الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم

محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن فرج

ابن يوسف بن نصر الخزرجي (١)

أمير المسلمين لهذا العهد بالأندلس ، صدر الصدور ، وعلم الأعلام ، وخليفة الله ، وعماد الإسلام ، وقدوة هذا البيت الأصيل ، ونير هذا البيت الكريم ، ولباب هذا المجد العظيم ، ومعنى الكمال ، وصورة الفضل ، وعنوان السّعد ، وطائر اليمن ، ومحول الصّنع ، الذي لا تبلغ الأوصاف مداه ، ولا توفي العبارة حقّه ، ولا يجري النظم والنثر في ميدان ثنائه ، ولا تنتهي المدائح إلى عليائه.

أوّليّته : أشهر من إمتاع الضّحى ، مستولية على المدى ، بالغة بالسّعة بالانتساب إلى سعد بن عبادة عنان السماء ، مبتجحة في جهاد العدا ، بحالة من ملك جزيرة الأندلس ، وحسبك بها ، وهي بها في أسنى المزاين والحلي ، وقدما فيه بحسب لمن سمع ورأى.

حاله : هذا السلطان أيمن أهل بيته نقيبة ، وأسعدهم ميلادا وولاية ، قد جمع الله له بين حسن الصورة ، واستقامة البنية ، واعتدال الخلق ، وصحّة الفكر ، وثقوب الذّهن ، ونفوذ الإدراك ، ولطافة المسائل ، وحسن التأنّي ؛ وجمع له من الظّرف ما لم يجمع لغيره ، إلى الحلم والأناة اللذين يحبّهما الله ، وسلامة الصدر ، التي هي من علامة الإيمان ، ورقّة الحاشية ، وسرعة العبرة ، والتبريز في ميدان الطهارة والعفّة ، إلى ضخامة التّنجّد ، واستجادة الآلات ، والكلف بالجهاد ، وثبات القدم ، وقوة الجأش ، ومشهور البسالة ، وإيثار الرّفق ، وتوخّي السّداد ، ونجح المحاولة. زاده الله من فضله ،

__________________

(١) ترجمة الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر في اللمحة البدرية (ص ١١٣ ، ١٢٩) وأزهار الرياض (ج ٤ ص ٣٤).

٣

وأبقى أمره في ولده ، وأمتع المسلمين بعمره. ساق الله إليه الملك طواعية واختيارا ، إثر صلاة عيد الفطر على بغتة وفاة المقدّس أبيه ، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة ، لمخايل الخير ، ومزية السّن ، ومظنّة (١) البركة ، وهو يافع ، قريب العهد (٢) بالمراهقة ، فأنبته الله النّبات الحسن ، وسدل به السّتر ، وسوّغ العافية ، وهنّأ العيش ؛ فلم تشحّ في مدته السماء ، ولا كلب الأعداء ، ولا تبدّلت الألقاب ، ولا عونيت الشدائد ، ولا عرف الخوف ، ولا فورق الخصب ، إلى أن كانت عليه الحادثة ، ونابه التّمحيص الذي أكسبه الحنكة ، وأفاده العبرة ، فشهد بعناية الله في كفّ الأيدي العادية ، وأخطأ ألم السّهام الرّاشقة ، وتخييب الآمال المكايدة ، وانسدال أروقة السّتر والعصمة ، ثم العودة ، الذي عرف الإسلام بدار الإسلام قدرها ، وتملّأ عزّها ورجح وزنها ، كما اختبر ضدّها فرصة الملك ، وشاع العدل ، وبعد الصيت ، وانتشر الذّكر ، وفاض الخير ؛ وغزر القطر ، فظهرت البركات ، وتوالت الفتوح ، وتخلّدت الآثار. وسيرد من بيان هذه الجمل ، ما يسعه الترتيب بحول الله.

ترتيب دولته الأولى : إذ هو ذو دولتين ، ومسوّغ ولايتين ، عزّزهما الله ، بملك الآخرة ، بعد العمر الذي يملأ صحايف البرّ ، ويخلّد حسن الذّكر ، ويعرف إلى الوسيلة ، ويرفع في الرفيق الأعلى الدّرجة ، عند الله خير وأبقى للذين آمنوا ، وعلى ربّهم يتوكلون.

وزراؤه وحجّابه : انتدب إلى النّيابة عنه ، والتّشمير إلى الحجابة ببابه ، الشيخ القائد المعتمد بالتّجلّة ، المتحول من الخدّام النّبهاء ، المتسود الأبوة ؛ المخصوص بالقدح المعلّى من المزية ، المسلّم في خصوصيّة الملك والتربية ، ظهير العلم والأدب ، وأمين الجدّ ، ومولى السّلف ، ومفرغ الرأي إلى هذا العهد ، وعقد سفرة (٣) السلطان ، وبقية رجال الكمال من مشيخة (٤) المماليك ، وخيار الموالي ، أبا النعيم رضوان ، رحمه الله ، فحمد الكلّ ، وخلف السلطان ، وأبقى الرّتب ، وحفظ الألقاب ، وبذل الإنصاف ، وأوسع الكنف ، واستدعى النّصيحة ، ولم يأل جهدا في حسن السّيرة ، وتظاهر المحض ، وأفردني بالمزيّة وعاملني بما يرتدّ عنه جسر أطرف الموالاة والصّحبة ، ووفّى لي الكيل الذي لا يقتضيه السّن ، والقربة من الاشتراك في الرتبة ، والتّزحزح عن الهضبة ، والاختصاص باسم الوزارة على المشهر والغيبة ، والمحافظة على التّشيّع والقدمة ، بلغ في ذلك أقصى الغايات ، مدارج التخلق المأثور عن الجلّة ،

__________________

(١) في اللمحة البدرية (ص ١١٣): «ومظنة الحصافة».

(٢) في اللمحة : «قريب عهد بحال المراهقة».

(٣) في اللمحة البدرية : «وعقدة السلطان ...».

(٤) في اللمحة البدرية : «مشيخة ولاء بيتهم أبو النعيم رضوان».

٤

والتودّد إليّ المرّة بعد المرّة ، واختصصت بفوت المدّة بالسلطان ، فكنت المنفرد بسرّه دونه ، ومفضي همّه ، وشفاء نفسه ، فيما ينكره من فتنة تقع في سيرته ، أو تصيّر توجيه السّذاجة في معاملاته ، وصلاح ما يتغيّر عليه من قلبه ، إلى أن لحق بربّه.

شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره :

أقر على الغزاة شيخهم على عهد أبيه ، أبا زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق ، مطمح الطّواف (١) ، وموفى الاختيار ، ولباب القوم ، وبقيّة السلف ، جزما ودهاء ، وتجربة وحنكة وجدّا وإدراكا ، ناهيك من رجل فذّ المنازع ، غريبها ، مستحقّ التقديم ، شجاعة وأصالة ، ورأيا ومباحثة ، نسّابة قبيله ، وأضحى قسّهم ، وكسرى ساستهم ، إلى لطف السّجية ، وحسن التأنّي ، لغرض السلطان ، وطرق التّنزل للحاجات ، ورقّة غزل الشّفاعات ، وإمتاع المجلس ، وثقوب الذّهن والفهم ، وحسن الهيئة. وزاده خصوصيّة ملازمته (٢) مجلس الرّقاع (٣) المعروضة ، والرسّل الواردة. وسيأتي ذكره في موضعه بحول الله تعالى.

