الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

والمسلمين ، ولقد زال دعاة الطائفية المذهبية ، وبقيت للأزهر عربيته وإسلاميته. ثم ذكر فضيلته أن الناس يرون في الأزهري أنه رجل الدين ، وأن واجبه أن يقول للمخطىء : أخطأت. مهما كان شأن هذا المخطىء ، وأن يغار على حرمات الله ، ولكن الواجب على المجتمع أن يمكنه من ذلك. وذكر : أن البرلمانات في الدول الحديثة تعطي حصانة للنائب تمنع عنه الأذى ، فإذا أريد لرجل الدين ذلك كان من واجب المجتمع أن يضمن له حصانة حتى يأمن على نفسه وأهله وكرامته.

وإذا كنا نغار على الأزهر أشد الغيرة ، ونذود عنه سهام الكائدين له فإننا في الوقت نفسه نذكر ما على أبنائه من واجبات ضخام ومسئوليات جسام ، فما كان لهم أن يرضوا بموروث الذكر الحكيم ولا يمنوا أنفسهم بمقام كريم ما لم يؤدوا لذلك حقه ، فعليهم أن يحسنوا القوامة ، وأن يبرهنوا قولا وعملا على أنهم أهل لذلك ، وإلا مكنوا غيرهم من مهاجمتهم ، وأن يتقولوا عليهم بالحق والباطل.

واختتم فضيلته حديثه بقوله : فليحذر الأزهريون زائد الثناء ، وليتذكروا دائما أن بقاءهم في الحياة لا يكون إلا بأداء الواجب. وليحذر أعداء الأزهر لعنة التاريخ ونقمة الجبار ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عميد كلية اللغة العربية عن «الأزهر والعالم الإسلامي» فقال : إن صلة الأزهر بالعالم الإسلامي بدأت منذ بدأ الأزهر ، واستمرت في كل طور من أطوار تاريخه. الأزهر ذلك المعهد العتيد دارت الأزمان المتطاولة وعلوم الأمم المختلفة ما هو في أقصى الشرق وما هو في أقصى الغرب. الأزهر هو ذلك المعهد الخالد الباقي وإن رغمت أنوف وعفرت جباه. ثم ذكر فضيلته أن المسلمين كانوا يعيشون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون ، ويتهذبون حتى

٦١

انتقل إلى الرفيق الأعلى ، ثم تفرقوا في البلاد غازين فاتحين معلمين للناس ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف أن هذه البلاد استفادت منهم وتخرج عليهم علماء كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن الأزهر جمع علم هؤلاء جميعا وعلم مدارسهم كلها من مكة والشام والمغرب وغيرها من البلاد.

وقال بعد ذلك : إن الأزهر منذ بدأ وله علاقته بالعالم الإسلامي لا في الثقافات والمؤلفات فقط ولكن في عالم الأشخاص ، وإلا فما هذه الأروقة الكثيرة من أروقة اليمن ، والأتراك ، والجاويين ، والهنود ، إلى غير ذلك.

إن الأزهر يبدو ـ كما يقولون ـ منطويا على نفسه ، ولعمري إن هذه فرية ، متى كان الأزهر منطويا على نفسه؟ الآن ..؟ أم في أعماق التاريخ؟ لا أريد أن أقول : إن محمدا عبده قد ذهب إلى بيروت وأوروبا وغيرهما .. ولكني أريد ضرب مثل برجلين من رجال الأزهر القديم هما الشيخان حسن العطار ، والدرديري ، وذكر ما كان لهما من أثر جليل في محاربة الفرنسيين ، وقيادة الشعب وتأليبه على الغاصب.

أما رجال الأزهر حديثا فهم أكثر من أن يحصوا ، فعلماؤنا اليوم في كل صوب وبلد ، ـ ثم أشار إلى فضيلة الأستاذ عبد المنعم النمر ـ وقال : وهذا مثل قريب منا فضيلة الأستاذ النمر سيذهب إلى الهند في الأيام القليلة المقبلة مبعوثا من الأزهر إليها.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش بالأزهر الشريف فقال : أستطيع أن أحصر كلمتي في سؤالين ثم أجيب عنهما أولا : لم كان الأزهر؟؟ .. ثانيا : ولم كان في مصر وعاش بمصر؟. ثم ذكر أن الدعوة الإسلامية كانت تمتد في أعماق البلاد على ألسنة من يرتحلون من قطر إلى قطر ـ وأن هذا ليس بكاف للتعليم ـ ظلت كذلك مرحلة من الزمن حتى جاء الفاطميون ، وأقاموا الأزهر.

