الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

الباب العاشر

شخصيّات أزهريّة معاصرة

الشيخ محمد عرفة

هو شيخ جليل ، ومفكر نابه ، له مكانته العلمية في الأزهر ، وتلاميذه الكثيرون ولا نجد في تاريخ حياته خيرا مما أرخ به هو لنفسه في مقالة نشرتها له المصري بعنوان «الدين والحياة والأزهر» في يونيو عام ١٩٥٢ وهي من سلسلة مقالاته التي كتبها يرد فيها على الأستاذ أمين الخولي الذي نشر سلسلة مقالات في «المصري» ندد فيها بالأزهر وتأخره عن أداء رسالته ، قال الشيخ محمد عرفة :

كنت بصدد أن أثبت أن الأزهر شعر بحقيقة الدين المشرقة المتسامحة التي تدعو إلى الإخاء الإنساني والتعاون البشري وأنه تعدى دائرة الشعور إلى دائرة التنفيذ ، واستدللت ببحث كنت كتبته في العلة في مشروعية الجهاد ، أهي الكفر أم عدوان الكافرين على المسلمين ، فاستخلصت من بين الأقوال المختلفة إن العلة هي العدوان ؛ فما لم يعتد المخالفون في الدين على المسلمين فلا جهاد ولا قتال ، وبذلك كانت العلاقة الخارجية بين المسلمين وأمم الأرض هي السلم لا الحرب ويتبع ذلك ما يتبعه مما يكون بين المسالمين من المحبة والتعاون والإخاء ، وجمعت بين الأدلة المتعارضة

١٦١

الظاهرة على هذا الأساس من كتاب الله وأحاديث رسول الله ، فاستقامت ككعوب الرمح على توال واتساق ، وإني أعتز بهذا البحث وأراني قد خدمت به المسلمين بخاصة والإنسانية بعامة ، وكنت أذيع هذا البحث في دروسي ومجالسي .. وإنما كنت بهذا الصدد لأرد على من قال إن الأزهر لم يشعر بالدين الإسلامي المنتظر الذي يدعو إلى الإخاء والتعاون ، وقد نبهته فلم يتنبه وهو لا يطمع في التنفيذ. فكتب الأستاذ الشرقاوي في «المصري» يشكك في قيمة هذا الدليل دون أن يبين الأسباب ، ونقل الكلام إلى أن الأزهر لا يشارك في المواضيع التي تهم الأمة وليس كغيره من علماء الأديان الأخرى الذين يشاركون مشاركة فعلية وقولية في كل شأن من الشئون وضرب أمثلة برجال الدين في جزيرة قبرص حيث خطب أحدهم يطلب الانضمام إلى اليونان ودقت الكنائس أجراسها احتفالا بالخطيب ، وذكر أن الباب تعاون الإسلام والمسيحية لمقاومة الشيوعية وتحدث بذلك سفير مصر في الفاتيكان ولم يحرك الأزهر ساكنا ، والبعثة التي جاءت إلى الأديرة في سينا لتحقيق الوثائق التاريخية لم يدرسها معها ولم يشارك في هذا التحقيق.

وإني أقبل أن ينقل الحوار إلى هذه الناحية وأذكر أن الأزهر شارك في الأحداث الجسام فكان مهد الحركة الوطنية ومنبع الثورة في سنة ١٩١٩ وظل مدة الثورة يلهب النفوس بالحماسة الوطنية ، وكان منبرا للخطابة وتوجيه الثورة ، وكان أهل الأقاليم يأتون إليه فيعمر قلوبهم بالإيمان الوطني ، ويزودهم بالرأي الناصح والمشورة النافعة ، وقد نبه إلى ذلك اللورد ملنر في تقريره. أما مسألة الشيوعية فإني أذكر أني قرأت في الجرائد أن أساقفة الكنائس اجتمعوا تحت رياسة رئيس أساقفة كانتربري وقرروا أن الشيوعية تخالف المسيحية لأنها تنكر وجود الله والحياة الآخرة وتوقد نار الحرب بين الطبقات الخ .. فما أن قرأت ذلك حتى عرضت مبادئها على قواعد الدين الإسلامي وذكرت مواضع الخلاف ونشرت ذلك بعض الصحف.

١٦٢

وأرى المساجلة ستضطرني إلى ذكر بعض ما شارك به الأزهر في المسائل التي تهم الأمة في شخص أحد أبنائه كاتب هذه السطور ، ولو لا موضع الحجة لما استبحت أن أنطق بكلمة ، وإني أذكرها مع الخجل والاستحياء :

١ ـ رأيت الأسر المصرية كما قلت في حينها سنة ١٩٢٢ بمدرجة السيول ، ومهب الرياح ، تقوضها الريح إذا هبت ويذهب بها السيل إذا جرى ، يبيع الرجل أو يشتري فيقسم على سلعته بالطلاق كذبا لترويج سلعته فإذا امرأته طالق ـ يغضب الرجل والغضب غول يغتال العقل فيطلق زوجته ثم يبقى نادما على بيت هدمه وأبناء شتتهم ـ يطلق الرجل امرأته ثلاثا في لفظ واحد فتبين منه ، ويندم ولات ساعة مندم.