كاتب سرّه : قمت لأول الأمر بين يديه بالوظيفة التي أسندها إليّ أبوه المولى المقدّس ، رحمه الله ، من الوقوف على رأسه ، والإمساك في التهاني والمبايعة بيده ، والكتابة والإنشاء والعرض والجواب ، والخلعة والمجالسة ، جامعا بين خدمة القلم ، ولقب الوزارة ، معزّز الخطط برسم القيادة ، مخصوصا بالنيابة عنه في الغيبة ، على كل ما اشتمل عليه سور القلعة والحضرة ، مطلق أمور الإيالة ، محكما في أشتاته تحكيم الأمانة ، مطلق الراية ، ظاهر الجاه والنعمة. ثم تضاعف العزّ ، وتأكد الرّعي ، وتمحّض القرب ، فنقلني من جلسة المواجهة ، إلى صفّ الوزارة ؛ وعاملني بما لا مزيد عليه من العناية ، وأحلّني المحل الذي لا فوقه في الخصوصيّة ، كافأ الله فضله ، وشكر رعيه ، وأعلى محلّه عنده.

وأصدر لي هذا الظّهير لثاني يوم ولايته : هذا ظهير كريم ، صفي شربه. وسفّرني في الرسالة عنه ، إلى السلطان ، الخليفة الإمام ، ملك المغرب ، وما إليه من البلاد الإفريقية ، أبي عنان ، حسبما يأتي ذكره. ثم أعفاني في هذه المدة الأولى ، عن كثير من الخدمة ، ونوّه بي عن مباشرة العرض بين يديه بالجملة ، فاخترت للكلّ والبدلة ، وما صان عنه في سبيل التجلّة ، وإن كان منتهى أطوار الرّفعة ، الفقيه أبا محمد بن

__________________

(١) في اللمحة البدرية (ص ١١٦): «الطرف ومرمى الاختيار».

(٢) في اللمحة البدرية (ص ١١٧): «بملازمة».

(٣) في اللمحة البدرية (ص ١١٧): «مجلس العرض وملتقى الرسل الواردة وإجالة قداح المشورة».

٥

عطية (١) ، مستنزلا عن قضاه وادي آش وخطابتها ، فكان يتولّى ما يكتب بنظري ، وراجعا لحكمي ، ومتردّدا لبالي ، مكفى المؤنة في سبيل الحمل الكلي ، إلى وقوع الحادثة ، ونفوذ المشيئة بتحويل الدولة.

قضاته : جدّد أحكام القضاء والخطابة لقاضي أبيه الشيخ الأستاذ الشريف (٢) ، نسيج وحده ، وفريد دهره ، إغرابا في الوقار ، وحسن السّمت ، وأصالة البيت (٣) ، وتبحّرا في علوم اللّسان ، وإجهازا في فصل القضايا ، وانفرادا ببلاغة الخطبة ، وسبقا في ميدان الدهاء والرّجاحة ، أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني ، الجانح إلى الإيالة النّصرية من مدينة سبتة (٤). وسيأتي التعريف به في مكانه ، إن شاء الله. وتوفي ، رحمه الله ، بين يدي حدوث الحادثة ، فأرجىء الأمر بمكانه ، إلى قدوم متلقّف الكرة ، ومتعاور تلك الخطّة ، الشيخ الفقيه القاضي ، أبي البركات قاضي أبيه ، ووليها الأحقّ بها بعده ، إذ كان غايبا في السّفارة عنه ، فوقع التّمحيص قبل إبرام الأمر على حال الاستنابة.

الملوك على عهده : وأوّلهم بالمغرب ، السلطان ، الإمام (٥) ، أمير المسلمين ، أبو عنان (٦) ابن أمير المسلمين أبي الحسن (٧) ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ ، البعيد الشأو (٨) في ميدان السّعادة ، والمصمي أغراض السّداد ، ومعظّم (٩) الظّفر ، ومخوّل الموهبة ، المستولي على آماد الكمال (١٠) ، عقلا وفضلا وأبّهة ورواءا ، وخطّا وبلاغة ، وحفظا وذكاء (١١) وفهما وإقداما (١٢) ، تغمّده الله برحمته ، بعثني إلى بابه رسولا على إثر بيعته ، وتمام أمره ،

__________________

(١) في اللمحة البدرية (ص ١١٦): «الفقيه الكاتب أبا محمد عبد الحق بن أبي القاسم بن عطية ...»

(٢) كلمة «الشريف» ساقطة في اللمحة البدرية (ص ١١٦).

(٣) قوله : «وأصالة البيت» ساقط في اللمحة البدرية (ص ١١٦).

(٤) في اللمحة البدرية (ص ١١٦): «سبتة إلى أخريات شعبان من عام ستين وسبعمائة ، وتوفي رحمه الله».

(٥) في اللمحة البدرية (ص ١١٧): «الشهير».

(٦) في اللمحة البدرية : «المسلمين فارس ابن ...».

(٧) في اللمحة البدرية : «أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب ...».

(٨) في اللمحة البدرية : «شأو السعادة ، المعمى ...».

(٩) في اللمحة البدرية : «مطعم».

(١٠) في اللمحة البدرية : «الآماد البعيدة الكمالية أبهة ...».

(١١) في اللمحة البدرية (ص ١١٧): «وإدراكا».

(١٢) في اللمحة البدرية : «وإقداما وشجاعة».

٦

وخاطبا إثره وودّه ، مسترفدا من منحة قبوله ، فألفيت بشرا مبذولا ، ورفدا ممنوحا ، وعزّا باذخا ، يضيق الزمان عن جلالته ، وتقصر الألسنة عن كنه وصفه ، فكان دخولي عليه في الثامن والعشرين من شهر ذي قعدة عام خمسة وخمسين المذكور ، وأنشدته بين يدي المخاطبة ، ومضمن الرسالة : [المنسرح]

خليفة الله ساعد القدر

علاك ما لاح في الدّجى قمر

فأحسب وكفى ، واحتفل واحتفى ، وأفضت بين يديه كرمته ، إلى الحضور معه في بعض المواضع المطلة على مورد رحب. هاج به الخدّام أسدا ، أرود ، شثن الكفّين ، مشعر اللّبدة ، حتى مرق عن تابوت خشبي كان مسجونا به ، من بعد إقلاعه ، من بعض كواه ، وأثارته من خلفه ، واستشاط وتوقّد بأسا. وجلب ثور عبل الشّوى ، منتصب المروى ، يقدمه صوار من الجواميس ، فقربت الخطى ، وحميت الوغى ، وبلغ الزئير والجوار ما شاء ، في موقف من ميلاد الشيم العلى يخشى الجبان مقارعة العدا ، ويوطن نفسه الشجاع على ملاقاة الرّدى ، وخار الأسد عن المبارزة ، لما بلغ منه ثقافا عن رد المناوشة ، ومضطلعا بأعباء المحاملة ، فتخطاه إلى طائفة من الرّجالة ، أولي عدّة ، وذوي دربة ، حمل نفسه متطارحا كشهاب الرّجم ، وسرك الدّجى ، وأخذته رماحهم بإبادته ، بعد أن أردى بعضهم ، وجدّل بين يدي السلطان ، متخبطا في دمه. وعرّض بعض الحاضرين ، وأغرى بالنظم في ذلك ، فأنشدته : [الكامل]

أنعام أرضك تقهر الآسادا

طبعا كسا الأرواح والأجسادا

وخصائص لله بثّ ضروبها

في الخلق ساد لأجلها من سادا

إن الفضائل في حماك بضائع

لم تخش من بعد النّفاق كسادا

كان الهزبر محاربا فجزيته

بجزاء من في الأرض رام فسادا

فابغ المزيد من آلائه بشكره

وارغم بما خوّلته الحسّادا

فاستحسن تأتّي القريحة ، وإمكان البديهة ، مع قيد الصّفة ، وهيبة المجلس. وكان الانصراف بأفضل ما عاد به سفير ، من واد أصيل ، وإمداد موهوب ، ومهاداة أثيرة ، وقطار مجنوب ، وصامت محمول ، وطعمة مسوعة. وكان الوصول في وسط محرم من عام ستة وخمسين وسبع مائة ، وقد نجح السّعي ، وأثمر الجهد ، وصدقت المخيلة ، وقد تضمّن رحلي الوجهة ، والأخرى قبلها جزء. والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وتوفي ، زعموا ، بحيلة ، وقيل : حتف أنفه ، لمّا نهكه المرض ، وشاع عنه الإرجاف ، وتنازع ببابه الوزراء ، وتسابق إلى بابه الأبناء. وخاف مدبّر أمره ، عايدة ملامته ، على توقع برئه ، وكان سيفه يسبق على سوطه ، والقبر أقرب إلى من

