الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

ومن ذلك ونقلته من خطّه (١) : [الطويل]

تصبّر إذا ما أدركتك ملمّة

فصنع إله العالمين عجيب

وما يدرك (٢) الإنسان عار بنكبة

ينكّب (٣) فيها صاحب وحبيب

ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة (٤)

وعيش كرام الناس ليس يطيب

ويوشك أن تهمي سحائب نعمة

فيخصب ربع للسّرور (٥) جديب

إلهك يا هذا مجيب (٦) لمن دعا

وكلّ الذي عند القريب قريب

مولده : عام خمسة وستين وستمائة.

وفاته : من «عائد الصلة» ، قال : وختم الله عمره بخير العمل من الإنابة والتهدّج ، والتزام الورد ، وإن كان مستصحب الخيرية. وحلّ ببلد ولايتهم رندة ، فكانت بها تربته في الثالث والعشرين لربيع الآخر عام خمسين وسبعمائة.

محمد بن محمد بن علي بن العابد الأنصاري

ولد المذكور بعد ، الكاتب بالدار السلطانية.

حاله : من كتاب طرفة العصر وغيره ، قال : كان كاتبا مشهورا ، بليغا ، ذا معرفة ، بارع الخطّ ، أوحد زمانه في ذلك ، وقورا ، معذب اللفظ ، منحطا في هوى نفسه ، محارفا (٧) بحرفة الأدب على جلالة قدره. وكتابته نقيّة ، جانحة إلى الاختصار.

شعره : وثيق ، تقلّ فيه أرواح المعاني كشعر أبيه ، وتوشيحه فائق. تولّى كتابة الإنشاء لثاني الملوك النصريين (٨) ، واستمرّ قيامه بها على حجر شديد من السلطان ومحمل ؛ لملازمته المعاقرة وانهماكه في البطالة ، واستعمال الخمر ، حتى زعموا أنه قاء يوما بين يديه ، فأخّره عنها ، وقدّم الوزير أبا عبد الله بن الحكيم. وفي ذلك

__________________

(١) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ١٩٥) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٤٢).

(٢) في النفح : «وما يلحق».

(٣) في الكتيبة : «فينكب».

(٤) الأسوة : بضم الهمزة وكسرها ؛ هو ما يأتسي به الحزين يتعزّى به. مختار الصحاح (أسا).

(٥) في الأصل : «من ربع السرور» والتصويب من المصدرين.

(٦) في النفح : «قريب».

(٧) المحارفة : الاحتيال ، والمراد هنا الاحتراف. محيط المحيط (حرف).

(٨) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر ، وقد حكم غرناطة من سنة ٦٧١ ه‍ حتى سنة ٧٠١ ه‍. ترجمته في اللمحة البدرية (ص ٥٠) ، وتقدمت ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة.

١٨١

يقول : [الطويل]

أمن عادة الإنصاف والعدل أن أجفا

لأن زعموا أني تحسّيتها صرفا؟

وأقام بقيّة عمره تحت رفد وبرّ.

وفاته : توفي في حدود التسعين وستمائة. وكان شيخنا ابن الجيّاب قد آثره بكتبه ، وكانت نفيسة أعلاها بخط أبيه ، رحمه الله.

محمد بن مالك المرّي الطّغنري (١)

من أهل غرناطة ، من ذوي البيتية والحسب فيها. ذكره الأستاذ (٢) في الكتاب المسمّى بالصلة ، والغافقي (٣) ، وغيرهما.

حاله : أديب نبيل ، شاعر ؛ على عهد الأمير عبد الله بن بلقّين بن باديس ، صاحب غرناطة. قال : وكان أولا يميل إلى البطالة والراحة. ثم إنه استيقظ من غفلته ، وأقلع عن راحته ، وأجبّ في توبته. وكان من أهل الفضل والخير والعلم.

من تواليفه : كتابه الشهير في الفلاحة ، وهو بديع ، سمّاه «زهرة البستان ، ونزهة الأذهان» ، عبرة في الظّرف. قال : وجرى له مع سماجة (٤) خليفة عبد الله بن بلقّين قصة. إذ فاجأه سماجة مع إخوان له ، ولم يشعروا به ، فأنشده ابن مالك ارتجالا ، وقد أخذ بلجام دابته : [الخفيف]

بينما نحن في المصلّى نساق

وجناح العشيّ فيه جنوح

إذ (٥) أتانا سماجة يتلألأ

فردى (٦) الشمس من تجلّيه (٧) يوح

فطفقنا يقول بعض لبعض

أغبوق شرابنا أم صبوح؟

__________________

(١) ترجمة محمد بن مالك في الذخيرة (ق ١ ص ٨٠٥) ، والطّغنري ، نسبة إلى طغنرTignar ، إحدى قرى غرناطة. وكنيته كما جاء في الذخيرة ، أبو عبد الله.

(٢) المقصود هنا الأستاذ ابن الزبير صاحب كتاب «صلة الصلة».

(٣) هو محمد بن عبد الواحد الغافقي ، المعروف بالملاحي.

(٤) سماجة الصنهاجي من وزراء باديس بن حبوس ، صاحب غرناطة ، وكان حازما شديد السطوة ، مرهوب الجانب ، شجاعا ، جوادا ، فاضلا. ثم لزم أمير غرناطة عبد الله بن بلقين بن باديس مدة كوزير ، ثم أبعده عبد الله عن غرناطة ، فلجأ إلى ألمرية وعاش في كنف صاحبها المعتصم بن صمادح. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ١٦١).

(٥) في الأصل : «إذا» وهكذا ينكسر الوزن.

(٦) في الأصل : «ردى» وهكذا ينكسر الوزن.

(٧) في الأصل : «تجليله» وهكذا ينكسر الوزن ولا معنى له.

١٨٢

قال : فتكلّم الوزير سماجة باللسان البربري مع عبيده ، فرجعوا مسرعين ، ووقف سماجة مع الوزير ابن مالك ، إلى أن أتاه عبيده ، بوعاء فيه جملة كبيرة من الدراهم ، تنيف على الثلاثمائة دينار. فقال : ادفعوها إليه ، وانصرف. وأتاهم العبيد مع الدراهم ، بطعام وشراب. قال ابن مالك : وذلك أوّل مال تأثّلته.

شعره : ومنه (١) [السريع]

صبّ على قلبي هوى لاعج

ودبّ في جسمي ضنى دارج

في شادن أحمر (٢) مستأنس

لسان تذكاري به لاهج

ما (٣) قدر نعمان إذا ما مشى

وما عسى يفعله (٤) عالج؟

فقدّه من رقّة مائس

وردفه من ثقله (٥) مائج

عنوان ما في ثوبه وجهه

تشابه الداخل والخارج

فلا تقيسوه ببدر الدّجى

ذا معلم الوجه وذا ساذج

وقد نسبها بعض الناس لغيره.

وفاته : قال الأستاذ : كان حيّا سنة ثمانين وأربعمائة. وأمر أن يكتب على قبره : [الخفيف]

يا خليلي ، عرّج على قبري تجد

أكلة (٦) التّرب بين جنبي ضريح

خافت الصوت إن نطقت ولكن

أيّ نطق إن اعتبرت فصيح؟

أبصرت عينيّ العجائب لكن

فرّق (٧) الموت بين جسمي وروحي (٨)

محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عبد الملك الأوسي

المدعو بالعقرب ، من إقليم الآش (٩).

