الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

أوائل الشهور ودراسة حركة الشمس والظل لتحديد مواقيت الصلاة ، وتحديد العدة ، والقبلة .. كلها تحتم دراسة الفلك وتقسيم الزمن ، وتفتح الباب لدراسات عن الجغرافيا والهندسة والطب ، وقادت إلى اكتشاف البوصلة.

وقد تمركزت الزعامة الشعبية في العلماء ، وكان الأزهر هو مركز القيادة الشعبية ، وحلقة الوصل بين السلطة والعامة ، وقائد مقاومة الجماهير ضد استبداد السلطة وانحرافها .. وقد سلمت السلطة بهذه المكانة لشيوخ الأزهر ، والتفت الجماهير حول الشيوخ .. الذين قادوها في أكثر من معركة سجل منها تاريخ القرن الثامن عشر معارك تتعلق باستقلال الجامعة الأزهرية ، فعند ما حاول السلطان والأمراء تعيين شيخ للأزهر من المذهب الحنفي ، وهو المذهب الرسمي للدولة ، رفض الشيوخ ، لأن ذلك اعتداء على استقلال الأزهر ، والعرف المقرر فيه أن يكون شيخ الأزهر شافعيا .. وفشلت كل جهود الدولة في حماية مرشحها ومذهبها الرسمي ، وانتصرت إرادة المشايخ .. وإذا كان عمدة «أوكسفورد» قد أحرق كل وثائق الملكية الخاصة بعلماء وطلبة جامعة «أوكسفورد» عام ١٣٨١ .. فإن علماء الأزهر في ذلك التاريخ كانوا يملكون بيع سلطان مصر في المزاد العلني (حادثة العز بن عبد السلام) .. وبعد ذلك بأربعة قرون (١٧٣٥) حاول السلطان العثماني أن يعيد تنظيم الأوضاع المالية ، بما يشكل اعتداء على الحقوق المكتسبة لبعض الفئات ، وليس المشايخ منهم. فاعترض المشايخ وألغوا قرار السلطان معلنين أنه «ليس من حق السلطان تجاوز التشريعات لقائمة». وكان ذلك قبل سقوط الباستيل بنصف قرن وقبل أن يفكر عقل في لقارة الأوروبية بتحدي سلطة الملوك الإلهية.

وأخيرا قاد المشايخ ثورة فلاحين لانتزاع أول دستور مكتوب .. ١٧٩٤ .. في الوقت نفسه الذي كان العامة في فرنسا يبحثون هل دم لأمراء أزرق؟).

٣٤١

فعند ما جاء نابليون بأول احتلال غربي للوطن العربي .. كان الأزهر هو القلعة التي اصطدم بها ، بعد انهيار المؤسسة العسكرية (المماليك) ، وقاد الأزهر المقاومة العربية ضد الاحتلال الفرنسي ، فكانت ثورة القاهرة الأولى ، التي قادتها لجنة من مشايخ الأزهر بقيادة الشيخ السادات استطاعت أن تشكل تنظيما دقيقا يمتد من صحن الأزهر إلى أصغر قرية في الريف المصري ، وهو تنظيم عجز العالم العربي عن تكرار مثله لأكثر من قرن بعد تنحي الأزهر .. وعرف نابليون ، ممثل الثورة الفرنسية ، خصمه الحقيقي ، فصب هجومه على الأزهر ، وضرب المسجد .. الجامعة .. القيادة .. التراث .. التاريخ .. وأهم من ذلك أنه كان إمكانية المستقبل .. ضرب ذلك كله بالمدافع ، واحتله الجنود ودخلته الخيل لأول مرة في تاريخه .. معلنة هزيمة الحضارة التي يمثلها ..

وأصدر نابليون أمره بأن «يباد كل من في الجامع» ، ودخلت الجند المسجد : «وهم راكبون الخيول ، وبينهم المشاة كالوعول ، وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته ، وعاثوا بالأروقة والحارات ، وكسروا القناديل والسهارات ، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين ، والكتبة. ونهبوا ما وجدوه من المتاع ، والأواني والقصاع ، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ، ورشقوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها ، وبأرجلهم ونعالهعم داسوها ، وأحدثوا فيه وتغوطوا ، وبالوا وتمخطوا ، وشربوا الشراب ، وكسروا آوانيه ، وألقوها بصحنه ونواحيه ، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه».