٧

تعرض لعتبه من سجنه ، فقضى موضع هذا السبيل خاتمة الملوك الجلّة ، من أهل بيته. جدّد الملك ، وحفظ الرسوم ، وأجرى الألقاب ، وأغلظ العقاب ، وصيّر إيالته أضيق من الخدّ. وأمدّ الأندلس ، وهزم الأضداد ، وخلّد الآثار ، وبنى المدارس والزوايا ، واستجلب الأعلام. وتحرّك إلى تلمسان فاستضافها إلى إيالته ، ثم ألحق بها قسنطينة وبجاية ، وجهز أسطوله إلى تونس ، فدخلها وتملكها ثقاته في رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة ، واستمرّت بها دعوته إلى ذي قعدة من العام ، رحمة الله عليه. وكانت وفاته في الرابع عشر (١) لذي حجة من عام تسعة (٢) وخمسين وسبعمائة. وصار الأمر إلى ولده المسمى بالسّعيد ، المكنى بأبي بكر ، مختار وزيره ابن عمر الفدودي. ورام ضبط الإيالة المشرقية فأعياه ذلك ، وبايع الجيش الموجّه إليها منصور بن سليمان (٣) ، ولجأ الوزير وسلطانه إلى البلد الجديد ، مثوى الخلافة المرينيّة ، فكان أملك بها. ونازله منصور بن سليمان ، ثم استفضى إليه أمر البلد لحزم الوزير وقوّة شكيمته. وغادر السلطان أبو سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن (٤) ، أخو الهالك السلطان أبي عنان ، الأندلس ، وقد كان استقرّ بها بإزعاج أخيه إيّاه عن المغرب ، كما تقدم في اسمه ، فطلع على الوطن الغربيّ بإعانة من ملك النصارى ، عانى فيها هولا كثيرا ، واستقرّ بآخرة بعد إخفاق شيعته المرّاكشية ، بساحل طنجة ، مستدعى ممن بجبال غمارة ، ودخلت سبتة وطنجة في طاعته. وفرّ الناس عن منصور بن سليمان ، ضربة لازب ، وتقبّض عليه وعلى ابنه ، فقتلا صبرا ، نفعهما الله. وتملك السلطان أبو سالم المدينة البيضاء يوم الخميس عشر لشعبان عام ستين وسبعمائة ، بنزول الوزير وسلطانه عنها إليه. ثم دالت الدولة. وكان من لحاق السلطان برندة ، واستعانته على ردّ ملكه ما يأتي في محلّه ، والبقاء لله سبحانه.

وبتلمسان السلطان أبو حمّو موسى بن يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمرس (٥) بن زيان ، قريب العهد باسترجاعها ، لأول أيام السعيد.

وبتونس (٦) الأمير إبراهيم ابن الأمير أبي بكر ابن الأمير أبي حفص ابن الأمير أبي بكر بن أبي حفص بن إبراهيم بن أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد ، لنظر الشيخ

__________________

(١) في اللمحة البدرية (ص ١١٧): «الرابع والعشرين من ذي حجة عام تسعة ...».

(٢) في الأصل : «تسع» وهو خطأ نحوي.

(٣) في اللمحة البدرية : «منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق».

(٤) في اللمحة البدرية : «أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب».

(٥) في الأصل : «يغمراس» والتصويب من اللمحة البدرية (ص ١١٩).

(٦) في اللمحة البدرية : «وبإفريقية إبراهيم ابن الأمير أبي يحيى أبي بكر بن أبي حفص ...».

٨

رأس الدولة ، وبقية الفضلاء ، الشهير الذكر ، الشائع الفضل ، المعروف السياسة ، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن تافراقين ، تحت مضايقة من عرب الوطن.

ومن ملوك النصارى بقشتالة (١) ، بطره بن ألهنشه بن هراندة بن شانجه بن ألفنش (٢) بن هرانده ، إلى الأربعين (٣) ، وهو كما اجتمع وجهه ، تولى (٤) الملك على أخريات أيام أبيه في محرم عام أحد وخمسين وسبعمائة. وعقد معه سلم (٥) على بلاد المسلمين. ثم استمرّ ذلك بعد وفاته في دولة ولده المترجم به ، وغمرت الرّوم فتنة (٦) وألقت العصا ، وأغضت القضاء ، وأجالت على الكثير من الكبار الرّدى ، بما كان من إخافته سائر إخوانه لأبيه ، من خاصّته ، العجلة الغالبة على هواه ، فنبذوه على سوء بعد قتلهم أمّهم ، وانتزوا عليه بأقطار غرسهم فيها أبوهم قبل موته بمرعيّة أمّهم. وسلك لأول أمره سيرة أبيه في عدوله عن عهوده بمكابيه لمنصبه ، إلى اختصاص عجلة ، أنف بحراه كبار قومه ، من أجل ضياع بذره وانقراض عقبه ، فمال الخوارج عليه ، ودبّروا القبض عليه ، وتحصّل في أنشوطة ، يقضي أمره بها إلى مطاولة عقله أو عاجل خلع ، لو لا أنه أفلت وتخلّص من شرارها. فاضطره ذلك إلى صلة السّلم ، وهو الآن بالحالة الموصوفة.

الأحداث في أيامه :

لم يحدث في أيامه حدث إلّا العافية المسحّة والهدنة المتّصلة ، والأفراح المتجدّدة ، والأمنة المستحكمة ، والسّلم المنعقدة. وفي آخر جمادى عام ستة (٧) وخمسين وسبعمائة لحق بجبل الفتح (٨) ، فشمّم شعبته ، وأبرّ مبتوته (٩) ، كان على ثغره العزيز على المسلمين ، من لدن افتتاحه ، الموسوم الخطة ، المخصوص بمزية تشييده ، عيسى بن الحسن بن أبي منديل (١٠) ، بقيّة الشيوخ أولي الأصالة والدّهاء ، والتزيّي بزي الخير ، والمثل السائر في الانسلاخ من آية السعادة ، والإغراق في سوء العقبى ، والله غالب على أمره ، فكان أملك بمصامّه ، وقرّ عينه بلقاء ولده ، والتمتع منه بجواد عتيق. ملّي من خلال السياسة ، أرداه سوء الحظ ، وشؤم النّصبة ، واظلمّ ما بينه وبين

__________________

(١) في اللمحة البدرية : «وبقشتالة».

(٢) في اللمحة البدرية : «ألهونش».

(٣) في اللمحة البدرية : «أربعين».

(٤) في اللمحة البدرية : «ولي».

(٥) في اللمحة البدرية : «السلم».

(٦) كلمة «فتنة» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من اللمحة.

(٧) في الأصل : «ست» وهو خطأ نحوي.

(٨) هو جبل طارق.

(٩) أي قام بتعلية أسواره وإصلاح أجزائه الخربة الهالكة. الإحاطة (ج ٢ ص ٢٣) حاشية رقم ٣.

(١٠) في اللمحة البدرية (ص ١٢٠): «منديل العسكري».