حاله : كان حسن النظم والنثر ، ذكيّا من أهل المعرفة بالعربية والأدب ، موصوفا بجودة القريحة ، والنبل والفطنة.

__________________

(١) الأبيات في الذخيرة (ق ١ ص ٨٠٨).

(٢) في الذخيرة : «أحور».

(٣) كلمة «ما» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الذخيرة.

(٤) في الذخيرة : «يبلغه».

(٥) في الذخيرة : «ثقل».

(٦) في الأصل : «من أكلة» وهكذا ينكسر الوزن.

(٧) في الأصل : «لما فرّق ...» وهكذا ينكسر الوزن.

(٨) في الأصل : «وروح» بدون ياء.

(٩) أي من إقليم وادي آش Guadix.

١٨٣

أدبه وشعره : ذكره الملّاحي وقال : حدّثني قاضي الأحكام بغرناطة ، أبو القاسم الحسن بن قاسم ، الهلالي صاحبنا ، قال : كان الأستاذ أبو عبد الله العقرب جارنا ، قد وقع بينه وبين زوجه زهرة بنت صاحب الأحكام ، أبي الحسن علي بن محمد تنازع ، فرفعته إلى القاضي بغرناطة ، أبي عبد الله بن السّماك العاملي ، وكنت يومئذ كاتبا له ، فرأى القاضي قوّته وقدرته على الكلام وضعفها ، وإخفاق نظمها ، وشفق لحالها. وكان يرى أن النساء ضعاف ، وأن الأغلب من الرجال يكون ظالمهن. وكان كثيرا ما يقول في مجلسه : رويدك ، رفقا بالقوارير ، وحين رأى ما صدر عن القاضي من الجمل ، فقلت له : وأين حلاوة شعرك والقاضي أديب يهتز إليه ويرتاح؟ فطلب مني قرطاسا ، وجلس غير بعيد ، ثم كتب على البديهة بما نصّه : [الكامل]

لله حيّ ، يا أميم ، حواك

وحمائم فوق الغصون حواك

غنّين حتى خلتهنّ عنينني

بغنائهنّ فنحت في مغناك

ذكّرنني (١) ما كنت قد أنسيته

بخطوب هذا الدهر من ذكراك

أشكو الزّمان إلى الزّمان ومن شكى

صرف الزمان إلى الزمان فشاكي

يا ابن السّماك (٢) المستظلّ برمحه

والعزل (٣) ترهب ذا السلاح الشاكي

راع الجوار فبيننا في جوّنا

حقّ السّرى والسير في الأفلاك

وابسط إلى الخلق المؤوب ببسطة

ظرف الكرام بعفّة النّساك

وأنا ذاكر إن لم يفت من لم يمت

فدارك ثم دارك ثم ذاك (٤)

ثم دفعها إلى القاضي ، فكتب القاضي بخطه في ظهر الرقعة : لبّيك ، لبّيك. ثم أرسلني أصلح بين العقرب وزوجه ، فإن وصل صلحهما إلى خمسين دينارا ، فأنا أؤدّيها عنه من مالي ، فجمعت بينهما ، وأصلحت بينهما عن تراض منهما ، رحمهما الله تعالى.

محمد بن علي بن عبد الله بن علي القيسي العرادي

من أهل غرناطة.

__________________

(١) في الأصل : «ذكّرتني» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.

(٢) السّماك : كوكب نيّر صغير في جهة الشمال ، يقال له السماح الرامح. محيط المحيط (سمك).

(٣) في الأصل : «والعزّل» بتشديد الزاي ، وهكذا ينكسر الوزن. والعزل : جمع أعزل وهو أحد السماكين لأنه لا سلاح معه. محيط المحيط (عزل).

(٤) هذا البيت منكسر الوزن.

١٨٤

حاله : كان فتى حسن السّمت ، ظاهر السكون ، بادي التّصوّن والعفّة ، دمث الأخلاق ، قليل الكلام ، كثير الحياء ، مليح الخط ، ظريفه ، بادي النّجابة. أبوه وجدّه من تجار سوق العطر ، نبهاء السوق. نظم الشعر ، فجاء منه بعجب ، استرسالا وسهولة ، واقتدارا ، ونفوذا في المطوّلات ، فأنفت له من الإغفال ، وجذبته إلى الدار السلطانية ، واشتدّت براعته ، فكاد يستولي على الأمر لو لا أن المنية اخترمته شابا ، فثكل منه الشعر ، قريع إجادة ، وبارع ثنيّة شهرة ، لو انفسح له الأمد.

مولده : في ذي الحجة عام أحد وثلاثين وسبعمائة.

وفاته : توفي مبطونا على أيام قريبة من إسراعه بغرناطة ، عن سنّ قريبة من العشرين ، في عام خمسة وخمسين وسبعمائة. وأبوه أمين العطارين.

محمد بن علي بن العابد الأنصاري

يكنى أبا عبد الله ، أصله من مدينة فاس.

حاله : من خطّ القاضي أبي جعفر بن مسعدة ، علم كتّاب دار الإمارة النّصرية الغالبيّة ، الذي بنوره يستصبحون ، وسراجهم الذي بإشراقه وبهجته ونهج محدته يهتدون. رفع لواء الحمد ، وارتدى بالفهم والعلم والحلم. كان ، رحمه الله ، إماما في الكتابة ، والأدب ، واللغة ، والإعراب ، والتاريخ والفرائض والحساب ، والبرهان عليه ، عارفا بالسّجلات والتّوثيق ، أربى على الموثّقين من الفحول المبرّزين في حفظ الشعر ونظمه ، ونسبته إلى قائله حافظا مبرّزا. درس الحديث ، وحفظ الأحكام لعبد الحق الإشبيلي ، ونسخ الدواوين الكبار ، وضبط كتب اللغة ، وقيّد على كتب الحديث ، واختصر التّفسير للزمخشري ، وأزال عنه الاعتزال ، لم يفتر قطّ من قراءة أو درس أو نسخ أو مطالعة ، ليله ونهاره. لم يكن في وقته مثله.

مشيخته : أخذ بفاس عن أبي العباس أحمد بن قاسم بن البقّال الأصولي ، وأبي عبد الله بن البيوت المقرّي ، وعن الزاهد أبي الحسن بن أبي الموالي ، وغيرهم.

شعره : ومنه قوله : [الكامل]

طرقت تتيه على الصّباح الأبلج

حسناء تختال اختيال تبرّج

في ليلة قد ألبست بظلامها

فضفاض برد بالنجوم مدبّج

وشعره مدوّن كثير.

وفاته : توفي بحضرة غرناطة عام اثنين وستين وسبعمائة في ذي القعدة منه.

١٨٥

محمد بن هاني بن محمد بن سعدون

الأزدي الإلبيري الغرناطي (١)

من أهل قرية سكون ، يكنى أبا القاسم ، ويعرف بالأندلسي ، وكأنها تفرقة بينه وبين الحكمي أبي نواس.

أوّليّته : قال غير واحد من المؤرخين (٢) : هو من ذرية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة ، وقيل : من ولد أخيه روح بن حاتم.

