الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

من توقّلكم بالرّتبة التي ما زال أحبّاؤكم بها ممطولي برّه ، على أنك لم تزد بذلك رتبة على ما كنت باعتبار الأهليّة ، والمكانة العليّة ، إلّا عند الأطفال والأغفال ، والمحلّقين من النساء والرجال ، لكن أفزعتنا هذه المخاطبة المحظيّة في قالب الجمهور ، ولم نسر فيها ، على الأصح ، لكن على الجمهور ، ولو كانت مصارف الوجود بيدي ، لوافتك من الوجود منازل أسمائه منازل ، وأوطأتك أفلاكه مراكب ، وأوردتك كوثره مشربا ، وأحللتك أرفعه معقلا ، وأقبستك بدره مصباحا ، وأهدتك أسراره تحفا. وقد تبلغ المقاصد مبالغ لا تنتهي أقاصيها الأعمال ، فنحن وما نضمره لتلك الجملة الجليلة الفاضلة ، مما الله رقيب عليه ، ومحيط بدقائقه. ولو كانت لهذا العبد الغافل ، المأسور في قيد نفسه ، المحزون على انتهاب الأيام ، رأس عمره في غير شيء ، دعوة يساعدها الوجد حتى يغلب على ظنّه أن العليم بذات الصدور ، ولّاها من قبوله بارقة لخصّك بها ، والله شهيد على ما تكنّه الأفئدة ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

والفضل جمّ ، والمحاسن عديدة ، فلنقصر اضطرارا ، ولنكفّ امتثالا للرسم ، وانقيادا ، أمتع الله به.

محمد بن عبد الله بن منظور القيسي (١)

من أهل مالقة ، يكنى أبا بكر.

أوّليّته : أصله (٢) من إشبيلية ، من البيت المشهور بالتّعيين والتقدّم ، والأصالة ، تشهد بذلك جملة أوضاع ، منها «الرّوض المحظور (٣) في أوصاف بني منظور» ، وغيره.

حاله : من كتاب «عائد الصلة». كان (٤) جمّ التواضع والتخلّق ، كثير البرّ ، مفرط الهشّة ، مبذول (٥) البشر ، عظيم المشاركة ، سريع اللسان إلى الثّناء ، مسترسلا في باب الإطراء ، دربا على الحكم ، كثير الحنكة ، قديم العالة ، بصيرا بالشّروط ، ولّي القضاء بجهات كثيرة ، وتقدم بمالقة ، بلده فشكرت (٦) سيرته ، وحمدت مدارته. وكان سريع

__________________

(١) ترجمة ابن منظور في الكتيبة الكامنة (ص ١١٩) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ٣٧) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٢). وجاء في المصدر الأخير أنه «أبو بكر محمد بن عبيد الله بن محمد بن يوسف بن يحيى بن عبيد الله بن منظور ...».

(٢) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٢).

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس : «المنظور».

(٤) النص في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٢).

(٥) في تاريخ قضاة الأندلس : «مبدول» بالدال المهملة.

(٦) في المصدر نفسه : «فحمدت سيرته ، وشكرت طريقته ...».

١٠١

العبرة ، كثير الخشية ، حسن الاعتقاد ، معروف الإيثار والصّدقة ، شائع الإقراء لمن ألمّ بصقعه ، واجتاز على محلّ ولايته ، جاريا على سنن سلفه ، ينظم وينثر ، فلا يقصر.

مشيخته : قرأ (١) على الأستاذ أبي محمد بن أبي السّداد الباهلي ، ولازمه وانتفع به ، وسمع على غيره من الأعلام ، كالخطيب الولي أبي عبد الله الطّنجالي ، والعدل الراوية المسنّ أبي عبد الله بن الأديب ، والمسن أبي الحكم مالك بن المرحّل ، وعلى الشيخ الصوفي أبي عبد الله محمد بن أحمد الأقشري الفاسي ، ولبس عنه خرقة التّصوف ، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد ، وعن الشيخ القاضي أبي المجد بن الأحوص ، وعلى ابن مجاهد الرّندي ، المعروف بالسّمّار ، والخطيب أبي العباس بن خميس بالجزيرة الخضراء ، وعلى الخطيب الزاهد أبي عبد الله السلّال. وكتب إليه بالإجازة ، أبو عبد الله بن الزبير ، والفقيه أبو الحسن بن عقيل الرّندي ، والوزير المعمّر أبو عمر (٢) الطّنجي ، وأبو الحكم بن منظور ، ابن عم أبيه ، والأستاذ أبو عبد الله بن الكماد. نقلت ذلك من خطه.

تواليفه : أخبرني (٣) أنه ألّف «نفحات المسوك (٤) ، وعيون التّبر المسبوك في أشعار الخلفاء والوزراء والملوك». وكتاب «السّحب (٥) الواكفة والظلال الوارفة ، في الردّ على ما تضمّنه المضنون (٦) به على غير أهله من اعتقاد الفلاسفة». وكتاب الصّيّب الهتّان ، الواكف بغايات الإحسان ، والمشتمل على أدعية مستخرجة من الأحاديث الصحيحة النبوية وسور القرآن». وكتاب «البرهان والدليل في خواص سور التّنزيل ، وما في قراءتها في النوم من بديع التأويل (٧)». وكتاب يشتمل على أربعين حديثا في الرقائق ، موصولة الأسانيد. وكتاب «تحفة الأبرار في مسألة النبوة والرسالة ، وما اشتملت عليه من الأسرار». وكتاب «الفعل المبرور ، والسّعي المشكور ، فيما وصل إليه ، أو تحصل لديه من نوازل القاضي أبي عمر بن منظور».

شعره : ومن شعره قوله (٨) : [البسيط]

ما للعطاس ولا للفأل من أثر

فثق فديتك (٩) بالرحمن واصطبر

__________________

(١) النص أيضا في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٢) ، ولكن باختصار.

(٢) في المصدر نفسه : «أبو عمرو».

(٣) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٢).

(٤) في تاريخ قضاة الأندلس : «النسوك».

(٥) في المصدر نفسه : «السجم».

(٦) في المصدر نفسه : «المظنون به من اعتقادات الفلاسفة».

(٧) وقوله : «وما في قراءتها ... التأويل» ساقط في تاريخ قضاة الأندلس.

(٨) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ١١٩) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٩٢).

(٩) في تاريخ قضاة الأندلس : «بدينك».

١٠٢

وسلّم الأمر فالأحكام ماضية

تجري على السّنن (١) المربوط بالقدر

محمد بن علي بن الخضر بن هارون الغساني

من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن عسكر (٢).

حاله : من كتاب «الذّيل والتكملة» (٣) : كان مقرئا (٤) مجوّدا ، نحويا (٥) ، متوقّد الذهن ، متفنّنا في جملة معارف ، ذا حظّ صالح من رواية الحديث ، تاريخيا ، حافظا ، فهيما (٦) ؛ مشاورا ، دؤوبا (٧) في الفتوى ، متينا في (٨) الدّين ، تامّ المروءة ، سنيّا فاضلا ، معظّما عند الخاصة والعامة ، حسن الخلق ، جميل العشرة ، رحيب (٩) الصّدر ، مسارعا إلى قضاء الحوايج (١٠) ، شديد الإجمال (١١) ، محسنا إلى من أساء إليه ، نفّاعا بجاهه ، سمحا بذات يده ، متقدّما في عقد الوثائق ، بصيرا بمعانيها ، سريع البديهة (١٢) في النظم والنثر ، مع البلاغة والإحسان في الفنّين.

ولّي قضاء مالقة نائبا عن القاضي (١٣) أبي عبد الله بن الحسن مدة ، ثم ولي (١٤) مستبدّا بتقديم الأمير أبي عبد الله بن نصر (١٥) ، يوم السبت لليلتين بقيتا من رمضان عام (١٦) خمسة وثلاثين (١٧). وأشفق (١٨) من ذلك وامتنع منه وخاطبه مستعفيا ، وذكر أنه لا يصلح للقيام بما قلّده من تلك الخطّة تورّعا منه ، فلم يسعفه.

