الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

مكان. وحفظها أربعة عشر قرنا إلا قليلا لا تفسد ولا تجمد ولا تتغير مصداقا لقول الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وحفظ القرآن يستلزم حفظ لغته ، والناظر في تاريخ الأديان السماوية والأرضية لا يجد دينا حملته لغته التي أنزل بها أو كتب فيها إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب في مدى ١٣٨٠ سنة ثم بقيت محافظة على قوتها وجدتها ووحدتها وطبيعتها إلا دين الإسلام ولغة العرب ، أما سائر الأديان فلا تقرأ كتبها الأصلية إلا في لغة البلد الذي ظهرت فيه. فإذا نقلت إلى بلد آخر عن طريق الدعوة قرئت مترجمة إلى لغته ، واختص بمعرفة الأصل طائفة قليلة من رجال ذلك الدين ، فمدونة الأسفار البوذية المسماة بالسلات الثلاث لا يقرأها أتباع هذه الملة في الصين واليابان إلا منقولة إلى الصينية واليابانية ، والتوراة والإنجيل ـ وهما كتابان منزلان ـ لا يقرآن في العالم المسيحي إلا في لغة كل قطر من أقطاره ، لذلك ظل تأثيرهما في الآداب الأخرى ضئيلا حتى ترجما إلى اللاتينية والتوتونية القديمة فظهر أثرهما قويا في الآداب الأوروبية.

وليس كذلك الحال في القرآن ، فإن المسلمين اعتقدوا بحق أن لغته جزء من حقيقة الإسلام ، لأنها كانت ترجمانا لوحي الله ولغة لكتابه ومعجزة لرسوله ولسانا لدعوته ، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشاره وخلدها القرآن بخلوده. فالقرآن لا يسمى قرآنا إلا فيها ، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها ، لذلك سارعوا إلى تعلمها والتكلم بها والتأليف فيها والتعصب لها والدفاع عنها والدعوة إليها حتى حلت محل الفارسية في العراق والرومية في الشام والقبطية في مصر والبربرية في المغرب ، وأصبحت في عصر بني العباس وهو عصرها الذهبي لغة الدين والأدب والعلم والسياسة والإدارة والحضارة في أكثر الدنيا القديمة ، وأصبح المسلم على اختلاف جنسه ينتقل من قطر إلى قطر في عالمه الإسلامي كما ينتقل من بلد إلى بلد في وطنه الأصلي ، لا يجد مشقة في التفاهم ، ولا صعوبة في التعامل ، ولا شدة في المعيشة ثم شغل المسلمون ـ عربهم وعجمهم ـ بالقرآن وفرغوا له ، فكان

٣٦١

دعاءهم في المسجد ، ونظامهم في البيت ، ومنهاجهم في العمل ، ودستورهم في الحكومة ، فسري هدية منهم مسرى الروح ، وجري وحية فيهم مجرى الطبع ، وأثر في ألسنتهم وأفئدتهم وأنظمتهم تأثيرا لم يؤثره كتاب سماوي آخر في أهله ومن هنا كانت ثقافة الإسلام قائمة على ركنين أساسيين هما الدين بعلومه المختلفة واللغة بفنونها المعروفة ، وهذان الركنان يشد احدهما الآخر ويمسكه ، فالإسلام بغير العربية ينبهم ويضمحل ، والعربية من غير الإسلام تنكمش وتزول ، واللغات السامية مدينة ببقائها للدين ، فلو لا اليهودية ما بقيت العبرية ، ولو لا المسيحية ما بقيت السريانية ، ولو لا الإسلام ما بقيت العربية ، ولكن الفرق بين بقاء العربية وبقاء العبرية والسريانية هو الفرق بين الروح والذماء أو بين العين والأثر. والأزهر وهو وارث النبوة وحامي العقيدة وناشر الدعوة لا يمكن أن تقوم رسالته إلا على هذين الركنين ، وقد أداها بتأييد الله وتوفيقه تأدية أحلته من العالم الإسلامي كله محل الزعامة.

على أن فضله على علوم القرآن وعلوم اللسان قد يشاركه فيه بالكثير أو بالقليل طائفة من المدارس والجوامع أنشأها السلاطين في القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والنجف وقرطبة والقيروان والزيتونة ، كالناصرية والقمحية والصلاحية والمؤيدية والمنصورية والشيخونية والظاهرية والكاملية والنظامية ؛ ولكن هذه المدارس التي عفى على أكثرها الزمن لم تستطع في حياتها منفردة أو مجتمعة أن ت (اول الأزهر فضله الخالد على اللغة العربية في بقائها لسانا للعلم ورباطا للمسلمين إلى اليوم.