٩

سلطانه ، مسوغه برداء العافية على تفه صغر ، وملبسه رداء العفّة على قدح الأمور ، أبدى منها الخوف على ولده ، وعرض ديسم عزمه ، على ذوبان الجبل ، فانحطّوا في هواه ، وغرّوه بكاذب عصبة ، فأظهر الامتناع سادس ذي قعدة من العام المذكور ، واتصلت الأخبار ، وساءت الظنون ، وضاقت الصدور ، ونكست الرءوس لتوقّع الفاقرة ، بانسداد باب الصّريخ ، وانبتات سبب (١) النّصرة ، وانبعاث طمع العدوّ ، وانحطّت الأطماع في استرجاعه واستقالته ، لمكان حصانته ، وسموّ الذّروة ، ووفور العدّة ، ووجود الطّعمة ، وأخذه بتلاشي الفرصة. ثم ردفت الأخبار بخروج جيشه صحبة ولده إلى منازلة أشتبونة (٢) ، وإخفاق أمله فيها ، وامتساك أهلها بالدعوة ، وانتصافهم من الطائفة العادية ؛ فبودر إليها من مالقة بالعدد. وخوطب السلطان من ملك المغرب ، أيّده الله ، بالجليّة ، فتحققت المنابذة ؛ واستقرّت الظنون. وفي الخامس والعشرين من شهر ذي قعدة ، ثار به أهل الجبل ، وتبرّأ منه أشياعه ، وخذلوه بالفرار ، فأخذت شعابه ونقابه ، فكرّ راجعا أدراجه إلى القاعدة الكبيرة ، وقد أعجله الأمر ، وحملته الطمأنينة على إغفال الاستعداد بها ، وكوثر (٣) فألقي به ، وقد لحق به بعض الأساطيل بسبتة ، لداعي تسوّر توطّى على إمارته ، فقيّد هو وابنه ، وخيض بهما البحر للحين ، ولم ينتطح فيها عنزان ، رحمه الله ؛ سنام فئة ألقت بركها ، وأناخت بكلكلها ، وقد قدّر أنها واقعة ، ليس لها من دون الله كاشفة ، فقد كان من بالجبل برموا على إيالة ذينك المرتسمين ، وألقوا أجوارها ، وأعطوهما الصفقة ، بما أطمعهما في الثورة ، ولكل أجل كتاب. واحتمل إلى الباب السلطاني بمدينة فاس ، وبرز الناس إلى مباشرة إيصالهما مجلوبين في منصّة الشهرة ، مرفوعين في هضبة المثلة. ثم أمضى السلطان فيهما حكم الفساد ، بعد أيام الحرابة ، فقتل الشيخ بخارج باب السمّارين من البلد الجديد ، بأيدي قرابته ، فكان كما قال الأول : [الكامل]

أضحت رماح بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقّق

وقطعت رجل الولد ويده ، بعد طول عمل وسوء تناول ، ولم ينشب أن استنقذه حمامه فأضحى عبرة في سرعة انقلاب حالهما من الأمور الحميدة ، حسن طلعة ، وذياع حمد ، وفضل شهرة ، واستفاضة خيريّة ، ونباهة بيت ، وأصالة عزّ ، إلى ضدّ هذه الخلال ، وقانا الله مصارع السوء ، ولا سلب عنا جلباب السّتر والعافية.

__________________

(١) كلمة «سبب» ساقطة في اللمحة البدرية.

(٢) أشتبونة بالإسبانيةEsTepona : وهي بلدة تقع على البحر المتوسط ، وشمال جبل طارق.

الإحاطة (ج ٢ ص ٢٤) حاشية رقم ٣.

(٣) أي كثر خصومه.

١٠

وسدّ السلطان ثغر الجبل بآخر من ولده اسمه السعيد ، وكنيته أبو بكر ، فلحق به في العشر الأول من المحرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة ، ورتّب له بطانته ، وقدّر له أمره ، وسوّغه رزقا رغدا ، وعيشا خفضا. وبادر السلطان المترجم له ، إلى توجيه رسوله ؛ قاضيا حقّه ، مقرّر السّرور بجواره ، وأتبع ذلك ما يليق من الحال من برّ ومهاداة ونزل ، وتعقبت بعد أيام المكافات ، فاستحكم الودّ ، وتحسنت الألفة إلى هذا العهد ، والله وليّ توفيقهم ومسني الخير والخيرة على أيديهم.

الحادثة التي جرت عليه :

واستمرت أيامه كأحسن أيام الدول ، خفض عيش ، وتوالي خصب ، وشياع أمن ، إلّا أنّ شيخ الدولة القائد أبا النعيم ، رحمه الله ، أضاع الحزم. وإذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره ، سلب ذوي العقول عقولهم ، بما كان من أمنه جانب القصر الملزم دار سكناه ، من علية فيها أخو السلطان ، بتهاونه ، يحيل أمّه المداخلة في تحويل الأمر إليه ، جملة من الأشرار ، دار أمرهم على زوج ابنتها الرئيس محمد بن إسماعيل بن فرج من القرابة الأخلاف ، وإبراهيم بن أبي الفتح ، والدليل الموروري ، وأمدّته بالمال ، فداخل القوم جملة من فرسان القيود ، وعمرة السّجون ، وقلاميد الأسوار. وكانت تتردّد إليه في سبيل زيارة بنتها الساكنة في عصمة هذا الخبيث ، المنزوع العصمة ، خارج القلعة حتى تمّ يوم الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من العام ، اجتمعوا وقد خفي أمرهم ، وقد تألّفوا عددا يناهز المائة بالقوس الداخل من وادي هدارّه إلى البلد ، لصق الجناح الصاعد منه إلى الحمراء ، وكان بسورها ثلم ، لم يتمّ ما شرعوا فيه من إصلاحه ؛ فنصبوا سلما أعدّ لذلك ، وصعدوا منه. ولمّا استوفوا ، قصدوا الباب المضاع المسلحة ، للثقة بما قبله ؛ فلمّا تجاوزوه أعلنوا بالصياح ، واستغلظوا بالتهويل ، وراعوا الناس بالاستكثار من مشاعل الخلفاء ، فقصدت طائفة منهم دار الشيخ القائد أبي النّعيم ؛ فاقتحمته غلابا وكسرت أبوابه ؛ وقتلته في مضجعه ؛ وبين أهله وولده ، وانتهبت ما وجدت به. وقصدت الأخرى دار الأمير ، الذي قامت بدعوته ، فاستنجزته واستولت على الأمر. وكان السلطان متحوّلا بأهله إلى سكنى «جنّة العريف» خارج القلعة ، فلمّا طرقه النبأ ؛ وقرعت سمعه الطبول سدّده الله ؛ وساند أمره في حال الحيرة ، إلى امتطاء جواد كان مرتبطا عنده في ثياب تبذّله ومصاحبا لأفراد من ناسه ؛ وطار على وجهه ، فلحق بوادي آش قبل سبوق نكبته ، وطرق مكانه بأثر ذلك ، فلم يلف فيه ، واتّبع فأعيا المتبع. ومن الغد ، استقام الأمر لأولي الثورة ، واستكملوا لصاحبهم أمر البيعة ، وخاطبوا البلاد فألقت إلى صاحبهم بالأزمّة ، وأرسلوا إلى ملك النصارى في عقد الصلح. وشرعوا في منازلة وادي آش ، بعد أن ثبت أهلها مع

