣

الكمامات في شرح المقامات ، واقتراح المتعلمين في اصطلاح المتكلمين ، وكتاب التّصوّر والتصديق ، في التوطية لعلم التحقيق ، ورقم الحلل ، في نظم الجمل ، ومفتاح الإحسان ، في إصلاح اللسان. وما أنشأته من السلطانيات نظما ونثرا ، وخطابة وشعرا. والله تعالى يجعل أعمالنا خالصة لوجهه بمنّه وكرمه ، فليقل الفقيه الأجل ، وبنوه الأكرمون ، رضي الله عنهم ، أنبأنا وأخبرنا وحدّثنا ، أو ما شاءوا من ألفاظ الرواية ، بعد تحري الشروط المرعيّة ، في الإجازات الشرعية ، وإن ذهبوا حفظ الله كمالهم ، وأراهم في الدارين آمالهم ، إلى تسمية من لي من المشايخ ، قدّس الله أرواحهم ، وزحزح عن النار أشباحهم :

فمنهم الأستاذ الخطيب الكبير ، العالم الفاضل الجليل ، البقيّة الصالحة ، آخر الأدباء ، وخاتمة الفضلاء ، أبو جعفر أحمد بن يحيى بن إبراهيم الحميري القرطبي الدّار ، رضي الله عنه. قرأت عليه بقرطبة شعر أبي الطيب قراءة فهم لمعانيه ، وإعراب لألفاظه ؛ وتحقيق للغته ، وتنقير عن بديعه. وكذلك قرأت عليه أكثر شعر أبي تمام. وسمعت عليه كتاب الكامل لأبي العباس المبرّد ، ومقامات التميمي ، كان يرويها عن منشئها ، وكانت عنده بخط أبي الطاهر. وتفقهت عليه «تبصرة الضمري». وكان على شياخته ، رحمه الله ، ثابت الذهن ، مقبل الخاطر ، حافظ المعيّا : [الوافر]

يروع ركانة ويذوب ظرفا

فما تدري أشيخ أم غلام

نأتيه بمقاطيع الشعر فيصلحها لنا. ويقف على ما نستحسنه منها ، فنجده أثبت منّا ، ولقد أنشدته يوما ، في فتى مفقود العين اليسرى : [الكامل]

لم تزو إحدى زهرتيه ولا انثنت

عن نورها وبديع ما تحويه

لكنه قد رام يغلق جفنه

ليصيب بالسّهم الذي يرميه

فاستفادهما وحفظهما ، ولم يزل ، رحمه الله ، يعيدهما مستحسنا لهما ، متى وقع ذكرى. وكان يروي عن الإمام المازري بالإجازة ، وعن القاضي أبي مروان بن مسرّة ، وعن الأستاذ عباس ، وعن أبي عبد الله بن أبي الخصال.

ومنهم الفقيه الأجل العالم العدل ، المحدّث الأكمل ، المتفنن ، الخطيب ، القاضي أبو محمد بن حوط الله. سمعت عليه كتبا كثيرة بمالقة ، بقراءة الفقيه الأستاذ أبي العباس بن غالب ، ولقيته بقرطبة أيضا ، وهو قاضيها. وحدّثني عن جدّي ، وعن جملة شيوخ ، وله برنامج كبير ، وأخوه القاضي الفاضل أبو سليمان أيضا منهم.

٢١٤

ومنهم الفقيه الأجلّ ، العالم العلم ، الأوحد ، النحوي ، الأديب المتفنن ، أبو علي عمر بن عبد المجيد الأزدي ، قرأت عليه القرآن العزيز مفردات ، وكتاب الجمل ، والإيضاح ، وسيبويه تفقها ، وكذلك الأشعار السّتة تفقها ، وما زلت مواظبا له إلى أن توفي رحمه الله. وكان فريد عصره في الذكاء والزكا. ولم يكن في حلبة الأستاذ أبي زيد السّهيلي أنجب منه على كثرتهم. وقد قال الأستاذ أبو القاسم السهيلي للإمام المنصور ، رضي الله : هو أقعد لكتاب سيبويه منّا. وقال لي يوما ، وقد نظر إلى طالب يصغي بكليته إلى ثان ، فقلت : ما ذا؟ فقال : إنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ ، فقلت له : ويعيد الصّبح ليلا مدلهمّ ، فاستحسنه.