رأيت ذلك فنظرت في الشريعة الإسلامية وأقوال الماضين فرأيت الرسول يقول : لا طلاق في إغلاق ـ أي غضب ـ وإذا من الأئمة من يرى أن يمين الطلاق التي الغرض منها الحث على شيء أو النهي عنه لا تقع طلاقا وإذا القرآن يوجب أن تطلق المرأة لعدتها طلقة واحدة وأن تبقى في بيت الزوجية ، فإذا بلغت الأجل فأما أن يعاشرها بالمعروف أو يفارقها بالمعروف ، وعلل ذلك بقوله ـ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ـ فيعطف قلبه بعد نفور ، فجعل الله له سعة في مراجعة ما كان منه ، وكان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث طلقة واحدة فأمضاه عليهم عمر فكتبت ذلك كله في مقال ونشرته بإمضاء ـ م. ع فثارت ثائرة بعض المحافظين وردوا على ذلك ، ولكنها كانت حجرا ألقي في الماء الراقد فنبهت الأذهان وفعلت فعلها حتى صدر قانون المحاكم الشرعية بعد ذلك مطابقا لكل ما اقترحته .. فإن كان ذلك قد خفظ الأسرة المصرية من التداعي والانهيار وحفظ الأبناء من الشتات والضياع ، فعند الله احتسب ما صنعت وأدخر ما قدمت.

١٦٣

٢ ـ كتبت في فتنة القبعة وكنت أريد أن أحفظ على المسلمين شخصيتهم ، ورددت على القائلين أنها لباس المتقدمين في العلم والحضارة ، فقلت ليس التقدم بتغيير لباس الرأس وإنما هو بتغيير ما في الرأس ، واعمدوا إلى رءوسكم فنظفوها من الخرافات وحلوها بالعلوم والمعارف بذلك وبذلك وحده تتقدمون.

٣ ـ حاضر الدكتور فخري فهاجم الاسلام في أمور كثيرة : منها جعله المرأة على النصف من الرجل في الميراث ، فدعا الأزهر الشيوخ والنواب ورجالات العلم إلى سماع محاضرة في قاعة المحاضرات بدار العلوم ، فقمت فألقيت هذه المحاضرة ، وكتب المرحوم الهباوي في شأنها يقول : هذه أول مرة يستمع الناس فيها إلى محاضرة تمكث ساعتين بدون سأم ولا ملل.

٤ ـ زعم مرقص باشا سميكة في التقويم السنوي للحكومية أن المعز لدين الله الفاطمي تنصر وقضى بقية أيامه في كنيسة سيفين ، فكتبت أرد هذه الفرية بالأدلة التاريخية القاطعة فلم يسع الباشا إلا أن يعلن في الصحف أنه أمام هذه الأدلة يرجع عن رأيه.

٥ ـ كتبت في تفسير آيات الأحكام وعرضت للوصية وما ثبت من أنه لا وصية لوارث ، وبينت أن صاحب المال قد يكون بعض أبنائه بررة به ، وبعضهم يعقونه ، فيريد أن يوصي للبررة بفضل في ماله ، وهذه إرادة مشروعة عقلا فكيف يحرم منها وبينت بعض المذاهب التي تجيز ذلك وقد نشرت أمثال هذه البحوث بجريدة البلاغ ، فجاءني المرحوم أحمد بك قمحة ـ وكيل مدرسة الحقوق وقتئذ ـ وقال : جئتك على غير معرفة سابقة لأتعرف بك ، وقال لو كتبت الشريعة بهذا القلم لرفع الخلاف بين الشريعة والقانون.

٦ ـ كتبت كتاب نقض مطاعن القرآن الكريم للرد على الأفكار التي

١٦٤

كانت تذاع في الجامعة مما تطعن في القرآن الكريم ، ورددت على كتاب الشعر الجاهلي ، وكتبت مقالات في الرد على ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة.

٧ ـ أخرجت كتاب «النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة» للرد على كتاب إحياء النحو ، وكتب بعض شيوخ الأزهر السابقين له مقدمة يظهر فيها الإعجاب والتقدير ، وذكر لي بعض أصدقائي أن رحالة من النحويين جاء إلى مصر ، وبحث عني وقال : جئت إلى مصر وغايتي منها أن أرى صاحب كتاب النحو والنحاة ...

٨ ـ كتبت السر في انتشار الإسلام وهي رسالة كلفتني بها جماعة كبار العلماء لحماية الإسلام وقد طبعها الأزهر وترجمت إلى اللغة الفارسية والصينية.

٩ ـ أخرجت كتاب اللغة العربية ـ لماذا أخفقنا في تعليمها ـ وكيف نعلمها ـ هديت فيه إلى الطريق الطبيعي لتعليم اللغات عامة واللغة العربية خاصة ـ وقد نشر قبل ذلك مقالات في مجلة الرسالة ـ وقد لخصه العالم الجليل عبد القادر المغربي ونشره في مجلة المجمع العلمي بدمشق ، وقدم له بحث المدارس في بلاد العرب على الأخذ بما فيه ليكسبوا ملكة التكلم والكتابة باللغة العربية ...

١٠ ـ حملت على الشعر الفاسق حملة شعواء ، لأنه يزين الرذيلة والخمر ويفسد الشباب ، وكان ذلك في حفل تأبين المرحوم شوقي بك وفي مؤتمر الثقافة العربية المنعقد بلبنان سنة ١٩٤٧ ، وطلبت أن تكون المختارات للطلاب في دور العلم من الشعر العفيف وكان أيضا في محاضرات ألقيتها في مشاكل الشباب في محطة الشرق الأدنى ، وحملت على الأغاني الخليعة والروايات المفسدة للأخلاق والصور العارية في المجلات والجرائد والنساء الكاسيات العاريات في النوادي والشوارع ،

١٦٥

وناشدت المجتمع أن يرفق بالشباب إذ يعرض أمامه كل هذه المفاتن ويطلب منه الصون والعفاف.