وأعدم نابليون ثمانين شيخا من قيادة الثورة ..

صحيح أن عدوان نابليون على الأزهر ، قضى على كل آماله في الشرق ، ولكنه أيضا كشف للأمة العربية أنها عزلاء ، لا تستطيع حماية قيادتها ، ومقدساتها ..

٣٤٢

وأصبحت القضية مطروحة على النحو التالي : من وجهة نظر الاستعمار الغربي .. لا بد أن تتحطم قيادة الأزهر لكي تخضع الأمة العربية للاستعمار.

ومن وجهة نظر الأمة العربية ، لا بد من حركة بعث قادرة على مواجهة الغرب الاستعماري.

وأدرك الاستعمار أن تحطيم الأزهر بالمدافع لا يجدي .. فبعد ضربه واحتلاله في الثورة الأولى ، عاد ونظم ثورة القاهرة الثانية (١٨٠٠) ، وهي الثورة الكبرى المعروفة.

٣٤٣
٣٤٤

الأزهر وأثره في الحياة الإنسانية

إن الأزهر الشريف (١) يرجع في قيامه إلى ألف سنة مضت. وقام ليؤدي رسالة ويحتفظ بتراث. أما الرسالة فهي تنوير المسلمين بمبادىء الإسلام. وأما التراث الذي يحتفظ به فهو تراث المسلمين العقلي والروحي والأدبي على السواء.

وظل يقوم بهذه الرسالة ويحتفظ بهذا التراث طوال هذه المدة الطويلة التي مضت على قيامه. وقد مرت به أحداث ، وعاصر ظروفا وخرج من هذه وتلك دون أن يفقد هذه الرسالة ، ودون أن يبدد هذا التراث.

فهو مدرسة وسجل للتاريخ معا. ترى في بحوثه ودراساته آثار المسلمين الذهنية ، وتسمع من خلال هذه الآثار مبادىء الإسلام كما ذكرنا.

ولأنه قام لمهمة مرتبطة بالبحوث الإسلامية كان لا يحتك به من الأحداث إلا تلك التي تتصل بكيان الأمة الإسلامية والشعوب العربية ، وفي مقدمة هذه الشعوب شعب الاقليم المصري.

والتحول الذي طرأ على التوجيه فيه من أنه كان مدرسة لتعاليم

__________________

(١) د. محمد البهي ـ مجلة قافلة الزيت.

٣٤٥

الفاطميين ثم تغير الوضع فيه إلى أن يكون التوجيه الذي يباشره يتصل بتوجيه أهل السنة ـ هذا التحول لا يغير من مهمته الأصلية وهي العناية بنشر مبادىء الإسلام والاحتفاظ بتراث المسلمين العقلي والروحي. ولذا فمحاولة وضع هوة في تاريخه بين عهدين له ، وإبراز مراحل تطوره على أنه كان لاتجاه معين انقلب إلى ضده فيما بعد ـ لا تقلل من شأن رسالته في واقع الأمر من حيث أنها رسالة الأمة الإسلامية والشعب العربي.

والأزهر بما له من هذا الماضي الطويل وبما وضع لنفسه من رسالة احتل في العالم الإسلامي منزلة كبيرة وخالدة في الوقت نفسه. وأصبح مركز تنوير المسلمين بمبادىء دينهم وأصبح أمر الاحتفاظ بالتراث الثقافي والروحي والأدبي للمسلمين مرتبطا ارتباطا قويا بمهمة الأزهر وبما يباشره من وظيفة ورسالة.

وإذا كان قد مرت على الأزهر أحداث تأثر بها وهي الأحداث التي تتصل بالوطن الإسلامي أو العربي ، وإذا كانت هذه الأحداث قد غيرت من اتجاهه وتحول بسببها من جانب إلى جانب ، فإن الشيء الذي يمكن الوقوف عنده في تاريخه هو سير الحركة العلمية وتغير طريقة البحث والدرس فيه. فحركة التأليف العربي التي وجدت في آخر القرن الأول الهجري وازدهرت في القرنين التاليين له مالت رويدا رويدا إلى الضعف من جانب والركود من جانب آخر ، وكان للأحداث الخارجية وهي أحداث المغول والتتار في الشرق وأحداث الصليبيين من الغرب أثر آخر بجانب ما لضعف حركة التأليف وركود النشاط فيه. وهذا الأثر سواء أكان عن طريق الأحداث الخارجية أم طريق العوامل الداخلية والمحلية هو تقوية روح التبعية للخصومات المذهبية وللمؤلفين فيما كتبوا في العهود المتأخرة في تاريخ التأليف العربي.