__________________

(١) في الأصل : «السّنّ» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٢) ترجمة ابن عسكر في التكملة (ج ٢ ص ١٣٩) والذيل والتكملة (السفر السادس ص ٤٤٩) وبغية الوعاة (ص ٧٦) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٥٨) واختصار القدح المعلى (ص ١٣٠) والمغرب (ج ١ ص ٤٣١) ونفح الطيب (ج ٣ ص ١١١) و (ج ٤ ص ٤٧٨) و (ج ٦ ص ٨٤).

(٣) الذيل والتكملة (السفر السادس ص ٤٥٠).

(٤) في الأصل : «مغربا» والتصويب من الذيل والتكملة.

(٥) في الذيل : «نحويا ماهرا».

(٦) في الذيل : «فقيها».

(٧) في الذيل : «دربا بالفتوى».

(٨) في الذيل : «متين الدين».

(٩) في الذيل : «رحب».

(١٠) في الذيل : «حوائج الناس».

(١١) في الذيل : «الاحتمال».

(١٢) في الذيل : «سريع القلم والبديهة في إغشاء نظم الكلام ونثره».

(١٣) كلمة «القاضي» ساقطة في الذيل.

(١٤) في الذيل : «وليه».

(١٥) هو الغالب بالله أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر ، أول سلاطين بني نصر بغرناطة ، وقد حكم من سنة ٦٣٥ ه‍ ـ إلى سنة ٦٧١ ه‍ ـ. اللمحة البدرية (ص ٤٢).

(١٦) كلمة «عام» ساقطة في الذيل.

(١٧) في الأصل : «خمس وثلاثين» وهو خطأ نحوي. وفي الذيل : «خمس وثلاثين وستمائة».

(١٨) في الذيل : «فأشفق».

١٠٣

فتقلّدها ، وسار فيها أحسن سيرة ، وأظهر الحقوق التي كان الباطل قد غمرها ، ونفّذ الأحكام.

وكان ماضي العزيمة ، مقداما ، مهيبا ، جزلا في قضائه ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، واستمرّ على ذلك بقية عمره.

مشيخته : روى (١) عن أبي إسحاق الزّوالي ، وأبي بكر بن (٢) عتيق بن منزول (٣) ، وأبي جعفر الجيان (٤) ، وأبي حسن الشقوري ، وأبي الحجاج بن الشيخ ، وأبي الخطّاب بن واجب ، وأبي زكريا الأصبهاني مقيم غرناطة.

من روى عنه : روى (٥) عنه أبو بكر بن خميس ابن أخته ، وأبو العون (٦) ، وأبو عبد الله بن بكر الإلبيري (٧). وحدّث عنه بالإجازة ، أبو عبد الله الأبّار (٨) ، وأبو القاسم بن عمران ، وكتب بالإجازة للعراقيين من (٩) أهل بغداد الذين استدعوها من أهل الأندلس ، حسبما تقدم (١٠) في رسم أبي بكر بن هشام ، وضمنها نظما ونثرا اعترف له بالإجادة فيهما.

تصانيفه : صنّف (١١) كتبا كثيرة ، أجاد فيها وأفاد ، منها «المشرع الرّوي في الزيادة على المروي (١٢)». ومنها «أربعون حديثا» التزم فيها موافقة اسم شيخه ، اسم الصابي (١٣) ، وما أراه سبق إلى ذلك ، وهو شاهد بكثرة شيوخه ، وسعة روايته. ومنها «نزهة الناظر في مناقب عمّار بن ياسر». ومنها «الخبر (١٤) المختصر ، في السّلوى (١٥) عن ذهاب البصر» ، ألّفه لأبي محمد بن أبي الأحوص (١٦) الضرير الواعظ. ومنها

__________________

(١) النص في الذيل : (السفر السادس ص ٤٤٩).

(٢) كلمة «بن» غير واردة في الذيل.

(٣) في الذيل : «قنترال».

(٤) في الذيل : «الجيار».

(٥) ما يزال النقل عن الذيل والتكملة (السفر السادس ص ٤٤٩).

(٦) في الذيل : «وابن أبي العيون».

(٧) في الذيل : «وأبو عبد الله بن أبي بكر البري».

(٨) في الذيل : «ابن الأبار».

(٩) كلمة «من» غير واردة في الذيل.

(١٠) في الذيل : «تقدم ذكره».

(١١) ما يزال النقل مستمرا عن الذيل (ج ٦ ص ٤٥٠).

(١٢) في الذيل : «على غريبي الهروي».

(١٣) في الذيل : «الصحابي».

(١٤) في الذيل : «الجزء».

(١٥) في الذيل والتكملة وتاريخ قضاة الأندلس : «السّلوّ».

(١٦) في الذيل : «خرص».

١٠٤

«رسالة في ادّخار الصبر ، وافتخار القصر والفقر». ومنها «الإكمال والإتمام في صلة الإعلام بمجالس (١) الأعلام من أهل مالقة الكرام». وله اسم آخر ، وهو «مطلع الأنوار ونزهة الأبصار (٢) ، فيما احتوت عليه مالقة من الرؤساء والأعلام والأخيار ، وتقيّد من المناقب والآثار». واخترمته المنيّة عن إتمامه فتولّى إتمامه ابن أخته أبو بكر محمد بن خميس المذكور ، وقد نقلت منه في هذا الكتاب.

شعره : ومن شعره ، وقد نعيت إليه نفسه قبل أن تغرب من سماء معارفه شمسه (٣) : [الطويل]

ولما انقضى (٤) إحدى وخمسون حجّة

كأنّي منها بعد كرب (٥) أحلم

ترقّيت أعلاها لأنظر فوقها

مدى (٦) الحتف منّي علّني (٧) منه (٨) أسلم

إذا هو قد أدنت إليه كأنما

ترقّيت فيه نجوة وهو سلّم (٩)

وقال في أحدب : [السريع]

وأحدب تحسب في ظهره

جاء (١٠) به في نهر عائمة

مثلّث الخلقة لكنّه

في ظهره زاوية قائمة

ومن أمثال نظمه قوله ، وقد استدعيت منه إجازة (١١) : [الطويل]

أجبتك لا أني (١٢) لما رمته أهل

ولكنّ ما أجبت (١٣) محتمل سهل

وما العلم إلّا البحر طاب مذاقه

وما لي علّ في الورود ولا نهل (١٤)

__________________

(١) في الذيل : «بمحاسن».

(٢) في الذيل : «ونزهة البصائر والأبصار».

(٣) الأبيات في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٥٨).

(٤) في تاريخ قضاة الأندلس : «ولمّا انقضت».

(٥) في المصدر نفسه : «... منها ما تذكّرت أحلم».

(٦) في تاريخ قضاة الأندلس : «إلى».

(٧) في الأصل : «عليّ» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من تاريخ قضاة الأندلس.

(٨) في تاريخ : «منها».

(٩) رواية البيت في تاريخ قضاة الأندلس هي :

إذا هي قد أدنته مني كأنما

ترقيت فيها نحوه وهو سلّم

(١٠) في الأصل : «جابه» وهكذا ينكسر الوزن.

(١١) الأبيات في الذيل والتكملة (ج ٦ ص ٤٥١).

(١٢) في الأصل : «لأني» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذيل.

(١٣) في الذيل : «أحببت».

(١٤) رواية البيت في الأصل مضطرب ومنكسر الوزن هكذا :

١٠٥

فكيف (١) أراني أهل ذاك وقد أتى

عليّ المميتان (٢) البطالة والجهل

وأسأل (٣) ربي العفو عني فإنه

لما يرتجيه العبد من فضله (٤) أهل

مولده : تخمينا في نحو أربع وثمانين وخمسمائة.