تحيفت الخطوب السود لغة القرآن في محنتين أشفت فيهما على الموت لو لا أن تداركها الله بفضله : محنة الغزو المغولي في منتصف القرن السابع حين انتكث فتل العباسيين في العراق بتنافس الفرس والترك ، وتحارب الشيعة والسنة ، وذهاب جلال الخلافة من النفوس ، فقوص هولاكو عرشها سنة ٦٥٦ ه‍ ، وتضعضع أمر الأمويين في الأندلس بتغلب

٣٦٢

البربر والموالي على ملكهم وتقسيمه بينهم إلى دويلات سهل على الفرنج ازدرادها قطعة قطعة حتى ابتلعوها لقمة سائغة سنة ٨٩٨ ه‍ .. ودالت دولة الفاطميين في مصر والشام فوقعتا في أيدي الأيوبيين ، ثم صارتا إلى المماليك وظلتا تحت سلطانهم حتى دخلتا في حكم الأتراك العثمانيين سنة ٩٢٣ ه‍ ، فأتى على العرب ستون وخمسمائة عام لم يكن لهم فيها سلطان ولا ملك ، فأصبحت ديارهم وآثارهم نهبا مقسما بين المغول والترك والفرس والجركس ثم الأسبان بعد قليل ، وكان أكثر هؤلاء الأعجام وحشيين أميين فخربوا الدور وهتكوا الخدور وفجعوا اللغة وآدابها وعلومها بتحريق المكاتب وتعطيل المدارس وتقويض المراصد وتقتيل العلماء. ناهيكم بما فعله التتار في بخاري وبغداد ، والصليبيون بالشام ، والإفرنج بالأندلس ، فلو أن الزمان عفى على اللغة العربية وألحقها بأخواتها السامية لما كان ذلك خارقا لطبيعة الأشياء ولا بدعا في منطق التاريخ ، ولكنها بقيت على الرغم من هذه الخطوب لسانا للدين والعلم ، ولغة للحكومة والأمة في بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب والجزيرة ، ولو لا نعرة الترك وعصبية الفرس لكانت لغة المسلمين كافة. والفضل في بقائها بعد إدبار الزمان والسلطان عن أبنائها ، إنما كان لهذا الأزهر الجليل الذي اختصه الله بمزايا تميز بها على غيره ، منها صبغته العربية الخالصة بحكم نشأته وبيئته ، وموقعه الوسط بين الشرقين الأدنى والأوسط ، فكان ملتقى المسلمين من هنا ومن هناك ، ومنها قربه من الحجاز فكان طريق الحجاج والرحالين من علماء إفريقية والأندلس. ومنها تخريجه طائفة كبيرة من أعلام الفقه وأعيان الأدب جمعوا شتات اللغة والعلوم والآداب في أسفار أشبه بدوائر المعارف ، ومنها مكانته التي بلغت من قلوب المسلمين والحاكمين مبلغ القداسة وكان لها أثر بالغ في حل بعض المشكلات السياسية والاجتماعية ، ومنها كفايته الأساتذة والطلاب مؤونة العيش بأن كفل لهم الغذاء والكساء والمأوى والكتاب ، ومنها إيواؤه الناجين بحياتهم ودينهم وعلمهم وأدبهم وكتبهم من غارة المغول حين

٣٦٣

اكتسحوا خراسان والفرس والعراق ، فكان من مهاجرة هؤلاء العلماء من الشرق والغرب إلى القاهرة من البحث والابتكار ما كان لمهاجرة علماء المسيحية من القسطنطينية إلى روما من البعث والازدهار. ومنها مناصرة الأيوبيين له بالمال والتعضيد ؛ لأنهم وإن كانوا أكرادا قد تكلموا بلغة العرب وتأدبوا بأدب العرب ونبغ من بينهم الشاعر والعالم والمؤرخ ، كالملك المؤيد عماد الدين أبي الفداء ، والملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، وكان هذا الملك ضعيف الرأي كثير الغفلة فغلبه عمه العادل أبو بكر وأخوه العزيز عثمان على ملك الشام ومصر ، فكتب إلى الخليفة الناصر العباسي كتابا يشكو إليه فيه ذلك وقد بدأه ببيتين من الشعر أجاد في نظمهما كل الإجادة وهما :

مولاي إن أبا بكر وصاحبه

عثمان قد أخذا بالسيف حق على

فانظر إلى حرف هذا الاسم كيف لقي

من الأواخر ما لاقى من الأول

يريد بأبي بكر عمه ، وبعثمان أخاه ، وبعلي نفسه ، فأجابه الخليفة الناصر بقوله :

وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا

بالصدق يخبر أن أصلك طاهر

غصبوا عليا حقه إذ لم يكن

بعد النبي له بيثرب ناصر

فاصبر فإن غدا عليه حسابهم

وأبشر فناصرك الإمام الناصر

والجزالة ظاهرة في شعر الملك الكردي ظهور الركاكة في شعر الخليفة العربي!.

