الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

الإحاطة في أخبار غرناطة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3319-5

الصفحات: ٤٢٤

لله درّك أيّ نجل كريمة

ولدته فاس منك بعد حبالها (١)

ولأنت لا عدمتك والد فخرها

وسماك سؤددها وبدر كمالها

اغلظ على من عاث من أنذالها

واخشع لمن تلقاه من أبدالها

والبس بما أوليتها من نعمة

حلل الثّناء وجرّ من أذيالها

خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة

جاءتك لم ينسج على منوالها

ما جال في مضمارها شعر ولا

سمحت قريحة شاعر بمثالها

وأثل أبا البركات من بركاتها

وادفع محال شكوكه بمحالها (٢)

هذه ، أمتع الله ببقائك ، وأسعد بلقائك ، وأراها بما تؤمّله من شريف اعتنائك ، وترجوه من جميل احتفائك ، ما تعرف به من احتذائك ، وتعترف له ببركة اعتفائك ، كريمة الأحياء ، وعقيلة الأموات والأحياء ، بنت الأذواء والأقيال ، ومقصورة الأسرّة والحجال ، بل أسيرة الأساوير والأحجال ، على أنها حليفة آلام وأوصأب ، وأليفة أشجان وأطراب ، صبابة أغراب من صيّابة أعراب ، جاورت سيف بن ذي يزن في رأس غمدان ، وجاوزت مسلمة بن مخلد يوم جابية الجولان ، وذلقت لسان ابن أخته حسّان ، فتضاءلت لرقة حدّه جسوم بني عبد المدان ، وقرّبه وما شيم من غمده قيد ابن الإطنابة بين يدي النّعمان ، قربت ببني جفنة مزار جلّق ، وسعرت لبني تميم نار محلق ، ومرّت على معتاد غالب فما أنست ناره ، وطافت ببيت عبد الله بن دارم فلم ترض جواره ، ولو حلّت بفنائه ، واستحلّت ما أحلّ لها من مبذول حبائه ، لاغتفر لها ما جنته ببطن أواره ، ولحلّت لها حبوتا مجاشع وزراره ، مزقت على مزيقيا حللا ، وأذهبت يوم حليمة مثلا ، وأركبت عنزا شرّ يومها يجدع جملا ، وناطت بأذن مارية قرطها ، وجرّت على أثر الكندي مرطها ، وقفها بين الدّخول فحومل فوقفت ، وأنفها يوم دارة جلجل فأنفت منه وما ألفت ، عقر ناقته وانتهس عبيطها ، ودخل خدر عنيزة وأمال غبيطها. أغرت أبا قابوس بزياد ، وأسرجت للزبيدي فرس أبي داود ونافرت بحاتم طيّ كعب إياد ، وساورت للمساور ، بمثل جوده السّائر. ولئن بلت الجعفري لبيدا ، فلقد استعبدت الأسدي عبيدا ، وقطعت به في أثر سليماه الأسدية بيدا ، أرته المنيّة على حربة هندها الملحوب ، وما حال قريضه ، دون جريضه ، وأقفر من أهله ملحوب ، وما زالت تخبط في شعاب الأنساب فترشد ، وتنشد ضالتها اليمانية ، فتنشد : [الكامل]

إن كنت من سيف بن ذي يزن

فانزل بسيف البحر من عدن

__________________

(١) في الأزهار : «حيالها».

(٢) في الأزهار : «من آلها».

٤٠١

وذر الشآم وما بناه به الر

روميّ من قصر ومن فدن

تعلف سيل العرم وتردغسان ، وتمهد لها أهضام تبالة فتقول : مرعى ولا كالسّعدان (١) ، تساجل عن سميحة بابن خرام ، وتناضل بسمير يوم خزام ، وتنسى قاتل ستة آلاف ، وكاسي بيت الله الحرام ثلاثة الأفواف ، فلو ساجلت بنبعها أبا كرب ، وأرته ضراعة خدّها التّرب ، لساجلت به أخضر الجلدة في بيت العرب ، ماجدا يملأ الدّلو إلى عقد الكرب ، بل لو حطت بفناء بيتها الحجري رحلها ، وساجلت بفناء جدّها ذي رعين لاستوفت سجلها. كم عاذت بسيفها اليزني ، فأدركت ذحلها ، ولاذت بركنها اليمني ، فأجزل محلها ، ولو استسقت بأوديتها لأذهبت محلها. كافحت عن دينها الحنيفيّ ، فما كهم حسامها ، ونافحت عن نبيّها الأمّيّ فأيّدت بروح القدس سهامها. سدّت باب الدرب دون بني الأصفر ، وشدّت لموته ثوب موت أحمر ، وما شغلها كسر تاج كسرى عن قرع هامة قيصر. ولقد حلّت من سنام نسبها اليعربي باسمك ذروة ، وتعلّقت من ذمام نبيّها العربي بأوثق عروة. تفرّد صاحب تيماء بأبلقه الفرد فعزّ ، وتمرّد ربّ دومة الجندل لما كان من مارد في حرز ، فما ظنك ، أعزك الله ، بمن حلّ من قدسي عقله ، بمعقل قدس ، يطار إليه فلا يطار ، وراد من فردوس أدبه في جنّة لا يضام رائدها ولا يضار. زها بمجاورة الملك ، فازدهى رؤساء الممالك ، وشغف بمجاورة الملك ، فاشتغل عن مطالعة المسالك ، أيشقّ غباره ، وعلى جبين المرزم مثاره ، أو ينتهك ذماره ، وقلب الأسد بيته ودار أخيه أسامة زاره. ولما قضت من أنديتها العربية أوطارها ، واستوفت على أشرف منازعها الأدبية أطوارها ، وعطّرت بنوافح أنفاسها الذّكية آثارها ، وأطلعت في ظلم أنفاسها الدّجوجية كواكبها النيّرة وأقمارها ، عطفت على معقلتها الشاذلية فحلّت عقالها ، وأمر لها فراق الوطن فلمّا استمرّ لها حلالها ، استودعت بطنان تبالة آلها ، وتركت أهضامها المخصبة وحلالها ، أطلّت على دارات العرب فحيّت أطلالها ، ودعت لزيارة أختها اليونانية أذواء حمير وأقيالها. أطمعتها بلمعيّة ألمعيّتها الأعجمية ، ومثلها يطمع ، وجاء بها من قدماء الحكماء كلّ أوحدي الأحوذية ، فباتت تخبّ إليه وتوضع ، باحثة عن مركز دارتهم الفيثاغورية ، آخذة في إصلاح هيئتهم الإنكساغورية ، مؤثرة لما تدلّ عليه دقائق حقائق بقايا علوم مقايسهم البرهانية ، وتشير إليه رموز كنوز وصايا علماء نواميسهم الكلدانية ، من مأثور تأثير لاهوتية قواهم

__________________

(١) «مرعى ولا كالسّعدان» مثل ، والسّعدان : نبت ذو شوك كأنه فلكة ، ينبت في سهول الأرض ، وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطبا. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ٢٧٥) ولسان العرب (سعد).