حاله : كان من فحول الشعراء ، وأمثال النظم ، وبرهان البلاغة ، لا يدرك شأوه ، ولا يشقّ غباره ، مع المشاركة في العلوم ، والنفوذ في فكّ المعمّى. خرج من الأندلس ابن سبع وعشرين سنة ، فلقي جوهرا المعروف بالكاتب مولى المعزّ بن المنصور العبيدي ، صاحب المغرب ، وامتدحه ، وكان لئيما ، فأعطاه مائتي درهم ، فوجد لذلك ، وقال : أههنا كريم يقصد؟ فقيل : بلى ، جعفر بن يحيى بن علي بن فلاح بن أبي مروان ، وأبو علي بن حمدون ، فامتدحهما ، ثم اختصّ بجعفر بن يحيى وأبي علي ، فبالغا في إكرامه ، وأفاضا عليه من النعم والإحسان ما لم يمرّ بباله ، وسارت أشعاره فيهما ، حتى أنشدت للمعزّ العبيدي ، فوجهه جعفر بن علي إليه في جملة طرف وتحف بعث بها إليه ، كان أبو القاسم أفضلها عنده ، فامتدح المعز لدين الله ، وبلغ المعزّ من إكرامه الغاية. ثم عاد إلى إفريقية ، ثم توجه إلى مصر ، فتوفي ببرقة.

وجرى ذكره في «تخليص الذهب» من تأليفنا بما نصّه : «العقاب الكاسرة ، والصّمصامة الباترة ، والشّوارد التي تهادتها الآفاق ، والغايات التي أعجز عنها السّباق».

وصمته : وذكره ابن شرف في مقاماته ، قال : وأما ابن هاني محمد ، فهو نجدي الكلام ، سردي النظام ، إلّا أنه إذا ظهرت معانيه ، في جزالة مبانيه ، رمى عن منجنيق ،

__________________

(١) ترجمة ابن هانىء الأندلسي في التكملة (ج ١ ص ٢٩٥ ، رقم ١٠٢١) ومطمح الأنفس (ص ٣٢٢) والمطرب (ص ١٩٢) وجذوة المقتبس (ص ٩٦) وبغية الملتمس (ص ١٤٠) ووفيات الأعيان (ج ٤ ص ٢١٥) ومعجم الأدباء (ج ٥ ص ٤٦٨) وعبر الذهبي (ج ٢ ص ٣٢٨) وشذرات الذهب (ج ٣ ص ٤١) والفلاكة والمفلوكون (ص ١٠٢) والمغرب (ج ٢ ص ٩٧) والنجوم الزاهرة (ج ٤ ص ٦٧) ورايات المبرزين (ص ١٥٠) ومرآة الجنان (ص ٣٧٥) والأعلام (ج ٧ ص ١٣٠) ونفح الطيب (ج ١ ص ٢٨٢) و (ج ٤ ص ١٨٣) و (ج ٥ ص ١٨٧).

(٢) قارن بالتكملة (ج ١ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦).

١٨٦

لا يؤثر في النّفيق. وله غزل معرّي ، لا عذري ، لا يقنع بالطّيف ، ولا يصفع بغير السيف ، وقد قدّه به الذات ، وعظم شأنه فاحتمل الثواب ، وكان يقف دولته في أعلى منزلته ، ناهيك من رجل يستعين على صلاح دنياه ، بفساد أخراه ، لرداءة دينه ، وضعف يقينه. ولو عقل ما ضاقت عليه معاني الشّعر ، حتى يستعين عليه بالكفر.

شعره : كان أول ما مدح به جعفر بن علي قوله (١) : [الكامل]

أحبب بتيّاك القباب قبابا

لا بالحداة ولا الرّكاب ركابا (٢)

فيها قلوب العاشقين تخالها

عنما بأيدي البيض والعنّابا (٣)

وقال يمدح جعفر بن علي من القصيدة الشهيرة (٤) : [الطويل]

أليلتنا إذا أرسلت واردا وحفا (٥)

وبانت (٦) لنا الجوزاء في أذنها شنفا (٧)

وبات لنا ساق يقوم (٨) على الدّجى

بشمعة صبح (٩) لا تقطّ (١٠) ولا تطفا

أغنّ غضيض خفّف (١١) اللّين قدّه

وأثقلت (١٢) الصّهباء أجفانه الوطفا (١٣)

ولم يبق إرعاش المدام له يدا

ولم يبق إعنات (١٤) التّثنّي له عطفا

نزيف قضاه السّكر إلّا ارتجاجة

إذا كلّ عنها (١٥) الخصر حمّلها الرّدفا

__________________

(١) ديوان ابن هانىء الأندلسي (ص ٤٩).

(٢) الحداة : الذين يسوقون الإبل ؛ أراد أنه يحب القباب لأنها تخص الحبيب ، ولا يحب الحداة ولا الإبل لأنها سبب بعد الحبيب عنه.

(٣) العنم : شجرة حجازية لها ثمر أحمر يشبّه به البنان المخضب. يقول : إن تلك القباب حمر ، كأنها عنم أو عناب بأيدي النساء البيض.

(٤) ديوان ابن هانىء الأندلسي (ص ٢٠٧ ـ ٢١٠) ورايات المبرزين (ص ١٥١ ـ ١٥٤). وورد منها في المغرب (ج ٢ ص ٩٧ ـ ٩٨) فقط سبعة أبيات.

(٥) في الأصل : «وجفا» والتصويب من الديوان والمغرب. والوارد : الشعر الطويل المسترسل.

والوحف : الكثيف المسودّ.

(٦) في الديوان والمغرب : «وبتنا نرى الجوزاء».

(٧) الشّنف : ما يعلّق في أعلى الأذن ، وهو القرط.

(٨) في المغرب : «يصول».

(٩) في الديوان : «نجم».

(١٠) لا تقط : لا يقطع رأسها.

(١١) في الأصل : «جفّف» والتصويب من الديوان والمغرب.

(١٢) في الديوان : «وثقّلت».

(١٣) الأغن : الذي في صوته غنّة. والغضيض : الفاتر الطرف المسترخي الأجفان. والوطف : جمع أوطف وهو الذي كثر شعر حاجبيه وعينيه.

(١٤) الإعنات : من أعنته : أي أدخل عليه مشقّة شديدة.

(١٥) في الديوان : «عنه الخصر حمّله ...».

١٨٧

يقولون حقف فوقه (١) خيزرانة

أما يعرفون الخيزرانة والحقفا؟

جعلنا حشايانا (٢) ثياب مدامنا

وقدّت لنا الظّلماء من جلدها لحفا

فمن كبد تدني إلى كبد هوى

ومن شفة توحي إلى شفة رشفا

بعيشك نبّه كأسه وجفونه

فقد نبّه الإبريق من بعد ما أغفا

وقد فكّت الظلماء بعض قيودنا

وقد قام جيش الليل للصبح فاصطفّا (٣)

وولّت نجوم للثّريّا كأنها

خواتيم تبدو في بنان يد تخفى

ومرّ على آثارها دبرانها

كصاحب ردء (٤) كمّنت خيله خلفا

وأقبلت الشّعرى العبور ملمّة (٥)

بمرزمها اليعبوب تجنبه طرفا (٦)

وقد قبّلتها (٧) أختها من ورائها

لتخرق من ثنيي مجرّتها سجفا (٨)

تخاف زئير الليث قدّم (٩) نثرة

وبربر في الظّلماء ينسفها نسفا (١٠)

كأنّ معلّى قطبها (١١) فارس له

لواءان مركوزان قد كره الزّحفا

كأن السّماكين اللذين تظاهرا

على لبّتيه (١٢) ضامنان له الحتفا (١٣)

فذا رامح يهوي إليه سنانه

وذا أعزل قد عضّ أنمله لهفا

كأنّ قدامى النّسر والنّسر واقع

قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا (١٤)

كأن أخاه حين دوّم طائرا

أتى دون نصف البدر فاختطف النّصفا

كأن رقيب الليل (١٥) أجدل مرقب

يقلّب تحت الليل في ريشه طرفا

__________________

(١) في الأصل : «فوقي» والتصويب من الديوان والمغرب ...