٦٢

ويقول المؤرخون : إن الأزهر ولد لحاجة سياسية وهي الطائفية ، وأعتقد غير هذا. وهبوا أنهم كذلك! فهل قصدوا من إيجاده أن يستأثروا به دون غيرهم ، وأن يستخدموه للقضاء على المذاهب الأخرى؟ هم شيعة ولا شك أنهم مسلمون على أية حال لاشتراكهم معنا في الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا ـ وإن الختلف مذهبهم الفقهي عنا أقول : إن مصر دخلها الإسلام سنة ٢٠ هجرية ، وقبل دخوله كانت مسيحية ، وقبلها كانت يهودية أفلا يجوز في نظر العقل أن يكون قصدهم اكتساح اليهودية والنصرانية بإقامة الأزهر؟. تأكدوا أن الأزهر لو كان موجودا لفكرة خبيثة لفني بفنائهم .. ولكنه بقي وبقي وسيظل بإذن الله باقيا .. ثم بين فضيلته أن الأزهر بقي على رسالته العلمية مع تطوره بتطور الزمن وأنه لم تبعث نهضة وطنية إلا والأزهر باعثها ومتعهدها. وان الأزهر له مكانته العلمية في جميع البلاد ، وما زالت الفتوى ترد إليه من جميع الأقطار لأنه قبلتهم الثانية وأن الأزهر يرسل علماءه إلى البلاد حسب إمكاناته. ثم قال : هم يظلمون الأزهر بقولهم إنه جامد لا يجدد.

وقال فضيلته : إنه لا بد وأن يكون للأزهر أعداء وخصوم لأن هذا شأن كل عظيم ثم اختتم كلمته بقوله : أعلن أن الأزهر كما أنه في ماضيه وأمام العقبات الوكداء لم يتخلف ولم يغلق أبوابه ، ولم يسرح علماءه هو في حاضره كذلك ، وسيظل فاتحا بابه ناشرا كتابه معلما أبناءه.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ كامل محمد حسن وكيل كلية اللغة العربية فبين أن رسالة الأزهر هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن علماء الأزهر لا ينجحون في دعوتهم إلا إذا سلكوا مسلك صاحب الدعوة ، وبين أن هذا المسلك ينحصر في شيئين : الأول : البيان للناس وتعليمهم أمور الدين. والثاني : القوة. وبين فضيلته : أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعامل الأول فكشف الحجب ، وطهر العقيدة حتى آمن الناس عن رغبة ، ولما تخلف عن ذلك قوم حقدا لا عن جهل ، وحسدا لا عن عقيدة ؛ أعطاه الله العامل الثاني

٦٣

ليسعد الناس بالإسلام رغم أنوفهم (والمرء يثاب رغم أنفه).

ثم قال : لقد علق أحد الغيورين على ذلك بقوله : إذا كانت للعلماء قوة التأثير فهم ليسوا بحاجة إلى القوة. وجوابي أن ذلك ممكن لقوم يريدون معرفة الحق ، ولكن قوما عاندوا لا بد لهم من القوة فقد عميت بصائرهم. وليس العلماء مهما بلغوا من قوة التأثير بمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك احتاج الرسول إلى الجهاد ليخرج به المعاندين إلى حكم الإسلام. وقال فضيلته : وأخيرا أعود فأقول : هل أدى الأزهر رسالته؟ الحق أن الأزهريين أدوا نصف رسالتهم التي تتعلق بالبيان ، وعجزوا عن النصف الآخر ، وهو العمل. ثم ذكر أن المسئول عن ذلك هو الاستعمار فإنه وضع العقبات في طريق الأزهر ، وأيضا القوانين التي تحمي الخارجين على الدين.