١١

المعتصم بها ، فلازمته المحلات وولي عليه التضييق ، وخيف فوات البدر ونفاد القوة ، فشرع السلطان في النظر لنفسه ، وخاطب السلطان أبا سالم ملك المغرب في شأن القدوم عليه ، فتلقاه بالقبول وبعث من يمهد الحديث في شأنه ، فتمّ ذلك ثاني يوم عيد النّحر من العام. وكنت عند الحادثة على السلطان ، ساكنّا بجنتي المنسوبة إليّ من الحضرة ، منتقلا إليها بجملتي ، عادة المترفين ، إذ ذاك من مثلي ، فتخطاني الحتف ، ونالتني النكبة ، فاستأصلت النعمة العريضة ، والجدة الشهيرة ، فما ابتقت طارفا ولا تليدا ، ولا ذرت قديما ولا حديثا ، والحمد لله مخفّف الحساب ، وموقظ أولي الألباب ، ولطف الله بأن تعطّف السلطان بالمغرب إلى شفاعة بي بخطّه ، وجعل أمري من فصول قصده. ففكّت عني أصابع الأعداء ، واستخلصت من أنيابهم ، ولحقت بالسلطان بوادي آش ، فذهب البأس ، واجتمع الشّمل. وكان رحيل الجميع ثاني عيد النحر المذكور ، فكان النزول بفحص ألفنت ، ثم الانتقال إلى لوشة ، ثم إلى أنتقيره ، ثم إلى ذكوان ، ثم إلى مربلّة ، يضم أهل كلّ محل من هذه مأتما للحسرة ، ومناحة للفرقة. وكان ركوب البحر صحوة الرابع والعشرين من الشهر ، والاستقرار بمدينة سبتة ، وكفى بالسلامة غنما ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.

وكان الرحيل إلى باب السلطان ، تحت برّ لا تسعه العبارة ، ولقاؤنا إياه بظاهر البلد الجديد لإلمام ألمّ عاقه عن الإصحار والتغنّي على البعد ، يوم الخميس السادس لمحرم من عام أحد وستين بعده ، في مركب هائل ، واحتفال رائع رائق ، فعورض فيه النزول عن الصّهوات ، والبرّ اللائق بمناصب الملوك ، والوصول إلى الدار السلطانية ، والطعام الجامع للطبقات وشيوخ القبيل. وقمت يومئذ فوق رأس السلطان وبين يدي مؤمّله ، فأنشدته مغريا بنصره ، كالوسيلة بقولي (١) : [الطويل]

سلا هل لديها من مخبّرة ذكر؟

وهل أعشب الوادي ونمّ به الزّهر؟

فهاج الامتعاض ، وسالت العبرات ، وكان يوما مشهودا ، وموقفا مشهورا ، طال به الحديث ، وعمرت به النوادي ، وتوزّعتنا النزائل على الأمل ، شكر الله ذلك وكتبه لأهله ، يوم الافتقار إلى رحمته. واستمرّت الأيام ، ودالت الدولة للرئيس بالأندلس ، والسلطان تغلبه المواعيد ، وتونسه الآمال ، والأسباب تتوفّر ، والبواعث تتأكّد. وإذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه ، واستقرّت بي الدار بمدينة سلا ، مرابطا ، مستمتعا بالغيبة ، تحت نعمة كبيرة ، وإعفاء من التكليف.

__________________

(١) البيت مطلع قصيدة من ٧٥ بيتا وردت في الكتيبة الكامنة (ص ١٢٢ ـ ١٢٥) وكتاب العبر (م ٧ ص ٦٣٨ ـ ٦٤٢) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٨٠ ـ ٨٤) وأزهار الرياض (ج ١ ص ١٩٦ ـ ٢٠٠).

١٢

وفي اليوم السابع لشوال من عام التاريخ ، قعد السلطان بقبّة العرض بظاهر جنّة المصارة لتشييعه (١) ، بعد اتخاذ ما يصلح لذلك ؛ من آلة وحلية ، وقد برز الخلق ، لمشاهدة ذلك الموقف المسيل للدموع ، الباعث للرّقّة ، المتبع بالدّعوات ، لما قذف الله في القلوب من الرحمة ، وصحبه به في التغرّب من العناية ، فلم تنب عنه عين ، ولا خمل له موكب ، ولا تقلّصت عنه هيبة ، ولا فارقته حشمة ، كان الله له في الدنيا والآخرة. وأجاز ، واضطربت الأحوال ، بما كان من هلاك معينه السلطان أبي سالم ، وغدر الخبيث المؤتمن على قلعته به ، عمر بن عبد الله بن علي ، صعّر الله حزبه ، وخلّد خزيه ، وسقط في يده ، إلّا أنّه ثبتت في رندة من إيالة الأندلس ، الراجعة إلى إيالة المغرب ، قدمه ، فتعلّل بها ، وارتاش بسببها ، إلى أن فتح الله عليه ، وسدّد عزمه ، وأراه لمّا ضعفت الحيل صنعه ، فتحرّك إلى برّ مالقة ، وقد فغر عليها العدوّ فمه ، ثم أقبل على مالقة ، مستميتا دونها ، فسهّل الله الصّعب ، وأنجح القصد ، واستولى عليها ، وانثالت عليه لحينها البلاد ، وبدا الريّس المتوثّب على الحضرة ، بعد أن استوعب الذّخيرة والعدّة ، في جملة ضخمة ممن خاف على نفسه ، لو وفّى بذمّة الغادر وعهده ، واستقرّ بنادي صاحب قشتالة ، فأخذه بجريرته (٢) ، وحكّم الحيلة في جنايته وغدره ، وألحق به من شاركه في التّسوّر من شيعته ، ووجّه إلى السلطان برءوسهم تبع رأسه. وحثّ السلطان أسعده الله خطاه إلى الحضرة ، يتلقّاه الناس ، مستبشرين ، وتتزاحم عليه أفواجهم مستقبلين مستغفرين ، وأحقّ الله الحقّ بكلماته ، وقطع دابر الكافرين.

وكان دخول السلطان دار ملكه ، وعوده إلى أريكة سلطانه ، وحلوله بمجلس أبيه وجدّه ، زوال يوم السبت الموفي عشرين لجمادى الثانية من عام ثلاثة وستين وسبعمائة ، جعلنا الله من همّ الدنيا على حذر ، وألهمنا لما يخلص عنده من قول وعمل. وتخلّف الأمير وولده بكره ، أسعده الله ، بمدينة فاس فيمن معه من جملة ، وخلّفه من حاشية ولد المستولي على ملك المغرب في إمساكه إلى أن يسترجع رندة في معارضة هدفه. ثم إن الله جمع لأبيه بجمع شمله ، وتمّم المقاصد بما عمّه من سعده. وكان وصولي إليه معه ، في محمل اليمن والعافية ، وعلى كسر التّيسير من الله والعناية يوم السبت الموفي عشرين شعبان عام ثلاثة وستين وسبعمائة.

__________________

(١) أي لتشييع سلطان غرناطة المخلوع.

(٢) الجريرة : الذنب والجناية. لسان العرب (جرر).

١٣

ترتيب الدولة الثانية السعيدة الدور إلى بيعة الكور :

هنّأ المسلمين ببركتها الوافرة ، ومزاياها المتكاثرة ، السلطان ، أيّده الله ، قد مرّ ذكره ، ويسّر الله من ذلك ما تيسّر.

