الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

عن دينه ولونه وجنسه ولغته ومركزه الاجتماعي.

فالإنسان أهل للتكريم من حيث كونه إنسانا. قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً).

مرت جنازة رجل من الكافرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها ، فقالوا : يا رسول الله إنها كافر ، فقال : «أو ليست نفسا؟».

وهكذا يعمل الإسلام على تحرير النفس وتربية الفرد وتكوين الأمة وتحقيق السلام ليأخذ البشر طريقه إلى التقدم الصحيح والكمال المنشود.

قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.

وما أصدق ما قيل : يا له من دين لو أن له رجالا.

٤٤١
٤٤٢

الشيخ محمود شلتوت

توفي رحمه الله في ١٠ ديسمبر ١٩٦٣ ففقدت مصر عظيما من عظمائها وعالما تفقه في مختلف نواحي الحياة الدينية والاجتماعية كان بصيرا بالأحكام الشرعية الملائمة لحاجات الناس ومقتضيات العصر ومفسرا الم بكتاب الله وسنن الكون وعالما اجتماعيا يعرف أمراض المجتمع ووسائل علاجها.

في عام ١٩٢٨ بدأ الشيخ شلتوت ينشر مقالاته في الصحف محاربا الروتين وداعيا إلى إصلاح الأزهر وتطويره حتى عام ١٩٣١ حين تعارضت أراؤه الإصلاحية مع المشرفين على سياسة الأزهر في ذلك الوقت حتى انتهى الأمر إلى فصله وبعد الفصل. لم يهدأ أو ييأس بل تابع نقده ونشر أفكاره واشتغل بالمحاماة والبحوث العلمية خلال أربع سنوات حتى أعيد إلى الأزهر وكيلا لكلية الشريعة ثم مفتشا بالمعاهد الدينية.

ومنذ تولى الشيخ شلتوت أمر الأزهر أعاد النظر في تنظيم المناهج وأدخل الدراسات القانونية في كلية الشريعة لتتم المقارنة بين دراسة الفقه الإسلامي والقوانين المعاصرة وأدخل فقه الشيعة مما كان له أكبر الأثر في التقريب بين جماعات المسلمين في أنحاء العالم.

٤٤٣

وتقديرا للشيخ شلتوت منحته جامعة شيلي الدكتوراه الفخرية عام ١٩٥٨ .. كما منحته جامعة جاكارتا الدكتوراه الفخرية عام ١٩٦٠.

وكان المسلمون في يوغوسلافيا واليابان والجزائر وروسيا وألمانيا وإيطاليا قد وجهوا إليه الدعوة لزيارة المسلمين فيها وتفقد أحوالهم.

ولقد أجمع العلماء وأهل الرأي أن التوفيق قد حالف الأزهر عند ما ولي أمره الشيخ شلتوت فوجد فيه مفكرا وعالما من اليقظة الفكرية والدراية العلمية ما يمكنه من القيام بدوره.

قبل أن تصعد روحه إلى بارئها بدقائق .. جلس يتحدث إلى زواره عن الإسراء والمعراج ثم توقف قليلا وتبين للحاضرين أنه يعاني أزمة طارئة وحاول الأطباء انقاذه وسارعوا بأنابيب الأوكسجين ليساعدوه على التنفس ولكن روحه كانت قد صعدت إلى بارئها.

٤٤٤

أعلام معاصرون

الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد

رائد مدرسة التحقيق العلمي

بمثل الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد جيلا كاملا من الكفاح العلمي الكبير ، حتى ليعد رائدا عظيما لمدرسة التحقيق العلمي ، سار على ضوئه المحققون ، وشراح كتب التراث الإسلامي العربي.

وقد تتلمذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد على جيل الرواد الإسلاميين الكبار ، الذين ازدانت بهم الحياة المصرية في أوائل القرن العشرين ، وكانوا دعامة النهضة العربية والأدبية في العالم العربي كافة.