وفاته : ظهر يوم الأربعاء لأربع خلون من جمادى الآخرة ، عام ستة وثلاثين وستمائة (٥).

محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن أحمد بن محمد

ابن أبي بكر بن سعد الأشعري المالقي (٦)

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن بكر ، من ذرية (٧) بلج بن يحيى بن خالد بن عبد الرحمن بن يزيد (٨) بن أبي بردة. واسمه عامر بن أبي عامر بن أبي موسى. واسمه عبد الله بن قيس ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن حزم (٩) في جملة من دخل الأندلس من العرب (١٠).

حاله : من «عائد الصلة» : كان (١١) من صدور العلماء ، وأعلام الفضلاء ، سذاجة ونزاهة ومعرفة وتفننا. فسيح الدرس ، أصيل النظر ، واضح المذهب ، مؤثرا

__________________

 ـ وما العلم إلّا بحر طال مدانه

وما لي محمّ في الورود ولا نهل

والتصويب من الذيل والتكملة.

(١) في الذيل : «وكيف».

(٢) في الأصل : «المحتيان» والتصويب من الذيل.

(٣) في الذيل : «فنسأل».

(٤) في الأصل : «فضل» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذيل.

(٥) كذا في التكملة (ج ٢ ص ١٤٠) والذيل والتكملة (ج ٦ ص ٤٥٢) وبغية الوعاة (ص ٧٦) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ١٥٩). وفي اختصار القدح المعلّى : «ومات بمالقة سنة ثمان وثلاثين وستمائة».

(٦) ترجمة محمد بن يحيى الأشعري في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٧٧) واللمحة البدرية (ص ٩٥ ، ١٠٤) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣٥٩) ونيل الابتهاج (ص ٢٣٤) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ٢٨٤).

(٧) في نفح الطيب : «من ذرية أبي موسى الأشعري».

(٨) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٣٧٨): «زيد».

(٩) هاء الضمير في كلمة «ذكره» يعود إلى عبد الله بن قيس الأشعري ، وقد ذكره ابن حزم في جمهرة أنساب العرب (ص ٣٩٧).

(١٠) في تاريخ قضاة الأندلس : «المغرب».

(١١) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٥٩ ـ ٣٦٠).

١٠٦

للإنصاف ، عارفا بالأحكام والقراءات (١) ، مبرّزا في الحديث تاريخا وإسنادا وتعديلا وتجريحا (٢) ، حافظا للأنساب والأسماء والكنى ، قائما على العربية ، مشاركا في الأصول والفروع ، واللغة والعروض والفرائض والحساب ، مخفوض الجناح ، حسن التخلق (٣) ، عطوفا على الطلبة ، محبّا في العلم والعلماء ، مجلّا لأهله (٤) ، مطّرح (٥) التصنّع ، عديم المبالاة بالملبس ، بادي الظاهر ، عزيز النفس ، نافذ الحكم ، صوّالة ، معروف بنصرة من أزر إليه. تقدّم للشياخة (٦) ببلده مالقة ، ناظرا في أمور العقد والحل ، ومصالح الكافة. ثم ولّي القضاء بها ، فأعزّ الخطة ، وترك الهوادة وإنفاد الحق (٧) ملازما للقراءة والإقراء ، محافظا للأوقات ، حريصا على الإفادة.

ثم ولّي القضاء (٨) والخطابة بغرناطة في العشر الأول لمحرم سبعة وثلاثين وسبعمائة ، فقام بالوظائف ، وصدع (٩) بالحق ، وجرّح (١٠) الشهود فزيّف منهم ما ينيف على السبعين (١١) عددا ، واستهدف بذلك إلى معاداة ومناضلة خاض ثبجها ، وصادم تيّارها ، غير مبال بالمغبّة ، ولا حافل بالتّبعة ، فناله لذلك من المشقّة ، والكيد العظيم ما نال مثله ، حتى كان (١٢) يمشي إلى الصلاة ليلا في مسلّة ، لا يطمئن على حاله. جرت في هذا الباب حكايات إلى أن استمرت الحال على ما أراده الله ، وعزم عليه الأمير في بعض من الخطّة ، ليردّه إلى العدالة ، فلم يجد في قناته مغمزا ، ولا في عوده معجما ، وتصدّر لبثّ العلم بالحضرة ، يقرئ فنونا منه جمّة ، فنفع وخرّج ، ودرّس العربية والفقه والأصول ، وأقرأ القرآن ، وعلم الفرائض والحساب ، وعقد مجالس الحديث شرحا وسماعا ، على سبيل من انشراح الصّدر ، وحسن التجمّل ، وخفض الجناح (١٣).

__________________

(١) في النفح : «والقراءة».

(٢) في النفح : «وجرحا».

(٣) في النفح : «الخلق».

(٤) قوله : «مجلّا لأهله» غير وارد في النفح.

(٥) في النفح : «مطرّحا للتصنع».

(٦) هذه الكلمة غير واردة في النفح.

(٧) في النفح : «وترك الشوائب ، وأنفذ الحقّ».

(٨) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٧٩): «ثم ولّي قضاء الجماعة ، فقام بالوظائف ...». وفي نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٦٠): «ثم ولّي القضاء بغرناطة المحروسة ، سنة ٧٣٧».

(٩) صدع بالحق : جهر به. لسان العرب (صدع).

(١٠) في النفح : «وبهرج».

(١١) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٧٩): «على الثلاثين عددا». وفي نفح الطيب : «على سبعين ، واستهدف ...».

(١٢) في النفح : «حتى كان لا يمشي إلى الصلاة ليلا ، ولا يطمئن ...».

(١٣) في النفح : «جناح».

١٠٧

وذكره القاضي المؤرخ أبو الحسن بن الحسن ، فقال (١) : وأما شيخنا ، وقريبنا مصاهرة ، أبو عبد الله بن أبي بكر ، فصاحب عزم ومضاء ، وحكم صادع وقضاء. كان له ، رحمه الله ، مع كل قولة صولة ، وعلى كل رابع لا يعرف ذرّة ، فأحرق قلوب الحسدة والصّب ، وأعزّ الخطّة بما أزال عنها من الشّوائب ، وذهّب وفضّض (٢) كواكب الحق بمعارفه ، ونفذ في المشكلات ، وثبت في المذهلات (٣) ، واحتج وبكّت ، وتفقّه ونكّت.

توقيعه : قال : وحدّثنا صاحبنا أبو جعفر الشّقوري قال (٤) : كنت قاعدا في مجلس حكمه فرفعت إليه امرأة رقعة ، مضمونها أنها محبّة في مطلّقها ، وتبتغي من يستشفع لها في ردّها ، فتناول الرّقعة ، ووقع في ظهرها للحين من غير مهلة : الحمد لله ، من وقف على ما بالمقلوب (٥) ، فليصغ لسماعه إصاغة مغيث ، وليشفع للمرأة عند زوجها ، تأسّيا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبربرة في مغيث. والله يسلم لنا العقل والدين ، ويسلك بنا مسالك المهتدين. والسلام يعتمد على من وقف على هذه الأحرف من كاتبها ، ورحمة الله. قال صاحبنا : فقال لي بعض الأصحاب : هلّا كان هو الشفيع لها؟ فقلت : الصحيح أنّ الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على النصوص (٦).

شعره : ولم يسمع له شعر إلّا بيتين في وصف قوس عربي النّسب في شعر من لا شعر له ، وهما : [البسيط]

هام الفؤاد ببنت (٧) النّبع والنّشم

زوراء (٨) تزري بعطف البان والصّنم

قوام قامتها تمام معطفها

من يلق مقتلها تصميه أو تصم

مشيخته : قرأ على الأستاذ المتفنّن الخطيب أبي محمد بن أبي السّداد الباهلي (٩) القرآن العظيم جمعا وإفرادا ، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث ، ولازمه ،

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٠). وهو لم يرد حرفيّا في تاريخ قضاة الأندلس ، وجاء فيه ما في معناه.