ومنهم الفقيه الأجلّ ، الأديب الأريب الكامل ، اللغوي الشهير ، أبو علي ابن كسرى الموري ، قريبي ومعلّمي. وكان من طلبة أبي القاسم السّهيلي ، وممن نبغ صغيرا. وهو الذي أنشد في طفولته السيد أبا إسحاق الكبير بإشبيلية : [الكامل]

قسما بحمص (١) وإنه لعظيم

فهي المقام وأنت إبراهيم

وكان بالحضرة الأستاذ أبو القاسم السهيلي ، فقام عند إتمامه القصيدة ، فقال : لمثل هذا كنت أحسيك الحسا ، ولمثل هذا كنت أواصل في تعليمك الإصباح والإمساء. وقد أنشد هذا لأمير المؤمنين أبي يعقوب (٢) ، رضي الله عنه : [الطويل]

أمعشر أهل الأرض بالطّول والعرض

بهذا أنادي في القيامة والعرض

فقد قال الله فيك ما أنت أهله

فيقضى بحكم الله فيك بلا نقض

فإياك يعنى ذو الجلال بقوله

كذلك مكّنّا ليوسف في الأرض

ومنهم الفقيه الأجل ، العالم المحدّث ، الحافظ الفاضل المؤثر ، السيد أبو محمد القرطبي ، قرأت عليه القرآن بالروايات مفردات ، وتفقهت في الجمل والأشعار ، وأجازني جميع ما رواه. وكذلك فعل كل واحد ممن تقدّم ذكره. وكان ، رحمه الله ، آخر الناس علما ونزاهة وحسن خلق ، وجمال سمت وأبهة ووقار ، وإتقان وضبط ، وجودة وحفظ.

__________________

(١) حمص هنا هي إشبيلية ، وقد سميت إشبيلية بحمص لشبهها بها.

(٢) هو أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي ، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة ٥٥٨ ه‍ إلى سنة ٥٨٠ ه‍. ترجمته في البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٨٣ ، ١٣٠) والحلل الموشيّة (ص ١١٩).

٢١٥

ومنهم الفقيه الأجل ، الحاج الفاضل ، الشّهيد في كائنة العقاب (١) ، المحدّث الورع ، الزاهد الطاهر ، أبو عبد الله بن حسين بن صاحب الصلاة الأنصاري ، وعليه كان ابتدائي للقراءة ، وكان مبارك التعليم ، حسن التفهيم ، شديد التواضع.

ومنهم الفقيه الأجل الفاضل الورع ، المحدث ، الحاج الملهم ، المجاب الدعوة ، الميمون النّقيبة ، الأوّاب ، أبو الحجاج بن الشيخ ، رضي الله عنه. وهذا الكتاب على الإطالة مني ، ولكن القرطاس فنّي ، والسلام الأتمّ عليكم ، ورحمة الله وبركاته. قال ذلك ، وكتبه العبد المعترف بذنبه ، الراجي رحمة ربّه ، محمد بن عبد الله الحميري ثم الإستجي ، في أواسط شعبان المكرم من عام أحد وأربعين وستمائة.

وفاته : من خطّ الوزير أبي محمد عبد المنعم بن سماك ، قال : قدم غرناطة ، أظنّ سنة تسع وثلاثين وستمائة ، وشكى علّة البطن مدة ثمانية أشهر بدار أبي ، رحمه الله ، مرّضناه الثلاثة الأخوة ، إلى أن توفي ، رحمه الله ، ودفن بمدفنه ، مغنى الأدب ، بروضة الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك.