وقد تخرج الشيخ محمد محيي الدين من الأزهر الشريف عام ١٣٤٧ ه‍ الموافق ١٩٢٥ م يحمل شهادة العالمية أعلى شهاداته العلمية آنذاك ، وكان نجاحه بل تفوقه يومئذ مثار الدهشة ، فقد جاء الأول على أقرانه من فحول العلماء.

وشغل في هذه الحقبة الطويلة الكثير من المناصب العلمية الرفيعة : أستاذا بالأزهر ، فأستاذا بكلية اللغة العربية ، فمفتشا عاما بالمعاهد الدينية ، فوكيلا لكلية اللغة ، فأستاذا بكلية أصول الدين ، فرئيسا لمفتشي العلوم الدينية والعربية بالأزهر ، فعميدا لكلية اللغة العربية ، فعضوا بالمجمع اللغوي ، وعضوا بلجنة الفتوى بالأزهر ، وعضوا في الجلس الأعلى للشئون

٤٤٥

الإسلامية ، وفي كثير من الهيئات العلمية ، ولا ننسى أنه اختير عام ١٩٤٠ للسفر للسودان ؛ ليشارك في تأسيس مدرسة الحقوق العليا في الخرطوم ، وقد قام حينذاك بمهمته خير قيام ، وكان مضرب المثل في علو المنزلة وسمو المكانة بين السودانيين والمصريين على السواء.

ومثل الأزهر في كثير من المؤتمرات الثقافية واللغوية والأدبية ، ووجه الثقافة فيه الوجهة الرفيعة العميقة ، التي أثرت في بناء الجيل الحاضر تأثيرا كبيرا.

ويمثل الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد أفكارا لغوية ، لها منهجها ودقتها وعمقها ، فهو يرى ضرورة تربية الحس اللغوي ، لينتهي بصاحبه إلى الذوق الأدبي ، ويبدأ بالكلمة لينتهي إلى الأسلوب فالأدب نفسه ، ودور الكلمة في الأدب دور كبير ، وأثرها في بناء العمل الأدبي ضخم وجليل.

والشيخ محمد محيي الدين يقف دائما في مجال الريادة :

فهو أول من فكر في تأليف كتب دينية مزدانة بالمناسب للأطفال ، فألف خمسة أجزاء : اثنين للبنين ، واثنين للبنات ، وكتابا مشتركا ، وقد ذاعت هذه الكتب آنذاك ، حتى كان المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام يذكر أنه شاهد لها ترجمات بالفارسية وبالتركية.

وهو من أول من عنى بكتب التراث وتحقيقها تحقيقا علميا دقيقا ، مما يتجلى لنا فيما حقق من أمهات كتب التراث في الأدب والنقد والبلاغة واللغة والنحو والصرف ، ولذلك يعد بحق شيخ العلماء المحققين.

وهو أشهر شارح ومفسر لكتب القدماء في مختلف فنون العلم ، وقد سهل بذلك على الجيل المعاصر قراءة هذه المصادر ، والإفادة منها والاغتراف من بحرها .. وقد اختارت مؤسسة (بريل) في هولندا نشر شرحه

٤٤٦

على : (شرح ابن عقيل) بالحروف البارزة ليقرأه المكفوفون ، ونحن نشكر لها هذا العمل العلمي والإنساني معا.

وإذا عدنا إلى الأعمال العلمية لهذا العالم الجليل من أعلامنا المعاصرين نجدها تنقسم ثلاثة أقسام.

القسم الأول : دراسات أدبية ولغوية وإسلامية ألفها ، وكانت مثلا لرصانة العلماء ، وعمق البحث ، ودقة التأليف ، ومنها :

١ ـ دراسة كبيرة له عن المتنبي ونقد شعره ، نشرها في مجلة الأزهر تباعا ، وتعد من أهم المراجع عن أبي الطيب وشعره.

