الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

الشيخ سعاد جلال

توفي رحمه الله في يونيو عام ١٩٨٣ ، وكان علما من أعلام الشريعة الإسلامية وأستاذا جليلا في كلية الشريعة الإسلامية.

قال عنه زميله الدكتور الشيخ عبد الجليل شلبي :

عرفت «الشيخ محمد سعاد جلال» منذ أكثر من نصف قرن عرفته أول ما جئت إلى القاهرة طالبا في كلية اللغة العربية سنة ١٩٣٧ ، وكان هو في السنة الثالثة في كلية الشريعة وكانت الكليتان في مبنى واحد ، فتعارفنا بلحظة ، وتآلفنا في لحظة ، ثم مضت الأيام تزيد مودتنا قوة ، وتكسو تآلفنا إخاء وإعزازا.

والتحق الشيخ سعاد عقب تخرجه بتخصص المادة ، ليدرس الفقه الإسلامي وأصوله ، وكان هذا التخصص يستغرق نحو سبعة أعوام ، وكان طلابه يختلفون في درجاتهم العقلية ويتباينون فيما يحصلون من علمه تباينا واسعا ، فقد كان الأزهر حديث عهد بالدراسات العليا ، وكانت دراسته تقوم على درس الكتاب لا على درس الموضوع ، وقليلون من أبناء هذا القسم بنوا أنفسهم بأنفسهم وكما كان يقول المرحوم أحمد أمين : إن من ينبغ من أبناء الأزهر لم ينبغ بمنهجه وتوجيهه ولكن نبغ على الرغم من منهجه

٤٦١

وتوجيهه ، وكان الشيخ سعاد من هؤلاء.

وعدا الناحية العلمية ، أو لعله بسببها ، كان نزوعا إلى الخير ونفع الناس بما لديه ، وكانت موهبته الخطابية مما يساعده على بث علمه وإذاعة أفكاره وهي أيضا مما هيأ نمو مدرسته وكثرة تلاميذه ، كان وهو لا يزال في هذا التخصص يخطب يوم الجمعة في مسجد الخازنداره بشبرا وذهب وزير الأوقاف يومئذ ليصلي في هذا المسجد ، وربما جذبه إليه اسم الشيخ سعاد ، فأعجبه حديثه فقرر له علاوة استثنائية تقديرا لكفائته وعلمه ، وبعد أن أنهى الشيخ دراسته كان يخطب ثانيا في مسجد المحكمة بمصر الجديدة ثم المسجد قاهر التتار فمسجد عمر مكرم بالقاهرة وكان يتطوع بإلقاء الدروس الدينية فيها ، فكان له بها مدرسة ثانية ، بعد مدرسته في كلية الشريعة.

وكان من لباقته في دروسه أنه يوازن بين قانون الشريعة والقوانين الوضعية ، ويوازن بين مجتمعاتنا والمجتمع الإسلامي في حذق وحسن تصوير ، وهو مع هذا يتحاشى الاحتكاك بتيارات السياسة ، ولكن كانت تلميحاته أبلغ من تصريحات الآخرين ، وكان تلاميذه في كلية الشريعة يحبون درسه ويقدرون تفكيره ، وهم الآن في شتى المعاهد والمدارس داخل القطر وخارجه يشعرون بدينهم له.

ثم انضم إلى هاتين المدرستين حديثه «قرآن وسنة» ، وبه أضاف إلى تلاميذه تلاميذ لا يعرفهم ولم يروه ، ولكنهم أحبوه على البعد ، وعرفوه من غير أن يلقوه.

ومات الشيخ سعاد جلال ، فشيعت جنازته في غير حشد ، ففي ذمة الله وذمة التاريخ.

٤٦٢

الدكتور أحمد الشرباصي

من مواليد بلدة البجلات مركز دكرنس ، مديرية الدقهلية ، وتاريخ ميلاده ١٧ نوفمبر سنة ١٩١٨. تخرج من كلية اللغة العربية سنة ١٩٤٣ ، وكان ترتيبه «الأول» بين المتخرجين كما كان «الأول» بين زملائه في سنوات الدراسة بالكلية.

نال شهادة العالمية والتخصص في التدريس سنة ١٩٤٥ ، وكان ترتيبه «الأول» بين الحاصلين على هذه الشهادة.

كانت هذه أول مرة يجمع فيها متخرج بين «الأولية» في الشهادة العالية و «الأولية» في التخصص.

اشتغل مدرسا في وزارة المعارف مدة ، ثم نقل مدرسا في معهد الزقازيق ، فمعهد القاهرة فمعهد سوهاج ، فمعهد القاهرة. واختير أمينا للجنة الفتوى بالأزهر.

ألف ما يزيد على العشرين كتابا في مباحث الدين والتاريخ والأدب والاجتماع ، ومن هذه الكتب : حركة الكشف ، محاولة ، بين صديقين ، سيرة السيدة زينب. واجب الشاب العربي ، المحفوظات الأزهرية ، لمحات عن أبي بكر ، محاضرات الثلاثاء ، صلوات على الشاطىء ، أمين

٤٦٣

الأمة أبو عبيدة ، عائد من الباكستان ، مذكرات واعظ أسير ، النيل في ضوء القرآن من أجل فلسطين ، في رحاب الصوفية ، غربة الإسلام ، أيام الكويت ، القصاص في الإسلام ، في عالم المكفوفين ، الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز.

