الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي

فقدت مصر والعالم الإسلامي في مارس ١٩٦٩ عالما من أجل علماء الأزهر .. هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي عضو جماعة كبار العلماء ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر ، انتقل للرفيق الأعلى عن ٧٣ عاما .. قضاها في سبيل نشر لواء العلم والدين .. كان آخر من تولى منصب شيخ مذهب الحنابلة بالأزهر .. وآخر بحوثه التي أعدها بحثا من المقدس وبحثا عن الجهاد في سبيل الله .. وآخر كتاب ـ ما زال تحت الطبع ـ هو كتاب الوحي ويقع في ٣٠٠ صفحة وسيصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، وكان قد أتمه قبل وفاته بساعات.

تخرج الشيخ السبكي في الأزهر الشريف عام ١٩٢٥ وعين فور تخرجه مدرسا بمعهد الزقازيق الديني ، ثم نقل أستاذا بكلية الشريعة عام ١٩٣٥.

وفي نفس العام عين عضوا بلجنة الفتوى حين كان الإمام الراحل الشيخ المراغي شيخا للأزهر وتولى رئاسة اللجنة منذ خمس سنوات .. واختير مفتشا عاما للعلوم الدينية والعربية بالأزهر سنة ١٩٤٧ ، وفي عام ١٩٥١ عاد إلى منصبه أستاذا بكلية الشريعة وظل بها حتى أحيل للمعاش عام ١٩٥٩ ، وقضى ٤٤ عاما في خدمة العلم والدين ، وجند نفسه لتفسير الدين كما أنزله الله.

٤٠١

اتسع نشاط لجنة الفتوى في عهده وأصبحت تتلقى الفتاوى وترد عليهم .. وكان للشيخ السبكي مكانة في مقدمة العلماء الدارسين في علوم الدين واللغة .. وعين شيخا لمذهب الحنابلة بالأزهر وهو آخر من تولى هذا المنصب وفي عام ١٩٥٤ عين مديرا لمجلة الأزهر وعضوا في جماعة نشر الثقافة بالأزهر.

وفي السنوات الأخيرة عين رئيسا للجنة إحياء التراث الإسلامي والعربي وعضوا بلجنتي الخبراء وموسوعة عبد الناصر للفقه الإسلامي بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

وقبيل وفاته بأيام راجع فيلما تليفزيونيا عن الإسلام سجله تليفزيون النمسا وأعد مادته العلمية فضيلة الشيخ عبد الحكيم سرور مدير الشئون العامة بالأزهر. وشاهد الشيخ السبكي ـ رحمه الله ـ الفيلم في عرض خاص وأشاد بجودته ، وسيترجم الفيلم إلى مختلف اللغات ، ويعرض في أنحاء العالم.

ترك سجلا حافلا من التراث الإسلامي .. في مقدمته كتب نغمات القرآن ، ورياض القرآن ، وفي ظلال الكعبة والهجرة النبوية ، كما ترك عددا كبيرا من المقالات في منبر الإسلام ولواء الإسلام والوعي الإسلامي ومجلة الأزهر والشبان المسلمين ، والعديد من الأحاديث المسجلة بالتليفزيون والإذاعة .. في برامج نور على نور ، ورحاب الإيمان ، ورأي الدين.

وأبناؤه هم المهندس حباب المعيد بهندسة جامعة الأزهر والدكتور عادل بالقصر العيني وهاني ووفاء بطب قصر العيني جامعة القاهرة.

لقد عاش الشيخ السبكي عالما ومعلما وسيظل مثلا أعلى يذكره بنوه وتلاميذه وعارفو فضله ـ بالتقدير والوفاء ـ في أرجاء العالم الإسلامي ..

٤٠٢

ما ذا حدث؟

في ١٤ اغسطس عام ١٨٥٩ .. ما ذا حدث؟ :

استنكر رجال الأزهر الأمر الصادر بالسماح بإقامة «الحانات» بالقاهرة وكتبوا عريضة ضمنوها استنكارهم ورفعوها إلى جناب الباب العالي .. وجاء بالعريضة أن عدد الحانات بالقاهرة بلغ ١٢ حانة مما ينذر بالخطر الوبيل على سمعة الدين.