واختتم فضيلته كلمته بقوله : لا بد من العلاج لنؤدي النصف الآخر ، وإن من حق الأزهر أن يتطلع إلى رجال الثورة في مد يد المساعدة على ذلك ، ويوم أن يتم يكون العلماء كالماء يساق إلى الأرض الجرز فينبتها ويخرج ثمراتها يانعة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ثم تكلم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي فشرح كلمتي «المجتمع» و «الأزهر» فذكر أن المجتمع يطلق على الأسرة والقبيلة والشعب والأمة والعالم ، وأن كلمة «الأزهر» كانت تطلق على الجامع ثم أطلقت على المعهد ثم على الجامعة العلمية ثم على الجامعة العلمية الإسلامية. وقال فضيلته : فهل هذا التطور في كلمتي الأزهر والمجتمع له تطور في التلازم بينهما؟ أرى أن كلمة الأزهر تعني كلمة الإسلام ، فالصلة بين الأزهر والمجتمع هي الصلة بينهما ـ الإسلام والمجتمع ـ ثم تساءل : هل يؤخذ على الأزهر ما يقع في المجتمع من الرقص التوقيعي والأغاني الخسيسة التي تغزو قلوب الشبان والشابات؟ هل يؤخذ عليه الحملات التي توجد في الصحف من صور عارية وقصص مثيرة؟ ليس الأزهر من القوة

٦٤

بحيث يطور هذا المجتمع أو يخلع عليه تلك القوة إلا إذا كان هناك تجاوب بينه وبين المسلمين. ثم ذكر فضيلته : أن الأزهر في العرف التاريخي هو كالمسجد الذي ينشأ قبل المدينة ثم تبنى المدينة بعده ، وضرب أمثلة لذلك بمسجد عمرو بن العاص ومدينة الفسطاط ، وجامع طولون ومدينة القطائع ، والمسجد الأموي ومدينة دمشق .. الخ.

ثم حي فضيلته كثيرا من رجال الأزهر أمثال عز الدين قائد الجيوش ضد التتار ، والشيخ الدرديري وعمر مكرم الذي وقف أمام نابليون ٣٧ يوما ، والشيخ عليش وغيرهم وغيرهم وغيرهم وحي كذلك منبر الأزهر الحر الذي عامت جثث الضحايا حوله في بحر من الدماء.

ثم تساءل مرة أخرى : من الذين يباعدون بين الأزهر والمجتمع؟ أهؤلاء الذين لا يعرفون في هذه الأمة إلا التضليل ، والحديث عن الوجودية؟ أم هؤلاء الذين يلبسون لكل عهد حلة ليأكلوا على كل مائدة؟ أهؤلاء هم الذين يرددون أن الأزهر بعيد عن المجتمع؟؟.

واختتم فضيلته حديثه بقوله : أرجو الله أن يكون الأزهر في هذا الجور الحر ونحن في وقت تتكتل فيه الجهود لمحاربة الاستعمار أن يدفع بالأزهر إلى الرعيل الأول ليدافع عن كل نافع ، وأن تتجه أمم العرب والمسلمين جميعا إلى الإسلام.

ثم تحدث فضيلة الأستاذ عبد المنعم النمر مبعوث الأزهر إلى الهند قائلا : إن الحديث عن الأزهر في الماضي ، وعن تاريخه وجهاده في العلم والدين والاجتماع ، شيء جميل نحب أن نكرره لنعرف الماضي فنصله بالمستقبل. وإننا إذا دافعنا عن الأزهر فلأنه فكرة ، وتاريخ مجيد ، ولأنه دفاع عن الإسلام وكيانه ، وليس معنى هذا أن الأزهر قد بلغ غايته من النضج. ثم ذكر أن الأزهر له روحيته وشخصيته الموجهة ، وله كذلك تربويته وعلمه. أما روحيته ومركزه في العالم الإسلامي فهو أقل مما يجب

٦٥

أن يكون. فنحن نريد أن يكون موجها حاكما بروحيته ونفوذه.

ثم قام الشاعر محمد بدر الدين فألقى قصيدة حرة جريئة بعنوان «الأزهر» مطلعها :

ركع الزمان ببابك استرضاء

وسعى إليك ليقبس الأضواء

والشمس تطوي ليلها في لهفة

لتطوف حولك في النهار ولاء

ثم أجاب بعد ذلك فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي عن أسئلة السامعين وتلا بعدها قرارات المؤتمر وهي :

أولا : إن السهام التي توجه إلى الأزهر محاولة النيل منه أو الغض من شأنه ليست موجهة إلى أبناء الأزهر بقدر ما هي موجهة إلى رسالة الأزهر الكبرى التي تدور حول الإسلام ولغة القرآن.

ثانيا : الأزهر الشريف هو المفخرة الكبرى لمصر العربية الإسلامية ، وكل تعويق للأزهر عن السير في طريقه يعد تعويقا لمصر وإساءة لسمعتها الكريمة بين أبناء البلاد العربية والإسلامية.