٢ ـ دراسة عن الفكر الإسلامي عند الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق ، وقد نشرت في مجلة (الكتاب) التي كانت تصدر عن (دار المعارف) عدد : نوفمبر ١٩٤٥ م.

٣ ـ تصريف الأفعال : وهو كتاب مشهور لم يؤلف مثله حقا ، ويعد مكملا لمنهج القدماء في دراسة الأفعال ، وطبع عدة طبعات ، وكان مرجعا علميا للأساتذة والطلبة في كليات اللغة ودار العلوم والآداب.

٤ ـ أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية ـ المعاملات الشرعية ـ الأحوال الشخصية ـ أصول الفقه. وهي كتب أربعة مشهورة ، كانت تدرس في كليات الحقوق وأصول الدين ، وفي مدرسة الحقوق العليا في الخرطوم ، وطبعت عدة طبعات.

القسم الثاني : كتب من أمهات التراث في مختلف العلوم ، حققها عالمنا الجليل تحقيقا علميا دقيقا ، عنى فيها عناية فائقة بتقويم النص ، وضبط مشكله ، وشرح غريبه ، ومنها :

سيرة ابن هشام ـ الموازنة للآمدي ـ يتيمة الدهر للثعالبي ـ العمدة لابن رشيق ـ نفح الطيب للمقري ـ وفيات الأعيان لابن خلكان ـ زهر الآداب

٤٤٧

للحصري ـ فوات الوفيات لابن شاكر ـ معاهد التنصيص للعباسي ـ مروج الذهب للمسعودي ـ مقالات الإسلاميين للأشعري ، وغير ذلك مما يضيق المجال عن حصره ، ومما تلقاه قراء العربية في كل مكان بالتقدير والإعجاب ، إذ رأوا فيه طاقة علمية فريدة ، واتخذوا منه عمدة المصادر لجميع طلاب الجامعات في العالم الإسلامي العربي.

القسم الثالث : كتب من التراث شرحها شرحا وافيا ، وذلل صعوباتها للباحثين ، وأضاف إليها الكثير من الدراسات .. ومنها أهم كتب الثقافة العربية : كشرحه للأجرومية الذي خرج بعنوان : (التحفة السنية) ، وظل إلى اليوم يدرس في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي ، وطبع أكثر من خمس وعشرين طبعة. وكشرحه للأزهرية وشرحه على : (شرح قطر الندى لابن هشام) الذي طبعه ثلاث عشرة طبعة. وكشرحه على : (شرح شذور الذهب) لابن هشام. وشرحه على : (شرح ابن عقيل) في أربعة أجزاء كبار ، وطبع خمس عشرة طبعة. وشرحه على : (أوضح المسالك) لابن هشام ، ويقع في أربعة جزءين ضخام ، وطبع نحو عشر طبعات. وشرحه على : (المفصل) للزمخشري ، وهو من أصول اللغة العربية. وشرحه على : (شرح الأشموني على ألفية ابن مالك) ويقع في أربعة أجزاء كبيرة ، وهو يطبع الآن للمرة الثالثة.

وشرحه على كتاب : (الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين) في جزأين كبيرين ، ويدرسه المستشرق الفرنسي بلاشير لطلابه بالسوربون ، مؤثرا لهذه الطبعة على الطبعة الأوروبية.

وكشرحه على : (متن التلخيص في البلاغة) وطبع عدة طبعات.

وقد تتلمذت على عالمنا الجليل أجيال عديدة من الشباب ، وفي مقدمتهم أساتذة وعمداء كثير من الكليات الدينية واللغوية والأدبية في مصر والسودان والعالم العربي ، ومنهم جمهرة من كبار رجالات الدولة في العالم

٤٤٨

العربي .. وما أكثر تلاميذه في الشرق والغرب ، وجميع المستشرقين في العالم يولون بحوثه وتحقيقاته عناية فائقة ، واهتماما كبيرا.