٤٠٢

السّيماوية ، راغبة فيما يفاض على مادتها الجسمانية ، ويطرأ على عاقليّتها الهيولانية ، من علويات آثار مواهبها الربّانية ، موافقة لمثلهم المفارقة أفضل موافقة ، موافقة لما وافق من شوارد آرائهم الموفّقة أحسن موافقة. وتحت هذه الأستار محذرات أسرار أضرّ بها الإسرار ، وطالما نكر معارفها الإنكار ، ونقلت من صدور أولئك الصّدور إلى بطون هذه الأوراق ، في ظهور فوق دفاتر فلسفيات معاني علومهم الرّقاق. وفي تلك المغاني ، أبكار معاني ، سكن الجوانح والصدور ، بدل الأرائك والخدور ، ولحن في دياجي ، ظلم هذه الأحاجي ، كأقمار في أطمار بهرن وما ظهرن ، وسطعن وما لمعن ، فعشقن وما رمقن ، واستملحن وما لمحن. أدرن خمور أجفانهن ، على ماخوريات ألحانهن ، فهيّجت البلابل ، نغم هذه البلابل ، واستفرغته الأكياس ، مترعات تلك الأكواس. ما سحر بابل ، كخمر بابل ، ولا منتقى أغانيهن الأوائل ، كحمائمكم الهوادل ، إن وصلت هديلها بحفيف ، وصلن ثقيلهن بخفيف. إيه أيها الشّمري المشمعل ، دعنا من حديثك المضمحل ، سر بنا أيها الفارس النّدس (١) ، من حظيرة النّفس ، إلى حضرة القدس ، صرّح بإطلاق الجمال ، وجل من عالميّتك الملكوتية في أفسح مجال ، تمش بين مقاصر قصورها ، ومعاصر خمورها ، رخيّ البال ، مرخيّ السربال ، فما ينسج لك على منوال ، نادم عليها من شغف دنّ سقراط ، إن استحسنت لها حسان فما يصلح لك صالح بن علاط ، بت صريع محيّاها فقد أوصت بمعالجة عقير معاقرة عقارها بقراط ، لا تخش صاحب شرطتها فلا شرط له عليك ولا اشتراط ، ما لك غير مبديك الأول ، من قال امتثل الأمر وما عليك من أمر وال. على رسلك ما هذا العجل ، لا خطأ تتوقعه ولا خطل ، أمكره أنت في هذه الكريهة ، أم بطل. لو علم أنك ضبارية هذا الخميس ، وخبعثة ذلك الخميس ، لما عانى اليمّ رسيس ، شوقا إليك محمد بن خميس ، على أن لا غالب اليوم لأني غالب ، ولا طالب يدرك شأو هذا الطالب ، فقه بلا تفهق ، وحذق في تحذلق. أقسم أبا الفضل بما لك على أبي البركات من الفضل ، ذلك العراقي الأرومة ، لا هذا الفارسي الجرثومة ، وإن يك ذلك ، إسرائيلي الأصل ، وهذا إسماعيلي الجنس ، علوي الفضل. فلتلك الذات ، شرف تلك الأدوات. قدّم لي غالبنا المذكور ، من بأسه الغرّ لأرفع وأسمى من مقعد رقوطيّهم المشهور ، من إغرناطة الحمراء ، ومن متبوّإ أبي أميّتهم المرحوم من جنّات جزيرتهم الخضراء ، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة ، وألوك ، أرأيت في عمرك مثل هذا الصعلوك؟ لا والله ما على ظهر هذه الغبرا ، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا. فأي

__________________

(١) الفارس النّدس : السريع في الطعن. لسان العرب (ندس).

٤٠٣

شيء هذا المنزع؟ إيش ، لا حال لنا معك ولا عيش ، من يضحك على هذا الطيش. ما هذا الخبل ، أخمار بك أم ثمل؟ ارجع إلى ما كنت بصدده وقيت الزّلل ، خذ في الجدّ فما يليق بك الهزل ، رقّ عن ذلك فحكّ لنا منه أرقّ غزل ، ما ذا أقول؟ وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول؟ أفحمتني ، والله ، عن مكالمتكم هذه المحن ، ومنعتني من طلب مسالمتكم ما لكم عليّ في دنياكم هذه من الإحن. إن تكلمت كلمت ، وإذا استعجمت عجمت. أما لهذه العلة آس ، أم على هذه الفيلة مواس؟ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي؟ أما يلين لضعفي ، أما يرقّ قلب زمانكم القاسي؟ ما هذه الدّمن ، يا بني خضراوات الدمن ، أظهرتم المحن ، فقلب لكم ظهر المجنّ (١). إن مرّ بكم الولي حمّقتموه ، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسّقتموه ، وإذا نجم فيكم الحكيم غصصتم به ، فكفّرتموه وزندقتموه. كونوا فوضى ، فما لكم اليوم مسرى سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة ، حيث شئتم ، فقد أهملكم الرعاة. ضيّعتم النص والشرائع ، وأظهرتم في بدعكم العجائب والبدائع. نفّقتم النّفاق ، وأقمتم سوق الفسوق على ساق. استصغرتم الكبائر ، وأبحتم الصّغائر ، أين غنيّكم الشاكر ، يتفقد فقيركم الصابر؟ أين عالمكم الماهر ، يرشد متعلّمكم الحائر. مات العلم بموت العلماء ، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء. جرّد لنا شريعتك يا أفضل الشّارعين ، أتمّ فيها موعظتك يا أفصح التابعين. لا ، والله ، ما يوقظكم من هذا الوسن ، وعظ الحسن ، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن ، إلّا سيف معلّمه أبي الحسن ، والسلام.

قدم غرناطة في أواخر عام ثلاثة وسبعمائة. وتوفي في يوم مقتل صاحبه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم ؛ فرّ من دهليز جاره فيمن كان بها من الأعلام ، بعد أن نهبت ثيابه ، حسبما جرى على غيره من الحاضرين ، وهو يقول : هكذا تقوم الساعة بغتة. ولقيه بعض قرابة السلطان ، ممن كان الوزير قد وتره ، فشرع الرّمح إليه ، فتوسّل إليه برسول الله ، فلم يقبل منه ، وطعنه ، فقتله يوم عيد الفطر عام ثمانية وسبعمائة ، وآخر العهد به ، مطّرحا بالعراء ، خارج باب الفخّارين ، لا يعلم قبره ؛ لمكان الهرج في تلك الأيام ، نسأل الله جميل ستره ، وساء بأثر قتله إياه حال ذلك الرجل وفسد فكره ، وشرد نومه وأصابته علّة رديّة ، فكان يثب المرة بعد الأخرى ، يقول : ابن خميس يقتلني ، حتى مات لأيام من مقتل المذكور.

__________________

(١) أخذه من المثل : «قلب له ظهر المجنّ» ، وهو يضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ثم حال عن العهد. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ١٠١).

٤٠٤

محمد بن عمر بن علي بن إبراهيم المليكشي (١)

يكنى أبا عبد الله.

حاله : كان فاضلا ، متخلقا ، أديبا ، شاعرا ، صوفيا ، جميل العشرة ، حسن الخلق ، كريم العهد ، طيّب النفس. كتب عن الأمراء بإفريقية ، ونال حظوة ، ثم شرّق وحجّ ، ولقي جلّة ، ووصل الأندلس عام ثمانية عشر وسبعمائة ، فلقي بغرناطة حفاية ، وانسحبت بها عليه جراية ، ثم انصرف إلى وطنه ، وناله به اعتقال ، ثم تخلّص من النّكبة ، وأقام به ، يزجى وقته إلى آخر عمره.