١١ ـ واليت أحداث مصر فكنت أكتب في كل مناسبة أرى الرأي النافع فأدلي به وأدعو إليه فكتب في فتنة الزقازيق ودعوت إلى الصفاء والوئام بين عنصري الأمة ، وبينت أن الإسلام جعل لهم مالنا من حقوق وعليهم ما علينا من واجبات ، وكنت أكتب في المناسبات الدينية كالهجرة والمولد ، وأحث على فضيلة أجعلها نصيحة العام ، وكنت أؤمن بالوحدة ويمنها وأكره الفرقة والانقسام فكنت أخوف منهما وأحث على التعاون والوحدة ، ولقد قلت في بعض ما كتبت إنكم لو خسرتم كل شيء وربحتم الوحدة فقد ربحتم كل شيء ، وإذا ربحتم كل شيء وخسرتم الوحدة فقد خسرتم كل شيء.

١٢ ـ كتبت رسالة الأزهر في القرن العشرين ودرست فيها الأزهر وعلله ووصفت له أداء رسالته ، وكان فيما عرضت له فيها ـ إضراب الشباب ـ فقد رأيت الشباب في الأزهر وفي دور العلم والجامعات قد هجر الدروس واعتاد المظاهرات والاعتداء على الأملاك العامة ، ورأيت أن هذه الحالة تخرج جيلا جاهلا اعتاد الفوضى وعدم احترام القانون من حيث تجعل المدارس مكانا للتعليم والتربية والتعود على النظام واحترام حقوق الغير ، فإذا خرج هؤلاء وأولئك عن الجادة فمن سنة الله أن يغلب العلم الجهل ، والنظام الفوضى ، والفضيلة الرذيلة ، وبحثت في سبب ذلك وعلته فإذا هي السياسة الحزبية دخلت دور العلم وأخذ كل حزب فريقا يشغب به إذا أراد الشغب. وعلمت إني بذكر ذلك أغضب الأحزاب والحكومات التي تستند إليها فترفقت وبينت أن ذلك واجب ديني ، وإني أكون من الخائنين للأمة وللشباب وممن يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى إذا كتمت هذه النصيحة ، فلم يجد كل ذلك فعزلت من وظيفة مدير الوعظ والارشاد في سنة ١٩٤٨ لقيامي بهذا الغرض الديني. النصيحة لله وللرسول ولأئمة المسلمين

١٦٦

وعامتهم ، وقد تبدلت العهود وولى الوزارة حزبيون ومستقلون ولم يغير هذا الظلم حزبي ولا مستقل ، كأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جرم لا تقال عثرته ولا تقبل توبته ، ولست في ذلك بغاضب ولا متسخط بل ربما كنت راضيا بالقضاء فيه لما أرجو من ثوابه وجليل جزائه :

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي

وإنما الذي أريد أن أقدم نصيحة أخرى ولا أدري ما عاقبة هذه النصيحة أيضا.

إن المنافسة كثيرا ما تكون بين أبناء الطائفة الوحيدة وكثيرا ما تكون غير مشروعة فيكيد بعضهم لبعض عند أولى الأمر ، ويصورون الناصح الشفيق بصورة العدو الضار ، ويزعمون الخير الصرف شرا بحتا ، ولو تنبه أولو الأمر لهذا الباب لما أصابوا بريثا.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام كالصلاة والصوم ، فالعقوبة عليهما كالعقوبة على أداء الصوم والصلاة ، ولا يصح أن يكون ذلك في بلد إسلامي كمصر.

إن العصر الحاضر لا يحترم شيئا كحرية الرأي ، لأنه يراها السبيل الوحيد لتقدم الإنسانية ، وليس أدل على تأخر بلد من الحجر على الحريات ، فإذا شاءت مصر أن تكسب احترام الدول فلتعمل على احترام الآراء فيها ..

إن أولى الأمر في مصر إذا ظلوا يخنقون الرأي ويضيقون بالنقد ، فإن ليل التأخر باق وطويل وفجر الاصلاح بعيد جد بعيد.

تلك شقشقة هدرت ثم قرت ، وثورة هاجتها الذكرى ثم سكنت فلأرجع إلى ما كنت فيه.

ماذا أريد أن أقول ـ أريد أن أقول هذه بعض مشاركات شارك بها فرد

١٦٧

واحد من أفراد الأزهر فهل ترونها مشاركة عن فهم وإدراك وتبصر وشجاعة حتى إنها عصفت بصاحبها ، ورمت به خارج الأزهر ، هل ترونها حركات إصلاحية تولى صاحبها قيادتها وقام بتوجيهها ، وهل ترون فيها إنتاجا عقليا ينير عقول الناس ويتركهم خيرا مما كانوا؟.

فإذا كان هذا ما قام به أزهري واحد فهل يسوغ أن يقول قائل : إن الأزهر لا يشارك الأمة في عواطفها ، ولا يقوم بحركة من حركات الإصلاح فيها ، ولا ينتج إنتاجا عقليا ينير العقول ويرضي النفوس ..

هذا والشيخ محمد عرفة من أكثر علمائنا نشاطا وإنتاجا وجهادا وبلاء في سبيل الدين والأزهر.

خدم الثقافة في الأزهر مدة طويلة ، ومنذ عام ١٩٣٠ اختير أستاذا للشريعة الإسلامية بكلية الشريعة ، ثم وكيلا للكلية ، ثم عضوا في هيئة كبار العلماء التي ألفت لنشر الدعوة في سبيل الله ولمقاومة التبشير ، ثم اختير أستاذا للفلسفة بكلية اللغة العربية ، ثم أستاذا للبلاغة في تخصص الأستاذية بالكلية نفسها ، واختير عضوا في مجلس إدارتها ، ومنح عضوية جماعة كبار العلماء ، ثم اختير مديرا للوعظ عام ١٩٤٦ وأنعم عليه بكسوة التشريف العلمية من الدرجة الأولى ، ثم اختير مديرا لمجلة الأزهر ثم اختير أستاذا ذا كرسي في كليات الأزهر الشريف.