محمد بن أحمد بن علي الهوّاري (٢)

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن جابر ، من أهل ألمريّة.

حاله : رجل (٣) كفيف البصر ، مدلّ على الشعر ، عظيم الكفاية والمنّة على زمانته (٤). رحل إلى المشرق ، وتظافر (٥) برجل من أصحابنا يعرف بأبي جعفر الإلبيري ، صارا روحين في جسد ، ووقع الشّعر منهما بين لحيي أسد ، وشمّرا (٦) للكدية ، فكان وظيف الكفيف النّظم ، ووظيف (٧) البصير الكتب ، وانقطع الآن

__________________

(١) كانت وقعة العقاب في منتصف شهر صفر سنة ٦٠٩ ه‍ ، بين الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين ، فكانت السبب في هلاك الأندلس. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٦٣) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٤٩).

(٢) ترجمة ابن جابر الهواري في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٥٥).

(٣) النص في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٥٥).

(٤) الزمانة : العاهة الدائمة. لسان العرب (زمن).

(٥) في النفح : «وتظاهر».

(٦) في النفح : «وشمّر للعلم وطلبه ، فكان وظيفة الكفيف ...».

(٧) في النفح : «ووظيفة».

٢١٦

خبرهما. وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه (١) : محسوب من طلبتها الجلّة ، ومعدود فيمن طلع بأفقها من الأهلّة ، رحل إلى المشرق ، وقد أصيب ببصره ، واستهان في جنب الاستفادة (٢) بمشقّة سفره ، على بيان عذره ، ووضوح ضرّه.

شعره : وشعره كثير ، فمنه قوله (٣) : [الطويل]

سلو مسرّ (٤) ذاك الخال في صفحة الخدّ

متى رقموا بالمسك في ناعم الورد

ومن هزّ (٥) غصن القدّ منها لفتنتي

وأودعه رمّانتي ذلك النّهد

ومن متّع (٦) القضب اللّدان بوصلها (٧)

إلى أن أعرن (٨) الحسن من ذلك القدّ

فتاة تفتّ القلب مني بمقلة

له رقّة الغزلان في سطوة الأسد

تمنّيت أن تهدي إليّ نهودها

فقالت رأيت البدر يهداه أو يهدي

فقلت وللرّمان (٩) بدّ من الجنى

فتاهت وقالت باللّواحظ لا الأيدي

فقلت أليس القلب عندك حاصلا (١٠)؟

فقالت (١١) قلوب الناس كلّهم عندي

وقلت (١٢) اجعليني من عبيدك في الهوى

فقالت كفاني كم لحسني من عبد

إذا شئت أن أرضاك عبدا فمت جوى (١٣)

ولا تشتكي (١٤) واصبر على ألم الصّدّ

ألم تر النّحل يحمل ضرّها

لأجل الذي تجنيه من خالص الشهد؟

كذلك بذل النّفيس سهل لذي النّهى

لما يكسب الإنسان من شرف الحمد

ألست ترى كفّ ابن جانة طالما (١٥)

أضاع كريم المال في طلب المجد

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٥٦).

(٢) في النفح : «الإفادة».

(٣) القصيدة في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٥٦ ـ ١٥٧).

(٤) في النفح : «حسن».

(٥) في الأصل : «هو» والتصويب من النفح.

(٦) في الأصل : «ومز متى» ولا معنى له ، وقد صوبناه من النفح.

(٧) في النفح : «بوصفها».

(٨) في الأصل : «أعزر» ولا معنى له ، والتصويب من النفح.

(٩) في النفح : «أللرمّان».

(١٠) في الأصل : «فقلت ليس للقلب عندك حاصل» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١١) في الأصل : «وقالت» والتصويب من النفح.

(١٢) في النفح : «فقلت».

(١٣) في الأصل : «هوى» والتصويب من النفح.