والأزهر عند ما قام يؤدي رسالة تنوير المسلمين اعتمد في ارسال

٣٤٦

إشعاعه وفي بحوثه ونشر تعاليمه على قسط كبير من كتب أولئك المؤلفين الذين تأخر بهم الزمن في تاريخ التأليف وتأثروا بموجة الضعف والركود الداخلية والخارجية. ولأن مهمة الأزهر تتصل بالدين ، أخذ خصيصة التقاليد وهي عدم قبوله لمبدأ التطور لا في الدين نفسه ولكن فيما صنعه الإنسان المسلم المفكر حول الدين وفيما سطره من آراء يخرج بها بعض أفكاره. وهنا كان تقبل الأزهر للخروج عن نطاق هذه الكتب التي تمثل ظاهرة الضعف والركود الفكري في تاريخ التأليف العربي أمرا ليس هينا ، وإن تقبل مبدأ التغير والانتقال من عهد إلى عهد في التعرف على مبادىء الإسلام وآراء المسلمين فإنه يتقبلها في احتياط وفي بطء.

ومن ثم كانت مسايرة الأزهر ـ لا أقول لمبدأ التطور ، وإنما أقول لفكرة الانتقال من عهد إلى عهد في تاريخ التأليف العربي ، أي الانتقال من عهد الضعف والركود مثلا إلى عهد القوة والأصالة في العصور السابقة على هذا العهد ـ مسايرة تجمد تارة وتبطىء في سيرها تارة أخرى.

ومن هنا كان لتوجيهه أثر على الشعوب الإسلامية ينعكس في هذا الأثر ما يتلزمه هو في دائرة التوجيه من الركون إلى آراء معينة أو الوقوف في استمداد التعاليم الإسلامية من بعض مصادر التأليف في الحقبة الأخيرة. وبمقدار ما يتحرك الأزهر في دائرة التأليف العربي الإسلامي بمقدار ما يكون لتوجيهه من أثر إيجابي أو سلبي.

والحركات الإصلاحية التي قامت فيه والتي باشرها بعض شيوخ الأزهر من أمثال الشيخ محمد عبده لم تقصد إلى الخروج عن دائرة التراث الثقافي والروحي للمسلمين كلية. وإنما قصدت إلى شيء واحد هو محاولة الانتقال ـ كي يفهم الإسلام فهما صحيحا ـ من عهد الركود إلى عهد الإمامة والأصالة في تاريخ التأليف العربي الإسلامي. إذ أن تأليف المتقدمين من علماء المسلمين كان أقرب إلى أصول الإسلام وإلى التعبير عما يهدف إليه القرآن مما كان للمؤلفين المتأخرين.

٣٤٧

وهذا معناه أن يكون للعالم الأزهري فرصة في اختيار الرأي من بين آراء المسلمين. كما تكون له فرصة عرض بعض آراء المسلمين اعتمادا على القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وأي الآراء من بينها أقرب إلى روح القرآن والسنة الصحيحة هو أقواها وضوحا في التعبير عن رأي الإسلام وأكثرها قبولا للمسلم في حياته اليومية.

والنتيجة الحتمية لهذه الحركة الإصلاحية هي وضع العلماء في مواجهة القرآن وضعا مباشرا دون وسيط يلتزم رأيه وينفذ حكمه على أداء القرآن لأحكام الله وللطريق العملي الذي يسلكه المسلم. وهنا يكون مبدأ التوجيهات حقيقة واقعية يمارسها القادرون في فهم القرآن أو تحت ضوء القرآن وضوء السنة الصحيحة.