(٢) ذهّبها وفضّضها : جعلها ناصعة كالذهب والفضة.

(٣) في النفح : «المعضلات».

(٤) النص في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٢) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦١) ببعض اختلاف عما هنا.

(٥) في المصدرين السابقين : «القلوب ، فليصخ لسماعه». والمراد هنا بالمقلوب : ظهر الرّقعة.

(٦) في النفح : «المنصوص».

(٧) في الأصل : «في بنت» ، وهكذا ينكسر الوزن.

(٨) في الأصل : «زورا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٩) هو عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السّداد الأموي المالقي ، الشهير بالباهلي ، وسيترجم ـ

١٠٨

وتأدب به. وعلى الشيخ الراوية الصالح أبي عبد الله محمد بن عيّاش الخزرجي القرطبي ، قرأ عليه كثيرا من كتب الحديث ، منها كتاب صحيح مسلم ، وسمع عليه جميعه إلّا دولة واحدة. ومن أشياخه القاضي أبو القاسم قاسم بن أحمد بن حسن بن السّكوت ، والفقيه المشاور الصّدر الكبير أبو عبد الله بن ربيع ، والخطيب القدوة الولي أبو عبد الله بن أحمد الطّنجالي ، والشيخ القاضي أبو الحسن ابن الأستاذ العلّامة أبي الحجاج بن مصامد ، والأستاذ خاتمة المقرئين أبو جعفر بن الزّبير ، والخطيب المحدّث أبو عبد الله بن رشيد ، والخطيب الولي الصالح أبو الحسن (١) بن فضيلة ، والأستاذ أبو الحسن بن اللّباد المشرفي ، والشيخ الأستاذ أبو عبد الله بن الكماد السّطّي اللّبليسي. وأجازه من أهل سبتة شيخ الشّرفاء أبو علي بن أبي التّقى طاهر بن ربيع ، والعدل الراوية أبو فارس عبد العزيز بن الهواري ، وأبو إسحاق التلمساني ، والحاج العدل الراوية أبو عبد الله بن الحصّار ، والأستاذ المقرئ ابن أبي القاسم بن عبد الرحيم القيسي ، والأستاذ أبو بكر بن عبيدة ، والشيخ المعمر أبو عبد الله بن أبي القاسم بن عبيد الله الأنصاري. ومن أهل إفريقية الأديب المعمر أبو عبد الله محمد بن هارون ، وأبو العباس أحمد بن محمد الأشعري المالقي نزيل تونس ، ومحمد بن محمد بن سيّد الناس اليعمري ، وعثمان بن عبد القوي البلوي. ومن أهل مصر النّسابة شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطي ، والمحدّث الراوية أبو المعالي أحمد بن إسحاق ، وجماعة غيرهم من المصريين والشاميين والحجازيين.

مولده : في أواخر ذي حجة من عام أربعة (٢) وسبعين وستمائة.

وفاته : فقد في مصاب (٣) المسلمين يوم المناجزة بطريف (٤) شهيدا محرّضا ، زعموا أن بغلة كان عليها كبت به ، وأفاق رابط الجأش ، مجتمع القوى. وأشار عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يكن عنده قوة عليه. وقال : انصرف ، هذا يوم الفرج (٥) ،

__________________

ـ له ابن الخطيب في الجزء الثالث من الإحاطة.

(١) في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦١): «أبو الحسين».

(٢) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٤): «ومولده في أواخر شهر ذي الحجة من عام ٦٧٣».

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٣): «مصافّ».

(٤) موقعه طريف : هي الموقعة الشهيرة التي كانت بين الإسبان وبني مرين ، وكان مع بني مرين قوات الأندلس بقيادة السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري ، سنة ٧٤١ ه‍ ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين. اللمحة البدرية (ص ١٠٥).

(٥) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٨٤) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٢): «الفرح».

١٠٩

إشارة إلى قوله تعالى في الشهداء : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)(١) ، وذلك ضحى يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة.

محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد

ابن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد

ابن ناصر بن حيّون بن القاسم بن الحسن بن محمد

ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (٢)

حسبما نقل من خطه :

أوّليّته : معروفة ، كان وليته مثله.

حاله : هذا (٣) الفاضل جملة من جمل الكمال ، غريب في الوقار والحصافة ، وبلوغ المدى ، واستولى على الأمم حلما وأناة ، وبعدا عن الريب ، وتمسكا بعرى النزاهة ، واستمساكا مع الاسترسال ، وانقباضا مع المداخلة ، معتدل الطريقة ، حسن المداراة ، مالكا أزمّة الهوى ، شديد الشفقة ، كثير المواساة ، مغار حبل الصبر ، جميل العشرة ، كثيف ستر الحيا ، قوي النفس ، رابط الجأش ، رقيق الحاشية ، ممتع المجالسة ، متوقد الذهن ، أصيل الإدراك ، بارعا بأعمال المشيخة ، إلى جلال المنتمى ، وكرم المنصب ونزاهة النفس ، وملاحة الشّيبة ، وحمل راية البلاغة ، والإعلام في ميادين البيان ، رحلة الوقت في التبريز بعلوم اللسان ، حائز الخصل (٤) والفضل في ميدانها ، غريبة (٥) غزيرة الحفظ ، مقنعة الشّاهد (٦) ، مستبحرة النظر ، أصيلة التوجيه ، بريّة عن النّوك والغفلة ، مرهفة باللغة والغريب والخبر والتاريخ والبيان ، وصناعة البديع ، وميزان العروض ، وعلم القافية ، وتقدّما في الفقه ، ودرسا له ، وبراعة في الأحكام ، وإتقان التّدريس ، والصبر ، والدّؤوب عليه ، بارع التصنيف ، حاضر الذهن ، فصيح اللسان ، مفخرة من مفاخر أهل بيته.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ ، الآية ١٧٠.

(٢) ترجمة محمد بن أحمد الحسني في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٠) ونثير فرائد الجمان (ص ٢٣١) وجاء فيه أنه يكنى أبا القاسم ، ونفح الطيب (ج ٧ ص ١٨٢) وبغية الوعاة (ص ١٦) والدرر الكامنة (ج ٣ ص ٣٥٢) واللمحة البدرية (ص ١٠٥ ، ١١٦) وكشف الظنون (ص ١٨٠٧).

(٣) النص في بغية الوعاة (ص ١٦) نقلا عن الإحاطة ، والسيوطي ينقل بتصرف.

(٤) كلمة «الخصل» غير واردة في بغية الوعاة.

(٥) في بغية الوعاة : «عربية».

(٦) في بغية الوعاة : «الشمائل».