(٢) الحشايا : جمع حشية وهي الفراش المحشوّ.

(٣) في الديوان : «وقد ولّت الظلماء تقفو نجومها ... جيش الفجر لليل واصطفّا».

(٤) في الأصل : «ردىء» والتصويب من الديوان.

(٥) في الديوان : «مكبّة».

(٦) المرزم : نجم من الشّعرى اليمانية. اليعبوب : الفرس السريع الطويل. تجنبه : تقوده إلى جانبها.

الطّرف : المهر.

(٧) في الديوان : «وقد بادرتها».

(٨) أختها : الشعرى الشامية. الثّني : الطيّ ، الطاقة. السّجف : السّتر.

(٩) في الديوان : «يقدم».

(١٠) النّثرة : أنف الأسد ، وكوكبان بينهما قدر شبر. بربر : غضب وصاح.

(١١) معلّى القطب : نجم في القطب.

(١٢) في الديوان : «على لبدتيه».

(١٣) في الديوان : «حتفا». والسماكان : كوكبان ، يقال لأحدهما السماك الرامح وللآخر السماك الأعزل.

(١٤) في الديوان : «به ضعفا». والقدامى : الريشات الكبار في مقدم الجناح. النسر : كوكب ، وهما كوكبان ؛ النسر الطائر ، والنسر الواقع. الخوافي : الريشات الصغار في مؤخر الجناح.

(١٥) في الديوان : «النجم». ورقيب النجم : هو النجم الذي يغيب بطلوع النجم الذي يراقبه ـ

١٨٨

كأنّ بني نعش ونعش (١) مطافل

بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا (٢)

كأنّ سهاها (٣) عاشق بين عوّد

فآونة يبدو وآونة يخفى

كأنّ سهيلا (٤) في مطالع أفقه

مفارق إلف لم يجد بعده إلفا

كأنّ الهزيع الآبنوسيّ موهنا (٥)

سرى بالنسيج الخسروانيّ ملتفّا (٦)

كأن ظلام الليل إذ مال ميلة

صريع مدام بات يشربها صرفا

كأن نجوم الصّبح خاقان معشر (٧)

من التّرك نادى بالنّجاشيّ فاستخفى (٨)

كأن لواء الشمس غرّة جعفر

رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا (٩)

وقد جاشت الظلماء (١٠) بيضا صوارما

ومركوزة (١١) سمرا وفضفاضة زعفا (١٢)

وجاءت عتاق الخيل تردي كأنها

تخطّ لنا أقلام آذانها صحفا

هنالك تلقى جعفرا خير (١٣) جعفر

وقد بدّلت يمناه من لينها (١٤) عنفا

وكائن (١٥) تراه في الكريهة جاعلا (١٦)

عزيمته برقا وصولته خطفا

وشعره كثير مدوّن ، ومقامه شهير. وفيما أوردناه كفاية. وهو من إلبيرة الأصيلة.

وفاته : قالوا : لمّا توجّه إلى مصر ، شرب ببرقة وسكر ونام عريانا ، وكان البرد شديدا فأفلج ، وتوفي في سنة إحدى وستين وثلاثمائة (١٧) ، وهو ابن

__________________

ـ والأجدل : الصّقر.

(١) في الديوان : «ونعشا».

(٢) في الأصل : «قشفا» والتصويب من الديوان. وبنات نعش : سبعة كواكب. والمطافل : ذوات الأطفال من الإنس والوحش ، وأراد هنا بها الظّباء ، واحدها : مطفل. وجرة : موضع بين مكة والبصرة. الخشف : الظبي.

(٣) السّهى : كوكب خفيّ.

(٤) سهيل : كوكب.

(٥) في الديوان : «لونه».

(٦) الهزيع : قطعة من الليل. الآبنوسيّ : نسبة إلى الآبنوس وهو شجر لون عوده أسود ، صلب.

الخسرواني : حرير رقيق أبيض منسوب إلى خسرو أحد ملوك الفرس.

(٧) في الديوان : «كأن عمود الفجر خاقان عسكر».

(٨) شبّه عمود الفجر بملك الترك ، وهو الخاقان ، في بياضه ، وشبّه الليل بالنجاشيّ ملك الحبشة في سواده.

(٩) القرن : الخصم. طلاقته : بشاشته.

(١٠) في الديوان : «الدأماء».

(١١) في الديوان : «ومارنة».

(١٢) الزّعف : الواسعة من الدروع.

(١٣) في الديوان : «غير».

(١٤) في الديوان : «من رفقها».

(١٥) في الأصل : «وكاين» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الديوان.

(١٦) في الأصل : «عاجلا» والتصويب من الديوان.

(١٧) جاء في التكملة (ج ١ ص ٢٩٦) أنه توفي سنة ٣٦١ ه‍ ، وقيل : سنة ٣٦٢ ه‍. وفي وفيات ـ

١٨٩

اثنتين (١) وأربعين سنة. ولما بلغت المعزّ وفاته ، تأسّف عليه وقال : هذا رجل كنا نطمع أن نفاخر به أهل المشرق.

محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم

ابن علي الغسّاني البرجي الغرناطي (٢)

يكنى أبا القاسم ، من أهل غرناطة.

حاله : فاضل (٣) مجمع على فضله ، صالح الأبوّة ، طاهر النشأة ، بادي الصّيانة والعفّة ، طرف في الخير والحشمة ، صدر في الأدب ، جمّ المشاركة ، ثاقب الذهن (٤) ، جميل العشرة ، ممتع المجالسة ، حسن الخطّ (٥) والشعر والكتابة ، فذّ في الانطباع ، صنيع (٦) اليدين ، يحكم على (٧) الكثير من الآلات العلمية ، ويجيد تفسير الكتاب (٨). رحل إلى العدوة (٩) ، وتوسّل إلى ملكها ، مجدّد الرسم ، ومقام (١٠) الجلّة ، وعلم دست الشعر والكتابة ، أمير المسلمين أبي عنان فارس (١١) ، فاشتمل عليه ، ونوّه به ، وملأ بالخير يده ، فاقتنى جدة وحظوة وشهرة وذكرا (١٢) ، وانقبض مع استرسال الملك (١٣) ، وآثر الراحة ، وجهد في التماس الرّحلة الحجازية ، ونبذ الكلّ ، وسلا الخطّة ، فأسعفه سلطانه بغرضه ، وجعل حبله (١٤) على غاربه ، وأصحبه رسالة إلى النبيّ الكريم من إنشائه ، متصلة بقصيدة من نظمه ، وكلاهما تعلن (١٥) في الخلفاء بعد شأوه ، ورسوخ قدم علمه ، وعراقة البلاغة ، في نسب خصله ، حسبما تضمّنه الكتاب

__________________

ـ الأعيان : توفي سنة ٣٦٢ ه‍.

(١) في الأصل : «اثنين» وهو خطأ نحوي.