ثالثا : من واجب الدولة أن تبسط للأزهر ورجاله الأسباب الموصلة لتحقيق رسالته وليتم التعاون بين ولاة الأمر في الدولة وفي الأزهر ، لبناء الوطن المؤمن السليم في عقائده وأخلاقه وتفكيره.

رابعا : قد يكون من وسائل التمكين للعماء في أداء رسالتهم أن تصدر الدولة تشريعا يقضي بتجنيد بعض الأزهريين المختارين من معسكرات الأزهر التدريبية لتكون مهمتهم أن يقاوموا المنكرات الشائعة في المجتمع بصورة عملية ، ويكون لهم الامتيازات المكفولة لبوليس الآداب ويسمون «الحرس الخلقي الاجتماعي» كما يكون لهم شعار خاص يعرفون به بين الجمهور.

٦٦

خامسا : من واجب الأزهر أن يسارع إلى الأخذ بأسباب الإصلاح الجدي الصحيح حتى يستقيم الركب الأزهري على الطريق الموصل إلى تحقيق رسالته الإسلامية والعربية والقومية.

سادسا : يأمل الأزهر من الدولة أن تفسح أمام الأزهريين مجال العمل في المدارس وفي القضاء وفي الإذاعة وفي كل مجتمع يحتاج إلى دعاة ومرشدين.

رسالة الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين

ـ ١ ـ

هذا المعهد العريق ، والبيت العتيق ، والمنارة الشماء ، لم يعد لمصر وحدها ، ولا للعرب فحسب ، وإنما صار مجدا للعالم الإسلامي كافة ، وأصبح بعد ذلك كله خير مظهر للإسلام ، شريعة الله المنزلة على رسوله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، والتي كان كتابها المطهر هو القرآن الكريم ..

ومصر في انتفاضتها الحاضرة ، ووثبتها الراهنة ، ونهضتها الباهرة ، وفي زعامتها العالم العربي ، وفي قيادتها الروحية للعالم الإسلامي وفي حملها لواء القومية العربية المجيدة ، مصر هذه مدينة للأزهر بديون كثيرة في ماضيها وحاضرها ، وهي مع ذلك كله ـ في ظلال ثورتها الكبرى ـ محتاجة إليه أشد الاحتياج ، لتوطيد منزلتها في العالمين العربي والإسلامي ، وليسهم معها في نشر الثقافة ورسالة الإسلام في ربوع أفريقيا وآسيا ، وليكون الدعامة الأولى للقومية العربية ، ولقيادة مصر الثقافية والروحية لشعوب العروبة والإسلام.

وعند ما نفكر في رسالة الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين ،

٦٧

لا بد أن نفكر أولا في طلاب الأزهر وخريجيه ومدرسيه ، لا بد أن نكفل لهم الطمأنينة والاستقرار في حياتهم ، وأن نفتح أمامهم الأبواب للمستقبل ، وأن نستعين بهم في كل الميادين الثقافية والروحية والإدارية ، حتى يستطيعوا في ظل هذه الرعاية أن ينصرفوا بكل جهودهم إلى أداء رسالة الأزهر العلمية والروحية في كل مكان ولا بد مع ذلك كله أن نفكر في احتياجات الأزهر المالية ، التي تعينه على أداء مهمته على الوجه الأكمل ، والتي تساعد على رفع المستوى العلمي في معاهده وكلياته ، وتعين على خلق نهضة فكرية وروحية في أروقته التي عاشت على مرور الأجيال تكافح في سبيل نشر ثقافة الإسلام وعلومه وآدابه وحضارته في كل مكان.

ـ ٢ ـ

وعند ما نتحدث عن رسالة الأزهر لا نستطيع أن نقول إنها يجب أن تتجه إلى العناية بالدراسات الإسلامية فحسب ، ولا إلى الدعوة إلى الإسلام فحسب ، ولكن يجب أن تبنى هذه الرسالة على أصول هاتين الغايتين الكبيرتين معا ، على أن نلاحظ هذه الحقائق التي قام عليها الأزهر طول عصور التاريخ التي شاهدها :

١ ـ الأزهر رمز للفكر الإسلامي ، لأنه أقدم الجامعات الإسلامية في بلاد المسلمين ، ولأن ماضيه أهله لحمل رسالة الفكر الإسلامي ..