٤٠٣
٤٠٤

نشاط أزهري

عن نشاط الدعاة الأزهريين نشرت مجلة ليبيا الحديثة في عددها الصادر في ١ / ٤ / ١٩٦٩ حوارا بينها وبين رئيس المركز الإسلامي في بريطانيا الشيخ محمد إبراهيم الجيوشي ـ الدكتور فيما بعد ـ جاء فيه :

بدأت معه الحديث عن موضوع رسالة الدكتوراه التي يعد لها في جامعة لندن .. موضوع شيق وجديد لم يطرقه أحد من قبل ، هو البحث عن آثار مفكر إسلامي متصوف كان له أثر بعيد في الفكر الإسلامي وخاصة في التصوف .. وله بذلك منهج انصرف به عن كل شيوخ التصوف .. فمن المعروف أن شيوخ الصوفية يعتمدون في نقل أفكارهم وآرائهم على تلاميذهم ومريديهم ثم ينقلها هؤلاء إلى أتباعهم وهكذا .. إلا أن الشيخ الحكيم الترمذي ـ موضوع البحث ـ لم يسلك هذا المسلك بل وضع أفكاره وآراءه في كتب ورسائل بلغت أكثر من سنتين كتابا لا يزال معظمها مخطوطا ولم يطبع منها إلا حوالي أربعة كتب .. وشعرت بأن الشيخ محمد إبراهيم الجيوشي المدير المساعد للمركز الإسلامي بلندن سيغوص في أعماق هذه الكتب وتلك الدراسات الصوفية .. وأنا لا أزال أشعر بغمرة السعادة بعد أن أديت صلاة العيد في المركز الإسلامي بلندن الذي يتجمع فيه أكثر من عشرة آلاف مسلم ومسلمة في مثل هذه المناسبات فيمثلون أروع صورة لتجمع

٤٠٥

المسلمين على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم .. تراهم من الهند وباكستان وأفغانستان والملايو إلى آخر قطر عربي وكأنهم في حج صغير ..

ـ قلت لفضيلة الشيخ الجيوشي ما هي قصة المركز الإسلامي بلندن ..

فكرت انجلترا خلال الحرب العالمية الثانية أن تقوم بعمل تربط به أواصر الصلة بينها وبين العالم الإسلامي فقامت بتقديم هذا المركز إلى الحكومة المصرية في ذلك الوقت ليبني عليه مسجد للمسلمين .. وفي نظير ذلك قدمت الحكومة المصرية للجالية البريطانية في القاهرة قطعة أرض لتقام عليها كنيسة لهم .. بنيت الكنيسة عام ١٩٤٥ ولم يبن المسجد حتى الآن .. اعترضت بلدية لندن على المئذنة في بادىء الأمر ثم على شكل البناء بحجة أنه لا يتناسب مع الأبنية المجاورة بعد أن حذفنا من نموذج البناء الأول المئذنة ولا تزال القضية معلقة حتى الآن!.

ـ ما هو عدد المسلمين في بريطانيا ومراكز تجمعهم ونشاطهم؟ ..

اعتقد أن عددهم يبلغ حوالي مليون أو أكثر منهم سبعون ألفا في مدينة لندن والباقي موزع في كل أنحاء الجزر البريطانية وأغلب المسلمين من الهند والباكستان حيث يشكلون ٩٥ بالمائة من الجالية الإسلامية واليمنيون من أكثر المسلمين العرب واذكر أنه كان يتزعمهم في مدينة كارديف رجل متدين هو الشيخ عبد الله الحكيم وكان له نشاط ديني واسع حتى أنه أصدر صحيفة عربية ومطبعة عربية طبعت له العديد من المؤلفات ثم توقفت الجريدة عن الصدور بعد وفاة هذا الرجل الذي بنى مسجدا في مدينة كارديف يسمى مسجد نور الإسلام.

ـ ما هو نشاط المركز الإسلامي هنا؟ ..

ينقسم نشاطنا إلى ثلاثة أقسام رئيسية.

٤٠٦

١ ـ قسم ديني

٢ ـ قسم ثقافي

٣ ـ قسم اجتماعي.