١١٠

ولايته : قدم على الحضرة في دولة الخامس من ملوك بني نصر (١) ، كما استجمع شبابه ، يفهق علما باللسان ، ومعرفة بمواقع البيان ، وينطق بالعذب الزّلال من الشعر ، فسهّل له كنف البر ، ونظم في قلادة كتاب الإنشاء ، وهو إذ ذاك ثمينة الخزرات ، محكمة الرّصف ، فشاع فضله ، وذاع رجله. ثم تقدم ، فنقل من طور الحكم ، إلى أن قلّد الكتابة والقضاء والخطابة بالحاضرة ، بعد ولاية غيرها التي أعقبها ولاية مالقة في الرابع من شهر ربيع الآخر عام سبعة وثلاثين وسبعمائة. فاضطلع بالأحكام ، وطبّق مفصل الفضل ، ماضي الصّريمة ، وحيّ الإجهار ، نافذ الأمر ، عظيم الهيبة ، قليل النّاقد ، مطعم التوفيق ، يصدع في مواقف الخطب ، بكل بليغ من القول ، مما يريق ديباجته ، ويشفّ صقاله ، وتبرأ من كلال الخطباء جوانبه وأطرافه. واستعمل في السّفارة للعدوّ ناجح المسعى ، ميمون النّقيبة ، جزيل الحياء والكرامة ، إلى أن عزل عن القضاء في شعبان من عام سبعة وأربعين وسبعمائة ، من غير زلّة تخفض ، ولا هنة تؤثر ، فتحيّز إلى التّحليق لتدريس العلم ، وتفرّغ لإقراء العربية والفقه ، ولم ينشب أميره المنطوي على الهاجس ، المغري بمثله ، أن قدّمه قاضيا بوادي آش ، بنت حضرته ، معزّزة بسندها الكبير الخطّة ، فانتقل إليه بجملته. وكانت بينه وبين شيخنا أبي الحسن بن الجيّاب ، صداقة صادقة ، ومودة مستحكمة ، فجرت بينهما أثناء هذه النّقلة ، بدائع ، منها قوله ، يرقب (٢) خطّة القضاء التي اخترعها ، ويوليها خطة الملامة(٣) : [السريع]

لا مرحبا بالناشز الفارك

إن جهلت رفعة مقدارك

لو أنها قد أوتيت رشدها

ما برحت تعشو إلى نارك

أقسمت بالنّور المبين الذي

منه بدت مشكاة أنوارك

ومظهر الحكم الحكيم الذي

يتلو عليه (٤) طيب أخبارك

ما لقيت مثلك كفؤا لها

ولا أوت أكرم من دارك (٥)

__________________

(١) الخامس من سلاطين بني نصر هو أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف ، وقد حكم من سنة ٧١٣ إلى سنة ٧٢٥ ه‍. راجع اللمحة البدرية (ص ٧٨).

(٢) في الأصل : «يوس عنه خطة» ، وهو كلام لا معنى له ، وصوبناه من تاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٢).

(٣) الأبيات في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٢ ـ ٢١٣).

(٤) في تاريخ قضاة الأندلس : «علينا».

(٥) رواية البيت في المصدر السابق هي :

ما ألفت مثلك كفؤا ولا

أوت إلى أكرم من دارك

١١١

ثم أعيد إلى القضاء بالحضرة ، فوليها ، واستمرت حاله وولايته على متقدّم سمته من الفضل والنّزاهة والمراجعة فيما يأنف فيه من الخروج عن الجادّة ، إلى أن هلك السلطان (١) مستقضيه ، مأموما به ، مقتديا بسجدته ، يوم عيد الفطر ، خمسة وخمسين وسبعمائة. وولي الأمر ولده (٢) الأسعد ، فجدّد ولايته ، وأكّد تجلّته ، ورفع رتبته ، واستدعى مجالسته.

مشيخته : قرأ (٣) ببلده سبتة على أبيه الشريف الطاهر ، نسيج وحده في القيام ، وعلى أبي عبد الله بن هاني وبه جلّ انتفاعه ، وعليه جلّ استفادته. وأخذ عن الإمام شيخ المشيخة أبي إسحاق الغافقي. وروى عن الخطيب أبي عبد الله الغماريّ ، والخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد ، والقاضي أبي عبد الله القرطبي ، والفقيه الصالح أبي عبد الله بن حريث. وأخذ عن الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط وغيره.

محنته : دارت عليه يوم مهلك السلطان المذكور رحى الوقيعة ، فعركته بالثّقال ، وتخلّص من شرارها هولا ، لتطارح الأمير المتوثّب أمام ألمريّة عليه ، خاتما في السّجدة ، ودرس الحماة إياه عند الدّجلة ، من غير التفات لمحل الوطأة ، ولا افتقاد لمحل صلاة تلك الأمّة ، فغشيه من الأرجل ، رجل الرّبى كثيرة ، والتفّ عليه مرسل طيلسانه ، سادّا مجرى النّفس إلى قلبه ، فعالج الحمام وقتا ، إلى أن نفّس الله عنه ، فاستقلّ من الرّدى ، وانتبذ من مطّرح ذلك الوغى ، وبودر بالفصاد ، وقد أشفى ، فكانت عثرة لقيت لما ومتاعا ، فسمح له المدى آخر من يوثق به ، من محل البثّ ، ومودعات السّرّ من حظيّات الملك ، أن السلطان عرض عليه قبل وفاته في عالم الحلم ، كونه في محراب مسجده ، مع قاضيه المترجم به ، وقد أقدم عليه كلب ، أصابه بثوبه ، ولطّخ ثوبه بدمه ، فأهمّته رؤياه ، وطرقت به الظنون مطارقها ، وهمّ بعزل القاضي ، انقيادا لبواعث الفكر ، وسدّا لأبواب التوقيعات ، وقد تأذن الله بإرجاء العزم ، وتصديق الحلم ، وإمضاء الحكم ، جلّ وجهه ، وعزّت قدرته ، فكان من الأمر ما تقرر في محله.

__________________

(١) هو السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج ، سابع سلاطين بني نصر بغرناطة. راجع اللمحة البدرية (ص ١٠٢).

(٢) هو الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج ، ثامن سلاطين بني نصر بغرناطة ، والمتوفّى سنة ٧٩٣ ه‍. ترجمته في اللمحة البدرية (ص ١١٣ ، ١٢٩) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٣) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ٢٩١) وأزهار الرياض (ج ١ ص ٣٧ ، ٥٨ ، ١٩٤).

(٣) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٧).

١١٢

تصانيفه : وتصانيفه بارعة ، منها ، «رفع الحجب المستورة في (١) محاسن المقصورة (٢)» ، شرح فيها مقصورة الأديب أبي الحسن حازم بما تنقطع الأطماع فيه. ومنها «رياضة الأبيّ (٣) في قصيدة الخزرجي» ، أبدع في ذلك بما يدل على الاطلاع وسداد الفهم ، وقيّد على «كتاب التّسهيل» لأبي عبد الله بن مالك تقييدا جليلا ، وشرحا بديعا ، قارب التمام. وشرع في تقييد على الخبر المسمّى ب «درر السّمط في خبر السّبط». ومحاسنه جمّة ، وأغراضه بديعة.

شعره : وأمّا الشعر ، فله فيه القدح المعلّى ، والحظّ الأوفى ، والدّرجة العليا ، طبقة وقته ، ودرجة عصره ، وحجة زمانه ، كلامه متكافئ في اللفظ والمعنى ، صريح الدّلالة ، كريم الخيم ، متحصّد الحبل ، خالص السّبك ، وأنا أثبت منه جزما خصّني به ، سمّاه جهد المقل ، اشتمل من حرّ الكلام ، على ما لا كفاء له.

الحمد لله تردّده أخرى الليالي ، فهو المسؤول أن يعصمنا من الزّلل ، زلل القول ، وزلل الأعمال. والصلاة على سيدنا محمد خاتم الإرسال. هذه أوراق ضمنتها جملة من بنات فكري ، وقطعا مما يحيش به في بعض الأحيان صدري ، ولو حزمت لأضربت عن كتبها كل الإضراب ، ولزمت في دفنها وإخفائها دين الأعراب ، لكني آثرت على المحو الإثبات ، وتمثلت بقولهم إن خير ما أوتيته العرب الأبيات. وإذا هي عرضت على ذلك المجد ، وسألها كيف نجت من الوأد ، فقد أوتيتها من حرمكم إلى ظلّ ظليل ، وأحللتها من بنائكم معرّسا ومقيل ، وأهديتها علما بأن كرمكم بالإغضاء عن عيوبها جدّ كفيل ، فاغتنم قلة التهدئة مني ، إن جهد المقلّ غير قليل ، فحسبها شرفا أن تبوّأت في جنابك كنفا ، وكفاها مجدا وفخرا أن عقدت بينها وبين فكرك عقدا وجوارا ومما قلت في حرف الهمزة.

مولده : بسبتة في السادس لشهر ربيع الأول (٤) من عام سبعة وتسعين وستمائة.