أذاع سلسلة أحاديث في الراديو عن الدين وصلته بالحياة ، كان يقصد فيها دائما إلى تزكية المجتمع بالمبادىء الدينية الفعالة في إصلاح الحياة والأحياء. ومن هذه الأحاديث سلسلة «الإسلام والشباب» وسلسلة «آداب المجتمع في الإسلام» وسلسلة «الإسلام ومنهج الاستقامة» وسلسلة «آدب السنة في بناء الأسرة».

اشترك ببحوثه ومناقشاته وآرائه في مؤتمرات كثيرة ، مثل : مؤتمر الشعوب الإسلامية بالباكستان ، ومؤتمر العلماء بالباكستان ، والمؤتمر الإسلامي بالقدس ، ومؤتمر الخريجين العرب بالقدس ، والمؤتمر الرياضي بالقاهرة. ونظم عدة مؤتمرات إسلامية واجتماعية وقومية في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين.

نال دبلوم الدراسات اللغوية والأدبية من معهد الدراسات العربية العليا سنة ١٩٥٥ ، وكان ترتيبه «الأول». وكان مجموع درجاته أكبر من أي مجموع في جميع شعب المعهد المذكور.

يعرف اللغة الانجليزية ، وتقدم أكثر من مرة قبل قيام الثورة في مصر لبعثة خارجية علمية ، وحيل بينه وبين ذلك بسبب خطبه ومقالاته التي كان يقاوم فيها الفساد الماضي والطغيان البائد.

دعا منذ عشرين عاما إلى إدخال نظام الكشافة في الأزهر ، وألف في ذلك كتابا ، وخطب وكتب عن ذلك مرارا ، كما دعا حينئذ وبعد ذلك إلى نشر التربية الرياضية في الأزهر والمعاهد.

٤٦٤

ألقى سلسلة من المحاضرات في عدة مواسم دراسية على مبعوثي البلاد العربية إلى «المركز النموذجي لتوجيه المكفوفين بالزيتون» ، وهؤلاء المبعوثون يأتون للتخصص في شئون المكفوفين وتوجيههم ، وألف كتابه «في عالم المكفوفين» الذي نال جائزة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية سنة ١٩٥٦.

رحل رحلات علمية واجتماعية وإسلامية إلى : فلسطين والأردن ، ولبنان ، وسوريا ، والكويت ، والباكستان ، واليونان ، وتركيا ، وله بحوث ودراسات عن هذه البلاد ، وتكررت رحلاته إلى أكثر هذه البلاد.

كان مبعوثا علميا للأزهر الشريف في الكويت عام ١٩٥٢ ـ ١٩٥٣. وألف كتابا عن الكويت وشئونها المختلفة في قرابة خمسمائة صفحة.

اختير لألقاء محاضرات عن الشريعة الإسلامية على طلبة معهد الخدمة الاجتماعية في مستوى جامعي منذ أول سنة ١٩٥٧ الدراسية.

قام بمهمة الرائد العام لجمعيات الشبان المسلمين منذ عهد بعيد ، وكان ينظم محاضرات : «أحاديث الاثنين» ومحاضرات «مواسم التفسير» ، كما يشارك بمحاضراته وكلماته في أعمال الشبان المسلمين المختلفة ، وينشر بحوثا في مجلتها منذ سنوات ، وله محاضرات في جمعيات كثيرة إسلامية واجتماعية وقومية ورياضية ، وهو عضو في كثير من هذه الجمعيات.

أسندت إليه أمانة الفتوى في الأزهر الشريف بالإضافة إلى عمله في التدريس بالأزهر.

دعاه رئيس الجمهورية أكثر من مرة للخطابة في الأزهر الشريف في مناسبات تاريخية مشهورة ، مثل يوم معركة القتال ، ويوم الوحدة بين مصر وسوريا ، ويوم الجمعة الأخيرة من رمضان ويوم عيد الفطر ، وغيرها.

٤٦٥

كلفته رياسة الجمهورية عن طريق الاتحاد القومي برحلة إلى سورية قبيل إعلان الاستفتاء على الوحدة بين مصر وسورية في مطلع سنة ١٩٥٨ ، وألقى هناك عشرات الخطب والمحاضرات في مختلف المدن السورية حثا على الوحدة وتعريفا بالعروبة والإسلام.

دعاه الرئيس شكري القوتلي إلى إلقاء خطبة تاريخية في المسجد الأموي بدمشق يوم الاستفتاء على الوحدة. وقد أذيعت هذه الخطبة بالراديو ، ثم نشرت ونوهت بها الصحف كثيرا.

اختارته وزارة الشئون الاجتماعية والعمل سنة ١٩٥٥ عضوا في اللجنة التي وضعت مناهج الدراسة لقسم الدراسات الاجتماعية لطلبة الكليات الأزهرية.

منذ سنة ١٩٤٠ وهو يقوم بالخطابة الدينية المصطبغة بالصبغة الاجتماعية ، وقد تنقل بين مسجد المنيرة ، ومسجد الشامية ، والجامع الأزهر ، ومسجد الرفاعي ، وغيره من المساجد.

ألف جملة مسرحيات إسلامية وتاريخية ، مثل أكثرها على مسارح : جمعية الشبان المسلمين ، ودار الأوبرا ، وحديقة الأزبكية ، والغرفة التجارية ، وغيرها.