وقد توفي ـ رحمه الله ـ في شهر المحرم سنة ١٣٩٣ ه‍ الموافق مارس ١٩٧٣ عن نيف وسبعين عاما .. أجزل الله له الثواب كفاء ما قدم لدينه ولغة كتابه الحكيم ولتراث العربية وآدابها من جهود خالدة على مرور الأيام.

٤٤٩
٤٥٠

الشيخ عبد السميع شبانة

أحد علماء الأزهر الذين شاركوا في تحقيق رسالته والنهوض بطلابه ، تخرج على يديه الآف العلماء من أبناء العالم الإسلامي.

كان ـ رحمه الله ـ يعطي جهده كله لخدمة العلم والعلماء. كان بيته منتدى يجتمع فيه طلاب العلم من كل جنس لينهلوا من فيض علمه الغزير .. يستوضحونه ما أبهم عليهم وينتفعون بما يدور في مجلسه من مسائل علمية سواء ما يتصل منها بالعلوم الدينية أو العربية ..

فلم يكن ـ رحمه الله ـ يقف عند حدود تخصصه في النحو أو الصرف بل جاوز ذلك إلى العلوم الشرعية فكان حجة فيها يأتي إليه الناس يستفتونه في أنور دينهم فيرشدهم إلى الحق والهدى .. كان فقيها في علم المواريث وقد صدرت له الآف الفتاوى التي كانت تستند عليها المجالس العرفية في حل المنازعات بين الأسر والأفراد.

ولد رحمه الله في ١٢ يناير سنة ١٩٠٣ في بلدة فرسيس من محافظة الشرقية .. وبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم ، ألحقه والده بالأزهر الشريف والمساجد المحيطة به حتى حصل على الشهادة العالمية ونال إجازة التخصص القديم التي تعادل درجة الدكتوراه سنة ١٩٣٢.

٤٥١

بدأ دوره في الدعوة إلى الله وتبصير الناس بأمور دينهم بعد أن عين أستاذا في معهد الزقازيق فكان يتنقل بين قرى محافظة الشرقية ومدنها يخطب في الناس ويبين لهم الحق من الباطل فلم يكن يمضي أسبوع من غير أن يشترك في ندوة دينية أو يلقي عظاته التي كان يقبل الناس عليها.

وفي الوقت نفسه كان أحرص ما يكون على أهل بلدته فكان يعقد لهم مجالس العلم ويساعد أبناءهم في دراستهم حتى عرفت قريته (فرسيس) بأنها بلد العلم حيث كان أبناؤها يعرفون مسائل الدين وكل ما يتصل بالعبادات والمعاملات بسبب تعليم الشيخ لهم .. وكان يتخرج من الأزهر منها في كل عام أكثر من ثلاثين عالما وهي القرية الصغيرة التي لا يتجاوز تعدادها في هذا الوقت ألفي نسمة ..

واختارته مشيخة الأزهر للتدريس في كلية اللغة العربية سنة ١٩٣٩ لمكانته العلمية.

ألف الكتب الكثيرة في النحو والصرف وقد أعيد طبعها مرات كثيرة وأسهم في تطوير كلية اللغة العربية وأحدث تغييرا شاملا في دراسة النحو والصرف بها مما كان له أثره النافع على المتخرجين منها.

وبقي رحمه الله مشرفا على قسم اللغويات بكلية اللغة العربية رافضا كل المناصب التي يتهافت عليها الجميه ، حتى توفى رحمه الله في ٢١ مايو سنة ١٩٦٨ .. ففقد العالم الإسلامي بموته عالما ورعا ..