كذلك أقول في المماليك فقد أيدوه وأمدوه ؛ لأنهم اتخذوا مصر وطنا ، والإسلام دينا ، والعربية لغة ، وكان من بينهم شعراء عالجوا القريض وأجادوه كالسلطان الغوري ، هؤلاء المماليك قد عضدوا العلماء وقربوا الأدباء ، وشدوا أزر المعلمين والمؤلفين ، حتى خرّج الأزهر في ظلمهم أولئك الأئمة الذين استودع الله صدورهم ذخائر العلم والحكمة فأودعوها

٣٦٤

الكتب ، وأخرجوها للناس : كجمال الدين بن منظور ، وجمال الدين بن هشام ، وشمس الدين النويري ، وابن فضل الله العمري ، وشمس الدين الذهبي ، والحافظ بن حجر العسقلاني ، وأبي العباس القلقشندي ، وتقي الدين المقريزي ، وبدر الدين العيني ، وسراج الدين البلقيني ، وبدر الدين الدماميني وشمس الدين السخاوي ، وكمال الدين الدميري ، وجلال الدين السيوطي ، وتقي الدين الدميري ، وجلال الدين السيوطي ، وتقي الدين القشيري المعروف بابن دقيق العيد.

لهذه المزايا انتهت إلى الأزهر في القرون الثلاثة السابع والثامن والتاسع زعامة الثقافة في جميع البلاد العربية والإسلامية ، فحفظ وجود اللغة ، ورفع سقوط الأدب ، وجمع شمل العلم ، ولولاه لا انقطع ما بين الأدبين القديم والحديث.

أما المحنة الأخرى التي امتحنت بها العربية وكان للأزهر الفضل في وقايتها وسلامتها فهي محنة الغزو التركي في أوائل القرن العاشر حين استولى السلطان سليم على مصر والشام سنة ٩٢٣ ه‍ فأصبحت الخلافة عثمانية لا عباسية ، وعاصمة الإسلام القسطنطينية لا القاهرة ، واللغة الرسمية التركية لا العربية ، ومكث الغازي سليم في مصر بعد الغزو ثمانية أشهر سلبها فيها أنفس أعلاقها من الكتب والتحف والآثار لنوابغ الفنانين والمؤلفين الذين تخرجوا في الأزهر وأنتجوا في مصر مدى القرون الثلاثة التي سبقت الغزو العثماني ، وأخذ الغزاة يغلبون لغتهم على اللغة العربية في الدواوين ، ويطاردونها في المدارس ، حتى كانوا يعلمون قواعد اللغة العربية باللغة التركية في الشام والعراق! ففشا في اللغة العامي والدخيل ، وذهبت أساليبها من النظم والنثر ، وخيم الظلم والظلام على النفوس فخمدت القرائع ، وضعفت رغبة الحكام في العلم ، وانقطعت أسباب الطلب له ، واستطاع الترك أن يترّكوا كل شيء في مصر من سياسة وإدارة وتعليم وجيش إلا الأزهر ، فقد راعهم ما أحسوا من جلاله وما سمعوا عن مجده ، فوقفوا على

٣٦٥

أبوابه خاشعين يلتمسون منه العون على ما ينجم من أحداث ، والرأي فيما يشكل من الأمور.

والسلطان سليم نفسه قد زاره مرارا فصلى فيه وتبرك به. ومن قبل قد غزا الأزهر بلاد الأتراك بعلمه وأدبه وكتبه فعرب طائفة منهم تعلموا العربية وتكلموا بها وألفوا فيها كالفيروز أبادي وأبي السعود والفناري وملا خسرو والجامي والخيالي وخوجه زادة وملا مسكين وملا لطفي وحاجي خليفة وطاشكيري زاده وابن كمال باشا وكان سلاطين العثمانيين أنفسهم يدرسون العربي وآدابها كما كانوا يدرسون التركية وآدابها ، ومنهم من قرض الشعر العربي ورواه كالسلطان أحمد الأول فقد رووا له قصيدة غزلية مطلعها.

ظبي يصول ولا وصول إليه

جرح الفؤ بصارمي لحظيه

ولم تضعف عناية علماء الترك بالعربية إلا في عهد السلطان محمود الثاني وابنه السلطان عبد المجيد الأول حين أحييا اللغة التركية وقربا مواردها وبسطا قواعدها وسمياها اللغة العثمانية ، فأنتم ترون أن اللغة العربية قد أتى عليها ستة قرون قضتها بين الاحتضار والموت ، ثلاثة منها في العصر المغولي ، وثلاثة أخرى في العصر العثماني ، أمحت فيها من الهند وخراسان والعراق وبلاد الروم والأندلس ، وبقيت في الأقطار العربية بقاء المريض أشرف على الموت ولم يبق منه إلا رمق ذلك الرمق هو الذي كفله الأزهر وتعهده فغذاه وقواه ورعاه ، حتى إذا انجاب عن مصر قتام الحكم العثماني وأراد الله لشمس الحضارة أن تشرق مرة أخرى على وادي النيل زايل اللغة الوهن وسرت فيها الحياة ، ففي الأزهر كان ملاذها وغياثها ، وفي الأزهر كان بقاؤها وانبعاثها.