القسم الديني ـ يتمثل في إقامة الصلوات وخاصة صلاة الجمعة التي يحضرها حوالي خمسمائة رجل وتلقى الخطبة باللغتين العربية والانجليزية ويبدو هذا النشاط ملحوظا في شهر رمضان المبارك حيث تقام صلاة التراويح كل ليلة وإلى جانب ذلك الاحتفال بالمناسبات الرسمية كالعيد النبوي الشريف ، والهجرة وغزوة بدر وفتح مكة المكرمة وليلة القدر وليلة الاسراء. الخ. وفي كل ذلك نحرص على ربط المسلمين ببعضهم وربط هذه الأحداث بتاريخنا المعاصر .. وفي الأعياد تجمع الزكاة وتوزع على المحتاجين إن وجدوا ولكن الذي اتبع في العيد الماضي أن الجانب الأكبر منها صرف للمنظمات الفدائية وفكرنا أن نصرف الجانب الآخر لهذه المنظمات أيضا لأنه في نظرنا أحق الوجوه إلا أن مجلس المركز الأعلى رأى أن يأخذ رأي مشيخة الأزهر في هذا.

القسم الثقافي ـ يتلخص في تعليم اللغة العربية لمن يرغب من المسلمين .. وعندنا في المركز الإسلامي فصل لتدريس اللغة العربية مرتين كل أسبوع والدراسة فيه مجانية للجميع وهناك فصل آخر لتعليم تلاوة القرآن الكريم تلاوة صحيحة .. بجانب هذا توجد محاضرات شهرية ينظمها المركز يوم السبت الأخير من كل شهر عن موضوع إسلامي يلقيه أحد المحاضرين ثم يتبعه مناسبة عامة .. وهناك نقطة مهمة هي أن كثيرا من الكنائس والمدارس والكليات والنوادي والجمعيات المختلفة في بريطانيا تطلب منا محدثين يحدثونهم عن الإسلام فنبعث إليهم بمتحدثين يجيدون اللغة الإنجليزية ولهم اطلاع واسع بالثقافة الإسلامية ولم تكن هذه الظاهرة موجودة من قبل بهذه الصورة التي تزداد يوما بعد يوم فالناس في شوق لمعرفة حقيقة الإسلام. وهناك أيضا مجلة يصدرها المركز باللغة الإنجليزية مرة كل ثلاثة

٤٠٧

أشهر فيها أبحاث تتعلق بالفكر الإسلامي العربي ..

القسم الاجتماعي ـ ونشاطه واسع يشمل عقود الزواج واعتناق الدين الإسلامي ومشاكل المسلمين ومعظمها نابع من البيئة التي يعيشون فيها والتي تخالف بيئتهم الأصلية كالطعام والشراب ومعاملة الناس وتربية أطفالهم تربية إسلامية في مجتمع اضطروا لأسباب مختلفة أن يعيشوا فيه .. وكثيرا ما تتصل بنا المستشفيات وتبلغنا بأن مريضا أو مريضة مسلمة ترفض أن تأكل أكلة معينة فنذهب إلى المستشفى ونوضح لهم ما ينبغي عدم أكله والواقع أنهم يستجيبون لمثل هذه التعاليم .. كذلك فإننا نقوم بزيارة بعض السجناء المسلمين ونبين لإدارة السجن أوقات الصلاة وما هو محرم على المسلم أكله أو ما شابه ذلك ويشكروننا على ذلك .. وبصورة عامة فإن هذا القسم بالإضافة إلى كل ذلك ينظم الصلة بيننا وبين الجاليات الإسلامية في الجزر البريطانية ..

٤٠٨

المرأة في الأزهر

التحقت فاطمة الحلفاوية من بلدة «الكمايشة» مركز تلا منوفية قد التحقت بالأزهر في سنة ١٣٠٢ ه‍.

وقطعت في معهد طنطا مراحل التعليم كلها ـ ولما حاولت الحصول على الشهادة «العالمية» أخفقت في الامتحان أمام لجنة كان رئيسها المرحوم الشيخ دسوقي العربي «طه حسين حين أراد الحصول على العالمية».

وفي سنة ١٣٠٤ ه‍ انتسبت بمعهد طنطا السيدة «فاطمة الغنامية» وهي من مدينة طنطا ، وفي نفس العام التحقت سيدة أخرى اسمها فاطمة «العوضية» من بلدة طمبول الكبرى مركز السنبلاوين وجاء ذلك كله في سجلات الأزهر الشريف.

٤٠٩
٤١٠

عميد الأدب العربي في الأزهر

دخل الدكتور طه حسين الأزهر يوم الاثنين.؟ ١٢ أكتوبر بعد غياب طال ٣٧ عاما دخل يتكلم اللغة الفرنسية ويقدم لشيخ الأزهر مستر رودلف سالات مدير الشئون الثقافية بهيئة اليونسكو. ويسترجع مع الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر ذكريات الماضي القريب والبعيد.