٤٥٢

الشيخ محمد الطنطاوي

منذ خمسة عشر عاما أخرج الشيخ محمد الطنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية كتابه المشهور «نشأة النحو» ، الذي كان له أثره في نفسي وعقلي بل عند علماء العربية وثقاتها جميعا. وأشهد أني فرحت بالكتاب فرحا كبيرا ظهر فيما كتبته عن الكتاب من نقد آنذاك ، ولست أدري رأي النقاد فيما كتبته ، ولكنه كان وجهة نظري يفي هذا السفر النفيس حقه ، ومما جاء في هذه الكلمة :

«لمنزلة النحو من الدين والعربية ، ومن التراث الإسلامي العظيم ، ومن لغة الشرق ولسانه ، ولتجديد النشاط العلمي في مدارس النحو الحديثة ، ولأداء واجب كبير لعلماء العربية الراحلين وشيوخها السالفين الأمجاد ، وحرصا على خدمة اللغة وطلابها .. لهذا كله ألف الأستاذ الجليل محمد الطنطاوي رسالته : نشأة النحو فجأت سفرا جليلا وأثرا خطيرا في الناحية التاريخية لعلم قواعد العربية.

ومما يجعل لهذا السفر الحافل مكانة عظيمة بين كتب العربية ومؤلفاتها أنه الحلقة المفقودة لكتب طبقات النحاة التي ألف فيها العلماء من قرون ، وأنه أثر فريد في بابه ونوعه ، فلم يظهر في مدارس النحو الحديثة في مصر

٤٥٣

والشرق العربي كتاب قبله في النواحي التاريخية لمدارس العربية ورجالها ومؤلفاتها في القديم والحديث ..

وقد كتب الأستاذ فصول كتابه بلغة جمعت بين بلاغة الآداء وجمال الأسلوب وجزالة التراكيب ، والنقد التحليلي التاريخي لأطوار علم العربية ومذاهبه ومدارسه ورجالاته ، وفي الكتاب فصول عظيمة الأهمية في أسباب تدوين القواعد العربية ، وعن الرجل الذي ذهب بشرف وضعها وتدوينها ، وعن نشأة النحو وأطواره في مراحله المختلفة ، وعن حياة شيخ العربية الأول أبي الأسود الدؤلي ، وعن مدرسة النحو الأولى بالبصرة ، ورجالها ، ومدرسة الكوفة التي نشأت بعد ذلك ورجالها ، ويبين المؤلف نزعات مذهبي النحو بالبصرة والكوفة ، والمناظرات التي قامت بين رجالهما ، ويحلل أسباب الخلاف بين مدرسة البصرة والكوفة ، والبواعث التي دعت إلى نسوء كل مدرسة واستقلالها ، والعناصر التي بنيت عليها ، والاتجاهات التي اتجهت إليها والمسائل العلمية التي اختلفت فيها ، وآثار هذا الخلاف العلمي ، ويعقد الموازنات بينهما .. ثم يتكلم عن مدارس النحو التي قامت ببغداد وفارس ومصر والشام والأندلس ، ومنهج كل مدرسة وعلمائها وآثارها .. كل هذا في أسلوب قوي دقيق وبحث علمي عميق.

والكتاب وهو يعرض علينا النحو من أول نشأته إلى العصر الحديث يمتاز عن كتب الطبقات القديمة بسعة البحث وكثرة التفصيل ، ودراسة مدارس النحو القديمة دراسة مستفيضة ، ويمتاز عن كتب المستشرقين بنفوذ مؤلفه إلى أعماق العربية وأسرارها ووقوفه على أطوارها».

ولم يكن كتاب «نشأة النحو» هو الصلة الفكرية بيننا وبين الشيخ ، ولكنه كثيرا ما جلسنا في دروسه ومحاضراته في كلية اللغة معجبين نتلقف طرائفه ، ويسحرنا بشمائله وتواضعه وعلمه ، بل كان لي كذلك حظ التلمذة عليه منذ أكثر من ربع قرن ، وكان يدرس لنا علوم البلاغة في الفرقة الثالثة

٤٥٤

من القسم الابتدائي ، وكان له كتاب ألفه في هذا المجال ، وسماه «نفحة الريحان في علم البيان» ، وكان الكتاب يحوي مباحث كثيرة دقيقة ، ولكنه لم ينح فيه هذا المنحى التجديدي الممتع الذي لمسناه فيما بعد في «نشأة النحو».