وجرى ذكره في «الإكليل الزاهر» (٢) : كاتب الخلافة ، ومشعشع الأدب المزري (٣) بالسّلافة ، كان ، يرحمه الله ، بطل مجال ، وربّ رويّة وارتجال ، قدم على هذه البلاد وقد نبا به وطنه ، وضاق ببعض الحوادث عطنه ، فتلوّم بها تلوّم النسيم بين الخمائل ، وحلّ بها (٤) محل الطّيف من الوشاح الجائل ، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة ، وميرة (٥) يانعة. ثم آثر قطره ، فولّى وجهه شطره ، واستقبله دهره بالإنابة ، وقلّده خطّة الكتابة ، فاستقامت (٦) حاله ، وحطّت رحاله. وله شعر أنيق ، وتصوّف وتحقيق ، ورحلته (٧) إلى الحجاز سببها (٨) في الخبر وثيق ، ونسبتها (٩) في الصالحات عريق.

شعره : نقلت من خطّ الوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين ، مما قيّد عنه ، وكان خبيرا بحاله (١٠) : [الطويل]

رضى نلت ما ترضين (١١) من كلّ ما يهوى

فلا توقفيني (١٢) موقف الذلّ والشّكوى

وصفحا عن الجاني المسيء لنفسه

كفاه الذي يلقاه من شدّة البلوى

__________________

(١) ترجمة محمد بن عمر المليكشي في نيل الابتهاج (ص ٢٣٧) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ٢٢٦) ورحلة البلوي (الورقة ٢٢) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥).

(٢) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥).

(٣) في النفح : «الذي يزري».

(٤) في المصدر نفسه : «منها».

(٥) في الأصل : «ومبرة» والتصويب من نفح الطيب.

(٦) في الأصل : «واستقامت» والتصويب من نفح الطيب.

(٧) في النفح : «ورحلة».

(٨) في النفح : «سعيها».

(٩) في النفح : «ونسبها».

(١٠) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥).

(١١) قوله : «ما ترضين» ساقط في الأصل ، وقد أضفناه من نفح الطيب.

(١٢) في الأصل : «فلا توقفني» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

٤٠٥

بما بيننا من خلوة معنوية

أرقّ من النجوى وأحلى من السّلوى

قفي أتشكّى لوعة البين ساعة

ولا يك هذا آخر العهد بالنّجوى

قفي ساعة في عرصة الدار وانظري

إلى عاشق لا يستفيق من البلوى

وكم قد سألت الريح شوقا إليكم

فما حنّ مسراها إليّ (١) ولا ألوى

فيا ريح ، حتى أنت ممّن يغار بي

ويا نجد ، حتى أنت تهوى الذي أهوى

خلقت ولي قلب جليد على النّوى

ولكن على فقد الأحبّة لا يقوى

وحدّث (٢) بعض من عني بأخباره ، أيّام مقامه بمالقة واستقراره ، أنه لقي ليلة (٣) بباب الملعب من (٤) أبوابها ظبية من ظبيات الإنس ، وفتنة من فتن (٥) هذا الجنس ، فخطب وصالها ، واتّقى بفؤاده نصالها ، حتى همّت بالانقياد ، وانعطفت انعطاف الغصن الميّاد ، فأبقى على نفسه وأمسك ، وأنف من خلع العذار بعد ما تنسّك ، وقال (٦) : [الكامل]

لم أنس وقفتنا بباب الملعب

بين الرّجا واليأس من متجنّب

وعدت فكنت مراقبا لحديثها

يا ذلّ وقفة خائف مترقّب

وتدلّلت (٧) فذللت بعد تعزّز

يأتي الغرام بكلّ أمر معجب

بدويّة أبدى الجمال بوجهها

ما شئت من خدّ شريق (٨) مذهب

تدنو وتبعد نفرة وتجنّيا (٩)

فتكاد تحسبها مهاة الرّبرب (١٠)

ورنت بلحظ فاتر لك فاتن (١١)

أنضى وأمضى من حسام المضرب

وأرتك بابل سحرها بجفونها

فسبت ، وحقّ لمثلها أن تستبي (١٢)

وتضاحكت فحكت بنيّر ثغرها

لمعان (١٣) نور ضياء برق خلّب (١٤)

بمنظّم في عقد سمطي جوهر

عن شبه نور الأقحوان الأشنب

__________________

(١) في النفح : «عليّ».

(٢) النص والقصيدة البائية في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦).

(٣) كلمة «ليلة» ساقطة في النفح.

(٤) في الأصل : «في» والتصويب من النفح.

(٥) في النفح : «وقينة من قينات ...».

(٦) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٦).

(٧) في الأصل : «وتذلّلت» والتصويب من النفح.

(٨) الشريق : المشرق. لسان العرب (شرق).

(٩) في الأصل : «وتجنبا» والتصويب من النفح.

(١٠) المهاة : البقرة الوحشية. والربرب : القطيع من بقر الوحش. لسان العرب (مها) و (ربرب).

(١١) في النفح : «بلحظ فاتن لك فاتر».

(١٢) في الأصل : «تستب» بدون ياء.

(١٣) في الأصل : «لمعات» والتصويب من النفح.

(١٤) البرق الخلّب : المطمع المخلف. محيط المحيط (خلب).

٤٠٦

وتمايلت كالغصن أخضله النّدى (١)

ريّان من ماء الشبيبة مخصب

تثنيه أرياح (٢) الصّبابة والصّبا

فتراه بين مشرّق ومغرّب

أبت الرّوادف أن تميل بميله

فرست وجال كأنه في لولب

متتوّجا بهلال وجه لاح في

خلل السجوف (٣) لحاجب ومحجّب

يا من رأى فيها محبّا مغرما

لم ينقلب إلّا بقلب قلّب

ما زال مذ ولّى يحاول حيلة

تدنيه من نيل المنى والمطلب

فأجال نار الفكر حتى أوقدت

في القلب نار تشوّق وتلهّب

فتلاقت الأرواح قبل جسومها

وكذا البسيط يكون قبل مركّب

ومن مقطوعاته البديعة ، مما سمع منه بغرناطة ، حرسها الله ، أيام مقامه بها قوله (٤) : [الطويل]

أرى لك يا قلبي بقلبي محبّة

بعثت بها سرّي إليك رسولا

فقابله بالبشرى (٥) وأقبل عشيّة

فقد هبّ مسك (٦) للنسيم عليلا

ولا تعتذر بالقطر أو بلل الندى

فأحسن ما يأتي النسيم بليلا

ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي جعفر الرّعيني ، مما أملاه عليّ بمنزله بغرناطة ، قال : وحضرت في عام ثلاثة عشر وسبعمائة ، يوم إحرام الكعبة العليّة ، وذلك في شهر ذي القعدة على اصطلاحهم في ذلك ، وصفته أن يتزيّن سدنة البيت من شيبة بأحسن زي ، ويعمدوا إلى كرسي يصل فيه صاعده إلى ثلث الكسوة ، ويقطعها من هنالك ، ويبقى الثلثان إلى الموسم ، وهو يوم مشهود عند سكان الحرم ، يحتفل له ، ويقوم المنشدون أدراج الكعبة ينشدون. فقلت في ذلك : [الطويل]

ألم ترها قد شمّرت تطلب الجدّا

وتخبر أنّ الأمر قد بلغ الحدّا؟

فجدّ كما جدت إليها وشمّر

عن السّاعد الأقوى تنل عندها سعدا

طوت بردها طيّ السّجلّ كناية

لأمر خفيّ سرّه طوت البردا

وأندت محيّاها فحيّي (٧) جماله

وقبّل على صوت المقى (٨) ذلك الخدّا

__________________

(١) أخضله الندى : بلّله. لسان العرب (خضل).