كان الأزهر بعد انتهاء تلك الغمرة باحتلال نابليون ، وابتداء هذه النهضة باستقلال محمد علي ، قائد الشعب في الكفاح ورائد الحكومة في الإصلاح ، تمثلت قيادته في شيوخه الأجلاء خليل البكري ، وعبد الله

٣٦٦

الشرقاوي ، ومحمد المهدي وسليمان الفيومي ، وحسن العطار. وتجلت ريادته في طلابه النجباء الذين أرسلوا إلى أوروبا ليستفيدوا ويستزيدوا ، كإبراهيم النبراوي ، وأحمد حسن الرشيدي ، ومحمد علي البقلي ، ورفاعة الطهطاوي ، وعلي مبارك ، وتلك يد أخرى لهذا المعهد الجليل على اللغة العربية ، ساعدها على النهوض ، كما حماها من قبل دون السقوط.

هاتان هما المحنتان اللتان عانتهما العربية في عهدين متواليين ، ثم جعل الله نجاتها منهما بفضل الأزهر حفظا لكتابه وصونا لدينه.

وهناك محنة ثالثة تجتازها اللغة اليوم وتوشك أن تبلبل اللسان وتعطل القرآن وتقطع الدين عن أصله ، وتفصل العربي عن أهله ، وتهبط بالأدب من جبل الوحي وهيكل عطارد حيث الترفع والسمو والنبل ، إلى حضيض المادية حيث التسفل والتبذل والفحش.

تلك هي محنة الإباحية اللغوية التي تغلب العامية على الفصحى ، وتؤثر أدب العامة على أدب الخاصة ، وتفضل الموضوع المثير على الموضوع المنير ، وتريد أن يكتب الكاتب وينظم الشاعر كما يشاء ، لا يتقيد بقاعدة من نحو ولا قياس من صرف ولا نظام من بلاغة ولا وزن من عروض ولا مثال من خلق. ولهذه المحنة أو المشكلة أصلان : الاستعمار والجهل. أما الاستعمار فلأنه رأى أن الرابطة بين المسلمين على اختلاف أقطارهم وتباعد ديارهم هي الدين واللغة ، وما دامت أمة محمد روحا واحدا بالإسلام ، ولسانا واحدا بالعربية ، فإن استغلالها موقوت وإن طال ، وإن استقلالها آت وإن تأخر ، لذلك سعت فرنسا سعيها الدائب في الجزائر لفتنة البربر عن دينهم بإصدار الظهير المعروف ، وقطع العرب عن لغتهم بطردها من المدارس والدواوين. ولكن دين الله كان أقوى من ظهير فرنسا ، ولغة المصحف كانت أمضى من لغة السيف. واكتفت انجلترا على عادتها من الدهاء والكياسة بمحاربة الفصحى فدعت إلى العامية بلسان موظفيها

٣٦٧

ومبشريها ومستشرقيها ؛ لأن اللغات العامية تختلف في البلاد العربية اختلافا شديدا يكاد يجعل من كل لهجة منها لغة مستقلة. وإذا انهزمت أمامها اللغة المشتركة وهي الفصحى استحال التفاهم وضعفت العقيدة وانقطعت الصلة وتفرقت الوحدة وتبددت القوة واستطاع المستعمر أن يلتقمها لقمة لقمة فلا يغص ولا يشجى. ولكن هذه الدعوة فشلت بضعف الاستعمار في الشرق ، وقوة الوعي في العرب. وأما الجهل وهو الأصل الآخر لمحنة اللغة العربية فقد خلف الاستعمار في هذه الدعوة المجرمة ، والمراد بالجهل جهل أبناء العربية بها ، وعزوفهم عن علومها وأدبها ، وهو جناية المدرسة المدنية الحديثة ، فقد فشلت بعد طول الزمن وكثرة التجارب في تخريج القارىء الذي يقرأ بفهم ، والكاتب الذي يكتب عن علم ، والمفكر الذي يفكر عن أصالة ، وليس أدل على هذا الفشل من أن الطالب يتعلم النحو عشر سنين دأبا ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يعبر عن فكره تعبيرا صحيحا لا بلسانه ولا بقلمه ، فإذا دفعه استعداده الأدبي إلى الكتابة آثر العامية على الفصحى ودعا إلى التحلل من القواعد والقيود ليجعل الفوضى نظاما والخطأ مذهبا والعجز شركة. كانت علوم العربية تدرس في الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وفيما يجري على منهجه من معاهد لبنان وسورية والعراق والمغرب دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ وفقه ما يعلم وتعليل ما ينقد وتحليل ما يذوق. فإذا اتصل النظر بالعمل واقترن الحكم بالتطبيق وصادف ذلك استعدادا في المتعلم ظهر الكاتب الذي يكتب فيجيد ، والشاعر الذي ينظم فيبدع ، والناقد الذي يحكم فيصيب ، أما إذا فتر الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهيء الوسائل ويقرب المناهل ويوجه المواهب ويسدد الخطى ، ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر وتنمو لتنتشر وتسمو لتخلد. وكان من خريجي هذا المنهج القديم أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة وجددوا شباب الأدب وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة ، ولا