وللشيخ الطنطاوي عدا ذلك كتابه «تصريف الأسماء» ، الذي أشهد أنه يجب دراسته في أقسام الدراسات العليا لا في الفصول الدراسية في الكلية نفسها .. وله كذلك مقالات كان ينشرها في مجلة «رسالة الإسلام» التي تصدرها دار التقريب ، والتي لا يطلع عليها أحد ، وما كان أجدره أن ينشر هذه المقالات في كتاب ليتسنى للناس أن يقفوا على علم الرجل وسعة إطلاعه ..

أما حياة الشيخ فبسيطة بساطة نفسه وأخلاقه ، ولكنها حياة كبيرة بمغزاها وأثرها ..

ولد الشيخ في ٧ سبتمبر ١٨٩٥ ببلدة أكوة الحضة مركز تلا منوفية من أسرة متدينة محافظة تعيش في الريف عيشة الهدوء والاستقامة ، ومهد له والده السبيل إلى التعليم الديني ، فأدخله مكتب القرية لحفظ القرآن الكريم ، وحفظ كتاب الله ، وأخذ يتلقى تجويده على يد فقيه من فقهاء القرية ، ثم بعث به والده إلى الجامع الأحمدي في طنطا عام ١٣٢٧ ه‍ ١٩٠٩ في أول عهده بالنظام ، فانتسب إلى الشعبة الأولى على مذهب الإمام مالك ، واستمر في التعليم يحوطه التوفيق حتى نال الابتدائية عام ١٣٣١ ه‍ ـ ١٩١٣ م ، ثم تزوج إتباعا لسنة الريف في الحرص على الزواج المبكر ، واستمر يوالي كفاحه العلمي حتى كان في طليعة الناجحين في الشهادة الثانوية عام ١٣٣٥ ه‍ ـ ١٩١٧. وفي القسم العالي بسنواته الأربع دأب في التحصيل ، وجد في الإطلاع. وثابر على الدراسة حتى فاز في النهاية بنيل شهادة العالمية النظامية عام ١٣٤٢ ، ١٩٢٣ م. ثم أنشيء قسم التخصص

٤٥٥

وافتتح في يناير ١٩٢٤ ، فتقدم إليه والتحق بشعبة «النحو والصرف والوضع» واجتاز مراحله الثلاث بتفوق ، وفي السنة الأخيرة حازت رسالته في الإعلال تقدير أساتذته ولجنة الامتحان كذلك.

ولما عقد الشيخ المراغي عام ١٩٢٨ لسابقة بين خريجي التخصص للتعيين في وظائف التدريس بالأزهر ومعاهده كان حظ الشيخ فيها حظا طيبا ، فعين مدرسا في معهد الزقازيق الديني في اليوم السابع والعشرين من ربيع الثاني عام ١٣٤٧ ه‍ ، ١١ أكتوبر ١٩٢٨ ، وبعد قليل توفى والده يوم الثلاثاء ١٩ رجب ١٢٤٧ ه‍ ـ ٢١ ديسمبر ١٩٢٨ ، ولكنه مات وهو قرير العين بابنه الشيخ المدرس في الأزهر الشريف ، ومكث أربع سنوات في معهد الزقازيق كان فيها محل تقدير شيوخ المعهد وأساتذته وطلابه ومفتشي الأزهر الشريف ، ومن ثم انتقل منها إلى كلية اللغة العربية عام ١٩٣٣ مدرسا ، وظل فيها إلى أن توفاه الله إلى رحمته عام ١٩٥٥.