٢ ـ الأزهر جامعة أمم عربية وإسلامية ، ففيه يجلس الطلاب من كل بلاد المسلمين بل من كل شعوب العالم تقريبا ، جنبا إلى جنب ، يتعلمون العلوم الإسلامية والعربية والفلسفية.

٣ ـ الأزهر ليس ملكا لمصر وحدها ، وإنما هو ملك العالم الإسلامي عامة ، ومن ثم يجب أن تسهم الدول الإسلامية في نفقاته ليقوم الأزهر بنشر رسالة الإسلام في كل جهة.

٤ ـ الأزهر ليس في عزلة ثقافية أو فكرية عن المجتمع في مصر ولا

٦٨

في البلاد العربية ، إنه قطعة حية من صميم المجتمع الإسلامي ، وهو مركز ثقافي ضخم ، يسهم في النهوض بالثقافة في مصر خاصة وفي العالم الإسلامي عامة عن طريق بعثاته العلمية التي يوفدها الأزهر إلى الأمم العربية والإسلامية في أفريقيا وآسيا وغيرهما ولا يمكن أن يكون في عزلة وأبناؤه من طلاب وأساتذة هم من مختلف طبقات الوطن على أن التاريخ قد وعى اشتراك الأزهر في كل الثورات القومية والوطنية في مصر خلال تاريخها الطويل ، وعلى أن ثورات التحرر في العالمين العربي والإسلامي إنما كان قادتها ـ في أغلب الأحيان ـ من أبناء الأزهر وخريجيه.

٥ ـ تاريخ الأزهر مرتبط بتاريخ الإسلام ، فلا يمكن أن يقول قائل : إن الأزهر لم تعد له ضرورة : فما دام دين الله باقيا على الأرض ، فإن الأزهر باق بإذن الله لدراسة علوم الإسلام ولنشر هدايته في الأرض جميعا.

ورسالة الأزهر لا بد أن تقوم أولا على خلق وعي فكري إسلامي داخل بيئة الأزهر العلمية ، وهذا الوعي جدير بتكوين شخصية فكرية مستقلة للأزهر أولا ولكل من يتخرج منه ثانيا. ولكي نعاون على خلق هذا الوعي يجب أن نفكر أولا : في مناهج الأزهر التي يسير عليها ، ففي رأيي أنها لم تعد صالحة كل الصلاحية للسير بالثقافة الإسلامية فيه إلى ما يتمناه لها وله المخلصون.

ثانيا : في الدراسات العليا في الأزهر الجامعي : هذه الدراسات التي لم يعد لها وجود في الأزهر ، والتي ترجع بالأزهر من صبغته الجامعية الواسعة النطاق إلى صبغة مدرسية محدودة.

ثالثا : في قوانين الأزهر كلها ، المنظمة له ، والموجهة للثقافة فيه ولا بد من الاستعانة في هذه السبيل بنظم الجامعات ولوائحها في مصر وفي كل مكان ، على ألا يفقد ذلك الأزهر طابعه الإسلامي ، وشخصيته التي عرف بها منذ أجيال بعيدة.

٦٩

ـ ٢ ـ

ورسالة الأزهر يجب أن تتناول كل شيء يتصل بفهم الإسلام ونشر هدايته في الآفاق ، ومن ثم يجب أن يكون من أهم ما تتناوله :

١ ـ خلق جيل جديد متثقف ثقافة واسعة من أبناء الأزهر ، ليستطيع حمل رسالته إلى كل مكان.

٢ ـ عرض الثقافة الإسلامية القديمة في أسلوب جديد ، يلائم أسلوب العصر في الفهم والبحث والدراسة ، وكتابة ونشر بحوث جديدة عميقة عن الإسلام وعلومه وثقافاته.

٣ ـ فتح مراكز ثقافية إسلامية في كل عاصمة من عواصم العالم في الشرق والغرب ، تكون مراكز الدعاية للإسلام عن طريق المحاضرة وعن طريق معاونة المشرقين للمترددين عليها من أبناء الإسلام وغيرهم في البحث والدراسة وعن طريق طبع رسائل للتعريف بالإسلام تقوم هذه المراكز بتوزيعها على الجامعات وعلى المفكرين والعلماء والمهتمين بالبحوث الإسلامية ، وسوى ذلك من الطرق .. وتكون هذه المراكز بمثابة مأوى للمبعوثين من الأزهر إلى مختلف هذه الجهات ، على أن تزود بجميع المصادر والكتب الإسلامية ، وبشتى الأجهزة اللازمة لها ...