اشترك في موضوع فيلم «خالد بن الوليد» بوضع المعلومات التاريخية والحوار وشارك في السيناريو.

كتب وخطب كثيرا في الدعوة إلى التقريب بين الدين والفن وشعاره هو : إذا تدين رجل الفن وتفنن رجل الدين التقيا في منتصف الطريق لخدمة العقيدة الإسلامية السليمة والفن القويم».

اختارته إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة في اكتوبر سنة ١٩٥٨ ليكون رائدا لبعثة الضباط الأندونيسية المركونة من قادة التربية الروحية التي

٤٦٦

قدمت لدراسة الشئون الإسلامية والروحية والأخلاقية للانتفاع بها في تعبئة الروح المعنوية بالجيش الأندونيسي.

وكانت له صلاته المستمرة بالقضايا العامة للبلاد العربية والإسلامية.

كتب كثيرا في إصلاح الأزهر لأداء رسالته الكبرى في مصر والعالم الإسلامي.

وكانت كتاباته ومحاضراته ـ فوق اتجاهها الاسلامي والعربي ـ وقد حصل على الدكتوراه في الأدب والنقد من كلية اللغة العربية عام ١٩٦٧ تتّسم دائما بالنزعة الإنسانية.

توفي إلى رحمة الله عام ١٩٨٠.

كتب إليّ عام ١٩٥٨ من دمشق يقول :

أخي البحاثة الدءوب الأستاذ الجليل محمد عبد المنعم خفاجي :

سلام الله عليك ورحمته وبركاته. أكتب لك هذه الرسالة من دمشق الفيحاء بعد أن قضيت أسبوعا في هذا الشطر الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة ، وقد جلنا في أنحاء هذا الإقليم الكريم فزرنا طرطوس وقدموس واللاذقية وحلب وحماة ومعرة النعمان (بلد أبي العلاء) وحمص وغيرها ، وألقيت في كل بلدة من هذه البلاد أكثر من خطب عن الوحدة والعروبة والإسلام ومقومات هذه الأمة المؤمنة ، وقد سعدنا في اليوم التالي لوصولنا بمقابلة الرجل العظيم الرئيس شكري القوتلي ، وخطبت أمامه ، وأهديت إليه نسخة من كتابي «الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز» لأنه كان مصري المولد وتولى الخلافة في الشام وجمع في خلافته بين مصر وسوريا وغيرهما من بلاد العروبة والإسلام.

وقد تفضل الرجل المجاهد فتقبل الهدية وعلق عليها بأنها أحسن هدية يتلقاها لأنها تذكرة بالزهد والورع والعدالة ... ثم رد على خطبتي بخطبة

٤٦٧

جليلة قيدنا خلاصتها ، وكان ذلك كله في القصر الجمهوري السوري. وقد طلب مني أثناء خطبته أن ألقي خطبة الجمعة يوم الاستفتاء ٢١ فبراير ١٩٥٨ في المسجد الأموي الجليل لكي تذاع بالمذياع وليسمعها ألوف المصلين بالمسجد ، وقد استحببت لذلك ، وجعلت خطبتي دائرة حول معاني الوحدة وثمرات الاتحاد ، وقد ذكرت فيها أيضا عمر بن عبد العزيز وضربت بعض الأمثلة من حياته ، وكان لها والحمد لله أثر طيب حميد كما ذكر لي الناس هنا وهناك.

دمشق الآن يا أخي في بحر لجى من الفرح والسرور والبهجة .. المظاهرات في كل مكان ، الهتاف يملأ الآذان .. الرجال والنساء ، الشيوخ والشباب ، الطلاب والطالبات .. الجميع يصفقون ويهتفون ..

إنك لا تستطيع أن تفرق مبلغ هذا الشعور الجارف الفياض إلا إذا رأيته بعينيك ...

إننا الآن بين أشقائنا وأحبائنا ، وفي بلادنا ... البلد واحد ، والقائد واحد ، والوجهة واحدة ... نصر الله كلمة الأمة ، وأعز بها شأن الحق والعدل ، وثبتها في طريق اليقين والإيمان ...

تحياتي لك ولأهلك ولكل أحبائك ، وإلى لقاء قريب ، وسلام الله عليك ورحمته.

دمشق في ٢٢ / ٢ / ١٩٥٨

أحمد الشرباصي

وكتب عنه صديقه محمد رجب البيومي يقول :

أصدر للأستاذ أحمد الشرباصي كتابه القيم : «في عالم الملفوفين» ...

٤٦٨

والكتاب كما يراه كثير من الناقدين مجهودا علميا إنسانيا ، فلا غرابة إذا أخذ نصيبه من ثناء المنصفين!! ... ويقول زميله د. رجب البيومي عنه :

رجعت بذاكرتي إلى الوراء ، أيام كنت طالبا بالنسة الأولى بمعهد دمياط الديني ، وقد سبقني في التخرج فيه زميلي أحمد الشرباصي ، تاركا خلفه ثناء مستطابا ، تفيض به ألسنة المدرسين في المعهد ، وآراء الأدباء ، خارج الدراسة ، من أندية السمر ، ونزهات الراحة ، ودهشت كثيرا حين علمت أن الطالب المتخرج في المعهد الابتدائي قد أصدر كتابا أدبيا في موضوع توجيهي تحت عنوان : «حركة الكشف» ، ولم يكن الكتاب مقالات متناثرة في موضوعات متفرقة ، تزدحم بها الأساليب الإنشائية والخيالات البعيدة. كما نلاحظ دائما في إنتاج الشداة من الناشئين ، والطامحين من المراهقين ؛ ولكنه كان كتابا هادفا يسعى إلى غرض ، ويدور حول فكرة ، فاجتمعت له الأصالة والجدة مع التوجيه الدافع ، والحرص الغيور ، ..