وبمقدار ما تعبر التعاليم التي يرسلها الأزهر إلى خارجه في نطاق الشعوب العربية والإسلامية بمقدار ما تتحقق روح الإسلام في حياة المسلمين. وروح الإسلام هي روح الإنسانية الصافية في معاملة المسلم للمسلم ومعاملة المسلم لغير المسلم من أهل الكتاب ومعاملة المسلم لمن ليس بذي دين أو لمنكر الدين والإيمان.

ومعاملة المسلم للمسلم ـ كما تملي روح الإسلام ـ هي معاملة الأخ للأخ والصديق للصديق ومعاملة الإنسان للإنسان في دائرة دفع الأذى والضرر وتحقيق السلم والرخاء العام. ومعاملة المسلم لغير المسلم ممن ليس بذي دين أو لمنكر الدين هي معاملة الإنسان لمن يتحدى خصائص الإنسانية ويتحدى علاقة السلم وتبادل النفع والرخاء بين الناس جميعا. إذ الذي ينكر الدين والإيمان بالله ينكر على البشر أن يسلكوا طريق الحق ، وسبيل الاستقامة وسبيل الإنسانية مذعنين لتوجيه القادر العليم مدبر الكون كله. ينكر على البشر أن يطيعوا الله خشية منه ، ويحرضهم في الوقت نفسه على أن يتمردوا على القيم البشرية بدعوى ممارسة الحرية الفردية ، أو بدعوى

٣٤٨

سمو الإنسان عن خالقه ، أو بدعوى الاستجابة لوحي الطبيعة وما تمليه من توجيه وما ترسمه من قدر ومصير.

والإنسان مهما سما في تفكيره وإدراكه لا يصل إلى تحديد المنهج المستقيم تحديدا واضحا لا خلط فيه ، أو تحديدا مستمرا صالحا لجماعة معينة فضلا عن أن يكون صالحا لجماعات وشعوب كثيرة. والطبيعة أن ترك الإنسان نفسه يطيع ما ترسمه من توجيه فإنها ستجعله يطيع دوما ما تمليه مظاهر الحس المختلفة وعندئذ يكون شأن الإنسان شأن الحيوان في تبعيته لما يحس وعدم ارتفاعه عن هذا الذي يحس للسيطرة عليه وتوجيهه.

ومن هنا كان أثر الأزهر الديني في توجيه المسلمين أثرا إيجابيا في علاقة المسلم بالمسلم ، وفي علاقة المسلم بأهل الكتاب ، وفي موقف المسلم من الالحاد والتحدي بإنكار الإيمان ، ما يعبر في تعاليمه التي ، ينشرها عن الإسلام في صفاء آرائه ووضوح هدفه.

أما الأثر الأدبي للأزهر ورسالته فهو خدمة الإنسانية وخدمة المستوى الفاضل لها. فالإسلام إذا سار المسلمون على مبادئه يكون من الدعائم القوية في تركيز خصائص الإنسانية في نفوس البشرية. فهو رسالة كرسالة الله فيما أوحاه إلى موسى وإلى عيسى عليهما السلام تساوق الطبيعة الإنسانية في أخص صفاتها ومقوماتها. وأخص هذه الصفات والمقومات التي تدعو إليها الرسالة الإلهية هي : المحبة ، الأخوة ، السلام. ولا شك أن هذه الغايات لا تتحق إلا إذا ارتفع الإنسان عن مستوى الخصومة ومستوى الحقد والضغينة بسبب التهالك على المادة أو بسبب الانطواء تحت مظاهر الحس التي يدعو إليها الالحاد ، ويدعو إليها التحدي للإيمان.

والدين الإلهي لذلك ضرورة لضمان تحقيق هذه الأهداف الثلاثة في حياة الإنسان. وإذا ما تحققت هذه الأهداف في حياة الإنسان أصبحت البشرية في أوضح مظاهرها حقيقة عملية ، وبالتالي أصبح الناس سعداء لأن

٣٤٩

الشر أو الشقاء لا يكمن إلا في الخصومة وفي القلق والاضطراب والحيرة. وليس من أسباب الخصومة والقلق والاضطراب والحيرة سوى تنافس الناس على ما في أيدي بعضهم بعضا ، وهنا كان الطمع والجشع أمرا مكروها لذلك في كل رسالة إلهية. وكان البر والإحسان أمرا مطلوبا في كل رسالة إلهية.