وله كثير من المؤلفات والبحوث الذائعة ، كنقض مطاعن في القرآن الكريم ، ومؤلف في تفسير آيات الأحكام ، والسر في انتشار الاسلام ، والنحو والنحاة ، الذي منح به عضوية جماعة كبار العلماء ، وآخر كتاب له «مشكلة اللغة العربية» ، هذا إلى كثير من البحوث والمحاضرات والمقالات.

١٦٨

والأستاذ «عرفة» بحق عالم متضلع ، وباحث دقيق ، ومفكر واسع التفكير كثير الإحاطة بآثار القدامى وبشتى الثقافات الحديثة ، وهو من صفوة العلماء الذين يفخر بهم الأزهر ، ويعتز بجهادهم العلمي ومكانتهم العلمية الكبيرة ، وبجمع إلى ذلك كله التواضع والنبل وعظمة الخلق وجلال العلماء ووقار المرشدين. وتوفي يوم الثلاثاء ٥ من ذي الحجة ١٣٩٢ ه‍ ـ ٩ يناير ١٩٧٣.

الشيخ علي محفوظ

حفظ الشيخ علي محفوظ القرآن في كتاب قريته ثم رحل إلى مدينة طنطا لتجويد القرآن وتلقي العلم في معهدها الديني وبالمعهد أتم تعليمه الابتدائي والثانوي وتلقى من العلوم ما كان مقررا فيه ثم أشار إليه شيوخه أن يستكمل دراسته العالية بالأزهر فجاء إليه بالقاهرة وأخذ عن كبار شيوخه إذ ذاك. أخذ عن الشيخ محمد عبده والشيخ أحمد أبي خطوة والشيخ بخيت المطيعي والشيخ الحلبي وغيرهم وحصل على الشهادة العالمية سنة ١٣٢٤ ه‍. واشتغل في التدريس فيه ولما أنشىء قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر اختير للتدريس فيه ووكل إليه أمر الإشراف عليه ووجد الشيخ في هذا القسم ضالته ووقف عليه فكرة ووقته وجهده وبفضله أصبح هذا القسم معهدا لتخريج الدعاة والمرشدين الذين برزوا في فنون الدعوة في مصر والأقطار الإسلامية. وقد حمله منهج الدراسة في هذا القسم أن يضع كتبا تلائم الدراسة المقررة على طلابه فوضع بذلك كتابين هامين في طرق الدعوة ومادتها يعتبران من أهم الكتب التي وضعت في فنون الدعوة الحديثة وهما كتابا (الإبداع في مضار الإبتداع) «وهداية المرشدين» إلى طريق الوعظ والخطابة أما الأول فهو كما يدل عليه اسمه في بيان البدع التي شاعت ونسبت خطأ إلى الدين وقد تتبع كثيرا من البدع في العقائد والعبادات والمعاشرة والعادات وبين أصل الخطأ فيها ووضعها من الدين وقدم لذلك

١٦٩

بمقدمات في بيان السنة والبدعة وأقسامها واختلاف أنظار العلماء إليها من جهة كونها مستحسنة أو غير مستحسنة.

وقد قال عنه العلامة المرحوم الشيخ يوسف الدجوي : هذا السفر الجليل المسمى بالإبداع الذي وضعه العلامة الفاضل الشيخ علي محفوظ فيما رأيت خير كتاب جمع إلى تحقيق الباحث عذوبة الألفاظ وحسن الترتيب ولا غرو فالأستاذ من أجل علماء البرهان وفرسان حلبة الميدان وخير المرشدين وأجل الواعظين ـ وأما الكتاب الثاني هداية المرشدين فهو كما يدل عليه اسمه أيضا وضعه ليهتدي به المرشدون والدعاة في رسالتهم ويستعينوا به على أداء مهمتهم ويقول في مقدمته : هذا مختصر في الوعظ والخطابة جعلته نبراسا للدعاة الناصحين وسراجا يضيء للخطباء الراشدين وقد تكلم في مقدمته على الدعوة وتعريفها وهدى المصطفى صلى الله عليه وسلم فيها سواء بالخطابة أو الكتابة إلى الرؤساء والملوك وتكلم عن تاريخ الوعظ وألم بتاريخ القصص والقصاص وعرض لشخصية الداعي وما ينبغي أن يكون عليه من الصفات العلمية والخلقية والطريق التي يستحسن أن يسلكها في اختيار الموضوعات والأساليب وذكر نماذج المحاضرات في موضوعات مختلفة. وقد تأثر في هذين الكتابين بالإمام الغزالي في كتاب الأحياء وبالإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام وبابن الحاج في كتاب المدخل وظهر هذا التأثر بالشاطبي في كلامه عن البدعة والسنة وبالغزالي في كلامه عن آداب الداعي وصفاته والمنهج الذي ينبغي أن ينتهجه في دعوته. ولا زال هذان الكتابان منذ وضعا مرجعا لعلماء الوعظ وطلبته ، وقد طبع في مصر مرات عديدة ـ وللشيخ غير هذين كتب ورسائل منها مجموعة الخطب والجواهر السنية في الأخلاق الدينية والدرة البهية في الأخلاق الدينية. وسبيل الحكمة وقد كان الشيخ عضوا في جماعة كبار العلماء وهي أكبر هيئة علمية في مصر فيما سبق ومنح الإمتيازات التي كانت لأعضائها.