وقد انتقل الإعجاب بهذا الكتاب إلى الدوائر الأدبية في القاهرة ، فأفردت له مجلة الرسالة (عدد ١٠ يناير سنة ١٩٣٨) صفحة خاصة تحدث فيها الأستاذ محمد سعيد العريان عن الكتاب وصاحبه ، فقال فيما قال :

«ها هو ذا أزهري فتي يضرب المثل لإخوانه الأزهريين في الفتوة الرحيمة ، التي تعمل للإنسانية ... يا له من فتى متمرد ؛ لا ... لا تسموه متمردا ، إنه يعرف ما عليه من تبعات الرجولة في غد ، فأعد للغد عدته ، فلا عليه إن كان هو وحده الفتى الكشاف من الأزهر الكبير وروافده .. إني لفخور به»!! ...

وأخذنا حينئذ نطالع مقالات أسبوعية يفاجئنا بها الشرباصي في مجلات مختلفة ، وكان عجيبا أن تصدر «السياسة الاسبوعية» (في ٩ يوليو

٤٦٩

سنة ١٩٣٩) عددا خاصا عن ذكرى الإمام محمد عبده ، يتحدث به منصور فهمي وجاد المولى وأمين الخولي ومحرم والجارم وغيرهم من أدباء الصف الأول ، ثم يكون للفتى الناشىء بهذا العدد مقالان اثنان لا مقال واحد (ص ١٨ ، وص ٣٠).

شيء رائع حقا ، ونشاط حميد مشكور دفع بالأستاذ فليكس فارس ـ وهو يومئذ في طليعة كتاب الرسالة الشيوخ ـ أن يسجل تقديره في تقريظ مشجع يقول فيه (الرسالة ، عدد ٦ فبراير سنة ١٩٣٩) :

«إن المؤلف يذهب في محاولته ذهاب من رسخت عقيدته متعالية عن تردد المحاولين ، وإن العبقرية العربية تنتبه في هذا الجيل الذي سيقدم ليحل محلنا على الذروة نحن النازلين منها إلى الأغوار. لقد ولدت اقلامنا أقلاما خيرا منها».

وثناء فواح كهذا الثناء تعبق به مجلة الرسالة الارستقراطية جدير بالتقدير والاعتبار ...

مضت الأيام والشرباصي لا يني عن رسالته الأدبية ، بل يزاحم الأدباء إنتاجا وتأليفا على طراءة العمر ولدونة اليفاع ، وكان لا بد لهذا النشاط المتوثب أن يخرج للناس كتابا ثالثا تحت عنوان : «بين صديقين» ؛ وكان لا بد لجمهرة المنصفين من الأدباء أن يسابقوا إلى تكريمه وتشجيعه ، فهيأت جمعية الشبان المسلمين ساحتها مساء الأربعاء ٢٨ نوفمبر سنة ١٩٤٠ م لحفلة تكريمية ساهرة خطب بها كبار الأساتذة ونوابغ الأدباء ، وقد أظهر الوفاء دلائله الصادقة في نفوس كريمة تحتفل بالنشاط الدائب ، وتبارك الجهد الموصول ؛ وأنت تدرك كفاح الكاتب الناشىء حين تسمع زميله الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف يتحدث عنه ، فيقول (١) :

__________________

(١) كتاب تكريم الشباب ، ص ٢٣.

٤٧٠

«لقد كنت أتلقى بريد الرسالة فأجد الشرباصي في اليوم الواحد كاتبا في (المكشوف) اللبنانية و (الحديث) الحلبية و (التفيض) العراقية و (المجلة) الدمشقية»!! ... وهذه الحقيقة المائلة تنطق بنشاط حافل ، تمده الموهبة ، وينمية الإطلاع!! ..

وقد آثرت أن أستشهد بالنصوص ليعلم هذا المبتسم عن ريبة واتهام أنني لا أبارك وحدي جهود أديب طامح ، فإذا كان لا بد من الابتسام فليوجه إلى جميع من يستمعون القول فيحبون أحسنه ، ويهتفون بقائله : مرحى مرحى فقد سلكت الطريق!! ...

وإذا كان لنا أن نحكم على إنتاج الكاتب ، فإننا نلاحظ أنه من مبدأ أمره قد احتفل بالأدب العربي دراسة وتحليلا ، فقرأ وحفظ وناقش ، وأعد نفسه ليكون أستاذا في الأدب العربي وحده ، فهو غاية يهدف إليها ، ولم يدر أن الأيام ستجعل هذه الغاية وسيلة إلى هدف أسمى ومطلب أحب ، تلك هي الدعاية للإسلام ونصرة الحق الصريح! ..