٤٥٦

الشيخ عبد الجليل عيسى

من جديد ، وبعد مرور خمسة وسبعين عاما ، على وفاة الإمام محمد عبده ، طيب الله ثراه ؛ تنتفض هذه المدرسة العجيبة ، مدرسة الإمام محمد عبده عن رائد من أعلامها ، يتلقى من يدي الرئيس محمد أنور السادات ، في عيد الثقافة ، جائزة الدولة التقديرية ، إكبارا وتقديرا من الدولة لعلمه ، ولما أسداه فكره إلى جيلنا المعاصر من آثار جليلة.

إن تفسيره الشيخ عبد الجليل عيسى للقرآن الكريم يسير على منهج الأستاذ الإمام ، من موضوعية ونفاذ بصيرة ، وعقلية أصيلة تزن كل شيء ، وتحكم في عمق على الآثار والمرويات والمأثورات.

وكتابه «اجتهاد الرسول» يحمل طابع الإمام العقلي في كتابه المشهور «رسالة التوحيد» ، فهو قبس من جذوة الفكر العلمي ، التي أنار بها الإمام محمد عبده الطريق لجيله ، وللأجيال التي خلفته.

والشيخ عبد الجليل عيسى هذا الأزهري النابغة ، عاش حياته نضالا ورأيا وعملا ، من أجل أن يكون للعالم صوت في مجتمعه ، وعمل دائب في خدمة وطنه ، وجهاد متصل من أجل كلمة الحق تقال في كل وقت وكل مكان ..

٤٥٧

وانتماؤه العربي والإسلامي عزز في نفسه الشعور بأصالة تراثنا ، وبعظمة الماضي وجلاله ، ويمجد الأزهر العلمي العريق ؛ وكانت هذه الانتماءات كلها هي مكونات شخصيته.

وفي ظل ما يقرب من قرن كامل عاشه ويعيشه عالمنا الجليل ، كانت الأحداث الكبرى في تاريخ وطننا ، التي شارك فيها الشيخ بقلمه وروحه ونضاله.

توفى رحمه الله عام ١٩٨١.

كان أحد علماء الأزهر الذين وقفوا على أسرار الشريعة الإسلامية ، وملكوا ناصية اللغة العربية والبيان في العصر الحديث ـ عرفته شيخا لمعهد شبين الكوم الديني الذي أنشيء في عهد الإمام المراغي ـ رحمه الله ـ وقد اختاره أول شيخ له ، لأنه كان موضع ثقته ، وأحد تلاميذه المقربين إليه وكان للشيخ عبد الجليل في قلوبنا مكانة كبيرة من التقدير والاحترام والحب والاعزاز ، لأنه وضع نصب عينيه النهوض بهذا المعهد الديني ، ولأنه كان له مزيد من الهيبة والسطوة ، ولحرصه الشديد على مصلحتنا ، وظهورنا بمظهر الطالب الأزهري المثالي الذي يحرص على عزته وكرامته ، وفي سبيل ذلك كان لا يسمح لأحد بدخول المعهد إلا إذا كان يلبس الزي الأزهري كاملا ، وإذا نمى إليه أن أحدنا لا يظهر في الخارج بصورة سلوكية مشرفة ، قام بفصله من المعهد مدة ولا يسمح له بالحضور إلا بعد تعهد من ولى أمره بضمان سلوكه واستقامته ، وذلك بعد أن يتحرى الأمر ، وقد انعكس علينا هذا جدا واستقامة ، وتفوقا في العلم واخلاق.

والشيخ عبد الجليل من الرعيل الأزهري الأول الذي اشترك في المظاهرات وقاد مع زعماء الأزهر ثورة ١٩١٩ ضد الانجليز وكان يحدثنا بذلك فخورا ، لينقل إلينا شرارة الوطنية ـ وكان معروفا عنه أنه أشد تلاميذ

٤٥٨

المراغي إخلاصا ، حيث ترسم خطاه في ميادين إصلاح الأزهر وتطويره تطويرا يساير سمة العصر العلمية ، مع الاحتفاظ بعناصر التراث الأصيل للأزهر وكان للشيخ قلم موهوب في كتابة الموضوعات المتعددة ..

٤٥٩
٤٦٠