ويعتبر الشيخ محفوظ صاحب مدرسة جديدة في الوعظ فقد جاء على

١٧٠

فترة اضمحل فيها الوعظ وقل الوعاظ لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله. والوعظ كما تعرف أهم الوسائل لنشر الدين بأحكامه وآدابه وتقويم من انحرف عن سبيله وقد أثارت هذه الحال انتباه المصلحين فحاولوا علاجها وفكر جماعة منهم في سد الفراغ فأنشئوا مدرسة لتخريج الدعاة وتأهيلهم فنيا وسموها دار الدعوة والإرشاد ولكنها لم تلبث طويلا ولم تحقق الغرض منها فلما بدأ النشاط للشيخ في ميادين الوعظ أحس الناس بشغل كثير من ذلك الفراغ. فقد كان رحمه الله أمة في فرد يقوم بما تقوم به جماعة وفيرة العدد ولقد امتلأ إيمانا بوجوب حمل تلك الرسالة وحبب الله إليه هداية الناس حتى غدا ذلك الحب جزءا من طبيعته. فأنى رمت الهداية وجدت الشيخ يحمل مشاعلها في النوادي والجمعيات وفي العواصم والقرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ولا يشغله عن رسالته شاغل. وكان الشيخ أسلوب خاص في وعظه وكان له أثر في نجاحه فقد كان يحاول أن يربط وعظه بأحداث المجتمع ومشاكله ويستمد منها العظة والعبرة ويتخير الأسلوب المناسب لمستمعيه محاولا أن يضفي عليه وسائل التشويق والإثارة من فكاهة طريفة أو نادرة لطيفة أو قصة ذات مغزى وهدف ليبعث نشاطهم ويجذبهم إليه وقد تأثر في طريقته بالإمام الغزالي وابن الجوزي فليس الوعظ عنده سرد الأحكام والتحذير الجاف المنفرد وإنما كان منهجه قول الله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا وقاربوا وسددوا.

وبالموعظة الحسنة والعرض اللطيف كان يبلغ غايته وهذه هي اللباقة في التبليغ وهذا هدى الأنبياء والمرسلين. ولقد تأثر بطريقة الشيخ تلامذته ففي كثير منهم ملامح من منهج الشيخ وأسلوبه وكان الشيخ سلفيا يحرص على المأثور ويحارب البدع لا يتسمح في شيء منها وألف فيها كتابا خاصا سبقت الإشارة إليه وقد أسهم بقلمه وجهده في أكثر الجمعيات الدينية التي وجدت أو كانت موجودة. أسهم في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية

١٧١

وجمعية الهداية الإسلامية وجمعية نشر الفضائل الإسلامية كما أسهم في جمعية الرد على المبشرين وفي جمعية تحفيظ القرآن الكريم هذا إلى جهوده في اجتماعات خاصة في منزله وفي عيادات الأطباء ومكاتب المحامين وغيرهم. ولما استخدمت محطة الإذاعة بالقاهرة في نشر الوعي الديني والثقافة الإسلامية كان للشيخ نصيب فيها وكان من عادته أن يقوم بإلقاء الدروس الدينية بالأزهر عصر كل يوم من شهور رمضان وظل محافظا على ذلك حتى انتقل إلى جوار ربه رحمه الله.

وكان الشيخ مثلا في الخلق والتواضع سمحا لطيفا تؤمن بوادره ويغضي عما لا يروقه وكان ألفا مألوفا أحبه تلاميذه وزملاؤه وكل من عرفه. وكان وسيم الطلعة مشرق الوجه تبدو عليه سمات الصالحين ، فكان مرجو البركة مطروق الرحاب كما كان موضع التقدير من الكبراء والعظماء جمعته والمرحوم الشيخ محمد الخضر حسين التونسي المحبة في الله والرغبة في إحياء دينه فأنشأ جمعية الهداية الإسلامية التي قامت بجهد مشكور في التبصير بالدين والأخذ بيد الغافلين وقد هدى الله على يديه خلقا كثيرا. وقد ولد الشيخ في قرية محلة روح من قرى مدينة طنطا وتوفي سنة ١٣٦١ ه‍ واسمه الكامل علي بن عبد الرحمن بن محفوظ.

الشيخ صالح شرف

ـ ١ ـ

وهو الشيخ الأستاذ الكبير صالح موسى حسن أحمد شرف عضو جماعة كبار العلماء والسكرتير العام للأزهر الشريف.

ولد في بني عديات الوسطانية مركز منفلوط مديرية أسيوط يوم ٤ يوليو سنة ١٨٩٤ ، والتحق في السابعة من عمره بمكتب الدردير وتعلم القرآن الكريم وحفظه وفهم أحكامه وتجويده وسنه لا تتجاوز الثالثة عشرة ، التحق بالأزهر الشريف في المحرم ١٣٢٧ الموافق ١٩٠٨ ، وتلقى العلوم الدينية