(٢) في النفح : «أرواح».

(٣) في النفح : «السحاب».

(٤) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٦).

(٥) في الأصل : «بالبشر» والتصويب من النفح.

(٦) في الأصل : «مسكي» والتصويب من النفح.

(٧) في الأصل : «فحيّا».

(٨) في الأصل : «المقلة» وكذا لا يستقيم الوزن ، والمقى : جمع مقية وهي المأق. لسان العرب ـ (مقى).

٤٠٧

فكم سترت سود البرود جمالها

وغطّته لكن عن سنها الرمدا (١)

وكم خال ذاك الخال عما مقصّر

عن العلم بالأنساب لا يعرف الحدّا

لقد سفرت عن وجهها الكعبة التي

لها الحجر (٢) المسنيّ في حسنها المبدا

وقالت ألا أين مكلّلي ، قصدوا إلى (٣)

جمالي فقد أبدى الحجاب الذي أبدا

فلبّت لها العشّاق من كل جانب

يؤمّونها يستقربون لها البعدا

فمن ندف أشفى على تلف ومن

محبّ على قرب يهيم بها وجدا

ومن ساهر على النجوم ولم يذق

بعينيه طعم النور أو يبلغ القصدا

يسائل عن بدر وبدر تجاهه

كذاك (٤) اشتراك اللفظ قد ينغص الخدا

ومن مستهام لا يقرّ قراره

كأنّ به من حرّ أشواقه وقدا

يقلّب قلبا بين جنبيه موريا

أوار الأسى فيه فتحسبه زندا

إذا ما حدا حادي الرّكاب ركابه

كأنّ قلوب الراكبين له نجدا

أحاد بها إن أنت جئت بها منى

ونلت المنى والأمن فانزل ورد وردا

ولا خوف هذا الخيف (٥) والتربة التي

سرت بهما (٦) قد عيّن المصطفى عدّا

وفي عرفات فاعترف وانصرف إلى

مشاعر (٧) فيها يرحم المالك العبدا

وإن كنت من أوفى العبيد جرائما

فحسّن نبيل العقد من ربّك العقدا

لئن صدقت فيك الوعيد جرائم

فعفوا جميل (٨) الصفح يصدقك الوعدا

وعد مفضيا للبيت طف واستلم وقم

بها للمقام الرحب واسجد وكن عبدا

ورد في الثنا والحمد والشكر واجتهد

فمن عرف الإحسان زادته حمدا

وعج نحو فرض الحب واقض حقوقه

وزر قبر من أولاك من هديه رشدا

قال : وكنت في زمن الحداثة ، أفضّل الأصيل على السّحر ، وأقول فيه رقّة المودّع ورقّة المعتذر. فلمّا كان أوان الأسفار ، واتصلت ليالي السير إلى أوقات

__________________

(١) عجز هذا البيت مختل الوزن والمعنى معا.

(٢) كلمة «الحجر» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.

(٣) صدر هذا البيت مختل المعنى والوزن معا.

(٤) في الأصل : «كذلك» وكذا ينكسر الوزن.

(٥) الخيف : غرّة بيضاء في الجبل الأسود الذي هو خلف جبل أبي قبيس ، وبها سمي مسجد الخيف. محيط المحيط (خيف).

(٦) كلمة «بهما» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.

(٧) المشاعر : مناسك الحج ، مفردها مشعر. محيط المحيط (شعر).

(٨) في الأصل : «لجميل» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

٤٠٨

الأسحار ، رأيت أفق الشرق ، ووجدت القائل بفضل السّحر أصدق ، فابتدأت راكبا ، فلمّا جئت لذكر الجناب العليّ النبوي ، أتممت ماشيا ، وأنا في رملة بين مصر وعقبة إيله ، وقلت : [البسيط]

ما أحسن الأفق الشرقيّ إسفارا

فكم هذا في دجى الإدلاج أسفارا

إذا بدا سارت الأظعان هادية

له وصارت به الظلماء أنوارا

يجلو غياهب ليل طالما سدلت

على المحبين في الظلماء أستارا

ونمّ منه نسيم ثم ذا بعد

على أحاديث كانت ثمّ أسرارا

سرت سحيرا فبرّت سرّ ذي سحر

أهدت له ريح من يهواه معطارا

سرت ببانات أكناف اللّوى فغدت

كأنّ دارين قد أصبحت دارا

طابت بطيبة أرواح معطرة

بها فأصبح أفق الشوق عطّارا

كأنما فلق الإصباح حين بدا

خدّ وبهجة (١) حسن الشمس قد وارى

حقي بدت وتبدّت حسن صورتها

فعمّت (٢) الأرض أنجادا وأغوارا

كأنه دعوة المختار حين بدت

دانت لها الخلق إعلانا وإصرارا

من نوره كل نور أنت تبصره

ونوره زاد للأبصار (٣) إبصارا

هدا به الله أقواما به سعدا (٤)

لولاه كانوا مع الكفر كفّارا

هو الشّفيع الذي قالت شفاعته

للموبقين ألا لا تدخلوا النّارا

هو العفوّ (٥) عن الجاني وإن عظمت

من المسيء ذنوب كان غفّارا

هو الكريم الذي ما ردّ سائله

يوما ولو كرّر التّسآل تكرارا

هو الحبيب الذي ألقى محبته

في كل قلب فقلبي نحوه طارا

أحبّه كلّ مخلوق وهام به

حتى الجمادات أحجارا وأشجارا

وانشقّ بدر الدّجى من نور غرّته

وانهلّت السّحب من كفّيه أنهارا

ومن مقطوعاته ، قال : ومما نظمته في ليل السّرى ، وتخيل طيف الكرى ، مبدأ قصيد قصدته ، أي معنى أردته ، أشغل عنه ما بي منه : [الخفيف]

منع الهجر من سليمى هجوعا

فانثنى طبعها يريد الرّجوعا

__________________

(١) في الأصل : «خدر بهجة» وكذا لا يستقيم الكلام ولا الوزن.

(٢) في الأصل : «فعمّته» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٣) في الأصل : «الأبصار» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «سعداء» وكذا ينكسر الوزن.

(٥) العفوّ ، بفتح العين وضمّ الفاء : العافي الكثير العفو. محيط المحيط (عفا).