٣٦٨

يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون آخر ، فإذا خلا المجتمع بعد أجل طويل أو قصير فهل يخلف من بعدهم خلف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟

الجواب عن هذا السؤال عند الأزهر وحده ؛ فهو بحكم طبيعته وعلة وجوده معتصم اللغة ومنجاها في الماضي والمستقبل ، أما المعاهد الأخرى فكل شيء فيها يبعث على التشاؤم : منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد ، وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان العام بأية وسيلة ، فالمطولات تختصر ، والمختصرات تختزل ، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة. ذلكم إلى زهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد النشء عن تعمق الأصول وتقصى الفروع ، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة أو من شهادة إلى شهادة ، فإذا ما تخرج الناشىء بهذا الحظ المنكود من اللغة وكان في نفسه ميل إلى الأدب ، وفي طبعه استعداد للكتابة ، انصرف عن كنوز الأدب العربي ، لأن مفاتيحها ليست عنده ، وأقبل على روائع الأدب الغربي يحاكيها ويستوحيها حتى إذا امتلأ ذهنه وفاض شعوره وأراد أن ينتج شيئا يفيد الناس وجد في نفسه الملكة التي تخلق وفي حسه الصورة التي تمتع ، ولكنه لا يجد في لسانه اللغة التي تعبر ، ولا في قلبه الأسلوب الذي يؤثر ، فيضيق ويسخط ويثور ، ويزعم أن قواعد اللغة غصة لا تساغ ، وأن إعراب الكلمة عقبة لا تذلل ، ثم يتطرف فيدعو إلى إطلاق الحرية للكاتب فيكتب كما يشاء.

تلك حال المتخرج الأديب بطبعه أما المتخرج العادي فإنه يعود أميا كما بدأ ، لا يقرأ إذا قرأ إلا السهل ، ولا يطلب هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور ، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة ، حتى نشأ من إفراط القراء في هذا الطلب ، إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ

٣٦٩

الذي لا ينفع ، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع ، ذلكم إلى طغيان الأدب الأوروبي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول النائين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة ففتنتهم عن أدبهم وصرفتهم عن تاريخهم ، فالمتفرنسون منهم يعرفون هوجو ولا يعرفون المتنبي ، ويدرسون فولتير ولا يدرسون الجاحظ ، ويقرءون لا مرتين ولا يقرءون البديع ، ومن هنا نشأت هذه التبعية التي فرضها الشباب على أدبنا لأدب الغرب ، فأساليبهم الكتابية اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب ، ومذاهبهم الأدبية هي مذاهب الأدب في الغرب ، ومقاييسهم النقدية هي مقاييس النقد في الغرب ، حتى الرمزية وهي بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان المغمغم يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح ، وحتى الوجودة وهي بنت الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة ، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته من سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل ، ولا يتحداها وهو مؤمن.

ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم ، الأدب للنفس والعلم للناس ، الأدب مواطن والعلم لا وطن له ؛ الأدب روح في الجسد ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلا بنفسه ، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزا بأفراده ، الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد. والعلم شيء غير أولئك كله ، فإذا جاز طبعا أن نأخذ من غيرنا ما يكمل نقصنا من العلم ، فلا يجوز قطعا أن نأخذ من هذا الغير ما يمثل أنفسنا من الأدب.

إن دراسة العربية على النهج الصحيح المنتج بعد المدرسة لا يكلف المتأدبين من الجهد والزمن أكثر مما تكلفهم دراسة الفرنسية والإنجليزية : ولكنهم في عصر السرعة يطلبون القريب ويتوخون السهل ويتخطفون العلم ويتعجلون الإنتاج ، ثم يحقدون على من يلزمونهم التأني ويجشمونهم الدرس ويقولون لهم إن أحدا لا يعرف في تاريخ الآداب القديمة والحديثة

٣٧٠

من يعد في لغته كاتبا أو شاعرا أو قصاصا أو مؤلفا ، وهو لا يعرف من قواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه ، وإذا كان الناس يقرءون الصحيفة أو الكتاب ولا يقعون فيها على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش فالفضل لأولئك الجنود المجهولين من الأزهريين الذين يرابطون ليل نهار في دور الصحافة والنشر ويسمونهم المصححين ؛ فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم ، وعلى المعجم فيعرب ، وعلى الركيك فيقوى.