١٧٢

والعربية على أفاضل العلماء ، ومنهم الشيخ عبد الحكم عطا والشيخ حسن الحواتكي والشيخ أحمد هيكل والشيخ محمد حسنين والشيخ حسنين محمد مخلوف والشيخ يوسف الدجوي والشيخ حسن مدكور والشيخ البراد والشيخ عطا المرصفي والشيخ محمد البرادي ، ثم نال الشهادة الأهلية عام ١٣٣٥ ه‍ ، ونال جوائز مالية كانت تعدها مشيخة الأزهر للمتفوقين في علوم التوحيد والفقه والأصول والإنشاء ، ونال الشهادة العالمية ١٣٤١ الموافق ١٩٢٤ وكان لجنة الامتحان مكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عطا المرصفي رئيسا والشيخ محمد السرتي والشيخ البرد والشيخ الغريبي والشيخ المرشدي والشيخ عبد المقصود الفشني ، وحضر الامتحان الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ صادق عزام وحصل على الشهادة العالمية وكان ترتيبه الثالث من ١٤٣ متخرجا ، وعين إماما ومدرسا وخطيبا في مسجد بمديرية المنيا ، ثم نقل من هذا المسجد إلى المسجد الأموي بأسيوط في يناير ١٩٢٦ ودخل مسابقة امتحان في التاريخ أعلنها الأزهر لاختيار مدرسين بالأزهر ونجح فيها بتفوق ، ثم عين مدرسا بمعهد أسيوط الديني في عام ١٩٢٧ ونقل في عام ١٩٣١ إلى معهد الزفاريق ولكنه لم يمكث به إلا شهرا ، ثم عاد إلى معهد أسيوط مرة ثانية ، ومكث مدرسا بمعهد أسيوط منذ تعيينه حتى عام ١٩٣٨ ، ونقل في عام ١٩٣٨ إلى كلية أصول الدين للتدريس بها ، ثم انتدب وكيلا لمعهد الأسكندرية الديني في عام ١٩٤٤ ومكث بالمعهد سنتين ، وعاد إلى كلية أصول الدين مرة ثانية في ١٩٤٦ ، ثم عين شيخا لرواق الصعايدة في عام ١٩٤٨ ، وانتدب شيخا لمعهد أسيوط الديني في عام ١٩٥٠ حتى عام ١٩٥٢ ، وعين عضوا في جماعة كبار العلماء في عام ١٩٥١ ورجع إلى كلية أصول الدين في عام ١٩٥٢.

عين سكرتيرا عاما للجامع الأزهر والمعاهد الدينية في عام ١٩٥٣ وعين عضوا بالمجلس الأعلى للأزهر في أكتوبر ١٩٥٤ ، ولا يزال يلقى المحاضرات العلمية على طلبة كلية أصول الدين.

١٧٣

الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد

من كبار الشيوخ الأزهريين ، وأكثرهم إنتاجا وتأليفا ، وأذيعهم شهرة وذكرا في العالم الإسلامي ، والكتب التي حققها ونشرها وألفها تزيد اليوم على مائة كتاب ومن بينها العديد من الكتب الدراسية في الأزهر الشريف ، وطائفة من أصول كتب البلاغة والتاريخ والأدب والنقد.

والشيخ محمد محي الدين يتولى اليوم مشيخة كلية اللغة العربية إحدى كليات الأزهر الشريف ، وقد تخرج في الأزهر الشريف عام ١٩٢٥ ، وتولى التدريس في الأزهر ثم اختير أستاذا في كلية اللغة العربية منذ إنشائها ثم وكيلا لها ، ثم ندب مفتشا بالأزهر الشريف ، فاستاذا لكرسي الشريعة الإسلامية في كلية غردون بالخرطوم ، ثم أستاذا للفلسفة في كلية أصول الدين ، ثم رئيسا للتفتيش على العلوم العربية والدينية في الأزهر ، ثم عميدا لكلية اللغة العربية ، وكان والده من خيار الشيوخ الأزهريين وتولى قبل وفاته منصب مفتي وزارة الأوقاف وكانت له في الناحية الدينية والإسلامية آثار عديدة.

وقد مثل الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد الأزهر في كثير من المؤتمرات الأدبية والثقافية والدينية ، وهو في طليعة الشيوخ الذين لهم فقه باللغة العربية وأصولها وآدابها ، وفي مقدمة الأساتذة الذين شاركوا في دعم كيان الأزهر العلمي في نهضته الحاضرة.

وتوفي رحمه الله يوم السبت ٢٥ من ذي القعدة ١٣٩٢ ه‍ ٣٠ ديسمبر ١٩٧٢ م.

الشيخ شلتوت

هو أحد أعضاء جماعة كبار العلماء البارزين ، وله الكثير من الإنتاج العلمي والديني القيم ، وطائفة من المقالات والأحاديث الإسلامية الجديدة

١٧٤

في أسلوبها ومنهجها وطريقة تفكيرها .. والشيخ محمود شلتوت من أسر علماء الأزهر ذكرا ، وأذيعهم شهرة ، وأكثرهم تقديرا من شتى البيئات العربية والإسلامية ، وقد تخرج في الأزهر من نحو ثلاثين عاما ، وعين مدرسا فيه ، ثم أستاذا في كلية الشريعة الإسلامية ، فوكيلا لها ، فمفتشا في الأزهر الشريف ، فعضوا في جماعة كبار العلماء ، وعضوا في لجنة الفتوى بالأزهر ، فمراقبا عاما للبحوث والثقافة في الأزهر ، وقد مثل الأزهر في كثير من المؤتمرات العربية والإسلامية ، وهو من تلامذة الشيخ عبد المجيد سليم الأوفياء ، وممن درسوا أفكار الإمام محمد عبده الإصلاحية التجديدية وتأثروا بها.

الشيخ محمد كامل حسن

في عام ١٩٣٦ اختير الشيخ أستاذا في كلية اللغة العربية من بين زملائه أساتذة المعاهد الدينية ، وسمعنا منه الكثير من المحاضرات في شتى العلوم العربية ، وتلقى عليه كثير من الذين تخرجوا في الكلية والتحقوا بشتى المعاهد والمدارس ، وقد راعنا من الشيخ سعة أفقه ، ودماثة خلقه ، ووداعة نفسه.

وفي عام ١٩٤٨ أختير ـ ثقة به ـ للتفتيش في الأزهر في العلوم الدينية والعربية ، وفي عام ١٩٤٩ اختير وكيلا لكلية اللغة العربية بعد وفاة وكيلها الخالد الذكر المغفور له الشيخ محمد أبي النجا ، وبعد أن ذهب وفد من أساتذة الكلية وعميدها آنذاك إلى شيخ الأزهر المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي يطلبون منه اختياره لوكالة الكلية ، وقالوا له : إنه سيكون خير خلف لخير سلف ، فاستجاب شيخ الأزهر مسرورا لهذه الرغبة ، وتم ذلك بقرار مجلس الأزهر الأعلى الصادر في مارس سنة ١٩٤٩.