لقد أكب الشرباصي على دراسة الأدب في مختلف عصوره ، فأفاد إفادة غزيرة ، ولا زالت أبحاثه الأدبية ترتفع إلى قمة عالية. وقد قرأت له سلسلة عن «الخطابة في الأندلس» بمجلة الأزهر ، فشاهدت من أصالة الرأي وبراعة الاستنتاج وطرافة النقاش ما أعجب وأمتع ؛ بل أذكر أن أحد أساتذة العراق المرموقين قد كتب مؤلفا تحت عنوان : «بعث الشعر الجاهلي» فانبرى الشرباصي لنقضه في مجلة المقتطف ، وأبدى من غزارة المادة وقوة العارضة ما جعل الدكتور المؤلف في حرج وضيق ، ولو تفرغ أحمد للأدب وحده لرأينا مجهودا حافلا تنشرح به الصدور!! ...

ولكن الأستاذ يتعرض في نقده الأدبي إلى مأزق ضيق يكابد منه تبريحا أي تبريح! ... فهو يحرص على التشجيع والتنويه ، وتدفعه المجاملة أحيانا إلى إهمال حقوق النقد الصريح ، وكثيرا ما تقرأ له بحثا أدبيا عن

٤٧١

كتاب معاصر أو شاعر صاحب ، فلا ترضى عمّا يشيع فيه من تنويه وتقدير ... فإذا اضطر الكاتب إلى النقد ساقه في ثوب حريري ناعم ... وقد تخلو إليه فيحدثك عن بعض المآخذ التي رآها ولكنه تحامل على نفسه فأغفلها ؛ وتلك حال تذكرني بشاعر العربية الابتداعي خليل مطران ، فقد كانت له في الشعر رسالة ناهضة مجددة ، ولكن قيود المجتمع وقوانين المجاملة قد دفعته ـ في ضيق منه ـ إلى النظم السطحي في حفلات الأعراس ومواقف التأبين ، والخلق السمح يجد حرجا شديدا في مغاضبة الناس ، فتكون المأزمة الضائعة للإنتاج الأدبي وصاحبه المسكين.

لقد قرأت في كتاب «أيام الكويت» بحوثا أدبية عن شعراء مقلدين لم يتصلوا بالنهضة الفكرية الحديثة ؛ والأستاذ المؤلف ينظر إليهم بعين الرضا الكليلة عن العيب ؛ فكنت أقول في نفسي : أرضى الناقد عن فطمهم التقليدي فهتف بأصحابه مع الهاتفين ، أم أنه احتقر الموازين الجديدة للشعر الحديث؟! ...

ولم يطل التساؤل ، فقد قرأت للأستاذ بحثا استعراضيا عن كتاب «الشعر بعد شوقي» للدكتور محمد مندور ، فوجدت الكاتب يتفق معي في الاتجاه!! .. وينحى باللائحة على ذوي الهمود من الجامدين ، وإذ ذاك تصورت الحرب النفسية التي قاساها الشرباصي ليوائم بين الرأي الصريح والخلق السمح الحليم!! ...

على أن أحمد في مجاملته للزملاء لا يتهاون قيد شعرة مع كبار الأساتذة من الأدباء ، وقد تعرض لغضب صاحب مجلة أدبية لامعة ، حين نشر نقدا أدبيا لبعض آرائه بمجلة الثقافة سنة ١٩٤٠ م ، كما أغضب الأستاذ أحمد أمين حين انحاز مجاهرة إلى تأييد غريمه الدكتور زكي مبارك في هجومه على صاحب الجناية الأدبية! ...

ومع مناصرته لزكي مبارك فقد وقف الشرباصي الطالب الشاب موقف

٤٧٢

الناصح المرشد من دكتور نابغة نقاد ، إذ يقول له على صفحات الرسالة (عدد ١٦ اكتوبر سنة ١٩٣٩ م) :

«أي صديقي الدكتور ، قد انتهى لغو الصيف ، وجاء جد الشتاء ، فلا تكسل ولا تنم ، على أني أرجو أن تتحاشى ما يسبق إليه قلمك من عبارات تنال من شخصية الأستاذ أحمد أمين وتجرح شعوره» فأي توجيه ذاك؟! ...

وقد كان التحاق الشرباصي بكلية اللغة العربية بالقاهرة نقطة تحول كبير في إنتاجه واتجاهه ، وكان المظنون به أن يتوسع في الدراسة الأدبية وحدها ، ولكنه وجد بالقاهرة مجالا للنشاط الإسلامي عن طريق المحاضرة والمناظرة والخطابة ، فانفرجت دائرة كفاحه إلى حيث تتسع وتمتد ، ورصد نفسه إلى خدمة الفكرة الإسلامية بالقلم واللسان!!.

وصاحب اللسان البليغ لا يرى في أسلوبه الخطابي ضرورة لقيود المقال المركز ، ومن هنا سرت عدوى اللسان إلى القلم في كتابة الشرباصي ، فقد تجد بها تفصيلا وإطنابا لا يرضيان صاحب المنطق المحدد ؛ ولكن الشرباصي يتعمد الإثارة الانفعالية في نفوس القراء ، إذ يهمه أن يجتذبهم إلى فكرته مستعملا شتى ضروب التأثير ، من منطق عقلي ، أو مهيج عاطفي ، أو حافز وجداني ؛ وإذا قرن القارىء شخصية الداعية بشخصية الكاتب في بعض مؤلفات الشرباصي فقد أراح واستراح!! ...