إن رسالة الأزهر في تمكين السلام العالمي واستقرار النفوس البشرية وتوكيد الترابط الأخوي والإنساني ودفع شرور الالحاد وتحدي الإيمان بالله ، وهو لذلك ضرورة في حياة مجموعة الشعوب العربية والإسلامية كضرورة الدين نفسه في حياة الإنسانية.

٣٥٠

قرارات لمؤتمر البحوث الإسلاميّة

في الدورة الثانية لمؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي عقد بالأزهر واستمر شهرا كاملا .. كانت هذه الدورة مقصورة على أعضاء المجمع في المؤتمر الذين عهد إليهم بدراسة صورة المجتمع الإسلامي. وانتهت الدراسات إلى حصر المشكلات التي تواجه المجتمع الإسلامي المعاصر تحت أربعة عناصر رئيسية هي : مقاومة العدو المشترك للإسلام والمسلمين.

وتجريد الإسلام مما علق به من الفضول والشوائب.

وتنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين على أساس إسلامي سليم العمل على توحيد كلمة المسلمين ومحو أسباب التقاطع بينهم وإزالة أسباب الخلافات المذهبية.

وقد اتخذ المؤتمر أربعة قرارات هامة تدور حول هذه العناصر ، وهي :

أولا : يقرر المؤتمر أن الاستعمار ـ سواء في البلاد التي لم تزل ترزح تحت نيره أو في البلاد التي جلا عنها مخلفا آثاره ـ هو الخطر الأول الذي يجب على المسلمين أفرادا وجماعات ودولا أن يجاهدوه بالمقاومة الجادة

٣٥١

المستمرة حتى يتم تحرير المسلم قلبا وضميرا ووطنا ومعرفة ، وأن كل تقصير في ذلك هو عصيان لله ـ تعالى ـ وإثم كبير لأنه يقوي يد العدو على إنزال الأذى بالمسلمين.

وإن الصهيونية التي يحاول الاستعمار بعد أن تحطمت أسبابه الظاهرة أن يغلف بها أهدافه تحت ستار جديد ، هي داء استعماري خبيث يستهدف به الاستعمار أن يتمكن بآثاره في حياة المسلمين لاستمرار سيطرته عليهم ، ومن ثم كانت مجاهدتها فرضا كذلك على كل مسلم حيثما كان .. وكل تخلف عن ذلك عصيان لله ..

ثانيا : يقرر المؤتمر أن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان للأحكام الشرعية ، وأن الاجتهاد لاستنباط الأحكام منهما حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة ، كما أن السبيل لمراعاة المصالح ومواجهة الحوادث المتجددة هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك ، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي ، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق.

ثالثا : أن موضوع الزكاة والموارد المالية في الإسلام وطرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات وحقوق الملكية الخاصة والعامة ، هي موضوعات الساعة لأنها ملتقى شعبتين من شعب الشريعة الإسلامية وهما العبادة والسلوك الاجتماعي.

ومن أجل ذلك يقرر المؤتمر أن تكون هذه الموضوعات محور نشاط المجمع في دورته المقبلة.

ويقرر المؤتمر ، بعد الدراسة المستفيضة لموضوع الملكية ، أن حق التملك والملكية الخاصة من الحقوق التي قررها الإسلام وكفل حمايتها .. وأن من حق أولياء الأمر في كل شلدان يحدوا من حرية التملك بالقدر الذي يكفل درء المفاسد وتحقيق المصالح وأن أموال المظالم وسائر الأموال

٣٥٢

المشبوهة يجب أن ترد إلى ذويها أو إلى الدولة .. بل أن المال الطيب ، إذا احتاجت المصلحة العامة إلى شيء منه ، أخذ من صاحبه نظير قيمته يوم أخذه وأن تقدير المصلحة من حق أولياء الأمور ..

رابعا : يقرر المؤتمر أن واقع المجتمع الإسلامي المعاصر يفرض على مجمع البحوث الإسلامية أن يلتمس الوسائل لتوثيق الصلة بين المسلمين في شتى بلادهم ليجمعهم كلمة ويوحدهم رئيسا وينظمهم للتعاون أفرادا وجماعات على ما فيه خيرهم وخير الإنسانية من غير إقليمية ولا مذهبية ولا تنازع.