لا بأس أن ييسر النحو والصرف والبلاغة على الطلاب : ولكن البأس كله في المدى الذي بلغه هذا التيسير ، لا بأس أن نخفف على غير المتخصصين من عبء التقديرات والتعليلات التي فلسف بها النحاة النحو ، ومن حفظ وجوه الإعراب التي بقيت في اللغة أثرا لاختلاف اللهجات في الجاهلية فهو شت القواعد وجعلت كل خطأ صوابا وكل صواب خطأ ، ولكن البأس كله في أن تجرد علوم العربية من خصائص القوة والخصوبة والبراعة لتصبح أشبه بالهيكل العظمي ، فيه الخفة والبساطة والشكل ، وليس فيه العضل والعصب والروح. إن ما يبقى من هذا المنقوص بعد النسيان ، لا تحيا به لغة ولا يبقى عليه أدب ، فإذا استطاع يوما أن يجيز امتحانا أو ينيل شهادة فلن يستطيع أبدا أن يخرج أمثال من خرجهم الأزهر بشيوخه وكتبه ، كمحمد عبده ، وسعد زغلول ، والمنفلوطي ، والبشري ، وطه حسين ، ولا أمثال من خرجتهم دار العلوم كشاويش ، والمهدي ، والخضري والسكندري والجارم ولا أمثال من خرجتهم مدرسة القضاء الشرعي. كأحمد أمين وعزام والخولي. ولا أمثال من خرجتهم دار المعلمين العليا ، كالمازني وشكري وأبو حديد. ولا أمثال من خرجتهم كتب الأزهر كالعقاد ، والرافعي ، وشوقي ، وحافظ في مصر. وكالبستانيين واليازجيين والشدياق ومطران والخوري في لبنان. وكالمغربي والشهابي ، وجبري ، والطنطاوي ، في سوريا. وكالرصافي ، والزهاوي وكاشف الغطاء ، والشبيبي ، والأثري في العراق ، وكالنشاشيبي والسكاكيني في فلسطين.

٣٧١

إني أدعو إلى التوفيق بين الفصحى والعامية ، ومذهبي في مجمع اللغة العربية إمداد الفصحى بما تزخر به العامية من ألفاظ الحضارة وتراكيبها التي دخلت في الحياة العامة حتى تضيق مسافة الخلف بين اللهجتين وينتهي بهما الأمر بفضل الصحافة والإذاعة والتعليم إلى لغة واحدة عامة فيها من الفصحى السلامة والجزالة والبلاغة والسمو ، وفيها من العامية الدقة والطبيعية والحيوية والتجدد والوضوح. أما أن تكون لغتنا كلغة الهمج لا تقوم على قواعد ، ولا تجري على أنظمة ، ولا تشعرنا بجمال ، ولا تحفزنا لكمال ، ولا تربطنا بماض ، ولا تصلنا بمستقبل ، ولا تجمعنا في وحدة ، فذلك مذهب لا يقول به رجل وهو جاد ، ودعوة لا يستجيب لها إنسان وهو عاقل.

فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية لأن أساليبها غالبة على السمع ، وقواعدها جارية على الطبع ، فلا يحتاج تحصيلها إلى كتاب ومعلم ومدرسة ، وإنما يحتاج إلى بواب وخادم وشارع وتغلب الأساليب العامية معناه كما قلت فصل الأدب عن الدين وقطع الحاضر عن الماضي وتوهين الصلات بين العرب. وفي يقيني أن أمر العربية لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله : فقه أسرارها كل الفقه ، وفهم قواعدها أدق الفهم ، وحفظ أدبها أشد الحفظ ، وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم ، والعلم والخبرة في وضع المنهج ، والمنطق والذوق في تأليف الكتاب ، والكتاب الأزهري الذي تخرجنا عليه وما زلنا نرجع إليه كنز من المعارف لا يعوزه إلا سهولة مأخوذة وحسن تنسيقه وجمال عرضه ، فالفرق بينه وبين الكتاب الحديث في العرض كالفرق بين حانوت من حوانيت العطارة في الغورية ، وبيت من بيوت التجارة في قصر النيل ، قد يكون في الحانوت القديم ما ليس في المتجر الحديث من السلع التواجر والطرف النوادر ؛ ولكن اختفاءها في ركن غير ظاهر ، وعرضها في معرض غير لائق ، يضعف الإقبال عليها ويقلل الاستفادة منها ، فإذا عرضت الكنوز

٣٧٢

الأزهرية عرضا جميلا مشوقا في الدروس والمحاضرات والمذكرات والكتب كان ذلك عسيا أن يدنى قطوفها من الطلاب على غير مؤونة ولا كد ذهن.