٤ ـ العمل بكل وسيلة على وحدة المسلمين الفكرية والروحية والدينية ليكون ذلك معينا على إمكان قيام وحدة سياسية بينهم في المستقبل.

٥ ـ الاتصال بشتى المفكرين في مصر والعالم ليكونوا بمثابة أصدقاء وأنصار للأزهر ولرسالته ، بشتى طرق هذا الاتصال.

٦ ـ الإشراف على التعليم الديني وعلى الهيئات الدينية جميعها في مصر ، والعمل على توجيه الجماعات الإسلامية في مصر وفي كل مكان توجيها صالحا.

٧٠

٧ ـ إرسال بعثات أزهرية إلى كل مكان في العالم بقصد دراسة أحوال المسلمين وتفهم كل ما يحيط بهم من مشكلات ، للعمل على معاونتهم في حلها ، وخاصة في الجانب الروحي.

٨ ـ الإشراف على ترجمة القرآن الكريم إلى الانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية ، وعلى ترجمة طائفة مختارة من الحديث النبوي كذلك إلى هذه اللغات.

٩ ـ إقامة مواسم ثقافية على نمط عال في «قاعة محاضرات الأزهر» يتحدث فيها كبار علماء الأزهر وكبار المهتمين بالدراسات الإسلامية من غير الأزهريين.

١٠ ـ التفكير حاليا في الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر (١) ، ليمكن عن هذا السبيل ربط الأزهر من جديد بشتى جامعات العالم ، على أن يمهد لذلك بطبع مائة مؤلف من خير ما ألف الأزهريون في القديم والحديث لتوزيعها على الجامعات المختلفة وممثليها ، وبطبع رسالة عن تاريخ الأزهر تترجم إلى شتى اللغات.

__________________

(١) احتفل فعلا بهذا العيد بعد كتابة المؤلف لهذا الكتاب القيم.

٧١
٧٢

الباب الثامن

آراء للأزهر في مشكلاتنا الفكريّة

ـ ١ ـ

أصدر الاستاذ علي عبد الرازق العالم الأزهري ، والقاضي الشرعي ، عام ١٩٢٥ كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ، وكان على رأس الوزارة في ذلك الحين زيور باشا يسنده حزب الأحرار الدستوريين برئاسة عبد العزيز فهمي باشا وحزب الاتحاد برئاسة يحيى باشا إبراهيم .. وكان الوفد في المعارضة برئاسة سعد.

وقد أثار الكتاب معركة اشترك فيها كل صاحب رأي أو قلم .. وقبل أن نعرض الصراع الذي دار حول هذا الكتاب نوضح فكرته الأساسية التي ذهب إليها المؤلف ... وفكرته هي : أن الإسلام لم يقرر نظاما معينا للحكومة ، ولم يفرض على المسلمين نظاما خاصا يجب أن يحكموا بمقتضاه. بل ترك لنا مطلق الحرية في أن ننظم الدولة طبقا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي توجد فيها ، مع مراعاة تطورنا الاجتماعي ومقتضيات الزمن. وأن الإسلام بريء من نظام الخلافة ، والأدواء التي عصفت به. فإن الخلافة شلت كل تطور في شكل الحكومة عند المسلمين نحو النظم الحرة ، خصوصا بسبب العسف الذي أنزله بعض الخلفاء بتقدم العلوم السياسية والاجتماعية ، إذ صاغوها في قالب يتفق مع مصالحهم.

٧٣

وقد أثار الكتاب ضجة كبرى في محيط الأحزاب والشعب ورجال الأزهر ، فجمع شيخ الأزهر الشيخ أبو الفضل الجيزاوي هيئة كبار العلماء وقررت أن ما في الكتاب من آراء هي كفر وإلحاد وخروج على الدين ، كما قررت استدعاء الشيخ علي عبد الرازق ـ باعتباره من العلماء لمحاكمته ، عن تهم سبع وجهتها إليه ، وانعقدت الجلسة في ٥ أغسطس سنة ١٩٢٥. وجلس العلماء على مائدة كبيرة ، واستدعى الشيخ علي عبد الرازق ، فدخل الحجرة ، وأشار إليه شيخ الأزهر بالجلوس.