(٢) ترجمة محمد بن يحيى الغساني البرجي في الكتيبة الكامنة (ص ٢٥٠) ونيل الابتهاج طبعة فاس (ص ١٧٢) والتعريف بابن خلدون (ص ٦٤) وجذوة الاقتباس (ص ١٩٧) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٢٤١) وأزهار الرياض (ج ٥ ص ٧٧).

(٣) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٣).

(٤) في النفح : «الفهم».

(٥) في النفح : «حسن الشّعر والخط».

(٦) في النفح : «صناع».

(٧) في النفح : «محكم لعمل الكثير».

(٨) في النفح : «الكتب».

(٩) في النفح : «العدوة ولقي جلّة وتوسّل».

(١٠) في النفح : «ومقام أولي الشهرة وعامر دست».

(١١) كلمة «فارس» غير واردة في النفح.

(١٢) كلمة «وذكرا» غير واردة في النفح.

(١٣) في النفح : «الملك لفضل عقله ، حتى تشكى إليّ سلطانه بثّ ذلك عند قدومي عليه ، وآثر الراحة ...».

(١٤) في النفح : «حبل همّه». والمعنى أنه تركه وشأنه.

(١٥) في النفح : «يعلن».

١٩٠

المسمى ب «مساجلة البيان». ولما هلك وولّي ابنه ، قدّمه قاضيا بمدينة ملكه ، وضاعف التّنويه به ، فأجرى الخطّة ، على سبيل من السّداد والنزاهة. ثم لمّا ولّي السلطان أبو سالم عمّه ، أجراه على الرسم المذكور ، وهو الآن بحاله الموصوفة ، مفخر من مفاخر ذلك الباب السلطاني على تعدّد مفاخره ، يحظى بكل اعتبار.

شعره : ثبتّ (١) في كتاب «نفاضة الجراب» من تأليفنا ، عند ذكر المدعى الكبير بباب ملك المغرب ، ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر من أنشد ليلتئذ من الشّعراء ما نصّه:

وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضي ، جملة (٢) السّذاجة ، وكرم الخلق ، وطيب النفس ، وخدن العافية ، وابن الصّلاح والعبادة ، ونشأة القرآن ، المتحيّز إلى حزب السلامة ، المنقبض عن الغمار ، العزوف عن فضول القول والعمل ، جامع المحاسن ، من عقل رصين ، وطلب ممتع ، وأدب نقّادة (٣) ، ويد صناع ، أبو القاسم بن أبي زكريا البرجي ، فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة (٤) : [البسيط]

أصغى إلى الوجد لمّا جدّ عاتبه

صبّ له شغل عمّن يعاتبه

لم يعط للصبر من بعد الفراق يدا

فضلّ من ظلّ إرشادا يخاطبه

لو لا النّوى لم يبت حرّان (٥) مكتئبا

يغالب الوجد كتما وهو غالبه

يستودع (٦) الليل أسرار الغرام وما

تمليه أشجانه فالدّمع كاتبه

لله عصر بشرقيّ الحمى سمحت

بالوصل أوقاته لو عاد ذاهبه

يا جيرة أودعوا إذ ودّعوا حرقا

يصلى بها من صميم القلب ذائبه (٧)

يا هل ترى تجمع (٨) الأيّام فرقتنا

كعهدنا أو يردّ القلب ساكبه؟

ويا أهيل ودادي ، والنّوى قذف

والقرب قد أبهمت دوني مذاهبه

هل ناقض العهد بعد البعد حافظه

وصادع الشّمل يوم الشّعب شاعبه؟

__________________

(١) النص في نفاضة الجراب (ص ٣٨٢) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٤).

(٢) في نفاضة الجراب : «حملة».

(٣) في نفاضة الجراب : «نقاوة». وفي نفح الطيب : «وأدب ونقاوة».

(٤) القصيدة في نفاضة الجراب (ص ٣٨٢ ـ ٣٨٦) والكتيبة الكامنة (ص ٢٥٢ ـ ٢٥٤) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٤ ـ ٢٠٨) ، وجاء في الكتيبة الكامنة أنه قال هذه القصيدة عام ٧٠١ ه‍.

(٥) في الأصل : «حيران» والتصويب من المصادر الثلاثة.

(٦) في الكتيبة : «يوادع».

(٧) في الكتيبة : «نائبه».

(٨) في الكتيبة : «ترجع الأيام ألفتنا ... ويردّ ... سالبه».

١٩١

ويا ربوع الحمى لا زلت ناعمة

يبكي عهودك مضنى الجسم شاحبه

يا من لقلب مع الأهواء منعطف

في كل أوب له شوق يجاذبه

يسمو إلى طلب الباقي بهمّته

والنفس بالميل للفاني تطالبه

وفتنة المرء بالمألوف معضلة

والأنس بالإلف نحو الإلف جاذبه

أبكي لعهد الصّبا والشّيب يضحك بي (١)

يا للرّجال سبت جدّي ملاعبه

ولن ترى كالهوى أشجاه سالفه

ولا كوعد المنى أحلاه كاذبه

وهمّة المرء تغليه وترخصه

من عزّ نفسا لقد عزّت مطالبه

ما هان كسب المعالي أو تناولها

بل هان في ذاك ما يلقاه طالبه

لو لا سرى الفلك السّامي لما ظهرت

آثاره ولما لاحت كواكبه

في ذمّة الله ركب للعلا ركبوا

ظهر السّرى فأجابتهم نجائبه

يرمون عرض الفلا بالسّير عن عرض (٢)

طيّ السّجلّ إذا ما جدّ كاتبه

كأنهم في فؤاد (٣) الليل سرّ هوى

لو لا الضّرام لما خفّت جوانبه

شدّوا على لهب الرّمضاء وطأتهم

فغاص في لجّة الظّلماء راسبه

وكلّفوا الليل من طول السّرى شططا

فخلّفوه وقد شابت ذوائبه

حتى إذا أبصروا الأعلام ماثلة (٤)

بجانب الحرم المحميّ جانبه

بحيث يأمن من مولاه خائفه

من ذنبه وينال القصد راغبه

فيها وفي طيبة الغرّاء لي أمل

يصاحب القلب منه ما يصاحبه

لم (٥) أنس لا أنس أياما بظلّهما

سقى ثراه عميم الغيث ساكبه

شوقي إليها وإن شطّ المزار بها

شوق المقيم وقد سارت حبائبه

إن ردّها الدهر يوما بعد ما عبثت

في الشّمل منّا يداه لا نعاتبه (٦)

معاهد شرفت بالمصطفى فلها

من فضله (٧) شرف تعلو مراتبه

محمد المجتبى الهادي الشّفيع إلى

ربّ العباد أمين الوحي عاقبه

أوفى الورى ذمما ، أسماهم همما

أعلاهم كرما ، جلّت مناقبه

هو المكمّل في خلق وفي خلق

زكت حلاه (٨) كما طابت مناسبه

__________________

(١) في الكتيبة : «لي».

(٢) في الأصل : «غرض» والتصويب من المصادر الثلاثة.

(٣) في الكتيبة : «سواد».

(٤) في نفاضة الجراب : «مائلة».

(٥) في الكتيبة : «ما أنس».

(٦) في نفاضة الجراب : «تعاتبه».

(٧) في الكتيبة : «من أجله».

(٨) في الكتيبة : «علاه».