إن رسالة الأزهر قائمة كما قلت على ركنين من دين ولغة ، ولكن الأمر في تأديته إياها جد مختلف. الدين كامل لأنه من عمل الله ، واللغة ناقصة لأنها من عمل الإنسان ، والكامل الإلهى لا يتأثر بالمكان ولا بتغير بالزمان ولا يضيق بالحضارة ولا يبرم بالعلم ، فهو جديد أبدا ، صالح أبدا ، ثابت أبدا. أما الناقص فهو عرضة للفساد والجمود والتخلف ، وموضع للزيادة والتجديد والتطور ، لذلك كان الاجتهاد في اللغة وعلومها أمرا تحتمه الضرورة وتقتضيه الطبيعة ؛ لأن اللغة لا يمكن أن تثبت ثبوت الدين ، ولا أن تستقل استقلال الحي ، فهي ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، والأغراض لا تنتهي ، والمعاني لا تنفذ ، والناس لا يستطيعون أن يظلوا خرسا ، وهم يرون الأغراض تتجدد والمعاني تتولد ، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع ، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح ، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان لم يتنبأوا بحدوث هذه الأشياء ، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء.

نشأ من إنكار حق الوضع اللغوي على المولدين وحصره فيمن يعتد بعربيتهم من عرب الأمصار حتى آخر المائة الثانية ، أو أعراب البوادي حتى آخر المائة الرابعة ، أن طغت اللغة العامية طغيانا جارفا حصر اللغة الفصحى في طبقات العلماء والأدباء والشعراء والكتاب يكتبون بها للملوك ، ويؤلفون فيها للخاصة ، وسيطرت على حياة الأمة في شئونها العامة وأغراضها المختلفة ؛ لأن العامية حرة تنبو على القيد ، وطبيعية تنفر من الصنعة ، فهي تقبل من كل إنسان ، وتستمد من كل لغة ، وتصوغ على كل قياس. والناس في سبيل التفاهم يؤثرون السهل ، ويستعملون الشائع ، ويتناولون القريب. وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية

٣٧٣

المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها ، وقد تنبه مجمع اللغة العربية لهذا الخطر فقرر فيما قرر استجابة لاقتراح عرضته ، فتح باب الوضع اللغوي للمحدثين بوسائله المعروفة من الاشتقاق والتجوز والارتجال ، وإطلاق القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس. وتحرير السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالبنائين والنجارين وغيرهم من أرباب الحرف والصناعات ، واعتماد الألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ القديمة ، وعلى هذه المبادىء وغيرها وضع معجمه الوسيط الذي سيظهر قريبا.

أما الاجتهاد في الدين فقد فتحت أبوابه أول الأمر لمن تجهز بجهازه واعتد له بعدته ، حتى إذا زخر الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه مدى عصوره بالآراء المحكمة والوجوه المحيطة ، وجد فيه المسلمون جوابا شافيا عن كل سؤال يخطر على الذهن ، وحلا جامعا لكل إشكال يعرض في المجتمع ، وحكما عادلا في كل قضية ترفع إلى القضاء ، فاستغنوا بغزارته وإحاطته عن الاجتهاد فيه ، وانصرفوا إلى اجتهاد من نوع آخر هو الاجتهاد في اختيار الرأي المناسب ، وترجيح الحكم الموفق. جاء في كتاب الولاة والقضاة للكندي أن قاضيا شافعي المذهب كان بمصر في عصر الإمام الطحاوي وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه يحقق العدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب من المذاهب ، وكان مرضي الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه ولا في خلقه ولا في حكمه ، سأل هذا القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقائع فقال الطحاوي : أتسألني عن رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي : ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي ظننتك تحسبني مقلدا فقال القاضي : لا يقلد إلا عصبي أو غبي. هذه الثروة الفقهية الضخمة لم يحجبها عن الناس إلا أسلوب التأليف القديم ، واليوم وقد تطورت المدينة وتغيرت العقلية ينبغي أن يطابق التعليم والكتاب مقتضيات العصر. هذه هي المحنة الثالثة التي تعانيها اللغة العربية اليوم.

٣٧٤

وهي لا تختلف عن سابقتيها إلا في أن موقف الأزهر منها يجب أن يكون إيجابيا : يقابل العمل بالعمل ، ويرد الكيد بالكيد ، ويقاوم الدعاية بالدعاية ، ويقف بالمرصاد لكل من يسول له جهله أو هواه أن يبعث بلغة الإسلام ، ويوهن رابطة العرب. والأزهريون الذي حملوا أمانة الله ، وبلغوا رسالة نبيه أكثر من عشرة قرون يستطيعون أن يدرءوا خطر هذه الإباحية عن اللغة والدين متى صدقوا الجهاد وذكروا أنهم جند الله يرمي بهم العدو في كل وقت وفي كل أرض وعلى أية صورة ، فيعيشون للموت كالجنود ، ويعملون للحياة كالقادة ، ويعزفون عن الدنيا كالرسل ، والله سبحانه وتعالى قد ضمن للعربية بقاء البيان ببقاء القرآن وعلى أيدي أبناء الأزهر ـ المؤمنين برسالته ـ صدق الله وعده ، إن الله لهو خير الصادقين؟