ودفع المؤلف دفعا فرعيا ، هو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية وطلب من الهيئة أن لا تعتبر حضوره أمامها اعترافا منه بأن لها حقا قانونيا في محاكمته.

وفي ٢٥ أغسطس ، أصدرت هيئة العلماء حكمها ، «بتجريد الشيخ علي عبد الرازق من العالمية ، لأنه أتى بأمور تخالف الدين والقرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة!. وقد تساءلت «الأخبار» عن موقف عبد العزيز فهمي وحزبه بعد أن أحرجته جريدته بدفاعها عن الكتاب. وأما «السياسة» فقد نشرت كلمة الشيخ علي عبد الرازق يقول فيها : «لا جرم أننا تقبلنا مسرورين إخراجنا من زمرة العلماء ، وقلنا كما يقول القوم الذين إذا خلصوا من الأذى قالوا «الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا» .. ومن هذا اليوم ، هجر علي عبد الرازق ملابس الشيوخ ، وأصبح «أفنديا»! ..

أيه أيها الطريد من الأزهر ، تعالى إلى نتحدث عن هذه القصة المضحكة ، قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر. ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتمزيق ، فقد كان يلذ لنا أن نرى نسخه في صحن الأزهر أو أمام «باب المزينين» أو في ناحية من هذه الأنحاء التي لا يأتيها الباطل ولا يصل إليها المنكر ، ولا يسعى إليها إلا الأخيار والأبرار

٧٤

ثم تضرم فيها النار.! دعنا نتحدث في حرية ولا تكن أزهريا ، فقد أخرجت من الأزهر!.

ـ ٢ ـ

وجاء في قرار هيئة كبار العلماء في محاكمته :

من حيث أن الشيخ عليا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا فقد قال في ص ٨٧ و ٧٩ والدنيا من أولها لآخرها وجمع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول وحبانا من عواطف وشهوات وعلمنا من أسماء ومسميات هي أعون عند الله من أن يبعث لها رسولا وأهون عند رجل الله من أن يشغلوا بها وينصبوا لتدبيرها» ، وقال في ص ٨٥ أن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وأوضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت لتنظيم العلاقة بين الانسان وربه فقط أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية وتدبير الشئون العامة فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها. وهل فيه استطاعة الشيخ على يشطر الدين الإسلامي شطرين يلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط؟ وما ذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ، وقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) وقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها). وما ذا يعمل الشيخ علي في ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن ابنة النضر أخت

٧٥

الربيع لطمت جارية فكسر سنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص. فقالت أم الربيع يا رسول الله أنقص من فلانة؟ لا والله. فسبحان الله. يا أم الربيع كتاب الله القصاص ومثل ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وما رواه أيضا عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق اذرع ـ وما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعي عليه وما رواه أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.

ومن حيث أنه زعم الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين. فقد قال في ص ٥٣ «وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله» .. ثم قال في ص ٥٣ «وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك ، فالشيخ علي في كلامه هذا يقطع بأن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين ، وفي كلامه يزعم أن الدين لا يمنع من أن جهاده كان في سبيل الملك فعلم من كلامه هذا أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين وهذا أقل ما يؤخذ عليه في مجموعة نصوصه. على أنه لم يقف عند هذا الحد بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك ومن الشئون الملكية جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم ونحو ذلك في سبيل الملك أيضا وجعل كل ذلك على هذا خارجا على حدود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل به وحي ولم يأمر به الله تعالى.

ومن حيث أنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع

٧٦

غموض أو إبهام أو اضطراب ونقض ، وموجبا للحيرة فقد قال في ص ٤٠ «لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم غامضة ومبهمة من كل جانب».

وإذا كان قد اعترف ببعض أنظمة الحكم في الشريعة الإسلامية فإنه نقض الاعتراف وقرر أن هذه الأنظمة ملحقة بالعدم.

وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم.

ومن حيث أنه زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ ، فقد قال الشيخ علي في ص ٧١ : «ظواهر القرآن المجيد تؤيد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له شأن في الملك السياسي وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان. ثم عاد فأكد ذلك فقال ص ٧٣ «القرآن كما رأيت صريح في أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس وأنه لم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه .. ولو كان الأمر كما زعم هو كان ذلك رفضا لجميع آيات الأحكام الكثيرة في القرآن الكريم. ودون ذلك خرط القتاد.