١٩٢

عناية قبل بدء الخلق سابقة

من أجلها (١) كان آتيه وذاهبه

جاءت تبشّرنا الرّسل الكرام به

كالصّبح تبدو تباشيرا كواكبه (٢)

أخباره سرّ علم الأوّلين وسل

بدير تيماء ما أبداه راهبه

تطابق الكون في البشرى بمولده

وطبّق الأرض أعلاما تجاوبه

فالجنّ تهتف إعلانا هواتفه

والجنّ تقذف إحراقا ثواقبه

ولم تزل عصمة التأييد تكنفه

حتى انجلى الحقّ وانزاحت شوائبه

سرى وجنح ظلام الليل منسدل

والنّجم لا يهتدي في الأفق ساربه

يسمو لكلّ سماء منه منفرد

عن الأنام وجبرائيل صاحبه

لمنتهى وقف الرّوح الأمين به

وامتاز قربا فلا خلق يقاربه

لقاب (٣) قوسين أو أدنى فما علمت

نفس بمقدار ما أولاه واهبه

أراه أسرار ما قد كان أودعه

في الخلق والأمر باديه وغائبه

وآب والبدر في بحر الدّجى غرق

والصّبح لمّا يؤب للشرق آيبه

فأشرقت بسناه الأرض واتّبعت

سبل النجاة بما أبدت مذاهبه

وأقبل الرّشد والتاحت زواهره

وأدبر الغيّ فانجابت (٤) غياهبه

وجاء بالذكر آيات مفصّلة

يهدى بها من صراط الله لا حبه

نور من الحكم لا تخبو سواطعه

بحر من العلم لا تفنى عجائبه

له مقام الرّضا المحمود شاهده

في موقف الحشر إذ نابت نوائبه

والرّسل تحت لواء الحمد يقدمها

محمد أحمد السامي مراتبه

له الشّفاعات مقبولا وسائلها

إذا دهى الأمر واشتدّت مصاعبه

والحوض يروي الصّدى من عذب مورده

لا يشتكي غلّة الظمآن شاربه

محامد المصطفى لا ينتهي أبدا

تعدادها ، هل يعدّ القطر حاسبه؟

فضل تكفّل بالدّارين يوسعها

نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه

حسبي التوسّل منها بالذي سمحت

به القوافي وجلّتها غرائبه

حيّاه من صلوات الله صوب حيا

تحدى إلى قبره الزّاكي نجائبه

__________________

(١) في الكتيبة : «من أجله».

(٢) هذا البيت والأبيات التالية غير واردة في الكتيبة الكامنة.

(٣) القاب : المقدار ، وما بين المقبض والسّية من القوس. وفي القرآن الكريم : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) [النجم : ٩] ، ومحيط المحيط (قوب).

(٤) انجابت : انجلت وانكشفت. محيط المحيط (جيب).

١٩٣

وخلّد الله ملك المستعين به

مؤيّد الأمر منصورا كتائبه

إمام عدل بتقوى الله مشتمل

في الأمر والنهي يرضيه يراقبه

مسدّد الحكم ميمون نقيبته

مظفّر العزم صدق الرأي صائبه

مشمّر للتّقى أذيال مجتهد

جرّار أذيال سحب الجود ساحبه

قد أوسعت أمل الرّاجي مكارمه

وأحسبت (١) رغبة العافي رغائبه

وفاز بالأمن محبورا مسالمه (٢)

وباء بالخزي مقهورا محاربه

كم وافد آمل معهود نائله

أثنى وأثنت بما أولى حقائبه

ومستجير بعزّ من مثابته

عزّت مراميه وانقادت مآربه

وجاءه الدهر يسترضيه معتذرا

مستغفرا من وقوع الذنب تائبه

لو لا الخليفة إبراهيم لانبهمت

طرق المعالي ونال الملك غاصبه

سمت لنيل تراث المجد همّته

والملك ميراث مجد وهو عاصبه (٣)

ينميه للعزّ والعليا أبو حسن

سمح الخلائق محمود ضرائبه

من آل يعقوب حسب الملك مفتخرا

بباب عزّهم السامي تعاقبه

أطواد حلم رسا بالأرض محتده

وزاحمت (٤) منكب الجوزا مناكبه

تحفّها من مرين أبحر زخرت

أمواجها وغمام ثار صائبه

بكلّ نجم لدى الهيجاء ملتهب

ينقضّ وسط سماء النّقع ثاقبه

أكفّهم في دياجيها مطالعه

وفي نحور أعاديهم مغاربه

يا خير من خلصت لله نيّته

في الملك أو خطب العلياء خاطبه

جرّدت والفتنة الشّعواء ملبسة

سيفا من العزم لا تنبو مضاربه

وخضتها غير هيّاب ولا وكل

وقلّما أدرك المطلوب هائبه

صبرت نفسا لعقبى الصبر حامدة

والصبر مذ (٥) كان محمود عواقبه

فليهن دين الهدى إذ كنت ناصره

أمن يواليه أو خوف يجانبه

لا زال ملكك والتأييد يخدمه

تقضي بخفض مناويه قواضبه (٦)

__________________

(١) أحسبت : أكثرت وأجزلت. لسان العرب (حسب).

(٢) في نفاضة الجراب : «مسالبه».

(٣) في النفاضة والنفح : «غاصبه» بالغين المعجمة.

(٤) في الأصل : «وزاحت» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفاضة والنفح.

(٥) في نفاضة الجراب : «منذ» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصادر الأخرى.

(٦) القواضب : جمع قاضب وهو السيف القطّاع. محيط المحيط (قضب).

١٩٤

ودمت في نعم تضفو (١) ملابسها

في ظلّ عزّ علا تصفو مشاربه

ثم الصلاة على خير البريّة ما

سارت إليه بمشتاق ركائبه

ومن شعره ما قيّده لي بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة (٢) المرينية ، الفقيه الرئيس الصدر المتفنن أبو زيد بن خلدون (٣) : [الطويل]

صحا القلب عمّا تعلمين فأقلعا

وعطّل من تلك المعاهد أربعا (٤)

وأصبح لا يلوي على حدّ منزل

ولا يتبع الطّرف الخليّ المودّعا

وأضحى من السّلوان في حرز معقل

بعيد على الأيام أن يتضعضعا

يرد الجفان النّجل عن شرفاته

وإن لحظت عن كل أجيد أتلعا

عزيز على داعي الغرام انقياده

وكان إذا ناداه للوجد أهطعا (٥)

أهاب به للشّيب أنصح واعظ

أصاخ له قلبا منيبا ومسمعا

وسافر في أفق التفكّر والحجا

زواهره لا تبرح الدّهر طلّعا

لعمري لقد أنضيت عزمي تطلّبا

وقضّيت عمري رقية (٦) وتطلّعا

وخضت عباب البحر أخضر مزبدا

ودست أديم الأرض أغبر أسفعا (٧)

ومن شعره حسبما قيّده المذكور (٨) : [المتقارب]

نهاه النّهى بعد طول التجارب

ولاح له منهج الرّشد لاحب (٩)

وخاطبه دهره ناصحا

بألسنة الوعظ من كلّ جانب

فأضحى إلى نصحه واعيا

وألغى حديث الأماني الكواذب

وأصبح لا تستبيه (١٠) الغواني

ولا تزدريه حظوظ المناصب

__________________

(١) في الأصل : «تضفوا». وفي نفاضة الجراب : «تصفو».

(٢) الحضرة المرينية : هي عاصمة بني مرين بالمغرب.

(٣) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٨).