وفاته : توفي قاضيا بغرناطة في أوائل شعبان (٥) من عام ستين وسبعمائة.

__________________

(١) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٧): «عن».

(٢) هي مقصورة أديب المغرب أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجنّي الأندلسي ، التي مدح بها أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا عبد الله محمدا الحفصي. راجع نفح الطيب (ج ٧ ص ١٨٢).

(٣) في تاريخ قضاة الأندلس : «الآن في شرح قصيدة ...».

(٤) هكذا في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٧). وفي بغية الوعاة : «ربيع الآخر».

(٥) في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٢١٧): «ووفاته بغرناطة ضحى يوم الخميس الحادي والعشرين لشهر شعبان من عام ٧٦٠». وفي نفح الطيب (ج ٧ ص ١٩٠): «وكانت وفاة الشريف المذكور سنة إحدى وستين وسبعمائة».

١١٣

محمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي (١)

قاضي الجماعة ببيضة الإسلام فاس ، يكنى أبا عبد الله.

حاله : هذا الرجل له أبوّة صالحة ، وأصالة زاكية ، قديم الطلب ، ظاهر التخصّص ، مفرط في الوقار ، نابه البزّة والركبة ، كثير التهمة ، يوهم به الفارّ ، وصدر الصّدور في الوثيقة والأدب ، فاضل النفس ، ممحوض النصح ، جميل العشرة لإخوانه ، مجري الصّداقة نصحا ومشاركة وتنفيقا على سجيّة الأشراف وسنن الحسباء ، مديد الباع في فن الأدب ، شاعر مجيد ، كاتب بليغ ، عارف بالتّحسين والتّقبيح ، من أدركه ، أدرك علما من أعلام المشيخة. قدّمه السلطان الكبير العالم أبو عنان فارس ، قاضيا بحضرته ، واختصّه ، واشتمل عليه ، فاتصل بعده سعده ، وعرف حقّه. وتردّد إلى الأندلس في سبيل الرسالة عنه ، فذاع فضله ، وعلم قدره. ولما كان الإزعاج من الأندلس نحو النّبوة التي أصابت الدولة ، بلوت من فضله ونصحه وتأنيسه ، ما أكد الغبطة ، وأوجب الثناء ، وخاطبته بما نصه : [الكامل]

من ذا يعدّ فضائل الفشتالي

والدهر كاتب آيها والتّالي

علم إذا التمسوا الفنون بعلمه

مرعى المشيح ونجعة المكتال

نال الذي لا فوقها من رفعة

ما أمّلتها حيلة المحتال

وقضى قياس تراثه عن جدّه

إن المقدّم فيه عين التالي

قاضي الجماعة ، بماذا أثنى على خلالك المرتضاة؟ أبقديمك الموجب لتقديمك؟ أم بحديثك الداعي لتحمّل حديثك؟ وكلاهما غاية بعد مرماها ، وتحامى المتصوّر حماها ، والضالع لا يسام سبقا ، والمنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وما الظنّ بأصالة تعترف بها الآثار وتشهد ، وأبوّة صالحة كانت في غير ذات الحق تزهد ، وفي نيل الاتصال به تجهد ، ومعارف تقرر قواعد الحق وتمهّد ، وتهزم الشّبه إذا تشهّد. وقد علم الله أن جوارك لم يبق للدهر عليّ جوارا (٢) ، ولا حتّ من غصني ورقا ولا نوّارا. هذا وقد زأر على أسد وحمل ثورا ، فقد أصبحت في ظل الدولة التي وقف على سيدي اختيارها ، وأظهر خلوص إبريزه معيارها ، تحت كنف وعزّ مؤتنف ، وجوار أبي دلف ، وعلى ثقة من الله بحسن خلف. وما منع من انتساب ما لديه من

__________________

(١) نسبة إلى فشتاله وهي إحدى القبائل الجبلية التي تقطن في شمال مدينة فاس. الإحاطة (ج ٢ ص ١٨٧) حاشية رقم ١.

(٢) في الأصل : «جوار».

١١٤

الفضائل إلّا رحلة لم يبرك بعد حملها ، ولا قرّ عملها ، وأوحال حال بيني وبين مسوّر البلد القديم (١) مهلها. ولو لا ذلك لا غتبطت الزّائد ، واقتنيت الفوائد ، والله يطيل بقاءه ، حتى تتأكد القربة ، التي تنسى بها الغربة ، وتعظم الوسيلة ، التي لا تذكر معها الفضيلة. وأمّا ما أشار به من تقييد القصيدة التي نفق سوقها استحسانه ، وأنس باستظرافها إحسانه ، فقد أعمل وما أمهل ، والقصور باد إذا تأمّل ، والإغضاء أولى ما أمّل ، فإنما هي فكرة قد أخمدت نارها الأيام ، وغيّرت آثارها اللّئام. وقد كان الحق إجلال مطالعة سيدي من خللها ، وتنزيه رجله عن تقبيل مرتجلها. لكنّ أمره ممتثل ، وأتى من المجد أمرا لا مردّ له مثل. والسلام على سيدي من معظم قدره ، وملتزم برّه ، ابن الخطيب ، ورحمة الله.

فكتب إليّ مراجعا ، وهو المليء بالإحسان : [الكامل]

وافت يجرّ الزّهو فضلة بردها

حسناء قد أضحت نسيجة وحدها

لله أي قصيدة أهديت لو

يهتدي المعارض نحو غاية قصدها

لابن الخطيب بها محاسن جمّة

قارعت عنه الخطوب ففلّت من حدّها (٢)

سرّ البلاغة عنه أودع حافظا

قد صانه حتى فشا من عندها

في غير عقد نفثنه بسحرها (٣)

فلذا أتى سلسا منظّم عقدها

لم أدر ما فيها وقمت معاونا

من طرسها أو معلما من بردها

حتى دفعت بها لأبعد غاية

باعا تقصّر في البلوغ بحدّها

حدّان من نظم ونثر إنّ من

يلقاهما منها بذلّة عبدها

أولى يدا بيضاء موليها فما

لي مزية من (٤) أن أقوم بحمدها

ورفضت تكذيب المنى متشيّعا

لعلي مرآها يصادق وعدها

فبذلت شعري رافعا من برّها

وهززت عطفي رافلا من بردها

خذها ، أعزّ الله جنابك ، وأدال للأنس على الوحشة اغترابك ، كغبّة (٥) الطائر المتجعد ، ونهبة الثائر المستوفز ، ومقة اللّحظ ، قليلة اللّفظ ، قد جمعت من سوامها وانقحامها ، بين نظم قيد ، وصلود زند ، ونوّعت ، فعلى إقدامها وانحجامها إلى قاصر

__________________

(١) البلد القديم هو مدينة فاس القديمة ، والبلد الجديد هو ضاحية فاس الملوكية. الإحاطة (ج ٢ ص ١٨٩) حاشية رقم ١.

(٢) عجز هذا البيت منكسر الوزن.

(٣) صدر هذا البيت منكسر الوزن.

(٤) كلمة «من» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.

(٥) الغبّة : البلغة من العيش. محيط المحيط (غبب).

١١٥

ومعتد ، وليتني إذا جادت سحابة ذلك الخاطر الماطر الودق ، وانجاب العاني عن مزنة فكرتي ، بتقاضي الجواب ، انجياب الطّوق ، وأيقنت أني قد سدّ عليّ باب القول وأرتحج ، وقلت : هذه السّالفة الكلية فسدت لها الدّاعة من تكلّم الإمرة ولم أنه إذ أعوزت المرّة بالحلوة ، لكني قلت : وجدّ المكثر كجهد المقلّ ، والواجب قد يقلّ الامتثال فيه بالأقلّ. فبعثت بها على علّاتها ، وأبلغتها عذرها ، في أن كتبت عن شوقها بلغاتها ، وهي لا تعدم من سيدي في إغضاء كريم ، وإرضاء سليم. والله ، عزّ وجلّ ، يصل بالتأنيس الحبل ، ويجمع الشّمل.