وزراؤه : اقتضى حزمه إغفال هذا الرّسم جملة ، مع ضرورته في السياسة ، وعظم الدخول ، حذرا من انبعاث المكروه له من قبله ، وإن كان قدّم بهذا اللقب في طريق منصرفه إلى الأندلس ، وأيّاما من مقامه برندة ، فنحله عن كره ، علي بن يوسف بن كماشة ، من عتاق خدّامه وخدّام أبيه ، مستصحبا إيّاه ، مسدول التّجمّل على باطن نفرة ، مختوم الجرم ، على شوكه ، في حطبه في حبل المتغلب ، وإقراضه السيئة من الحسنة ، والمنزل الخشن ، إلى الإنفاق منه على الخلال الذّميمة ، ترأسها خاصّة الشّوم ، علاوة على حمل الشيخ الغريب الأخبار ، والطّمع في أرزاق الدور ، والاسترابة بمودّة الأب ، وضيق العطن ، وقصر الباب ، وعيّ اللّسان ، ومشهور الجبن. ولمّا وقع القبض ، وساء الظنّ ، بعثه من رندة إلى الباب المريني ليخلي منه جنده ، ويجسّ مرض الأيام ، بعد أن نقل من الخطة كعبه ، فتيسّر بعد منصرفه الأمر ، وتسنّى الفتح. وحمله الجشع الفاضح ، والهوى المتّبع ، على التشطّط لنفسه ، والكدح لخويصته بما أقطعه الجفوة ، وعسر عليه العودة على السلطان بولده ، إلى أن بلغ الخبر برجوع أمره ، ودخول البلاد في طاعته ، فألقى ما تعيّن إليه ، وأهوى به الطمع البالغ في عرش الدولة ، ويرتاش في ريق انتقامها. وتحرّك وراية الإخفاق خافقة على رأسه ، قطب مخلصه ، وجؤجوة عوده ، من شيخ تدور بين فتكه رحى جعجعة ، وتثور بين أضلاعه حيّة مكيدة ، وينعق فوق مساعيه غراب شوم وطيرة. وحدّث حرفاؤه صرفا من مداخلة سلطان قشتالة ، أيام هذه المجاورة ، فبلغ أمنيته من ضرب وعد ؛ واقتناء عهد ، واتخاذ مدد ، وترصيد دار قرار ، موهما نفسه البقاء والتعمير والتملّي ، وانفساح المدة والأمر ، وقيادة الدّجن (١) عند تحوّل الموطن لملّة الكفر ، يسمح لذلك ، لنقصان عقله ، وقلّة حيائه وضعف غيرته. وطوى المراحل ، وقيّض حمّى تزلزل لها فكّاه ، أضلّها الحسرة ، وانتزاء الخبائث. وتلقّاه بمالقة ، إيعاز السلطان بالإقامة بها ، لما يتّصل به من سوء تصريفه ، ثم أطلع شافع الحياء في استقامة وطنه طوق عتبه ، وصرفه إلى منزله ، ناظرا في علاج مرضه. ثم لمّا أفاق وقفه دون حدّه ، ولم يسند إليه شيئا من أموره ، فشرع في ديدنه من الفساد عليه ، وتمرّس سلطان قشتالة ، شاكيا إليه بثّه ، وأضجر لسكنى باديته بالثّغر ، فراب السلطان أمره ، وأهمّه شأنه ، فتقبّض عليه وعلى ولده ، وصرفا في

__________________

(١) يقصد بهم المدجنين وهم المسلمون الأندلسيون الذين بقوا في أرضهم التي افتتحها النصارى.

١٤

جملة من دائرة السّوء ممن ثقلت وطأته ، فغرّبوا إلى تونس ، أوائل شهر رمضان من عام ثلاثة وستين. ثم لما قفل من الحجّ ، واستقرّ ببجاية يريد المغرب ، حنّ إلى جوار النّصرانية ، التي ريم سلفه العبوديّة إليها ، فعبر البحر إلى برجلونة (١) ، ينفض عناء طريق الحجّ على الصّلبان ، ويقفو على آثار تقبيل الحجر الأسود ، تقبيل أيدي الكفّار. ثم قصد باب المغرب رسولا عن طاغية برجلونه في سبيل فساد على المسلمين ، فلم ينجح فيه قصده ، فتقاعد لمّا خسر فيه ضمانه ، وصرف وكره إلى الاتصال بصاحب قشتالة ، وعنّ على كتب إليه بخطّه ، يتنفّق عنده ويغريه بالمسلمين ، فتقبّض عليه ، وسجن بفاس مع أرباب الجرائم. وعلى ذلك استقرّ حاله إلى اليوم ، وأبرأ إلى الله من التّجاوز في أمره. ومن يضلل الله فما له من هاد.

ولمّا وفدت على السلطان بولده ، وقرّت عيني بلقائه ، تحت سداده وعزّه ، وفوق أريكة ملكه ، وأدّيت ما يجب من حقّه ؛ عرضت عليه غرضي ، ونفضت له خزانة سرّي ، وكاشفته ضميري بما عقدت مع الله عهدي ، وصرفت إلى التّشريق (٢) وجهي ، فعلقت بي لركومه علوق الكرامة ، ولاطفني بما عاملت البرّ بين الدّعر والضّنانة ، ويضرب الآماد ، وخرج لي عن الضرورة ، وأراني أن مؤازرته أبرّ القرب ، وراكنني إلى عهد بخطّه ، فسح فيه لعامين أمد الثواء ، واقتدى بشعيب ، صلوات الله عليه ، في طلب الزّيادة على تلك النّسبة ، وأشهد من حضر من العلية ، ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه ، وحكّم عقلي في اختيار عقله ، وغطّى من جفائي بحلمه ، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري ، ووقف القبول على وعظي ، وصرف هواه في التحول ثانيا وقصدي ، واعترف بقبول نصحي ، فاستعنت بالله ، وعاملت وجهه فيه. وصادقني مقارضة الحقّ بالجهاد ، ورمى إليّ بدنياه ، وحكّمني فيما ملكته يداه ، وغلّبني على أمره لهذا العهد ، والله غالب على أمره. فأكمل المقام ببابه إلى هذا التاريخ مدّة أجرى الله فيها ، من يمن النّقيبة ، واطّراد السّداد ، وطرد الهوى ، ورفض الزّور ، واستشعار الجدّ ، ونصح الدّين ، وسدّ الثغور ، وصون الجباية ، وإنصاف المرتزقة ، ومحاولة العدوّ ، وقرع الأسماع بلسان الصّدق ، وإيقاظ العيون من نوم الغفلة ، وقدح زناد الرّجولة ، ما هو معلوم ، يعضّد دعواه ، ولله المنّة ، سجية السّذاجة ، ورفع التّسمّت ، وتكوّر المنسأة ، وتفويت العقار في سبيل القربة ، والزّهد في الزّبرج (٣) ، وبثّ حبال الآمال ، والتّعزيز بالله عن الغنيمة ، وجعل الثوب غطاء الليل ، ومقعد المطالعة فراش

__________________

(١) هي برشلونة.

(٢) يريد أنه قصد مكة لقضاء فريضة الحجّ.

(٣) الزّبرج : الزينة من وشي أو جوهر ونحو ذلك ، والذهب. محيط المحيط (زبرج).

١٥

النّوم ، والشغل لمصلحة الإسلام ، لريم الأنفاس ، فأثمر هذا الكرخ ، وأثبج هذا المسعى مناقب الدولة ، بلغت أعنان السماء (١) ، وآثارا خالدة ما بقيت الخضراء على الغبراء ، وأخبارا تنقل وتروى ، إن عاندها الحاسد ، فضحه الصّباح المنير ، وكاثره القطر المنثال ، وأعياه السّيل المتدافع.