٤٠٩

بعثته ليلا يعلّل قلبا

مستهاما بها محبّا ولوعا

لم يجد غير طرف جفن قريح

شاخصا نحوها يذرّ الدّموعا

وكتب إلى صديقه شيخنا أبي بكر بن شبرين من بجاية ، وهو معتقل بقصبتها ، وقد امتحنه بذلك أبو عبد الله بن سيد الناس : [الخفيف]

شرح حالي لمن يريد سؤالي

إنني في اعتقال مولى الموالي (١)

مطلق الحمد والثناء عليه

وهو للعطف والجميل موال

لا أرى للولاة فيّ احتكاما

ووليّ مال على كل وال

أرتجي بالمصاب تكفير ذنبي

حسبما جاء في الصّحاح العوالي (٢)

لا تدوم الدّنا ولا الخير فيها

وكذا الشّرّ ذا وذا للزوال

فاغتنم ساعة الوصال وكم من

محنة وهي منحة من نوال

فإذا غبت عنك فاحضر تجدها

للجواب المفيد عن السؤال (٣)

فهي نور النهار (٤) والنور منها

وهي الأنس في الليالي الطوال

فاستدمها تدم ولا تضج منها

وأدرها على اليمين ووال

فإنّ الكأس مجراها على اليمين ، ومسراها لفي الصبح المبين ، تغني عن الإصباح والمصباح ، وتدني لهم معنى النور المشرق في الوجوه الصّباح ، وتجري في الأشباح ، فتسري في الأرواح. وهذه الرسالة طويلة ، فيها كل بديع من نظم ونثر.

فأجابه رحمه الله : [الخفيف]

أرغمن هذه القيود الثّقال

ربّ ودّ مصيره للتّغالي (٥)

طال صبري على الجديدين حتى

كدت مما لقيت أن يشفقا لي (٦)

إنّ بعض الرضا لديه فسيح

أيّ مدّ (٧) به وأيّ ابتقال

حاش لله أن أكون لشيء

شاده الصانع القديم بغال

إن عندي من الثناء عليه

لأماني لم يملهنّ القالي (٨)

يا إمامي الذي بودّي لو أم

كن نصلي (٩) إليه أوّار قال

__________________

(١) في الأصل : «الموال» بدون ياء.

(٢) في الأصل : «العوال» بدون ياء.

(٣) عجز البيت منكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «للنهار» وكذا ينكسر الوزن.

(٥) في الأصل : «للتغال» بدون ياء.

(٦) في الأصل : «ل» بدون ياء.

(٧) في الأصل : «مدد» وكذا ينكسر الوزن.

(٨) في الأصل : «القال» بدون ياء.

(٩) في الأصل : «نصي» ، ولا معنى له.

٤١٠

ارج دنياك وارج مولاك واعلم

أنّ راجي سواه غير مقال

وابتغاء الثواب من ربّك اعمل

فهو يجزي الأعمال بالمثقال

واغتنم غيبة الرّقيب ففيها

لقلوب الرجال أيّ صقال

وأحل في الوجود فكر غنيّ

عن ضروب الإنعام والأحقال

وإذا الوقت ضاق وسّعه بالصّب

ر ولا تنس من شهير المقال

ربما تكره النفوس من الأم

ر له فرحة كحلّ العقال

لا غرو أن وقع توان ، أو تلوّم دهر ذو ألوان ، فالأمر بين الكاف والنون ، ومن صبر لم يبوء بصفقة المغبون ، وللسعداء تخصيص ، ومع التقريب تمحيص ، وما عن القضاء محيص ، والمتصرف في ماله غير معتوب ، وقديم الحقيقة إلى الحيف ليس بمنسوب. وقد ورد خطاب عمادي أطاب الله محضره ، وسدّد إلى المرامي العليّة نظره ، ناطقا بلسان التفويض ، سارحا من الرّضا في الفضاء العريض ، لائذا بالانقياد والتسليم ، قائما على أسكفّة (١) باب الأدب لمثابة حكم الحكيم.

ومنها : والوقائع عافاكم الله وعّاظ ، ونحن هجود وفي الحيّ أيقاظ ، وما كل المعاني تؤديها الألفاظ. وهذا الفنا الذي نشأ عن الوقت ، هو إن شاء الله عين البقيا. وإذا أحبّ الله عبدا حماه الدنيا ، وما هي إلّا فنون ، وجنون فنون ، وحديث كله مجون. وقد يجمع الله الشتيتين ، ولن يغلب عسر يسرين ولا باس ، ويا خطب لا مساس ، وأبعد الله الياس ، وإنما يوفي الأجر الصابرون ، ولا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون. وهي طويلة بديعة.

أسمع بحضرة غرناطة لما قدم عليها وارتسم في جملة الكتاب بها ، وحدّث عن رضي الدين أبي أحمد إبراهيم الطهري ، بسماعه من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي ، بسماعه من أبي الوقت طرّاد. وعن الإمام سراج الدين أبي حفص عمر بن طراد المعري القاضي بالحرم الشريف ، وعن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد الهمداني ، وعن الإمام بهاء الدين الخميري عن أبي الطاهر السّلفي ، وعن جماعة غيرهم ، وكان وروده على الأندلس في أوائل عام خمسة عشر وسبعمائة ، وحضر بها غزوات ، ولقي من كان بها من الأعلام. ثم انصرف عنها في أوائل عام ثمانية عشر ، وأحلّ بسبتة ، فأكرم رئيسها أبو عمر يحيى بن أبي طالب العزفي قدومه ، وأنزله بدار جليلة كان بها علو مطلّ على البحر ، لم يتمكن من مفتاحه ، لأمر اقتضى

__________________

(١) أسكفّة الباب : خشبته التي يوّطأ عليها. محيط المحيط (سكف).

٤١١

ذلك ، فكتب إليه : [الكامل]

يا صاحب البلد المليح المشرق

ما مثله في مغرب أو مشرق

منها :

وخفضت عيشي فيه فارفع منزلي

حتى أرى الدنيا بطرف مطرق

وتجول في البلاد ، ولقي من بها ، واتصل بالأمير أبي علي بسجلماسة ، ومدحه بقصيدة حفظ له منها : [الطويل]

فيا يوسفيّ الحسن والصّفح والرّضا

تصدّق على الدنيا بسلطانك العدل

ثم اتصل بوطنه.

وفاته : نقلت من خط شيخنا أبي بكر المذكور : وفي عام أربعين وسبعمائة ، توفي بتونس صاحبنا الحاج الفاضل المتصوّف ، الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي المليكشي الشهير بابن عمر. صدر في الطلبة والكتاب ، شهير ذو تواضع وإيثار ، وقبول حسن ، رحمه الله.

محمد بن علي بن الحسن بن راجح الحسني (١)

من أهل تونس ، يكنى أبا عبد الله.