اقرأ مثلا كتب الرجل : ١ ـ النيل في ضوء القرآن. ٢ ـ واجب الشاب العربي. ٣ ـ أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح. ٤ ـ صلوات على الشاطىء ... فستجد المنطق العقلي سابحا في أمواج التأثير الوجداني ، ولهذه الطريقة حسناتها في استنهاض الهمم وحفز البواعث ، وإن كانت لا تسلم من نقد يؤكدة عقل منهجي محدود ..

٤٧٣

لقد أصدر الكاتب مؤلفا صغيرا عن السيدة زينب ، كما أصدرت السيدة بنت الشاطىء مؤلفا عنها ، وصاحبة السيرة رضي الله عنها ذات مجال محدود لا يسمح بكتاب خاص ، فماذا صنع الكاتبان؟! ..

لقد لجأت الدكتورة الجامعية إلى الأساطير والأخيلة تنسج فيها خيوط البحث التاريخي ، ولم أعجب بهذا المنهج ، فنقدته نقدا صريحا بالسنة العشرين من مجلة الرسالة سنة ١٩٥٢ م. أما الشرباصي فقد هدف إلى العاطفة الدينية يستثيرها استيثارا حبيبا ، وقد عالج مشاكل دينية واجتماعية تتصل بالموالد والأذكار والصلوات ، فجاء بحثه نميرا مستطابا ينعش الروح المؤمنة ، ويرضي الوجدان الصافي ، ولكنه لا يخرج عن مجال التأثير الخطابي إلى مجال التأمل والاستنباط ؛ وفائدة القارىء في المجال الأول محتومة مفروضة ، فقد زاد إيمانا ، ورسخ عقيدة ، وصفا نبعا وأخلاقا ، وذلك ثراء أي ثراء.

هذا وقد فرغ الكاتب إلى البحث العلمي الديني في بعض مؤلفاته القوية مثل : «القصاص في الإسلام» ، و «محاضرات الثلاثاء». ولن يضيره في شيء أن يعرض بحوثه الدقيقة النافعة في ثوب رائق واضح ، فالحقيقة العلمية لا ينتقص معدنها أسلوب مشرق واستطراد نافع ، وإنما يضيرها أن يتشعب بها القول في متاهة لا تحد ، وهذان الكتابان من النفاسة جوهرا ، والوضوح أسلوبا ، والتحديد منطقا ، في مستوى رفيع ، وإذا اكتمل للمؤلف كل ذلك فقد نجح وأفاد ...

يقول فضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف في معرض الحديث عن «محاضرات الثلاثاء» في «منبر الشرق» عدد أول فبراير سنة ١٩٥٢ : «من عادتي ألا أكتب عن كتاب إلا بعد أن أقرأ أكثر مباحثه على الأقل ، فإن استمالني لمتابعة القراءة فيه بغزارة مادته ، وطلاوة عبارته ، وجودة معانيه مضيت فيه إلى نهايته ... وقد أهداني فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي

٤٧٤

كتابه : «محاضرات الثلاثاء» وأنا أعلم أنه رجل موهوب ، ازدان علمه بتقواه ، وأسلوبه بالأدب الرفيع ، وقلمه بالسلاسة والرواء ، فعكفت على قراءته كعادتي فوجدت فيه طلبتي» الخ ...

وإذن فقد أصبح الاتجاه الإسلامي للداعية الأديب محور الحديث في الخطابة ، ومجال القلم في التأليف ... وقد سافر بحافز من هذا الاتجاه إلى ممالك الإسلامية كثيرة ، وصادف محنا وعقابا جمة ، ولكنه لم يترك تجاربه تهرب من الذاكرة هروبا لا رجعة منه ، بل أفرد لها كتبا خاصة من إنتاجه مثل : «أيام الكويت» و «عائد من الباكستان» و «مذكرات واعظ أسير» ...

وقد سلك في كتابته مسلكا يلتزمه الكثيرون ، فهو يدون الحوادث اليومية مجزأة متصلة ، تتماوج في سلسلة متعاقبة ، يوما وراء يوم ، وأذكر أني كتبت إليه في رسالة خاصة نقدا لهذه الطريقة ، إذ أرى أن الأوفق أن تمتزج هذه اليوميات ، لتتداخل في أبوبا عامة ، تتخذ لها عناوين دالة موحية ...

وكنت أعتقد أن هذا المنهج لا يختلف فيه اثنان ، ولكني وجدت من كبار الأدباء من يعدل إلى طريقة الأستاذ الشرباصي منددا بما أشرت إليه ، فقد كتب الدكتور محمد عوض محمد بالرسالة (العدد السابع من السنة الأولى) ينقد كتاب : «جولة في ربوع أفريقية» للرحالة محمد ثابت ، فيفضل أن يكتب المؤلف مذكرات يومية أثناء السياحة ، يصف فيها حركاته وسكناته ، وما مر به من الحوادث وكل شيء رآه ، وبديهي أن ذلك لا يتضح بجلاء في الأبواب الكلية كما أريد ، ولكل وجهة هو موليها ...