فما يختص من ذلك بالسلطان ، فخامة الرتبة ، ونباهة الألقاب ، وتجمّل الرياش ، وتربع الشريعة ، وارتفاع التّشاجر ببابه ، والمنافسة والاغتباط منه ، بمجالس التنبيه والمذاكرة ، وبدار الدموع في حال الرّقة ، والإشادة باحتقار الدنيا بين الخاصة ، وتعيين الصدقات في الأوقات العديدة ، والقعود لمباشرة المظالم ستة عشر يوما في كل شهر من شهور الأهلّة ، يصل إليه فيها اليتيم والأرملة ، فيفرح الضعيف ، وينتظر حضور الزمن ، ويتغمّد هفوة الجاهل ، ويتأثر لشكوى المصاب ، ويعاقب الوزعة على الأغلاط ، إلى إحسان الملكة في الأسرى ، والإغراب في باب الحلم ، والإعياء في ترك الحظ ، والتبرّي من سجيّة الانتقام ، والكلف بارتباط الخيل ، واقتناء أنواع السلاح ، ومباشرة الجهاد ، والوقار في الهيعات (٢) ، وإرسال سجيّة الإيمان ، وكساد سوق المكيدة ، والتصامم عن السعاية ؛ هذا مع الشباب الغضّ ، والفاحم الجعد ، وتعدّد حبائل الشيطان في مسالك العمر ، ومطاردة قانص اللّذات في ظلّ السّلم ، ومغازلة عيون الشهوات من ثنايا الملوك. وأيم الله الذي به تستخلص الحقوق ، وتيسّر السّتور ، وتستوثق العهود ، ولا تطمئن القلوب إلّا به ؛ ما كاذبته ، ولا راضيت في الهوادة طوله ، ولا سامحته في نقيض هذه الخلال. ولقد كنت أعجب من نفاق أسواق الذّكرى لديه ، وانتظام أقيسة النصح عنده ، وإيقاع نبات الرّشد فيه نصيحة ، وأقول : بارك الله فيها من سجيّة ، وهنّأ المسلمين بها من نفس زكيّة. وسيأتي بيان هذه النتائج ، وتفسير مجمل هذه الفضائل بحول من لا حول إلّا به سبحانه. والحال متصلة على عهده الوثير من إعانته بالوسوع والخروج له عن هذه العهدة ، والتسليم له في البقيّة ، إرهافا لسيف جهاده ، وجلاء لمرآة نصحه ، وتسوية لميزان عدله ، وإهابة لمحمد رشده ، شدّ العقدة ، عقدة وغيرة على حرمة ماله وعرضه ، ورعاية للسان العلم المنبئ عن شأنه ، ونيابة عنه في معقل ملكه ، ومستودع ماله وذخيرته ، ومحافظة على سرّه وعلانيته لحرمه وولده ، وعمرانا للجوانح بتفضيله وحبّه ، معاملة أخلص الله قصدها لوجهه ، وأمحضها من أجله ، ترفعه عن جراية

__________________

(١) كلمة «السماء» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليكتمل المعنى والسجعة معا.

(٢) الهيعات : جمع هيعة وهي كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع. محيط المحيط (هيع).

١٦

رحل هلالها ، وإقطاع تنجع قدرته ، أو فصلة تعبث البنان بنشيرها ، وخطّة تشدّ إليه على منشورها. والله يرجح ميزاني عنده ، ويحظى وسيلتي لديه ، ويحرّك مكافأة سعيي في خواطر حجّه ، وينبّه لتبليغ أملي من حجّ بيت الله ، وزيارة رسول الله ، بمنّه وكرمه ، فما على استحثاث الأجل من قرار ، ولا بعد الشّيب من إعذار ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أولاده (١) : كمل له في هذا الوقت من الولد أربعة ؛ ثلاثتهم ذكور ، يوسف بكره ، وأراه يتلوه سعد ، ثم نصر ، غلمة روقة ، قد أفرغهم الله في قالب الكمال ، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ، فسح الله لهم أمد السعادة ، وجعل مساعيهم جانحة إلى حسنى العقبى ، سالكا بهم سبيل الاهتداء بفضل الله ورحمته.

قضاته (٢) : قدّم لأول قدومه ، الفقيه القاضي ، الحسيب ، الخيّر ، أبا جعفر بن أحمد بن جزي ، شاكرا بلاءه بمالقة ، إذ كان قد ألقاه قاضيا بها للمتغلّب ، فلم يأل جهدا في الإجلاب على من اعتصم بقصبتها ، والتحريض على استنزالهم ، فاتّخذ زلفة لديه ، فأجرى الأحكام ، وتوخّى السّداد. ثم قدّم (٣) إليها الفقيه القاضي الحسيب ، أبا الحسن علي بن عبد الله بن الحسن ، عين الأعيان ببلده مالقة ، والمخصوص برسم التّجلّة ، والقيام بوظيفة (٤) العقد والحلّ بها (٥) في الدولة الأولى ، وأصالة البيت ، والانقطاع إليه ، ومصاحبة ركابه في طلب الملك ، ومتسوّر المشاق من أجله ، وأولى الناس باستدرار خلف دولته ، فسدّد وقارب ، وحمل الكلّ (٦) ، وأحسن فصاحة (٧) الخطبة والخطّة ، وأكرم المشيخة وأرضى ، واستشعر النّزاهة ، ولم يقف في حسن التأنّي عند (٨) غاية ، واشتمل معها لفق الخطابة ، فأبرز وأعلم ، تسمّيا وحفظا وجهوريّة ، فاتّفق في ذلك على رجاحته ، واستصحب نظره على الأحباس ، فلم يقف في النصح عند غاية ، أعانه الله.

__________________

(١) في اللمحة البدرية (ص ١١٥): «ولده : ولد له إلى هذا العهد ولد ذكر اسمه يوسف على اسم أبيه».

(٢) تحت عنوان «قضاته» ذكر ابن الخطيب في اللمحة البدرية (ص ١١٦) قاضيا واحدا هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني ، وقال : إن الغني بالله جدّد له أحكام القضاء والخطابة إلى أخريات شعبان من عام ٧٦٠ ه‍.

(٣) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ١١٦).

(٤) في النفح : «والقيام بالعقد والحلّ».

(٥) من هنا حتى قوله : «باستدرار خلف دولته» غير وارد في النفح.

(٦) الكلّ ، بفتح الكاف وتشديد اللام : الضعيف. لسان العرب (كلل).

(٧) في النفح : «مصاحبة».

(٨) في النفح : «على».

١٧

كتّابه (١) : أسند الكتابة إلى الفقيه المدرك ، المبرّز في كثير من الخلال ، ملازمه أيضا في طلب الملك ، ومطاردة قنص الحظّ ، أبي عبد الله بن زمرك ، ويأتي التعريف بجميعهم.

شيخ غزاته : متولي ذلك في الدولة الأولى ، الشيخ أبو زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق (٢) ، قدّمه إليها معتبا إياه ، طاويا بساط العدوّ بالجملة ، قدّموها بابنه عثمان على الخاصّة يومئذ ، لمظاهرته في الوجهة ، وسعيه في عودة الدّولة ، واستمرّت الحال إلى اليوم الثالث عشر لشهر رمضان من عام أربعة وستين وسبعمائة ، وكان القبض على جملتهم ، وأجلى هذا البيت من سفرة السياسة مدّة ، مجتزيا فيه بنظره على رسمه في الوزارة من قبيله. ثم قدّم إليها موعوده بها القديم الخدمة ، وسالف الأدمة ، لمّا لجأ إلى وادي آش مفلتا من وبقة الحادثة ، الشيخ أبا الحسن علي بن بدر الدين بن موسى بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق ، حلف السّداد أيامه ، والمقاربة والفضل والدّماثة ، المخصوص على اختصار بيمن النّقيبة ، واستمرّت أيامه إلى نقبة القفول عن غزوة جيّان أخريات محرم من عام تسعة وستين ، وتوفي ، رحمه الله ، حتف أنفه ، فاحتفل لمواراته ، وإقرابه من تأبّيه ، واستغفاره ، والاعتراف بصدق موالاته ، وتفجيعه لفقده ، وما أعرب به من وفاء نجده ، وقدّم لها عهدا طرف اختياره ، الأمين ، الشّهم ، البهمة ، خدن الشّهرة ، والمشار إليه بالبسالة ، وفرع الملك والأصالة ، عبد الرحمن ابن الأمير أبي الحسن علي بن السلطان أبي علي عمر ابن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق ، إذ كان قد لحق به ، بعد ظهور أتيح له بوطنه من المغرب ، استقرّ مبايعا بعمالة سجلماسة وما إليها ، وطن جدّه ، وميراث سلفه ، ففسح له جانب قبوله ، وأحلّه من قربه محلّ مثله ، وأنزله بين ثغر الاغتباط ونحره ، ثم استظهر به على هذا الأمر ، فأحسن الاختيار ، وأعزّ الخطة ، وهو القائم عليها لهذا العهد ، وإلى الله أسباب توفيقه.