والسلام الكريم يخصّ تلك السيادة ، ورحمة الله وبركاته. من محمد بن أحمد الفشتالي.

وهو الآن قاض بفاس المذكورة ، محمود السيرة ، أبقاه ، وأمتع به.

محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى

ابن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقري (١)

يكنى أبا عبد الله ، قاضي الجماعة بفاس وتلمسان.

أوّليّته : نقلت من خطّه ، قال (٢) : وكان الذي اتخذها من سلفنا قرارا بعد أن كانت لمن قبله مرارا (٣) ، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري ، صاحب أبي مدين (٤) ، الذي دعا له ولذرّيته ، بما ظهر فيهم من قبول (٥) وتبيّن. وهو أبي الخامس ؛ فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن ، وكان هذا الشيخ عروي (٦) الصلاة ، حتى أنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات ، ولا استشعر منه شعور ، ويقال : إن هذا الحضور ، ممّا أدركه من مقامات شيخه أبي مدين. ثم (٧) اشتهرت ذريّته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة ، فمهّدوا طريق الصحراء

__________________

(١) محمد بن محمد المقري ، جدّ المقري صاحب كتاب نفح الطيب ، وترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص ٢٠٩) والتعريف بابن خلدون (ص ٥٩) ونيل الابتهاج (ص ٢٤٩) ونفح الطيب (ج ٧ ص ١٩٥) وأزهار الرياض (ج ١ ص ٥) و (ج ٤ ص ٢٠٤).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٩٥).

(٣) في النفح : «مزارا».

(٤) أبو مدين : هو شعيب بن الحسين الأندلسي التلمساني ، المتوفى سنة ٥٩٤ ه‍ ، وقد تقدم ذكره في الجزء الأول من الإحاطة في ترجمة جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيد بونة الخزاعي.

(٥) في النفح : «قبوله».

(٦) أغلب الظن أنه ينسبه إلى عروة بن الزبير ، الذي كان يطيل الصلاة ويكثر من الدعاء.

(٧) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٩٦ ـ ١٩٨).

١١٦

بحفر الآبار ، وتأمين التّجار ، واتخذوا طبل الرّحيل (١) ، وراية التّقدم (٢) عند المسير. وكان ولد يحيى ، الذي (٣) كان أحدهم أبو بكر ، خمسة رجال ، فعقدوا الشّركة بينهم فيما ملكوه (٤) وفيما يملكونه على السواء بينهم والاعتدال ، وكان (٥) أبو بكر ومحمد ، وهما أرومتا نسبي من جميع جهات الأم والأب (٦) بتلمسان ، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة ، وعبد الواحد وعلي ، وهما شقيقاهم الصغيران ، بأي والأتن (٧) فاتخذوا هذه (٨) الأقطار والحوايط والدّيار ، فتزوجوا (٩) النساء ، واستولدوا الإماء. وكان التلمساني يبعث إلى الصّحراوي بما يرسم له من السلع. ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتّبر ، والسّجلماسي كلسان الميزان يعرّفهما بقدر الرّجحان والخسران (١٠) ، ويكاتبهما بأحوال التّجار ، وأخبار البلدان ، حتى اتسعت أموالهم ، وارتفعت في الفخامة (١١) أحوالهم. ولما افتتح التّكرور كورة أي والأتن وأعمالها ، أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها ، بعد أن جمع من كان بها (١٢) منهم إلى نفسه الرّجال ، ونصب دون (١٣) ماله القتال. ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه ، ومكّنه من التجارة بجميع بلاده ، وخاطبه بالصديق الأحبّ ، والخلاصة الأقرب. ثم صار يكاتب من بتلمسان ، يستقضي منهم مآربه ، فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة ، وعندي من كتبه وكتب الملوك بالمغرب ، ما ينبئ عن ذلك ، فلما استوثقوا من الملوك ، تذلّلت لهم الأرض للسّلوك ، فخرجت أموالهم عن الحدّ ، وكادت تفوق (١٤) الحصر والعدّ ؛ لأن بلاد الصحراء ، قبل أن يدخلها أهل مصر ، كانت (١٥) تجلب لها من المغرب ما لا بال له (١٦) من السّلع ، فيعاوض (١٧) عنه بماله بال من الثمن (١٨). ثم قال أبو مدين : الدنيا ضمّ جنب أبو حمو (١٩) ، وشمل ثوباه. كان يقول : لو لا الشناعة لم أزل في بلادي تاجرا من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السّلع ، ويأتون بالتّبر الذي

__________________

(١) في النفح : «طبلا للرحيل».

(٢) في النفح : «تقدم».

(٣) في النفح : «الذين أحدهم».

(٤) في النفح : «بينهم في جميع ما ملكوه أو يملكونه ...».

(٥) في النفح : «مكان».

(٦) في النفح : «أمي وأبي».

(٧) هو موضع بالصحراء.

(٨) في النفح : «بهذه الأقطار الحوائط».

(٩) في النفح : «وتزوجوا».

(١٠) في النفح : «بقدر الخسران والرجحان».

(١١) في النفح : «الضخامة».

(١٢) في النفح : «فيها».

(١٣) في النفح : «دونها ودون ما لهم القتال».

(١٤) في النفح : «تفوت».

(١٥) في النفح : «كان يجلب إليها من ...».

(١٦) ما لا بال له : أي ما ليس بذي شأن.

(١٧) في النفح : «فتعاوض».

(١٨) في النفح : «الثمن. أي مدبر دنيا ضمّ جنبا أبي حمو ...».

(١٩) أبو حمو : هو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيان ، كما سيرد بعد قليل في عنوان : مولده.

١١٧

كلّ أمر الدنيا له تبع ، ومن سواهم يحمل منها الذّهب ، ويأتي إليها بما يضمحلّ عن قريب ويذهب ، إلى ما يغيّر من العوائد ، ويجرّ السفهاء إلى المفاسد.

ولما هلك (١) هؤلاء الأشياخ ، جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم ، وصادفوا توالي الفتن ، ولم يسلموا من جور السلطان (٢) ، فلم تزل (٣) حالهم في نقصان إلى هذا الزمان (٤) ، فها أنا ذا لم أدرك (٥) في ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فصوله عيشا ، وأصوله حرمة. ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب ، وأسباب كثيرة تعين على الطلب ، فتفرّغت بحول الله ، عزّ وجلّ ، للقراءة ، فاستوعبت أهل البلد لقاء ، وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء ، سواء المقيم القاطن ، والوارد والظاعن.

حاله : هذا (٦) الرجل مشار إليه بالعدوة المغربية اجتهادا ، ودؤوبا ، وحفظا وعناية ، واطلاعا ، ونقلا ونزاهة ، سليم الصدر ، قريب الغور ، صادق القول ، مسلوب التّصنّع ، كثير الهشّة ، مفرط الخفّة ، ظاهر السذاجة ، ذاهب أقصى مذاهب التخلّق ، محافظ على العمل ، مثابر على الانقطاع ، حريص على العبادة ، مضايق في العقد والتوجّه ، يكابد من تحصيل النيّة بالوجه واليدين مشقّة ، ثم يغافض (٧) الوقت فيها ، ويوقعها دفعة متبعا إياها زعقة التكبير ، برجفة ينبو عنها سمع من لم يكن (٨) تأنّس بها عادة ، بما هو دليل على حسن المعاملة ، وإرسال السّجية ، قديم النّعمة ، متصل الخيريّة ، مكبّ على النظر والدرس والقراءة ، معلوم الصّيانة والعدالة ، منصف في المذاكرة ، حاسر الذراع (٩) عند المباحثة ، راحب عن الصّدر في وطيس المناقشة ، غير مختار للقرن ، ولا ضانّ (١٠) بالفائدة ، كثير الالتفاف ، متقلّب الحدقة ، جهير بالحجّة ، بعيد عن المراء والمباهتة ، قائل بفضل أولي الفضل من الطّلبة ، يقوم أتمّ القيام على العربيّة والفقه والتفسير ، ويحفظ الحديث ، ويتهجّر بحفظ الأخبار (١١) والتاريخ والآداب ، ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق ، ويكتب ويشعر

__________________

(١) في النفح : «ولمّا درج».