كما يقرر أن استكمال المجمع لأجهزته اللازمة لنشر المبادىء الإسلامية وتجليتها أمر ضروري تجب المبادرة إليه لينهض المجتمع الإسلامي بمسئولياته التي يفرضها عليه واقعه.

٣٥٣
٣٥٤

قصّة الأزهر الجامعي بعد عشرين عاما (١)

الأزهر القديم حافل بالذكريات المجيدة الخالدة المشهورة ، التي فصل الحديث فيها المؤرخون والباحثون.

أما «أزهرنا» اليوم فلا حول ولا قوة إلا بالله ، فليس فيه من الأزهر القديم شبه ، وليس بينه وبينه صلة ، وهو حائر الرأي ، متبعثر الخطى ، كأنما يريد أن ينقض إشفاقا على حملة تراثه ، من جسامة المئولية ، وفداحة التبعة ، وهول الحساب .. وأما «أزهرنا» في الغد ، فأتخيله منارة مشرقة ، وجامعة تعود إلى فهم رسالتها ، وإلى أدائها ، وإلى الجهاد مرة أخرى من أجل الإسلام والمسلمين وتقدم النهضة الفكرية ، ومن أجل ازدهار حركة الأحياء والتجديد والإصلاح الديني .. وسيكون الفضل في ذلك راجعا إلى يقظة الرأي العام في الأزهر بعد سبات ، وإلى انتباه الشباب فيه بعد غفلة ، وإلى حرص الأمة والمسئولين على إصلاح الأزهر وتجديد معالم النهضة الدينية والعلمية في أروقته ومحاربيه.

سيكون الأزهر بعد عشرين عاما جامعة هيكلا وروحا ورسالة ، بعد أن كان في القديم جامعة بهيكله ، وبعد أن كان في عصرنا الراهن جامعة اسما

__________________

(١) ص ١٥٥ قصص من التاريخ للمؤلف.

٣٥٥

فحسب .. وستؤدي هذه الجامعة الأمانة العلمية والدينية الملقاة على كاهلها على خير الوجوه وأجلها ، وستعود حلقات الدرس في الأزهر إلى نشاطها العلمي من جديد ، منقحة ومحققة ومجددة مبتدعة ، وسيحفل الأزهر آنذاك بعديد الأعلام من بنيه ، الذين سيكونون خير سند لنهضته الفكرية والروحية.

وستمتلىء نفوس الأزهريين بعد عشرين عاما بالعزة والكرامة ، فلا تجد فيهم ضعيف الرأي ، أو منافق اللسان ، أو هداما يستر عيوبه بالحقد على الناس ، أو أنانيا يسعى لنفسه ولو كان في ذلك الهلاك للجماعة ..

وستقوى صلة الأزهر بالأمة ، فتنزله منها منزلة الرائد الأمين ، ويحلها من نفسه مكانة عزيزة بالتوجيه والإيثار والنصح ، والدعوة إلى المثل العليا الكريمة التي يدعو إليها الإسلام الكريم.

أما مناهج الأزهر وكتبه وكنوزه القديمة فسينالها ثورة العصر الجديد ، فتعود كنوزنا العلمية إلى التأثير في العقل العربي الحديث تأثيرا قويا نافعا ، وتصبح مناهج الأزهر وكتبه ونظمه محققة لرسالته الجامعية الصحيحة .. وسيكون منصب «شيخ الأزهر» بالانتخاب من حملة الدكتوراه أو ما يعادلها من الأزهر ، وسيعود لمنصب المشيخة سالف مجده وعظمته وهيمنته الروحية الكبيرة على العالم الإسلامي كافة ، وستنال جماعة كبار العلماء ولجنة الإفتاء ومجلة الأزهر ومكتبته وأروقته ومعاهده وكلياته وبعوثه الإسلامية نصيبها من الإحياء والبعث والتجديد ، وستسهم البعوث الإسلامية الأزهرية في ميادين النشاط الديني والعلمي بنصيب كبير ، وستحمل مدرجات الأزهر أسماء الخالدين من أبنائه .. ويطلق على الكراسي العلمية المنشأة في كلياته كذلك أسماء الأعلام من علمائه .. وسنرى مدينة الأزهر الجامعية ، واتحاد الأزهر الجامعي ، وحفلات الذكرى الألفية لإنشاء الأزهر ، واللغات الحية التي تدرس في جميع أقسامه وفروعه ، وقلوبنا يملؤها البشر والفخر والإعجاب.