وقبل أن يغادر طه حسين المعهد الذي تلقى فيه دروسه الأولى قال له شيخ الأزهر!.

ـ إن عليك حقا للأزهر .. إن خدمته واجبة عليك لقد وضع الأزهر أساس حياتك العلمية وحان الأوان لترد الدين.

لقد دام اللقاء ساعة جرى خلالها حديث في الدين والعلم. والذكريات .. ولم يحضر هذا الحديث سوى صحفي واحد هو حنفي عاشور سكرتير عام التحرير بالجمهورية.

قال الدكتور طه حسين للأستاذ الأكبر : «إنني أحب زيارة الأحرار والارتباط بهم وأقصد من الحرية ، حرية الفكر وحرية المعرفة ، الحرية الموصلة إلى السمو في الهدف والنبل في الغاية والتي تحقق آمال الناس جميعا فيما يهدفون إليه ، أملا يبنى ولا يهدم ، ويعلي ويرفع ولا يخفض.

٤١١

جئت في صحبة المستر رادولف سالات ليقدم إليكم تحية هيئة اليونسكو جميعا مقدرين لكم جهودكم في إثارة الوعي الديني المنظم الذي يجمع ولا يفرق ، وإنه ليقدر هو والهيئة أن الأزهر أقدم جامعات العالم وهو مصدر من مصادر الإشعاع العالمي فهو جدير بالتقدير ولذا رأى أنه من الواجب عليه أن يزور الأزهر جميعا ممثلا في شخصكم».

وقال الأستاذ الأكبر للدكتور طه حسين : إننا نضع يدنا في يدك وفي يد كل محب لإعلاء شأن العقل الإنساني حتى نتمكن جميعا بيد واحدة ، وتماسك واحد ، أن نخوض غمار الحياة الحرة الرتيبة ، وأنا أعتقد أن أول من يقدر الأزهر ويقدر جهاده إنما هو هيئة اليونسكو ونعتقد أيضا أن توجيه العالم إلى الخير إنما هو إلى الأزهر .. إلى كل هيئة تنشد العلم وتسعى إلى المعرفة ومن بينها هيئة اليونسكو ، وذلك مما يركز الأمن والاستقرار في ربوع العالم ويمنع من وقوع مثل هذه المذابح الدامية التي تقع دائما صراعا بين الحق والباطل وبين الحرية والاستعباد وأنا أرى أنه لا يصح أن تقف الهيئات العالمية على حد البحث العلمي الجامد ، وإنما يجب عليها أن تعمل دائما لتوطيد أركان الأمن وتركيز السلام ، فإنه لا يجوز أن نستخدم النعم التي أنعم الله بها علينا من عقول مفكرة وآراء سديدة وقوة في الإدراك ، لا يجوز أن نستغل هذه أو نوجهها إلى الشر وإلى إثارة الخواطر وتحطيم القوى ، وذلك كله إنما يكون عن طريق التعارف الذي يبعث على الحب والتآلف فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ...

ثم التفت الأستاذ الأكبر إلى الدكتور طه حسين وقال :

لعلكم تذكرون يا أخي الدكتور أن الأزهر خطا خطوة واسعة في سبيل التقريب بين المذاهب جميعا ، خطا هذه الخطوة حتى في التقريب بين أهل السنة والشيعة ، وكلية الشريعة الآن تدرس الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة وبين غيرها من المذاهب الأخرى ، وأنا حريص على أن يعرف

٤١٢

الطلاب ويدرك العلماء الأصول ويقدروا المراجع ، وأنا شخصيا أرى ذلك .. أي ليس في الدين ما يلزم بمذهب معين ، فكل الأئمة صح عنهم «إذا صح الحديث فهو مذهبي» وأنا حريص على أن يكون مرجعنا الكتاب والسنة نستقى منهما ونأخذ عنهما وننهل من منهلهما العذب ، على أن كل ما يخالف هذا الأصل ويخالف الكتاب والسنة نرده ولا نقبله ، وأبو حنيفة يا دكتور يقول : إن من لم يعرف من أين أتينا برأينا لا يصح أن يقلدنا ، ولقد سمعنا في أوقات كثيرة أن ابن تيمية ضال مضل ونفر المرجفون الناس من مذهبه ولكن تكشف لهم الأمر فعرفوا أنه هاد ومهد.