ظرف السلطان وحسن توقيعه :

بذّ في هذا الباب من تقدّمه ، وكثرة وقوعه ، بحيث لا يعدّ نادره ، وقليل الشيء يدلّ على كثيره. مرّ بي يوما ومعي ولده ، يروم اتخاذ حذق القرآن ، فقلت له : أيّدك

__________________

(١) في عنوان : «كتابه» ذكر ابن الخطيب في اللمحة البدرية (ص ١١٦) أنه هو الذي أجرى للغني بالله رسم العرض والإنشاء ، ثم هو نفسه قد استخدم في أخريات أيام الغني بالله كاتب الدولة التونسية الفقيه الكاتب أبا محمد عبد الحق بن أبي القاسم بن عطية.

(٢) كذا ذكره ابن الخطيب في اللمحة البدرية (ص ١١٦) وقال إن الغني بالله أقرّه على الغزاة على عهد أبيه.

١٨

الله ، الأمير يريد كذا ، ولا بدّ له من ذلك ، وأنا وكيله عليك في هذا ، فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا خفاء ببراعة هذا التوقيع ، وغرابة مقاصده ، ومجالسه على الأيام معمورة بهذا ومثله.

الملوك على عهده : بالمغرب (١) السلطان الجليل إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. تولّى ملك المغرب حسبما تقدم في اسمه (٢) ، وألقى إليه بالمقاليد ، واستوسقت له الطاعة ، وبحسب ما بثّ الله من اشرباب (٣) الخلق إليه ، وتعطّشهم إلى لقائه ، ورغبتهم في إنهاضه إلى ملك أبيه ، كان انقلابهم إلى ضد هذه الخلال ، شرقا بأيامه وإحصاء لسقطاته ، وولعا باغتيابه وتربصا لمكروه به ، إذ أخفقت فيه الآمال ، واستولت الأيدي من خدّامه على ملكه. وقيّض الله لإبادة أمره ، وتغيّر حاله وهدّ ركنه ، الخائن الغادر نسمة السوء وقذار ناقة الملك ، وصاعقة الوطن وحرد السّيد عمر بن عبد الله بن علي (٤) مؤتمنة على البلد الجديد ، دار ملكه ومستودع ماله وذخيرته ، فسدّ الباب دونه ، وجهر بخلعانه. وفض في اتّباع الناعق المشؤوم سور ماله ، وأقام الدّعوة باسم أخيه أبي عمر ، ذي اللّوثة ، الميؤوس من إفاقته ، وذلك ضحوة اليوم الثامن عشر لشوال من عام اثنين وستين وسبعمائة. وبادر السلطان أبو سالم البيعة من متحول سكناه بقصر البلد القديم (٥) ، وصابر الأمر عامة اليوم. ولمّا جنّ الليل ، فرّ لوجهة ، وأسلم وزراءه وخاصّته ، وقيّدت خطاه الخيريّة ، فأوى إلى بعض البيوت ، وبه تلاحق متبوعه ، فقيد إلى مصرعه السّوء بظاهر بلده ، وحز رأسه ، وأوتي به إلى الغادر. وكان ما بين انفصال السلطان عنه مودّعا إلى الأندلس بإعانته ، ومطوّق فضل تلقيه وقفوله وحسن كفالته ، ثمانية أشهر ويوم واحد. واستمرّت دعوة أخيه المموّه به إلى الرابع والعشرين من صفر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة ،

__________________

(١) ضمن العنوان نفسه جاء في اللمحة البدرية (ص ١١٧) : أن سلطان المغرب في عهد الغني بالله هو أبو عنان فارس بن أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ، وولي بعده ولده السعيد أبو بكر.

(٢) المراد إبراهيم بن أبي الحسن بن أبي سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق ، وقد تقدمت ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة.

(٣) الاشرباب : المحبة ؛ يقال : أشرب فلان حبّ فلانة ، أي خالط قلبه. وأشرب قلبه محبة هذا : أي حلّ محلّ الشراب. لسان العرب (شرب).

(٤) في اللمحة البدرية (ص ١١٨ ـ ١١٩): «عمر ابن الوزير عبد الله بن علي البيّاني».

(٥) البلد القديم هو مدينة فاس القديمة ، والبلد الجديد هو ضاحية أنشأها بنو مرين بجوار مدينة فاس.

١٩

واستدعي من باب قشتالة الأمير محمد أبو زيّان ابن الأمير أبي زيد بن عبد الرحمن ابن السلطان المعظّم أبي الحسن. وقد استقرّ نازعا إليه أيام عمّه السلطان أبي سالم ، وقع عليه اختيار هذا الوزير الغادر ، إذ وافق شنّ تغلّبه طبق ضعفه (١) ، وأعمل الحيلة في استجلابه ، فوصل حسب غرضه ، وأجريت الأمور باسمه ، وأعيد أخوه المعتوه إلى مكانه ، واستمرّت أيام هذا الأمير مغلوبا عليه ، مغرى بالشراب على فيه وبين الصّحب إلى أن ساءت حاله ، وامتلأت بالموجدة على الوزير نفسه ، فعاجله بحتفه ، وباشر اغتياله ، وأوعز إلى خدامه بخنقه ، وطرحه بحاله في بعض سواقي قصره ، متبعا ببعض أواني خمره ، يوهم بذلك قاتله ، تردّيه سكرا ، وهويه طفوحا. ووقف عليه بالعدول عند استخراجه ، وندب النّاس إلى مواراته ، وبايع يومه ذلك أبا فارس عبد العزيز وارث ملك أبيه السلطان أبي الحسن ، المنفرد به ، وخاطب الجهات بدعوته ، وهو صبيّ ظاهر النبل والإدراك ، مشهور الصّون ، وأعمل الحيلة لأول أمره ، على هذا الوزير مخيف أريكة ملكه ، ومظنّة البدا في أمره ، فطوّقه الحمام واستأصل ما زراه من مال وذخيرة ، شكر الله على الدولة صنيعة ، وفي ذلك يقول : [الطويل]

لقد كان كالحجاج في فتكاته

تحاذره البرّاء دوما وتخشاه

تغدّى به عبد العزيز مبادرا

وعاجله من قبل أن يتعشّاه

وكان بعده وليّه الحق ونصيره لا إله إلّا هو. وهو اليوم ملك المغرب ، مزاحما بابن أخيه ، السلطان أبي سالم ، المعقود البيعة بمرّاكش وما إليها ، جمع الله شتات الإسلام ، ورفع عن البلاد والعباد مضرّة الفتنة.

وبتلمسان السلطان أبو حمو موسى ابن الأمير أبي يعقوب يوسف (٢) بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيّان. حسبما كان في الدولة الأولى ، متفقها منه على خلال الكرم والحزم ، مضطلعا بأمره والقيام على ما بيده.

وبتونس (٣) ، الأمير أبو سالم إبراهيم ابن الأمير أبي يحيى بن أبي حفص ، حسبما تقدم ذكره.

__________________

(١) أخذه من المثل : «وافق شنّ طبقة». وشنّ هو رجل من دهاة العرب ، وطبقة بنته ، يضرب للمتوافقين. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ٣٥٩).

(٢) في اللمحة البدرية (ص ١١٩): «يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن».

(٣) في اللمحة البدرية (ص ١١٩): «وبإفريقية إبراهيم ابن الأمير أبي يحيى أبي بكر بن أبي حفص بن إسحاق ابن الأمير أبي زكرياء».

٢٠