٣٥٦

وسوف تقيم كليات الأزهر مواسم علمية وأدبية ضخمة ، وسيعلن آنذاك عن رحلات لطلبة كليات الأزهر في البلاد العربية والإسلامية خلال إجازة نصف السنة وفي الإجازة الصيفية.

وسيكون في كلية اللغة العربية عدة كراسي علمية ، للنقد الأدبي ومذاهب الأدب وأصول النحو والبلاغة واللغات السامية واللهجات القديمة والحديثة وسيتبعها معهد للصحافة ، وتنطق باسمها مجلة علمية ضخمة ، وسيعلن عن مناقشة رسالة للدكتوراه فيها آنذاك ، عنوانها : «مذهب أدبي جديد» يبشر صاحبها فيها بالمثالية الأدبية. وفي كلية أصول الدين ستنشأ كراسي أخرى للفلسفة والتصوف الإسلامي وعلم الأخلاق الديني وعلم الاجتماع ومناهج الوعظ ، وسواها. وسيعلن آنذاك عن مناقشة رسالة للدكتوراه. فيها موضوعها «فلسفة الشك بين ابن عربي وديكارت» ، وعن مناقشة رسالة ثانية موضوعها «علم الاجتماع بين أرسطو والفارابي وابن خلدون وغوستاف لوبون» وسيعكف أحد طلبة الدكتوراة فيها آنذاك على كتابة رسالة عن «الذرة عند فلاسفة الإسلام» .. وفي كلية الشريعة ستنشأ كذلك كراسي علمية جديدة لأصول الاجتهاد والقانون «المقارن» والشريعة الإسلامية ومذاهب المجتهدين وسواها ، وسيعلن عن قيام طلبة الدكتوراة في الكلية بنشر مجموعات القوانين الجنائية والمدنية والاقتصادية والقانون الدولي في الشريعة الإسلامية ، وستناقش رسالة للدكتوراه عنوانها أصول مذهبي الأوزاعي والليث بن سعد .. وستتبادل الجامعات في الشرق والغرب رسائل الأزهر العلمية.

ومن أهم حركات التجديد في الأزهر توطيد النظام الجامعي ورفع مستوى الكادر الجامعي في كلياته وتبادل الأساتذة بين الأزهر وشتى جامعات العالم ، وستقوم الدول الإسلامية بعبء الأموال اللازمة للبعوث الإسلامية الأزهرية ، وسيتولى الأزهر الإشراف على المساجد والمعاهد الكبرى في

٣٥٧

العالم الإسلامي ، وستعلن جامعة «هارفرد» عن قدوم أستاذ أزهري زائر فيها لتدريس «أصول التشريع الإسلامي وأثرها في نشأة علم الاجتماع وفي الحضارة العالمية».

ويومذاك سيكون للأزهر معاهد علمية ثقافية في الخرطوم وإشبيلية والقدس وكراتشي وبغداد ولندن وبرلين وباريس ونيويورك ، وسترسل ثلاثون بعثة علمية لشتى جامعات الغرب .. وستستعين جامعة إيران وجامعة موسكو وبرلين ولندن والسوربون وجامعات الهند والصين وباكستان وسواها بأساتذة من الأزهر. ومن أهم ما سنراه في الأزهر بعد عشرين عاما تبادل الطلاب بين كلية اللغة وكليات الآداب في مصر والغرب ، وبين كليات الشريعة وكليات الحقوق ، وبين كلية أصول الدين وكليات الفلسفة في العرب ، وكذلك اعتراف الجامعات في العالم بشهادات الأزهر العلمية ، وسيدرس الطب العربي القديم في الأزهر ، وسيباح لخريجي كلية أصول الدين فتح «عيادات» نفسية للطب النفسي العلاجي. وسيكون لخريجي الأزهر دخول الكلية الحربية عاما واحدا يمنحون بعده رتبة عسكرية ويعملون في الجيش في شتى وحداته ، وسيكون القائد العام للجيش المصري آنذاك أزهري التعليم ، وسينشىء الأزهر كلية الجامعية للفتاة المصرية .. وستنال المعاهد الابتدائية حظها من الرعاية والتجديد والإصلاح ، ويباح تبادل الطلاب بين الأزهر والمدارس الابتدائية والثانوية ، وسيوحد الزي بين الأزهر والجامعات المصرية.