(١٤) في الأصل : «ولا تشكي» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١٥) في الأصل : «... ترى أزجاته طالما» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

٢١٧

ومن شعره أيضا قوله (١) : [الكامل]

عرّج على بان العذيب وناد

وأنشد فديتك أين (٢) حلّ فؤادي

وإذا مررت على المنازل بالحمى

فاشرح هنالك لوعتي وسهادي

إيه فديتك يا نسيمة خبّري

أرب (٣) الأحبّة والحمى والوادي

يا سعد ، قد بان العذيب وبانه

فانزل فديتك قد بدا إسعادي

خذ في البشارة مهجتي يوما إذا

بان العذيب ونور حسن سعاد (٤)

قد صحّ عيدي يوم أبصر حسنها

وكذا الهلال علامة الأعياد

وممّا نقلناه من خبر قيّده لصاحبنا الفقيه الأستاذ أبي علي منصور الزواوي ، وممّا ادعاه لنفسه (٥) : [الوافر]

عليّ لكلّ ذي كرم ذمام

ولي بمدارك المجد اهتمام

وأحسن ما لديّ لقاء حرّ

وصحبة (٦) معشر بالمجد هاموا (٧)

وإني حين أنسب من أناس

على قمم النجوم لها (٨) مقام

يميل بهم إلى المجد ارتياح

كما مالت بشاربها المدام (٩)

هم لبسوا أديم الليل (١٠) بردا

ليسفر من مرادهم (١١) الظلام

هم جعلوا متون العيس (١٢) أرضا

فمذ عزموا الرّحيل فقد أقاموا (١٣)

فمن كلّ البلاد لنا ارتحال

وفي كلّ البلاد لنا مقام

وحول موارد العلياء منها (١٤)

لنا مع كلّ ذي شرف زحام

تصيب سهامنا غرض المعالي

إذا ضلّت عن الغوص (١٥) السّهام

__________________

(١) الأبيات في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٥٧).

(٢) في الأصل : «إن» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٣) في النفح : «كيف».

(٤) في الأصل : «ونوّر حسنه سعادي» ، وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٥) القصيدة في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٥٧ ـ ١٥٨).

(٦) في الأصل : «وصحبته معشر» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٧) في الأصل : «هام» والتصويب من النفح.

(٨) في النفح : «لهم».

(٩) في الأصل : «بشارتها المرام» ، والتصويب من النفح.

(١٠) في الأصل : «القيل» والتصويب من النفح.

(١١) في النفح : «عن أديمهم».

(١٢) في الأصل : «العيش» والتصويب من النفح.

(١٣) في الأصل : «أقام» والتصويب من النفح.

(١٤) في النفح : «منّا».

(١٥) في النفح : «الغرض».

٢١٨

وليس لنا من المجد اقتناع

ولو أنّ النجوم لنا خيام (١)

ننزّه عرضنا عن كل لوم

فليس يشين سؤددنا ملام

ونبذل لا نقول العام ما ذا

سواء كان خصب أو حطام

إذا ما المحل عمّ بلاد قوم

أثبناها فجاد بنا الغمام

وإن حضر الكرام ففي يدينا

ملاك أمورهم ولنا الكلام

وفينا المستشار بكل علم

ومنّا اللّيث والبطل الهمام

فميدان الكلام لنا مداه

وميدان الحروب بنا يقام

كلا الأمرين ليس له بقوم

سوانا يوم نازلة تمام

يريق دم المداد بكل طرس

وليس سوى اليراع لنا سهام

وكتب بالمثقّفة العوالي

بحيث الطّرس لبّات وهام

إذا عبست وجوه الدهر منّا

إليها فانثنت ولها انتقام

لقد علمت قلوب الرّوم أنّا

أناس ليس يعوزنا مرام

وليس يضيرنا أنا قليل

لعمر أبيك ما كثر الكرام

إذا ما الرّاية الحمراء هزّت

نعم فهناك للحرب ازدحام

وما أحمرّت سدى بل من دماء

ليس على جوانبها انسجام

تظلّل من بني نصر ملوكا

حلال النّوم عندهم حرام

فكم قطعوا الدّجى في وصل مجد

وكم سهروا إذا ما الناس ناموا (٢)