١٧٥

وقد وقف الشيخ حياته على خدمة الكلية ، ورفع مستواها العلمي والأدبي في إخلاص ومحبة وصدق وتعاون مع الجميع ، وقد عدلت مناهج الكلية مرارا بإشرافه حتى سايرت أحدث المناهج في كليات الآداب والتربية الجامعية المختلفة .. وقد مثل الأزهر والكلية في كثير من المناسبات وكثير من اللجان ، فكان يرفع دائما من كرامة الأزهري ، ويعزز الثقة فيه ، مع تواضع المعتز بنفسه. وكثيرا ما يعلل الشيخ فلسفته في التواضع بهذه الحكمة : «إنما يتدلى من الشجرة فرعها المثمر».

وقد ولد الشيخ في يوم ٦ من يونيه سنة ١٨٩٥ وكان والده أزهري النشأة ، فعني بتربيته وتحفيظه القرآن الكريم ليكون طالبا بالأزهر ، وأتم تجويد القرآن في الأزهر سنة ١٩١٠.

وفي سنة ١٩١١ انتسب إلى الأزهر طالبا في بدء النظام الذي وضع له القانون رقم ١٠ عام ١٩١١ وعرف بنظام الشيخ محمد شاكر ، لأنه الذي وضع أسسه ورسم خططه وبدأ بتنفيذه واختار له المدرسين النابهين النابغين ، وكان لهذا النظام ثلاث مراحل (ابتدائي وثانوي وعال) ومدة كل مرحلة خمس سنوات دراسة ـ لهذا كان أول فوج تخرج في هذا النظام سنة ١٩٢٤ ، وكان الشيخ من أوائل الناجحين في جميع سني دراسته بهذا النظام.

وعين مدرسا سنة ١٩٢٥ عقب تخرجه بمعهد طنطا ، ثم نقل إلى معهد دسوق ثم الزقازيق.

وكان في كل مكان قدوة عالية لرجل الدين المثقف المستنير ، الحريص على أداء رسالته ، وعلى تعزيز ثقة المجتمع به ، ورأس لجان الامتحان للشهادات الأزهرية الكبرى ، فكان مثالا عاليا للنزاهة والكفاية وحسن السمعة بين الناس ، ومع أعماله الإدارية الكثيرة فهو يشغل كرسيا

١٧٦

علميا في الكلية ويقوم بنشاط علمي كبير محمود بين الأستاذة والطلبة ، ويعده الطلاب أبا روحيا ، كا يعده الأساتذة زميلا حميما لهم ، وقد حاز ثقة شيوخ الأزهر على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ونوهوا بكفايته وأمانته وحرصه على أداء الواجب في مناسبات كثيرة ، وقد شهدت الكلية منذ عام ١٩٥٣ نشاطا رائعا بفضله وتوجيهه ، وشهدت في أوائل عام ١٩٥٤ ميلاد صحيفة يومية داخلية كاملة يكتبها الطلبة بأيديهم ، وميلاد صحف مطبوعة ، وذلك بفضل يقظته وتوجيهه ورعايته ... والشيخ من أحب علماء الأزهر إلى قلوب الناس والطلاب ، وهو في ورعه وتقواه قدوة طيبة.

وقد توفي الى رحمة الله في ٢٩ من شعبان ١٣٨٩ ه‍ نوفمبر ١٩٦٩ م.

الشيخ حسين خفاجي

كان والده السيد محمد خفاجي (١٢٧٧ ه‍ ـ ١٩٤٠ م) من كبار الصوفيين الزاهدين في ثغر دمياط ـ وقد ولد الشيخ حسين في يونيو عام ١٨٩٦ ، وتخرج من الأزهر في فبراير عام ١٩٢٣ بعد أن نال العالمية بتفوق ، وتنقل في الوظائف الإدارية بالأزهر الشريف ، وهو اليوم كبير المراقبين في كلية الشريعة الإسلامية ، التي اختير لها منذ إنشائها ، وله فيها أياد تذكر بالتقدير من جميع شيوخ الأزهر الشريف ...

الشيخ عبد المتعال الصعيدي

من الشيوخ الثائرين في الأزهر ، ذوي الآراء الإصلاحية التقدمية ، وهو من بينهم يمتاز بميل إلى التجديد ، وعكوف على البحث والتأليف.

ولد (١) في قرية «كفر النجبا» من أعمال مركز أجا بمديرية الدقهلية

__________________

(١) ص ٩٠ تاريخ الإصلاح في الأزهر للصعيدي ـ الطبعة الأولى.

١٧٧

عام ١٣١٣ ه‍ ـ ١٨٩٤ م ومات والده وهو ابن شهر ، فكفلته والدته ، وتعلم في كتاب القرية.

ثم انتسب إلى الجامع الأحمدي ، فدرس فيه على النظام الحديث وأظهر تفوقا في الدراسة ، ويقول في ترجمته لنفسه في تاريخ الإصلاح في الأزهر : (١)