(٤) الأربع : جمع ربع وهو الدار. لسان العرب (ربع).

(٥) أهطع : أسرع. لسان العرب (هطع).

(٦) في النفح : «رقبة».

(٧) الأسفع : الأسود المائل إلى الحمرة. لسان العرب (سفع).

(٨) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص ٢٥١) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٨).

(٩) اللاحب : الطريق الواضح. محيط المحيط (لحب).

(١٠) في الكتيبة : «لا تشتهيه».

١٩٥

وإحسانه (١) كثير في النظم والنثر ، والقصار والمطولات. واستعمل في السّفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة ، وهو الآن قاضي (٢) مدينة فاس ، نسيج وحده في السلامة والتّخصيص (٣) ، واجتناب فضول القول والعمل ، كان الله له.

محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف

ابن محمد الصّريحي (٤)

يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن زمرك. أصله من شرق الأندلس ، وسكن سلفه ربض البيّازين من غرناطة ، وبه ولد ونشأ ، وهو من مفاخره.

حاله : هذا (٥) الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها ، مختص (٦) ، مقبول ، هشّ ، خلوب ، عذب الفكاهة ، حلو المجالسة ، حسن التوقيع ، خفيف الروح ، عظيم الانطباع ، شره المذاكرة ، فطن بالمعاريض (٧) ، حاضر الجواب ، شعلة من شعل الذكاء ، تكاد تحتدم جوانبه ، كثير الرقة ، فكه ، غزل مع حياء وحشمة ، جواد بما في يده ، مشارك لإخوانه. نشأ عفّا ، طاهرا ، كلفا بالقراءة ، عظيم الدّؤوب ، ثاقب الذهن ، أصيل الحفظ ، ظاهر النّبل ، بعيد مدى الإدراك ، جيّد الفهم ، فاشتهر فضله ، وذاع أرجه ، وفشا خبره ، واضطلع بكثير من الأغراض ، وشارك في جملة (٨) من الفنون ، وأصبح متلقّف كرة البحث ، وصارخ الحلقة ، وسابق الحلبة ، ومظنّة الكمال. ثم ترقّى في درج المعرفة والاضطلاع ، وخاض لجّة الحفظ ، وركض قلم التّقييد والتّسويد والتعليق ، ونصب نفسه للناس ، متكلّما فوق الكرسي المنصوب ، وبين (٩) الحفل المجموع ، مستظهرا بالفنون (١٠) التي بعد فيها شأوه ، من العربية والبيان واللغة ، وما يقذف به في لج النقل ، من الأخبار والتفسير. متشوّفا مع ذلك إلى السّلوك ، مصاحبا للصّوفية ، آخذا نفسه بارتياض ومجاهدة ، ثم عانى الأدب ، فكان

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٩).

(٢) في النفح : «قاضي حضرة الملك».

(٣) في النفح : «والتخصّص».

(٤) ترجمة ابن زمرك في الكتيبة الكامنة (ص ٢٨٢) ونثير فرائد الجمان (ص ٣٢٧) ونيل الابتهاج طبعة فاس (ص ٢٨٢) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ٧) ونفح الطيب (ج ١٠ ص ٣) واسمه في الأزهار والنفح : «محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الصريحي».

(٥) النص في نفح الطيب (ج ١٠ ص ٤ ـ ٥) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ٨ ـ ٩).

(٦) في النفح : «مختصر».

(٧) أي المعاريض من الكلام ، وهو ما عرض به ولم يصرّح.

(٨) في النفح : «كثير».

(٩) في النفح : «وفوق المحفل».

(١٠) مستظهرا بالفنون : متقوّيا بها.

١٩٦

أملك به ، وأعمل الرّحلة في طلب العلم والازدياد ، وترقّى (١) إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب ، ثم عن السلطان ، وعرف في باب (٢) الإجادة. ولمّا جرت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس ، واستقرّ بالمغرب ، أنس به ، وانقطع إليه ، وكرّ صحبة (٣) ركابه إلى استرجاع حقّه ، فلطف منه محلّه ، وخصّه بكتابة سرّه. وثابت الحال ، ودالت الدولة ، وكانت له الطائلة ، فأقرّه على رسمه معروف الانقطاع والصّاغية ، كثير الدالّة ، مضطلعا بالخطّة خطّا وإنشاء ولسنا ونقدا ، فحسن منابه ، واشتهر فضله ، وظهرت مشاركته ، وحسنت وساطته ، ووسع الناس تخلّقه ، وأرضى للسلطان حمله ، وامتدّ في ميدان النثر (٤) والنظم باعه ، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه قصائد بعيدة الشّأو في مدى الإجادة ، [حسبما يشهد بذلك ، ما تضمّنه اسم السلطان ، أيّده الله ، في أول حرف الميم ، في الأغراض المتعددة من القصائد والميلاديّات ، وغيرها (٥)]. وهو بحاله الموصوفة إلى الآن (٦) ، أعانه الله تعالى (٧) وسدّده.

شيوخه : قرأ (٨) العربية على الأستاذ رحلة الوقت (٩) في فنّها أبي عبد الله بن الفخّار ثم على إمامها (١٠) القاضي الشريف ، إمام الفنون اللّسانية ، أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني ، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد بن لب ، واختصّ بالفقيه الخطيب الصّدر المحدّث أبي عبد الله بن مرزوق فأخذ عنه كثيرا من الرّواية ، ولقي القاضي الحافظ أبا عبد الله المقري عندما قدم (١١) رسولا إلى الأندلس ، وذاكره ، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزّواوي ، وروى (١٢) عن جملة ، منهم القاضي أبو البركات ابن الحاج ، والمحدّث أبو الحسن (١٣) ابن التلمساني ، والخطيب أبو عبد الله ابن اللوشي ، والمقرئ أبو عبد الله ابن بيبش. وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشّريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلوي التّلمساني ، واختصّ به اختصاصا لم يخل فيه من إفادة (١٤) مران وحنكة في الصّناعة (١٥).

__________________

(١) في النفح : «فترقّى».

(٢) في النفح : «في بابه بالإجادة».

(٣) في النفح : «في صحبة».

(٤) في النفح : «النظم والنثر».

(٥) ما بين قوسين ساقط في النفح.

(٦) في النفح : «إلى هذا العهد».

(٧) كلمة «تعالى» ساقطة في الإحاطة ، وقد أضفناها من النفح.

(٨) النص في نفح الطيب (ج ١٠ ص ٥).

(٩) في النفح : «رحلة إلى المغرب في ...».

(١٠) كلمة «إمامها» ساقطة في النفح.

(١١) في النفح : «قدم من الأندلس».

(١٢) في النفح : «ويروي عن جماعة».

(١٣) في النفح : «أبو الحسين».

(١٤) في النفح : «استفادة».

(١٥) في النفح : «في الصنعة».