ويومئذ سيكون الأزهر الصرح الإسلامي الأكبر في البلاد الإسلامية.

٣٥٨

الأزهر حصن العربية

يعني الأزهر فيما (١) يعني المعقل الذي حفظ الثقافة العربية ألف سنة ونيفا ، يسهر عليها ويزيد فيها وينفق منها على طلاب المعرفة في الشرق والغرب ، على حين دمر الجهل والكفر حصونها في بغداد والأندلس.

ويعني الأزهر فيما يعني ، الحصن الذي اعتصمت به اللغة العربية من عدوان الشعوبية والعامية والتركية حين استعجم اللسان واستترك السلطان وفشت الجهالة ، وضعفت الخلافة وعز الناصر وذل الأهل.

ويعني الأزهر فيما يعني القبلة الثانية التي يوجه المسلمون في جميع أقطار الأرض قلوبهم إليها يتلمسون على هداها الطريق إلى الحق والسبيل إلى الله.

ويعني الأزهر فيما يعني الملاذ للشعب المظلوم كلما عسفه الطغيان وبغي عليه الحكم فيأوي منه إلى ركن شديد وحام قادر.

ويعني الأزهر فيما يعني الجامعة العالمية التي يؤمها الطلاب من كل أرض ومن كل جنس ومن كل لون ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا

__________________

(١) محلة الأزهر ـ عدد رمضان ١٣٨٠ ه‍ ـ احمد حسن الزيات.

٣٥٩

رجعوا إليهم ، لا يبغون من وراء ذلك مالا ولا جاها ولا شهرة.

ويعني الأزهر فيما يعني الخانقاة التي آوت العباد والزهاد والوعاظ وحفظة القرآن وحملة البركة.

ويعني الأزهر فيما يعني القاعدة الروحية التي كان يخشاها المستعمرون فحاولوا سرا وعلنا أن يدمروها ليتقوها ، فلما استيأسوا من تدميرها أو إضعاف تأثيرها سالموها ونافقوها. ثم جهدوا أن يستميلوها ليستغلوها.

ويعني الأزهر فيما يعني ، الصرح الوطني الذي أجج الثورات على الفساد ، وخرّج القيادات للجهاد ، وقام من نهضة العرب الحديثة مقام الرأس واليد ، يمدها بالروح ويرفدها بالقوة. ثار على الغزو الفرنسي بقيادة ستة من علمائه ، وثار على الطغيان التركي بقيادة شيخه عبد الله الشرقاوي ، وثار على الظلم الخديو بقيادة ابنه أحمد عرابي ، وثار على الاحتلال البريطاني بقيادة ابنه سعد زغلول.

كل أولئك يعنيه لفظ الأزهر ، وأكثر من أولئك يلازم معنى الأزهر ، ولكني بسبيل الحديث عن نصيب اللغة العربية من فضل الأزهر فلا أخوض في حديث غيره.

إن فضل الأزهر على اللغة العربية مستمد من فضل القرآن الكريم عليها ؛ وبعض فضله أنه كسبها عذوبة في اللفظ ورقة في التركيب ودقة في الأداء وقوة في المنطق وثروة في المعانى. وكان سببا في استحداث العلوم الشرعية والأدبية التي حفظت مادتها بالقواعد وفي المعجمات ، ووسعت دائرتها بالألفاظ والمصطلحات ، كالنحو والصرف والاشتقاق لدفع اللحن عنه ، والمعاني والبيان والبديع لتقرير الإعجاز فيه ، وعلى اللغة والأدب لتفسير غريبه وتوضيح مشكله ، والحديث والأصول والفقه والتفسير لاستنباط أحكام الشرع منه ، وهو الذي وحدها على كل لسان ، ونشرها معه في كل

٣٦٠