تابعت دراستي في جد واجتهاد ، حتى كنت أول الناجحين في أغلب سني الدراسية ، فإذا لم أكن الأول كنت الثاني أو الثالث ، لأني كنت على انتقادي الآن لطريقة التدريس القديمة آخذ نفسي بأقصى ما نصل إليه في البحث اللفظي والمعنوي ، حتى كان الدرس يمضي في عراك علمي بيني وبين المدرس ، ولهذا كنت موضع تقدير أساتذتي وحبهم ، ومن أشهرهم الشيخ محمد الشافعي الظواهري ، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري. ولكني كنت مع هذا شديد الشغف بمطالعة كل ما تظهره المطبعة من كتب الأدب والفلسفة وغيرها ، فكنت أطالع كل كتاب قديم أو حديث تظهره المطبعة ، وأطالع المجلات العلمية والأدبية ، وكذلك الجرائد اليومية ، ولا سيما جرائد الحزب الوطني الذي كان يقوم بالجهاد السياسي في ذلك الوقت ، فكنت أتلقى في هذه الجرائد دروس الوطنية ، وكانت تغرس في نفسي حب الجهاد في سبيل الوطن ، ولقد كنت وأنا تلميذ بالكتاب آخذ نفسي بالمطالعة ، فكنت أطالع الكتب القصصية الشائعة في القرى ، ولا سيما قصة عنترة العبسي ، فقد طالعت فيها كثيرا ، وأعدت قراءتها نحو أربع مرات ، ولعل هذا هو الذي ربى في حب المطالعة بعد أن صرت طالبا بالجامع الأحمدي ، وقد أخذت شهادة العالمية على النظام الحديث في سنة ١٩١٨ م (١٣٣٦ ه‍) ، وعينت فيها مدرسا بالجامع الأحمدي بعد امتحان

__________________

(١) ص ٩٣.

١٧٨

مسابقة جرى بين أكثر من مائة عالم نظامي في نحو عشر وظائف ، فنجحت فيه أنا وعالم آخر ، وسقط فيه الباقون لصعوبته.

وألف كتابا سماه «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف» ، وأهم بحوثه كما يقول الشيخ نفسه :

١ ـ كلمة في نقد قانون التخصص.

٢ ـ تمهيد في بيان الحاجة إلى الإصلاح ، وفائدة العلوم الحديثة في الدفاع عن الدين ، وفي بيان قصور النظام الحديث عن الإصلاح المطلوب.

٣ ـ الموازنة بين العهد القديم والنظام الحديث ، وخلاصتها أن الفرق قليل جدا بينهما ، لأن النظام الحديث لا يزال يعتمد على كتب العهد القديم ، وعلى طريقة التدريس القديمة ، ولا يمتاز النظام الحديث عن العهد القديم إلا بدراسة بعض العلوم الحديثة التي تدرس في المدارس الابتدائية والثانوية ، وهي دراسة ناقصة لا تناسب المعاهد الدينية ، ولا تحقق الغرض المقصود منها فيها ، وهو استخدامها في الدفاع عن الدين ، وكان الواجب أن تدرس على نحو ما تدرس في الجامعات الكبيرة في أوروبا ، لأنها تدس فيها دراسة جامعية ، ولا يصح أن يقصر الأزهر في دراستها عن هذه الدراسة ، لأنها هي التي تليق بأقدم جامعة علمية دينية.

٤ ـ نقد كتب الدراسة ، وخلاصة نقدها أنها من كتب المتأخرين ذات المتون والشروح والحواشي والتقارير ، ولما كانت متونها غامضة معقدة فدراستها تقوم على أساس فهم عبارات هذه المتون ، فهو الذي يقصد فيها أولا وبالذات ، أما فهم مسائل العلوم والتمرين عليها فلا يهتم بها كما يهتم بفهم عبارات المتون ، وهذا إلى أن هذه الكتب تسلك طريقة واحدة في

١٧٩

التأليف ، وخلط مسائل العلوم بعضها ببعض ، فلا تتدرج في هذا للطلاب بل تأخذ المبتدئين بما تأخذ به المنتهين ، وقد كان لتعقيدها أسوأ أثر في طلاب المعاهد الدينية ، لأنه يظهر في أسلوب كتابتهم ، ويحول دون النهوض به بتعليم الإنشاء ومطالعة كتب الأدب ، ولا يراد من هذا أن نرجع إلى كتب المتقدمين ، بل يجب أن نعتمد في الدراسة على كتب تؤلف في هذا العصر الحديث ، وتفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم.

٥ ـ نقد طريقة التدريس ، وخلاصة نقدها أنها طريقة تلقينية تقليدية ، لا تعنى بتربية ملكة الفهم الصحيح ، ولا بإعداد الطلاب ليكون منهم علماء وحكماء يرفعون منار العلم في الدنيا ، ويتحدث العالم بعلمهم ، كما كان يتحدث بعلم أسلافنا في الماضي ، وكما يتحدث اليوم بعلم أهل أوروبا.

٦ ـ نقد العلوم القديمة ، وخلاصة نقدها أنها علوم جامدة لا تزال على حالها منذ سبعة قرون ، وليس فيها أثر للتجديد الذي تناول كل شيء في عصرنا ، وقد كان علماؤنا الأولون يجتهدون فيها ويجددون في كل عصر من عصورهم ، فيجب أن نجتهد فيها ونعمل على تجديدها في عصرنا.

٧ ـ نقد نظام التعليم ، وخلاصة نقده أنه لا يتدرج بالطلاب في مراحل التعليم ، بل يبدأ بالكتاب الأقل حجما وإن كان أصعب فهما ، ويبدأ بالعلوم التي اعتيد البدء بها في العهد القديم ، وإن كان الواجب تأخيرها والبدء بغيرها ، وكذلك يجعل مدة الدرس واحدة في كل مراحل التعليم ، ويأخذ المبتدئين في هذا بما يأخذ به المنتهين.

٨ ـ إهمال التخصص في العلوم ، وخلاصة ما جاء فيه أن النظام الحديث اتبع العهد القديم في تخريج علماء يأخذون كل العلوم التي يدرسونها بنسبة واحدة ، فلم يحاول أن يوزعها في آخر مراحل التعليم على الطلاب ، ويجعل منها شعبا يتخصص الطلاب فيها ، ليعيدوا عهد

١٨٠