حاله : هذا (٢) الرجل الفاضل ، صاحب رواء وأبّهة ، نظيف البزّة ، فاره المركب ، صدوف عن الملّة ، مقيم للرسم ، مطفّف في مكيال الإطراء ، جموح في إيجاب الحقوق ، مترام إلى أقصى آماد التوغّل ، سخيّ اللسان بالثناء ثرثاره ، فكه مطبوع ، حسن الخلق ، عذب الفكاهة ، مخصوص حيث حلّ من الملوك والأمراء بالأثرة ، وممّن دونهم بالمداخلة والصّحبة ، ينظم الشّعر ، ويحاضر بالأبيات ، ويتقدّم في باب التّحسين والتّقبيح ، ويقوم على تاريخ بلده ، ويثابر على لقاء أهل المعرفة والأخذ عن أولي الرواية. قدم على الأندلس في إحدى جمادين ، عام خمسين وسبعمائة ، مفلتا من الوقيعة (٣) بالسلطان أبي الحسن بالجهات الشرقية ، بأيدي بني زيّان وأحلافهم ،

__________________

(١) ترجمة ابن راجح في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩).

(٢) راجع نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩ ـ ٢٢٠).

(٣) هي الوقيعة التي دارت بين أبي الحسن المريني ، صاحب المغرب ، وبين بني زيان ، أصحاب تلمسان ، وقد هزم فيها أبو الحسن المذكور.

٤١٢

فمهّد له سلطانها ، رحمه الله ، كنف برّه ، وأواه إلى سعة رعيه ، وتأكّدت بيني وبينه صحبة.

شعره : كتبت إليه لأول قدومه بما نصّه : أحذو حذو أبيات ، ذكر أنّ شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها (١) : [الطويل]

أمن جانب الغربيّ نفحة بارح

سرت منه أرواح الجوى في الجوانح (٢)

قدحت بها زند الغرام وإنما

تجافيت في دين السّلوّ لقادح

وما هي إلا نسمة حاجريّة

رمى الشوق منها كلّ قلب بقادح

رجحنا لها من غير شكّ كأنها

شمائل أخلاق الشّريف ابن راجح

فتى هاشم سبقا إلى كلّ عليّة (٣)

وصبرا مغار الفتل (٤) في كلّ فادح (٥)

أصيل العلا ، جمّ السيادة ، ذكره

طراز نضار في برود المدائح

وفرقان مجد يصدع الشّكّ نوره

حبا الله منه كلّ صدر بشارح

وفارس ميدان البيان إذا انتضى

صحائفه أنست مضاء الصّفائح

رقيق كما راقتك نغمة ساجع

وجزل كما راعتك صولة جارح

إذا ما احتبى مستحفزا (٦) في بلاغة

وخيض (٧) خضمّ القول منه بسابح

وقد شرعت في مجمع الحفل نحوه

أسنّة حرب للعيون اللّوامح

فما ضعضعت منه لصولة صادح (٨)

ولا ذهبت منه بحكمة ناصح

تذكّرت قسّا قائما في عكاظه

وقد غصّ بالشّمّ الأنوف الجحاجح

ليهنك شمس الدين ما حزت من علا

خواتمها (٩) موصولة بالفواتح

رعى الله ركبا أطلع الصبح مسفرا

لمرآك من فوق الرّبى والأباطح (١٠)

ومنها :

أقول لقومي عندما حطّ كورها

وساعدها السّعدان وسط المسارح (١١)

__________________

(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٠ ـ ٢٢١).

(٢) في النفح : «الجوارح».

(٣) في النفح : «غاية».

(٤) في الأصل : «معار الحبل» والتصويب من النفح.

(٥) الفادح : الخطب الذي يثقل حمله. يقول امرؤ القيس من معلقته : [الطويل]

فيا لك من ليل كأنّ نجومه

بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل

ديوان امرئ القيس (ص ١٩).

(٦) في النفح : «مستحضرا».

(٧) في النفح : «وخوض».

(٨) في النفح : «صادع».

(٩) في النفح : «خواتمه».

(١٠) في الأصل : «والبطائح».

(١١) في النفح : «الأباطح».

٤١٣

ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها

بمعرض سوء فهي ناقة صالح

إذا ما أردنا القول فيها (١) فمن لنا

بطوع القوافي وانبعاث القرائح

بقيت منى نفس وتحفة رائد (٢)

ومورد ظمآن وكعبة مادح

ولا زلت تلقى الرحب (٣) والبرّ حيثما

أرحت السّرى من كلّ غاد ورائح

فأجابني بما نصه (٤) : [الطويل]

أمن مطلع الأنوار لمحة لامح

تعار لمفقود (٥) عن الحيّ نازح؟

وهل بالمنى من مورد الوصل يرتوي

غليل عليل للتواصل جانح؟

فيا فيض عين الدمع ما لك والحمى

ورند الحمى والشّيح شيح المشايح (٦)

مرابع آرامي ومورد ناقتي

فسقيا لها سقيا لناقة صالح

سقى الله ذاك الحيّ ودقا (٧) فإنه

حمى لمحات العين عن لمح سامح (٨)

وأبدى لنا حور الخيام تزفّ في

حلى الحسن والحسنى وحلي الملامح

ترى حيّ تلك الحور للحور مهيع (٩)

يدلّ ، وهل حسم لداء التّبارح؟

ويا دوحة الريحان (١٠) هل لي عودة

لعقر عقار (١١) الأنس بين الأباطح؟

وهل أنت إلّا طلّة (١٢) حاتميّة

تغصّ نواديها بغاد ورائح

أقام بها الفخر الخطيب (١٣) منابرا

لترتيل آيات النّدى والمنائح

وشفّع بالإنجيل حمد مديحه

وأوتر بالتّوراة شفع المدائح

وفرّق بالفرقان كلّ فريقة

نأت عن رشاد فيه معنى (١٤) النصائح

وهل هو إلّا للبريّة مرشد

لكلّ هدى هاد لأرجح راجح

فبشرى (١٥) لسان الدين ساد بك الورى

وأورى الهدى للرّشد أوضح واضح

__________________

(١) في النفح : «فيه».

(٢) في النفح : «قادم».

(٣) في النفح : «البرّ والرحب».

(٤) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢١ ـ ٢٢٣).

(٥) في النفح : «تعاد لمفؤود».

(٦) في النفح : «الأشايح».

(٧) الودق : المطر. لسان العرب (ودق).

(٨) في النفح : «لامح».

(٩) المهيع : الطريق الواضح. محيط المحيط (هيع).

(١٠) في الأصل : «الرّويحان» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١١) في النفح : «لعفر عفار».

(١٢) في النفح : «حلة».

(١٣) في الأصل : «ابن الخطيب» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١٤) في النفح : «محض».

(١٥) في الأصل : «فبشراك شمس الدين» والتصويب من النفح.