٣٧٥
٣٧٦

الأزهر من بعيد .. ومن قريب

كتب محمد زكي عبد القادر في يومياته في الأخبار عام ١٩٦١ يقول :

الأزهر عزيز عليّ جدا ، لا لأنه منارة الإسلام والمسلمين عبر قرون طويلة فحسب ، ولكن لأنه اقترن بصباي ، فقد كان عمي طالبا في الأزهر وكنت تلميذا بالمدارس الثانوية أقيم معه ويرعى شئوني وأنا وهو مغتربان في القاهرة لطلب العلم .. وكنت لهذا ألتمسه في فناء الأزهر ، وأراه يشهد الدروس ، فأجلس معه أستمع فلا أفهم ولكنني أعجب لطول الدرس وطول الأناة ويشوقني أن أرى الشيخ يلقي ما يلقي ويسأل من وقت إلى آخر : ظاهر .. ظاهر .. فيسمع همهمة تقول : ظاهر ياسي الشيخ ..

وكنت أخشى الأزهر في عبض الامسيات حين أكره وحدتي في مسكني ، فيقول عمي : لا عليك .. هات كتبك واجلس معنا ذاكر دروسك .. وكنت في سن صغيرة أخشى فيها الوحدة ، فأوثر أن أحمل كتبي ، وآخذ مقعدي كما كان يفعل طلاب الأزهر حينئذ ، جالسين على الحصر الممدودة ، ومن فوقهم قناديل بيضاء جميلة ، ترسل نورا كليلا ، ولكنه كاف لكي أرى وأقرأ من غير صوت ولكي يروا ويقرءوا بصوت ،

٣٧٧

يجتمع مع الأصوات الأخرى ، فإذا الأزهر كله خلية نحل لا تكف عن الهمهمة ، بل ما يشبه الضجيج .. وكان كلاهما يحول بيني وبين أن يأخذني النوم الذي كان يطاردني إذا آثرت أن أبقى في البيت.

وفرغت من دراستي الثانوية ، والتحقت بكلية الحقوق ، وعمي يرعاني ، وصلتي بالأزهر لا تنقطع ، أغشاه لكي أقرأ وأدرس ، وأغشاه لكي أجلس إلى زملاء عمي من طلاب الأزهر ، وأنصت أحيانا إلى ما يقرأون فلا أفهم شيئا أيضا على الرغم من أنني حينئذ كنت قد بلغت من الفهم والدرس ما أفضي بي إلى الدراسة الجامعية ..

* * *

ومرت الأيام وتخرجت ، وافترقت الحظوظ بيني وبين من عرفت من طلاب الأزهر ، ولكن صورة الأزهر ظلت خيالا يلازمني طوال حياتي ، وقرأت ما قرأت ووعيت ما وعيت وأدركت من تاريخ الأزهر الكثير ، واقترنت القراءة عنه بالصورة التي كابدتها وعرفتها وثبتت في خيالي

وكنت أزوره بين الوقت والآخر ، صحيح أن الفترات بين زياراتي كانت متباعدة ، ولكنني كنت أزوره لكي تظل صورة هذا المسجد العتيق العريق الأمين حية في خاطري وقد اقترنت في حياتي بمطلع صباي ، وقرأت تاريخه منعما متأملا ، وقارنت بين مراحل تاريخه والمرحلة التي كان يعيش فيها ، فوجدت الفرق الكبير بين الصورتين .. كان الأزهر فيما مضى ومنذ إنشائه إلى تاريخه الوسيط منارة العلوم الدينية والدنيوية ، كان ينبوع المعرفة في الطب والفلك والهندسة والكيمياء والجغرافيا إلى جانب المعرفة في علوم الدين. كان يقدم للوطن والإسلام خلاصة الرجال الذين رفعوا ذكره ورفعوا عنه العدوان .. كان المنارة التي تشع المعرفة بكل أنواعها في العالم الإسلامي والعالم العربي. ثم شاءت ظروف الحكم والسياسة وقهر الشعب أن ترد الأزهر بعض الشيء عن المشاركة الفعلية في حياة البلاد ، فقصرته

٣٧٨

على دراسة الدين وفصلته أو كادت عن شئون الدنيا المتطورة من حوله. وليس هذا في شيء من الدين ولا هو في شيء من الإسلام ، فالدين لا يفرق بين شئون الدين والدنيا ، والإسلام منذ وجد منهج للحياة ، ومشاركة خالصة في سعادة الإنسان في الدنيا بحسبانه عضوا في جماعة متطورة لا بد أن يأخذ حظه من العلم والحضارة والتقدم المادي

٣٧٩
٣٨٠