(٢) في النفح : «السلاطين».

(٣) في النفح : «يزل».

(٤) في النفح : «الزمن».

(٥) في النفح : «من».

(٦) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١٩٩ ـ ٢٠٠).

(٧) في النفح : «يغافص».

(٨) في النفح : «من لم تؤنسه بها العادة».

(٩) في النفح : «للذراع».

(١٠) ضانّ : اسم فاعل ضنّ أي بخل. لسان العرب (ضنن).

(١١) في النفح : «بحفظ التاريخ والأخبار».

١١٨

مصيبا في ذلك (١) غرض الإجادة ، ويتكلم في طريقة الصّوفية كلام أرباب المقال ، ويعتني بالتّدوين فيها. شرّق وحجّ ، ولقي جلّة ، واضطبن (٢) رحلة مفيدة ، ثم آب إلى بلده ، فأقرأ به ، وانقطع إلى خدمة العلم. فلما ولي ملك المغرب السلطان ، محالف الصّنع ونشيدة الملك ، وأثير الله من بين القرابة والإخوة أمير المسلمين (٣) أبو عنان فارس (٤) ، اجتذبه وخلطه بنفسه ، واشتمل عليه ، وولّاه قضاء الجماعة بمدينة فاس ، فاستقلّ بذلك أعظم الاستقلال ، وأنفذ الحكم (٥) ، وألان الكلمة ، وآثر التّسديد ، وحمل الكلّ (٦) ، وخفض الجناح ، فحسنت عنه القالة (٧) ، وأحبّته الخاصّة والعامة. حضرت بعض مجالسه للحكم ، فرأيت من صبره على اللّدد (٨) ، وتأتّيه (٩) للحجج ورفقه بالخصوم ، ما قضيت منه العجب.

دخوله غرناطة : ثم (١٠) لمّا أخّر عن القضاء ، استعمل بعد لأي في الرّسالة ، فوصل الأندلس ، أوائل جمادى الثانية من عام ستة (١١) وخمسين وسبعمائة. فلما قضى غرض الرسالة (١٢) ، وأبرم عقد وجهته ، واحتلّ مالقة في منصرفه ، بدا له في نبذ الكلفة ، واطّراح (١٣) وظيفة الخدمة ، وحلّ التّقيّد ، إلى ملازمة الإمرة ، فتقاعد ، وشهر غرضه ، وبتّ في الانتقال ، طمع من كان صحبته ، وأقبل على شأنه ، فخلّي بينه وبين همّه. وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربّه. وطار الخبر إلى مرسله ، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة ، والعدول عنها ، بقصد التّخلّي والعبادة ، وأنكر ما نحله (١٤) غاية الإنكار ، من إبطال عمل الرسالة ، والانقباض قبل الخروج عن العهدة ، فوغر صدره على صاحب الأمر ، ولم يبعد حمله على الظّنّة والمواطأة على النّفرة ، وتجهّزت جملة من الخدّام المجلّين في مآزق (١٥) الشّبهة ، المضطلعين بإقامة الحجة ، مولين خطّة الملام ، مخيّرين بين سحائب عاد من الإسلام ، مظنّة إغلاق النعمة (١٦) ،

__________________

(١) قوله : «في ذلك» غير وارد في النفح.

(٢) اضطبن الرحلة : اعتزمها.

(٣) في النفح : «المؤمنين».

(٤) هذه الكلمة غير واردة في النفح.

(٥) في النفح : «الحق».

(٦) الكلّ : التّعب. محيط المحيط (كلل).

(٧) حسنت عنه القالة : حسن قول الناس فيه.

(٨) اللّدد : الخصومة الشديدة. لسان العرب (لدد).

(٩) في النفح : «وتأنّيه».

(١٠) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٠٠ ـ ٢٠٢).

(١١) في الأصل : «ست» وهو خطأ نحوي. وفي نفح الطيب : «سبعة».

(١٢) في النفح : «رسالته».

(١٣) في الأصل : «واصطراح» والتصويب من النفح.

(١٤) في النفح : «ما حقه الإنكار».

(١٥) في النفح : «مأزق».

(١٦) في النفح : «النقمة».

١١٩

وإيقاع المثلة (١) ، والإساءة (٢) بسبب القطيعة والمنابذة. وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمّم بمسجدها ، وجأر (٣) بالانقطاع إلى الله ، وتوعّد من يجيره (٤) بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه ، فأهمّ أمره ، وشغلت القلوب آبدته ، وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضت (٥) له رفع التّبعة ، وتركه إلى تلك الوجهة.

ولمّا تحصّل ما تيسّر من ذلك ، انصرف محفوفا بعالمي القطر ، قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المترجم (٦) به قبله ، والشيخ الخطيب أبي البركات بن الحاج ، مستهلين (٧) لوروده ، مشافهين للشفاعة (٨) في غرضه ، فأقشعت (٩) الغمّة ، وتنفّست الكربة. وجرى أثناء هذا من المراسلة والمراجعة ، ما تضمّنه الكتاب المسمّى ب «كناسة الدّكان بعد انتقال السّكان» المجموع بسلا ما صورته :

«المقام الذي يحبّ الشّفاعة ، ويرعى الوسيلة ، وينجز العدّة ، ويتمّم الفضيلة ، ويضفي مجده المنن الجزيلة ، ويعيى حمده الممادح العريضة الطويلة ، مقام محلّ والدنا الذي كرم مجده ، ووضح سعده ، وصحّ في الله تعالى عقده ، وخلص في الأعمال الصالحة قصده ، وأعجز الألسنة حمده ، السلطان الكذا (١٠) ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ، أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها ، وشفاعة يكرم مسعاها ، وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطّبع الكريم إذا دعاها ، معظّم سلطانه الكبير ، وممجّد مقامه الشهير ، المتشيّع لأبوّته الرفيعة قولا باللّسان واعتقادا بالضمير ، المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والوليّ النّصير. فلان (١١). سلام كريم ، طيب برّ عميم ، يخص مقامكم الأعلى ، وأبوّتكم الفضلى ، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد (١٢) حمد الله ، الذي جعل الخلق الحميدة دليلا على عنايته بمن حلّاه حلاها ، وميّز بها النفوس النفيسة ، التي اختصّها بكرامته وتولّاها ، حمدا يكون كفوا

__________________

(١) في النفح : «العقوبة».

(٢) في النفح : «أو الإشادة بسبب إجارته بالقطيعة ...».

(٣) في الأصل : «جار» بدون همزة ، والتصويب من النفح. وجأر إلى الله : رفع صوته بالدعاء.

(٤) في النفح : «يجبره».

(٥) في النفح : «اقتضى له فيها رفع ...».

(٦) في النفح : «المذكور قبله».

(٧) في النفح : «مسلمين».

(٨) في النفح : «بالشفاعة».

(٩) في النفح : «فانقشعت».

(١٠) أغلب الظن أنه أبو عنان فارس ابن أبي الحسن المريني ، سلطان المغرب ، المتوفّى سنة ٧٥٩ ه‍. راجع حاشية عنان.

(١١) هو ثامن سلاطين بني نصر محمد بن أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل ، وقد حكم غرناطة من عام ٧٥٥ إلى عام ٧٩٣ ه‍. راجع اللمحة البدرية (ص ١١٣ ، ١٢٩).

(١٢) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٤).

١٢٠