وقد لاحظت أن أفكار الكاتب في نشأته الأولى لم تتبدل في شبابه المكتمل ، بل أكسبها الزمن عراقة وأصالة دون أن يميل بها إلى استئصال وإبادة. ولتوضيح ذلك : قرأت للشرباصي على سبيل المثال ـ ثلاثة فصول

٤٧٥

مختلفة عن الأستاذ الإمام محمد عبده ، وقد كتبت في فترات مختلفة ، تبتدىء من سنة ١٩٣٨ وتنتهي سنة ١٩٥٦ م ، فلاحظت أن الروح التي تغمر مقال «محاولة» هي نفسها التي تترقرق في مقال «محاضرات الثلاثاء» ، وهي نفسها أيضا تتوهج ببزوغ في مقال أخير نشر بالعام الماضي في مجلة الأزهر سنة ١٣٧٥ ه‍ .. ولا عجب إذا أكثر الشرباصي من الحديث عن الإمام المصلح ، فهو مثل يحتذيه من ناحية ، وعالم أزهري كبير له رحمة الماسة من ناحية ثانية!! ...

لقد أصبح توفيق الشرباصي في محاضراته المتتالية حديث الكثيرين ، فكيف إذا ضمت إليه مؤلفاته التي تتقاطر متتابعة دون انقطاع ، وقد يجمع المؤلف الواحد منها ضروبا في القول تتباعد مصادر ومراجع ، وتتحد هدفا وغاية ؛ وتلك حقيقة سجلها الأستاذ محمود تيمور حين قال عن كتاب «في عالم المكفوفين» بالرابطة الإسلامية ، عدد ١٦ أبريل سنة ١٩٥٦ م :

«وأكبر ظني أيها الصديق أنك ستشق بكتابك هذا على من يريدون إلحاقه بفن من فنون التأليف ، فإنهم يحارون فيه ... إن ألحقوه بالعلم فهو ذاك ، لما حوى من دراسة وتحقيق ، وإن وصلوه بالتاريخ فله منه نصيب موفور ، وإن درجوه بالاجتماع فما ظلمون ، وإن عدوه كتابا في الأخلاق فليس هو منها ببعيد».

هذه شهادة منصفة ، وهي بعد تحقيق لنبوءة الأستاذ أحمد شفيع السيد ـ الأستاذ بكلية اللغة العربية ـ حين سجل إعجابه ـ من أمد بعيد ـ بتلميذه الطالب أحمد الشرباصي ، فقال عنه من قصيدة عامرة تنطق بسماحة الأستاذ وتقدير التلميذ :

قبس من الإصلاح لاح بصيصه

سيزيده كر المدى إشعالا

وإذا رأيت الفجر يبسم ضوؤه

فارقب لأنوار الضحى إقبالا

البحر ما ذا كان؟ كان جداولا

والبدر ماذا كان؟ كان هلالا

٤٧٦

الدكتور الخفاجي ـ محمد عبد المنعم خفاجي

ـ عالما ـ

في قرية صغيرة قديمة من أعمال مركز المنصورة ، تسمى «تلبانة» ، ولد الخفاجي في ٢٢ يوليو عام ١٩١٥ بين أحضان الطبيعة الجميلة في الريف ، وبين الفلاحين المكدودين المرهقين الذين يعيشون فيه عيشة تجمع إلى البساطة سذاجة التفكير ، واجهاد العيش ، وشظف الحياة.

وفي أبان الحرب العالمية الكبرى ، وما تلاها من أحداث الثورة الوطنية المصرية عام ١٩١٥ ولد ونشأ الخفاجي .. تنطبع في ذهنه صور من كفاح الحياة والإنسانية ومن جهاد مصر في سبيل حريتها وآمالها ، هذا الجهاد الذي ظل أمدا طويلا شغل المصريين كافة ، وموضع تفكيرهم ، وألهم المقعد الناصب لهم في حياتهم المعاصرة.

ولم يترك الخفاجي القرية إلا في أثناء دراسته ، وظل وفيا لها ولأهلها الأبرياء البسطاء طول حياته.

وهذا الميلاد وما صاحبه وتلاه من أحداث في حياة الخفاجي يصوره في قصيدة ساحرة له عنوانها «يوم الميلاد».

والخفاجي لم يكن وحدة في الحياة ، إن تاريخ قومه يمتد إلى أكثر من ألف وخمسمائة عام.

٤٧٧

فهو من سلالة عربية عريقة ، ارخ لها في كتابه «بنو خفاجة وتاريخهم السياسى والأدبي» ، والخفاجيون قبيلة عربية حجازية كبيرة نشأت في العصر الجاهلي وزاد نفوذها وهم من العقيليين العامريين القيميين ، وقد تعددت فروع القبيلة بعد الإسلام وهاجرت سلالات منها إلى الشام ومصر والعراق والمغرب والأندلس ، ومنهم أعلام خالدون في كل مكان ، ولا ننسى الشاعر الأموي توبة الخفاجي للعربي الحجازي ، والأمير ابن سنان الخفاجي الحلبي المتوفى عام ٤٦٦ ه‍ ، والشهاب الخفاجي المصري المتوفى عام ١٠٦٩ ه‍ ، وابن خفاجة الأندلسي المشبور ، وغيرهم.

ومن الخفاجيين أسر حاكمة في حلب في القرن الخامس الهجري ، وفي العراق في القرن الرابع إلى السابع الهجري ، وكانت ولاياتهم في الناصرية بقرب الكوفة وكان يتولاها منهم بعد أمير ، وكانوا في شبه استقلال داخلي عن الخلافة العباسية.