٤١٤

متى قلت لم تترك مقالا لقائل

فإن (١) لم تقل لم يغن حمد (٢) لمادح

فمن حام بالحيّ الذي أنت أهله (٣)

وعام ببحر من عطائك (٤) طافح

يحقّ له أن يشفع الحمد بالثّنا

ويغدو بذاك البحر أسبح سابح

ويا فوز ملك دمت صدر صدوره

وبشرى له قد راح أربح رابح

بآرائك التي تدلّ على الهدى

وتبدي لمن خصصت سيل (٥) المناجح

ملكت خصال السّبق في كل غاية

وملّكت من (٦) ملكت يا ابن الجحاجح (٧)

مطامح آمال لأشرف همّة

أقلّ مراميها أجلّ المطامح

فدونكها يا مهدي المدح مدحة

أحببت بها عن مدح أشرف مادح

تهنّيك (٨) بالعام الذي عمّ حمده (٩)

مواهب هاتيك البحار الطوافح

فخذها سميّ الفخر يا خير مسبل

على الخلق إغضاء (١٠) ستور التسامح

ودم خاطب العليا لها خير خاطب

وأتوق توّاق وأطمح طامح

وتلقاني بمالقة عند قدومي من الرّسالة إلى المغرب ، في محرم عام ستة وخمسين وسبعمائة ، ونظم لي هذه الأبيات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله : [الطويل]

قدومك ذا أبدى لذي الراية الحمرا

ثغور الرّضى تعبر عن شنب البشرا

وأينع فجر الرّشد من فلق الهدى

وكوّنه نهرا وفجّره فجرا

سرينا له كي يحمد السّير والسّرى

ونرقب شمس الدين من فرعك الفجرا

ونصبح في أحياء للمنّ (١١) نستلم

مواطنكم شفعا وآثاركم وترا

ونخطب ما ، يا ابن الخطيب ، تشاء (١٢) من

كرائم ذاك الحيّ إذ نهز الشّعرى

فقابلت بالإقبال والبرّ والرّضى

وأقريت من يقرا وأقررت من قرّا

فأبناء قدس الحمد حضرة قدسنا

وأقدامنا تملا وأمداحكم تقرا

__________________

(١) في النفح : «وإن».

(٢) في النفح : «مدح».

(٣) في النفح : «ربّه».

(٤) في النفح : «عطاياك».

(٥) في النفح : «سبل».

(٦) في النفح : «ما».

(٧) الجحاجح : جمع جحجاح وهو السيد السمح الكريم. لسان العرب (جحجح).

(٨) في الأصل : «يهنيك» ، وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(٩) في النفح : «مدحه».

(١٠) في الأصل : «أغضا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١١) في الأصل : «في أحيان المنّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(١٢) في الأصل : «تشا» وكذا ينكسر الوزن.

٤١٥

هنيّا لنا نلنا ونلنا ولم نزل

ننال ولكن هذه المنّة الكبرا

رأينا وزير الملد والملك واللّوى

وحزب اللّوى كلّ يشدّ به أزرا

سجدنا وكبّرنا وقلنا : رسولنا

أتى بالذي يرضي بشرى لنا بشرى

ويهني الورى هذا الإياب فإنّ في

نتائجه للدّهر ما يسهر الدّهرا

أرانا سنا ذا اليوم أجمل منظر

وجلّى لنا من وجهك الشمس والبدرا

أما والذي أوليت من نعمة غدت

تعلّمنا للمنعم الحمد والشكرا

لأنت لسان الدّين للدّين حجّة

تؤيّده سرّا وتعضده جهرا

بقيت لنا كتفا منيعا مشرفا

ودمت له عضدا ودمت له نصرا

ودمنا بكم في كلّ أمن ومنّة

ندير المنى خمرا ونصلي (١) العدا جمرا

ومن أمثل ما مدح به السلطان لأول قدومه بالنسبة إلى غير ذلك من شعره : [الطويل]

أما والعيون النّجل ترمق عن سحر

وورد رياض الخدّ والكأس والخمر

وريحانه والرّاح والطّلّ والطّلى

ونرجسه والزّهر والنّور والنّهر

ونور جبين الشمس في رونق الضّحى

وهالة بدر التّمّ منتصف الشّهر

لقد قلّدت آراء يوسف ملكه

قلائد نصر لن تبيد مع الدّهر

وقد أيّد (٢) الإسلام منه بناصر

نصير وخير النصر نصر بني نصر

هم القوم أنصار النبيّ محمد

به (٣) عصبة الأعلام في اليسر والعسر

وحسبك من قوم حموا سيّد الورى

وقاموا بنصر الحقّ في السّرّ والجهر

سقى شرعة الإسلام ودق سيوفهم

رحيق الأماني طيّب العرف والنّشر

فأصبح روض الرّشد يعبق طيبه

ودوح الهدى بالزّهر أزهاره تزري

فيا سائلي عنه وعن سطواته

إذا لاح محفوفا براياته الحمر

وجزّ (٤) مع الإقدام جيشا عرمرما

وشرّد بالتأييد شرذمة (٥) الكفر

__________________

(١) في الأصل : «أو نصلي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.

(٢) في الأصل : «أيده» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.

(٣) في الأصل : «وحزبه وعصبة ...» وكذا ينكسر الوزن.

(٤) في الأصل : «وجز» وكذا ينكسر الوزن ، ولا معنى له.

(٥) الشّرذمة : الجماعة القليلة من الناس. محيط المحيط (شرذم).

٤١٦

لخلّيلة تنبيك عما وراءها

ولا غرو فالإفصاح يعرف بالعجز

فيا فوز من أدناه بالغنم والغنى

ويا ويل من أقصاه للقفر والفقر

يمينا بما اختارت يداك وأحرزت

من الملك والتأييد والنّهي والأمر

لقد أصعدت مجدي مدائحك التي

ومجدك والعليا مدحت بها شعري (١)

وحقّ لمثلي يشفع الحمد بالثّنا

ويتلو معانيه مع الشّفع والوتر

فأجني ثمار الأنس من روضة المنى

وأقطف زهر (٢) الحمد من شجر الشكر

وأشرب ماء الفوز عذبا ختامه

رحيق براح السّمح في أكؤس البشر

ولا برحت أمداحكم تعجز النهى

وإلّا فكم تنجني من العسر لليسر

ولا زالت الأقدار تخدم رأيكم

وراياتكم ما دام نجم للسّرا يسري

وكتب إليّ في غرض يظهر منه نصّ المراجعة ، وحسبنا الله (٣) : [الطويل]

أما والذي لي في حلاك من الحمد

وما لك ملّاكي عليّ (٤) من الرّفد

لقد أشعرتني النفس أنك معرض

عن المسرف اللائي لفطرك يستجدي (٥)

فإن زلّة منّي (٦) بدت لك جهرة

فصفحا فما والله إذ كنت عن عمد (٧)

فراجعته بقولي (٨) : [الطويل]

أجلّك عن عتب يغضّ من الودّ

وأكرم وجه العذر منك عن الرّدّ

ولكنني أهدي إليك نصيحتي

وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد

إذا مقول الإنسان جاوز حدّه

تحوّلت الأغراض منه إلى الضّدّ

فأصبح منه الجدّ هزلا مذمّما

وأصبح منه الهزل في معرض الجدّ

فما اسطعت (٩) فيضا (١٠) للعنان فإنه

أحقّ السجايا بالعلاء (١١) والمجد

__________________

(١) في الأصل : «شعر» بدون ياء.

(٢) في الأصل : «زهير» وكذا ينكسر الوزن.

(٣) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩).

(٤) في النفح : «لديّ».

(٥) في الأصل : «يستجد» بدون ياء. وفي النفح : «الآتي لفضلك يستجدي».

(٦) كلمة «مني» ساقطة في الإحاطة ، وقد أضفناها من النفح.

(٧) في النفح : «... والله أذنبت عن قصد».

(٨) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩).

(٩) في الأصل : «استطعت» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

(١٠) في النفح : «قبضا».

(١١) في الأصل : «بالعلا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.