أبا الحجاج لم تأت الليالي

بأكرم منك إن عدّ الكرام

ولا حملت ظهور الخيل أمضى

وأشجع منه إن هزّ الحسام

وأنّى جئت من شرق لغرب

ورمت بي الزمان كما ترام

وجرّبت الملوك وكل شخص

تحدّث عن مكارمه الأنام

فلم أر مثلكم يا آل نصر

جمال الخلق والخلق العظام

ومنها :

لأندلس بكم شرف وذكر

تودّ بلوغ أدناه الشّآم

سعى صوب الغمام بلاد قوم

هم في كل مجدبة غمام

__________________

(١) في الأصل : «قيام» والتصويب من النفح.

(٢) في الأصل : «نام».

٢١٩

إليك بها مهذّبة المعاني

يرينها ابتسام وانتظام

لها لجناب مجدكم انتظام

طواف وفي أركان إسلام

نجزت وما كادت ، وقد وطي الإيطاء صروحكم ، وأعيا الإكثار حارثها وسروجها ، والله وليّ التّجاوز بفضله.

محمد بن أحمد بن الحدّاد الوادي آشي (١)

يكنى أبا عبد الله.

حاله : شاعر (٢) مفلق ، وأديب شهير ، مشار إليه في التعاليم ، منقطع القرين منها في الموسيقى ، مضطلع بفكّ المعمّى. سكن ألمريّة ، واشتهر بمدح رؤسائها من بني صمادح. وقال ابن بسّام : كان (٣) أبو عبد الله هذا شمس ظهيرة ، وبحر خبر وسيرة ، وديوان تعاليم مشهورة ، وضح في طريق المعارف وضوح الصّبح المتهلّل ، وضرب فيها بقدح ابن مقبل (٤) ، إلى جلالة مقطع ، وأصالة منزع ، ترى العلم ينمّ على أشعاره ، ويتبيّن في منازعه وآثاره.

تواليفه : ديوان (٥) شعر (٦) كبير معروف. وله في العروض تصنيف (٧) ، مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية ، والآراء الجليلة.

بعض أخباره : حدّث (٨) بعض المؤرخين ممّا يدلّ على ظرفه أنه فقد سكنا (٩) عزيزا عليه ، وأحوجت الحال (١٠) إلى تكلّف سلوة ، فلمّا حضر الندماء ، وكان قد رصد الخسوف بالقمر (١١) ، فلمّا حقّق أنه قد (١٢) ابتدأ ، أخذ العود

__________________

(١) ترجمة ابن الحداد في مقدمة ديوان ابن الحداد الأندلسي ، بقلمنا ، وفيها ثبت بأسماء المصادر والمراجع التي ترجمت له.

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٩ ص ٢٥٢).

(٣) النص في الذخيرة (ق ١ ص ٦٩١ ـ ٦٩٢) ومسالك الأبصار (ج ١١ ، الورقة ٤٠١).

(٤) هو أبو كعب تميم بن أبيّ بن مقبل ؛ شاعر خنديد ، كان من أوصف العرب لقدح ، ولذلك يقال : قدح ابن مقبل. توفي بعد ٣٧ ه‍. الشعر والشعراء (ص ٣٦٦) وطبقات الشعراء (ص ٦١) والأعلام (ج ٢ ص ٨٧).

(٥) النص في نفح الطيب (ج ٩ ص ٢٥٢).

(٦) في النفح : «شعره».

(٧) في النفح : «تصنيف مشهور مزج فيه من الألحان الموسيقية والآراء الخليلية».

(٨) النص في نفح الطيب (ج ٩ ص ٢٥٣).

(٩) السّكن : المرأة لأنها يسكن إليها ، والساكن. لسان العرب (سكن).

(١٠) في النفح : «الحاجة».

(١١) في النفح : «القمري».

(١٢) كلمة «قد» ساقطة في النفح.

٢٢٠