وقد قال الشيخ علي في دفاعه : «إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة لا موارية فيها أن للنبي صلى الله عليه وسلم سلطانا عاما وأنه ناضل في سبيل الدعوة بلسانه وسنانه. وهذا دفاع لا يجدي إذ لو كان معنى الذي قرره في ص ٦٦ و ٧٠ كما أشار إليه أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السماوي يتجاوز حدود البلاغ المجرد عن كل معاني السلطان لما كان سائغا أن يقول بعد ذلك في صفحة ٧١ إن آيات الكتاب متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان ، وأن يقول بعد ذلك في صفحة ٧٣ «إن القرآن صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه شيء غير بلاغ رسالة الله إلى الناس ولم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه. والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو

٧٧

السلطان الروحي. كما صرح به في مذكرة دفاعه حيث قال فيها : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستولي على كل ذلك السلطان لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن الملوك والحكام ولكن من طريق الإيمان له إيمانا قلبيا والخضوع له خضوعا روحيا» ، لكان دفاعه إثباتا للتهمة لا نفيا لها ، على أنه قد نسب في ص ٦٥ و ٦٦ السلطان إلى عوامل أخرى من نحو الكمال الخلقي والتمييز الاجتماعي لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم ، كما أنه جعل الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة ولم ينسبه إلى وحي له ، وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه ويثبت أن مهمته صلى الله عليه وسلم تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم والتنفيذ فقد قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وقال تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

وروى عن ابن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال اضربوه. وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت وقالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترىء عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أتشفع في حد من من حدود الله. ثم قام فخطب فقال : يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وإيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد صلى الله عليه وسلم إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان وأنه لم يكلف أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه؟

وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم أنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس وليس عليه أن يأخذ

٧٨

الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه.

ومن حيث أنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا فقد قال في ص ٢٢ «أما دعوى الإجماع في هذه المسألة ـ وجوب نصب الإمام ـ فلا تجد مساغا لقبولها بأية حال ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل ، على أننا مثبتون لك أن دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة سواء أرادوا بها إجماع الصحابة وحدهم أم الصحابة والتابعين أم علماء المسلمين أم المسلمين كلهم». ادعى الشيخ علي أن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي كان سيئا على الرغم من توافر الدواعي التي حمل على البحث فيها ، وأهمها إن مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان عرضة للخارجين عليه ، غير ان حركة المعارضة كانت تضعف وتقوي ، ثم ساق بعد أمثلة يؤيد بها ما يدعيه من أن الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا ولو سلم للشيخ علي ذلك جدلا لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب إمام للمسلمين. فإن إجماعهم على ذلك شيء وإجماعهم بيعة إمام معين شيء آخر واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على وجوب نصب الإمام ، أي إمام كان. وقد ثبت إجماع المسلمين على امتناع خلو الوقت من إمام. ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار.

ومن حيث أنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية فقد قال في ص ١٠٣ «والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة ، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها فهو لم يعرفها ، ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها ، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة». وكلام الشيخ علي في دفاعه يقضي بأن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا عن الخلافة فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.

٧٩

وقال الشيخ علي في دفاعه : «إن الذي أنكر أنه خطة شرعية إنما هو جعل القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة واتخاذه مقاما ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة».

وما زعمه الشيخ علي من إنكار أن القضاء وظيفة شرعية وخطة دينية باطل ومصادم لآيات الكتاب العزيز ، قال الله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقال تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).

ومن حيث أنه يزعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا دينية فقد قال في ص ٩ : «طبيعي معقول إلى درجة البداهة ألا توجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم زعامة دينية. وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين ، هو إذا نوع لا ديني». وهذه جرأة لا دينية فإن الطبيعي والمعقول عند المسلمين إلى درجة البداهة أن زعامة أبي بكر رضي الله عنه كانت دينية يعرف ذلك المسلمون سلفهم وخلفهم جيلا بعد جيل.

ومن حيث أن التهمة الموجهة ضد الشيخ علي عبد الرازق ثابتة عليه وهي مما لا يناسب وصف العالمية وفاقا للمادة (١٠١) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ ، فبناء على هذه الأسباب حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالما معنا من هيئة كبار العلماء باخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» من زمرة العلماء.

٨٠