٤١٧

توفي يوم الخميس الثالث لشعبان عام خمسة وستين وسبعمائة ، وقد ناهز السبعين سنة ، ودفن بروضتنا بباب إلبيرة ، وأعفي شارب الشّعر من نابي (١) مقصّه.

وغير هذه الدعوى قرارها تجاوز القضية.

محمد بن علي بن عمر العبدري (٢)

من أهل تونس ، شاطبي الأصل ، يكنى أبا عبد الله ، صاحبنا.

حاله : كان فاضلا من أبناء النّعم ، وأخلاف العافية ، ولّي أبوه الحجابة بتونس عن سلطانها برهة ، ثم عدا عليه الدهر ، واضطر ولده هذا إلى اللحاق بالمشرق ، فاتصل به سكناه وحجّ ، وآب إلى هذه البلاد ظريف النّزعة ، حلو الضّريبة ، كثير الانطباع ، يكتب ويشعر ، ويكلف بالأدب ، ثم انصرف إلى وطنه. وخاطبني إلى هذا العهد ، يعرّفني بتقلّده خطة العلّامة ، والحمد لله.

وجرى ذكره في كتاب «الإكليل» بما نصّه (٣) : غذيّ نعمة هامية ، وقريع رتبة سامية ، صرفت إلى سلفه الوجوه ، ولم يبق بإفريقية (٤) إلّا من يخافه ويرجوه ، وبلغ هو مدة ذلك الشرف ، الغاية من التّرف. ثم قلب الدهر له ظهر المجنّ ، واشتدّ به الخمار (٥) عند فراغ الدّنّ ، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق بعد خطوب مبيرة (٦) وشدّة كبيرة ، فامتزج بسكانه وقطّانه ، ونال من اللّذّات ما لم ينله في أوطانه ؛ واكتسب الشمائل العذاب ، وكان كابن الجهم (٧) بعث إلى الرّصافة ليرقّ فذاب ، ثم حوّم على وطنه تحويم الطّائر ، وألمّ بهذه المدينة (٨) إلمام الخيال الزائر ، فاغتنمت صفقة ودّه لحين وروده ، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده ، فحصلت منه على درّة تقتنى ، وحديقة طيّبة الجنى.

شعره : أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببرّه (٩) : [الطويل]

لكلّ أناس مذهب وسجيّة

ومذهب أولاد النظام المكارم

__________________

(١) في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٣): «ثاني».

(٢) ترجمة محمد بن علي العبدري في الدرر الكامنة (ج ٤ ص ١٩٨) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).

(٣) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).

(٤) في النفح : «من إفريقية».

(٥) الخمار ، بضم الخاء : الألم في الرأس يصيب شارب الخمر. لسان العرب (خمر).

(٦) مبيرة : مهلكة. لسان العرب (بير).

(٧) هو علي بن الجهم ، من شعراء المتوكل العباسي.

(٨) في النفح : «البلاد».

(٩) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).

٤١٨

إذا كنت فيهم ثاويا كنت سيّدا

وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم

أولئك صحبي ، لا عدمت حياتهم

ولا عدموا السّعد الذي هو دائم!

أغنّي بذكراهم وطيب حديثهم

كما غرّدت فوق الغصون الحمائم

ومن شعره يتشوّق إلى تلك الديار ، ويتعلل بالتذكار ، قوله (١) : [الوافر]

أحبّتنا بمصر لو رأيتم

بكائي عند أطراف النهار

لكنتم تشفقون لفرط وجدي

وما ألقاه من بعد المزار (٢)

ومن شعره : [الطويل]

تغنّى حمام الأيك يوما بذكرهم

فأطرب حتى كدت من ذكرهم أفنى

فقلت : حمام الأيك لا تبك جيرة

نأوا (٣) وانقضت أيام (٤) وصلهم عنّا

فقال ولم يردد جوابا لسائل

ألا ليتنا كنا جميعا بذا حقنا (٥)

ومن جيد شعره الذي أجهد فيه قريحته ، قوله يمدح السلطان المعظم أبا الحسن في ميلاد عام سبعة وأربعين وسبعمائة : [الطويل]

تقرّ ملوك الأرض أنّك مولاها

وأنّ الدّنا وقف عليك قضاياها

ومنها :

طلعت بأفق الأرض شمسا منيرة

أنار على كل البلاد محيّاها

حكيت لنا الفاروق (٦) حتى كأننا

مضينا (٧) بعين لا نكذّب رؤياها

وسرت على آثاره خير سيرة

قطعنا بأنّ الله ربّك يرضاها

إذا ذكرت سير الملوك بمحفل

ونادى بها النّادي وحسّن دنياها

فجودك روّاها وملكك زانها

وعدلك زانها (٨) وذكرك حلّاها

وأنت لها كهف حصين ومعقل

تلوذ بها أولى الأمور وأخراها

__________________

(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).

(٢) في النفح : «الديار».

(٣) في الأصل : «ناءوا» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.

(٤) كلمة «أيام» ساقطة في الأصل.

(٥) في الأصل : «ألحقنا» وكذا ينكسر الوزن.

(٦) في الأصل : «للفاروق» ، وكذا ينكسر الوزن. والفاروق هنا : هو لقب عمر بن الخطاب ، سمّي بذلك لأنه فرّق بين الحق والباطل. محيط المحيط (فرق).

(٧) كلمة «مضينا» ساقطة في الأصل.

(٨) في الأصل : «زاها» وكذا لا معنى له ، وفي الوقت نفسه يختلّ الوزن.

٤١٩

ومنها بعد كثير :

ومنكم ذوو التّيجان والهمم التي

أناف على أعلى السّماكين أدناها

إذا غاب منهم مالك قام مالك

فجدّد (١) للبيت المقدّس علياها

بناها على التقوى وأسّس بيتها

أبو يوسف الزّاكي وسيّر مبناها

وأورثها عثمن خير خليفة

وأحلم من ساس الأنام وأنداها

وقام عليّ بعده خير مالك

وخير إمام في الورى راقب الله

علي بن عمر بن يعقوب ذو العلا

مذيق الأعادي حيثما سار بلواها

أدام الله وأعطى الخلافة وقتها

ونوّر أحلاك الخطوب وجلّاها

ووصلني كتاب منه مؤرخ في التاسع عشر من شهر شعبان المكرم من عام أربعة وستين وسبعمائة ، جدّد عهدي من شعره بما نصّه : [الطويل]

رحلنا فشرّقنا وراحوا فغرّبوا

ففاضت لروعات الفراق عيون

فيا أدمعي منهلّة إثر بينهم

كأنّ جفوني بالدموع عيون

فيا معهدا قد بنت عنه مكلّفا

بديلي منه أنّة وحنين

سقتك غوادي المزن كرّ عشيّة

ودادك محلول النطاق هتون

فإن تكن الأيام لم تقض بيننا

بوصل فما يقضى فسوف يكون

يعزّ علينا أن نفارق ربعكم

وأنّا على أيدي الخطوب نهون

ولو بلّغتني العير عنكم رسالة

وساعد دهر باللّقاء ضنين

لكنّا على ما تعلمون من الهوى

ولكن لأحداث الزمان فنون

__________________

(١) في الأصل : «مجدّد» وكذا ينكسر الوزن.

٤٢٠