إن هذا الماضي العريق يحمله الخفاجي في قلبه ودمه وأعصابه ويقف مزودا منه بإيمان راسخ ، وعبقرية حادة وقوة ضخمة تعاوند على كفاحه في الحية.

وحفظ الخفاجي القرآن الكريم وتعلم مبادىء وأطرافا من الثقافة الأولى في مكتب القرية أو المدرسة الأولى التي كان يتعلم فيها الشباب في ريف مصر إلى عهد قريب.

وفي عام ١٩٢٧ رحل إلى مدينة الزقازيق يتلقى ثقافته الابتدائية والثانوية في معهدها الكبير ، الذي تخرج منه عام ١٩٣٦ ، وبين هذين التاريخين قصة كفاح طويل.

ومن أهم ما ظهر على الخفاجي في هذه الفترة الاتجاه الوطني الذي دفعه إلى الكفاح في سبيل وطنه في الأزمات السياسية التي مرت بمصر منذ عام ١٩٣٤ ، وكان رئيس اتحاد طلبة أبناء الشرقية في مدينة الزقازيق ، وكان

٤٧٨

هذا الاتحاد قوة كبيرة سياسية في هذه الفترة ، والخفاجي وأصدقاء له هم الذين كونوه ، وكانت مؤتمراته الوطنية تنشر في الصفحة الأولى في جريدة الجهاد المصرية ، وفي شتى الصحف في هذه الفترة.

ومن أهم ما يلاحظه الخفاجي على الثقافة المصرية في هذه الفترة انعدام التوجيه وضعف تربية الملكات ، وإهمال شئون الطالب النفسية والعقلية إهمالا كبيرا. وقد جاهد الخفاجي في أزمة الأزهر عام ١٩٣٥ مع زملائه جهادا طويلا.

التحق الخفاجي بعد مرحلة الثانوي بكلية اللغة العربية بالقاهرة وهي إحدى كليات الأزهر الشريف وبدأ دراسته فيها في أول اكتوبر عام ١٩٣٦ ، وفي اليوم الثاني من أكتوبر من هذا العام توفي والده ، وبعد ذلك بعشرين عاما أي في يوم الخميس ٢٧ جمادى الثانية ١٣٧٥ ه‍ ـ ٩ فبراير ١٩٥٦ توفيت والدته وتخريج الخفاجي من كلية اللغة عام ١٩٤٠ ، حيث كان في طليعة المتفوقين في جميع مراحل الدراسة فيها.

وفي خلال هذه الفترة اشترك الخفاجي في الحركة الوطنية ، وتابع دراسته ، وعمل أحيانا في الصحافة في جريدة السياسة وفي صحف أخرى ، وكتب المقالات والبحوث والدراسات في شتى الصحف والمجلات.

وكان قيام الحرب العالمية الثانية في هذه الفترة عام ١٩٣٩ أهم حدث عالمي تأثر به الشباب العربي أيما تأثر ، بل تأثر به شباب العالم قاطبة.

وكان الخفاجي المتنقل بين القرية والعاصمة صورة للشباب المصري المكافح في سبيل وطنه وفي سبيل قومية بلاده وفي سبيل الثقافة التي حمل لواءها بقوة.

وفي هذه الفترة تأثر بآراء عالمين مفكرين كبيرين في الفكر والثقافة والإصلاح ، هما الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش شيخ الأزهر فيما

٤٧٩

بعد ، والأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة العلماء بالأزهر. كما كان للإمام محمد عبده صداه العميق في نفسه.

وكان الأستاذ الأكبر الشيخ حمروش عبيد كلية اللغة آنذاك وكان بعقله الواسع وأفق تفكيره البعيد وثقافته العلمية العريقة أرفع مثال لطلاب كليته ، يستمدون منه القدوة ، ويحتذون حذوه في الفهم والتفكير.

وكان الأستاذ الكبير محمد عرفة أستاذا للخفاجي في الفلسفة والبالغة ، ومن ثم بآرائه التجديدية العلمية تأشرا خاصا.

وتخرج الخفاجي في يوليو عام ١٩٤٠ من كلية اللغة يحمل شهادته العالية.

والتحق الخفاجي بأقسام الدراسات العليا في كلية اللغة العربية في أكتوبر عام ١٩٤٠ في قسم البلاغة والأدب ، فعكف في خلال الأحداث العالمية التي صاحبت الحرب العظمى ، وفي خلال أحداث مصر القومية التي امتدت من هذا التاريخ ، وفي خلال أزمات الأزهر التي كانت نتيجة للصراع بين الحكومة والقصر ، والتي كان الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي مظهرا لكثير من صور الحرب الخفية في هذه المعركة ، في هذه الظروف عكف الخفاجي على دراساته العليا ، إلى أن تخرج عام ١٩٤٤ يحمل شهادة النجاح في الامتحان التمهيدي لشهادة العالمية من درجة أستاذ.

ثم قدم رسالته الجامعية «ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان» ونوقش فيها في أكتوبر عام ١٩٤٦ ، ونال بها بتفوق شهادة العالمية من درجة أستاذ في الأدب والبلاغة من كلية اللغة العربية وهي أرقى شهادات الأزهر الجامعية وتعادل الدكتوراه الممتازة حرف (أ).

ومن الجدير بالذكر أن الخفاجي قدم للكلية مع رسالته المخطوطة

٤٨٠