١٩٧

شعره : وشعره (١) مترام إلى نمط (٢) الإجادة ، خفاجيّ (٣) النّزعة ، كلف بالمعاني البديعة ، والألفاظ الصّقيلة ، غزير المادة. فمنه في غرض النّسيب (٤) :

رضيت بما تقضي عليّ وتحكم

أهان فأقصى أم أصافي فأكرم

إذا كان قلبي في يديك قياده

فمالي عليك في الهوى أتحكّم

على أن روحي في يديك بقاؤه

بوصلك يحيى أو بهجرك يعدم

وأنت إلى المشتاق نار وجنّة

ببعدك يشقى أو بقربك ينعم

ولي كبد تندى إذا ما ذكرتم

وقلب بنيران الشوق يتضرّم

ولو كان ما بي منك بالبرق ما سرى

ولا استصحب الأنواء تبكي وتبسم

أراعي نجوم الأفق في اللّيل ما دجى

وأقرب من عينيّ للنوم أنجم

وما زلت أخفي الحبّ عن كل عادل

وتشفي دموع الصّب ما هو يكتم

كساني الهوى ثوب السّقام وإنه

متى صحّ حبّ المرء لا شيء يسقم

فيا من له العقل الجميل سجيّة

ومن جود يمناه الحيا يتعلّم

وعنه يروّي الناس كلّ غريبة

تخطّ على صفح الزمان وترسم

إذا أنت لم ترحم خضوعي في الهوى

فمن ذا الذي يحني عليّ ويرحم

وحلمك حلم لا يليق بمذنب

فما بال ذنبي عند حلمك يعظم؟

ووالله ما في الحيّ حيّ ولم ينل

رضاك وعمّته أياد وأنعم

ومن قبل ما طوّقتني كل نعمة

كأنّي وإياها سوار ومعصم

وفتّحت لي باب القبول مع الرضى

يغضّ الحيّ طرفي كأني مجرم

ولو كان لي نفس تخونك في الهوى

لفارقتها طوعا وما كنت أندم

وأترك أهلي في رضاك إلى الأسى

وأسلم نفسي في يديك وأسلم

أما والذي أشقى فؤادي في الهوى

وإن كان في تلك الشّقاوة ينعم

لأنت من قلبي ونزهة خاطري

ومورد آمالي وإن كنت أحرم

__________________

(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٠٩) و (ج ١٠ ص ٥).

(٢) في النفح : «هدف».

(٣) نسبة إلى ابن خفاجة ، شاعر الطبيعة في الأندلس.

(٤) لم ترد هذه الأبيات في نفح الطيب.

١٩٨

ومن ذلك ما خاطبني به ، وهي (١) من أول نظمه ، قصيدة مطلعها : [الطويل]

«أما وانصداع النّور في (٢) مطلع الفجر»

وهي طويلة (٣). ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس ، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزّهد بأويس (٤) ، ولم يحل مجاريه ومباريه إلّا بويح وويس ، قوله في إعذار الأمير ولد سلطانه ، المنوّه بمكانه ، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه ، وناسب الحسن بين مديحه ونسيبه(٥): [الطويل]

معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا

وأن يشغل اللوّام بالعذل باليا

دعاني أعط الحبّ فضل مقادتي

ويقضي عليّ الوجد ما كان قاضيا

ودون الذي رام العواذل صبوة

رمت بي في شعب الغرام المراميا

وقلب إذا ما البرق أومض موهنا (٦)

قدحت به زندا من الشوق واريا

خليليّ إني يوم طارقة النّوى

شقيت بمن لو شاء أنعم باليا

وبالخيف يوم النّفر يا أمّ مالك

تخلّفت (٧) قلبي في حبالك عانيا (٨)

وذي أشر عذب الثّنايا مخصّر

يسقّي به ماء النعيم الأقاحيا

أحوم عليه ما دجا الليل ساهرا

وأصبح دون الورد ظمآن صاديا (٩)

يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي

إذا البارق النّجديّ وهنا بدا ليا

أجيرتنا بالرّمل والرّمل منزل

مضى العيش فيه بالشّبية حاليا

ولم أر ربعا منه أقضى لبانة

وأشجى حمامات وأحلى مجانيا

سقت طلّه (١٠) الغرّ الغوادي ونظّمت

من القطر في جيد الغصون لآليا

__________________

(١) في نفح الطيب (ج ١٠ ص ٥): «وهو».

(٢) في النفح : «من».

(٣) وردت في الكتيبة الكامنة (ص ٢٨٤ ـ ٢٨٨) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ١٦٤ ـ ١٦٦) ، وعدد أبياتها ٥٩ بيتا ، ومطلعها :

لك الله من فذّ الجلالة أوحد

تطاوعه الآمال في النّهي والأمر

(٤) هو أويس القرني أحد أعلام الزهد في العصر الأموي ، قتل في وقعة صفين عام ٢٧ ه‍. الأعلام (ج ٢ ص ٣٢) ومصادر حاشيته.

(٥) القصيدة في نفح الطيب (ج ١٠ ص ٦) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ٥٦).

(٦) الموهن من الليل : نصفه أو بعد ساعة منه. لسان العرب (وهن).

(٧) تخلّفت : تركته خلفي. لسان العرب (خلف).

(٨) العاني : الأسير. لسان العرب (عنا).

(٩) في الأصل : «ضاريا» والتصويب من المصدرين.

(١٠) في الأزهار : «ظلّه».

١٩٩

أبثّكم أني على النّأي حافظ

ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا

أناشدكم والحرّ أوفى بعهده

ولن يعدم الأحسان والخير (١) جازيا

وورد (٢) على السلطان أبي سالم ملك المغرب ، رحمة الله تعالى عليه ، وفد الأحابيش بهديّة من ملك السودان ، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمّى بالزّرافة (٣) ، فأمر من يعاني الشعر من الكتّاب بالنظم في ذلك الغرض ، فقال وهي من بدائعه : [الكامل]

لو لا تألّق بارق التّذكار

ما صاب واكف دمعي المدرار

لكنه مهما تعرّض خافقا

قدحت يد الأشواق زند أواري (٤)

وعلى (٥) المشوق إذا تذكّر معهدا

أن يغري الأجفان باستعبار

أمذكّري غرناطة حلّت بها

أيدي السّحاب أزرّة النّوّار؟

كيف التخلّص للحديث وبيننا (٦)

عرض الفلاة وطافح زخّار (٧)؟

وغريبة قطعت إليك على الونى

بيدا تبيد بها هموم السّاري

تنسيه طيّته (٨) التي قد أمّها

والرّكب فيها ميّت الأخبار

يقتادها من كلّ مشتمل الدّجى

وكأنما عيناه جذوة نار

خاضوا بها لجج الفلا فتخلّصت

منها خلوص البدر بعد سرار

سلمت بسعدك من غوائل مثلها

وكفى بسعدك حاميا لذمار

وأتتك يا ملك الزمان غريبة

قيد النّواظر نزهة الأبصار

موشيّة الأعطاف رائقة (٩) الحلى

رقمت بدائعها يد الأقدار

راق العيون أديمها فكأنه

روض تفتّح عن شقيق بهار

ما بين مبيضّ وأصفر فاقع

سال اللّجين به خلال نضار

يحكي حدائق نرجس في شاهق

تنساب فيه أراقم الأنهار

__________________

(١) في الأصل : «الخير والإحسان» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من المصدرين.

(٢) النص والقصيدة في نفح الطيب (ج ١٠ ص ١٠ ـ ١١) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ١٧٠ ـ ١٧٢).

(٣) في النفح : «الزرافة».

(٤) الأوار : حرّ النار ، واللهب. محيط المحيط (أور).

(٥) في أزهار الرياض : «علّ المشوق ...».

(٦) في أزهار الرياض : «ودونها».

(٧) في نفح الطيب : «وطافح الزّخّار».

(٨) الطيّة : النّيّة والوجهة. لسان العرب (طوى).

(٩) في أزهار الرياض : «رائعة».

٢٠٠