ثم تطرق الحديث إلى الذكريات .. فسأل الأستاذ الأكبر الدكتور طه حسين : أتذكر يا دكتور الموضوع الذي أسقطوك فيه في الشهادة العالمية؟

فأجاب الدكتور طه : نعم ، أنه المطلق والمقيد.

ثم سأله الأستاذ الأكبر : كم سنة قضيتها في الأزهر؟

قال الدكتور طه : أنا دخلت الأزهر سنة ١٩٠٢ ، وتركته سنة ١٩١٢ ، وبقيت فيه عشر سنوات ، أنا أحب الأزهر وأؤمن بأنه المشعل القوي والقوي جدا الذي ينير للعالم الطريق المستقيم ، وأحب فيه العلم والمعرفة وأكره التزمت ، أنا أذكر يا فضيلة الشيخ يوم إن كنت طالبا وكان معي ثلاثة من الزملاء وكنت أحضر النحو على الشيخ أبو النجا وكنت حريصا على النقاش العلمي ولكن ذلك الشيخ لم يعجبه ذلك وكأنني قد أفرطت في النقاش فطردنا من الدرس وأقسم ألا يدرس ونحن في الفصل فامتثلنا وتركناه ورحنا نحضر على الشيخ عبد المعطي الشرشيمي في زاوية العميان ، وكان ما كان ..

ثم عاد الدكتور حسين بالذكريات إلى الماضي البعيد فقال موجها حديثه إلى الأستاذ الأكبر : أتذكر فضيلتكم يوم أن جلسنا سويا أنا وفضيلتكم والأستاذ علي عبد الرازق وأخذنا نبحث فيما يجب علينا أن نقدمه لخدمة

٤١٣

الشريعة الإسلامية وللعقل البشري فاتفقنا يوم ذاك على أن يكتب الأستاذ علي عبد الرازق في العقيدة وتكتبون في الشريعة وأكتب أنا في تاريخ التشريع؟.

فرد الأستاذ الأكبر وقال : إنه لمن حسن الحظ أن تجيئوا اليوم وقد انتهت المطبعة من طبع كتابي في العقيدة والشريعة تحت عنوان «الإسلام عقيدة وشريعة».

فقال الدكتور طه حسين : وقد كتبت أنا أيضا في قسم التاريخ كتابا باسم «مرآة الإسلام» ولا زلنا في انتظار ما يكتبه الأستاذ علي عبد الرازق.

مضى من الوقت نصف ساعة والمسترسلات والدكتور تقي والأستاذ عبد الحكيم سرور وأنا نستمع في سعادة إلى الحديث الذي يدور بين الرجلين الفاضلين ثم قال المستر سالات ـ باللغة الفرنسية طبعا ـ وقام بالترجمة الدكتور طه حسين .. قال للأستاذ : إنني لأستحيى أن أذكر النسبة بين عمر اليونسكو وعمر الأزهر المديد وبين عملها وعمل الأزهر المجيد ، واليونسكو وإن كانت مؤلفة من جميع دول العالم فإنني أعتقد أن قدرتها على نشر السلام في الأرض أقل بكثير من الأزهر ولكننا نطمع في الكثير من الأزهر وخاصة في عهدكم الذي يؤمن المصلحون برسالتكم فيه ،

ثم قال الأستاذ الأكبر موجها كلامه للدكتور طه حسين : إن عليك حقا للأزهر وهذا الحق كذلك على كل من تتلمذ في الأزهر وأخذ من الأزهريين ، وإذن فخدمة الأزهر ـ إن شاء الله ـ سيصل بمعونة الله ومعونة لإخواني المصلحين إلى جمع كلمة المسلمين ورجال الإنسانية على كلمة واحدة وهدف واحد.

قال الأستاذ الأكبر : إن الجمهورية العربية معنية كل العناية بأمر هذه البعوث ومظهر ذلك إقامة هذه المدينة التي تتكون من إحدى وأربعين عمارة

٤١٤

ضمت خمسين جنسية من مختلف الجنسيات الإسلامية ليتفقهوا في دينهم ويتعرفوا إلى نواحي الاجتماع والتعاون والديمقراطية الصحيحة في إسلامهم ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، وليكونوا رسائل حية لجمهوريتنا يربطون بيننا وبين إخواننا في جميع الدول وهؤلاء يعد لهم الآن منهاج دراسي يتفق وطبيعتهم ويحقق الرباط بيننا وبين دولهم ويساعدنا ويساعدهم على تحقيق رسالة الإسلام ، ولقد وفد إلى الأزهر في هذه الآونة أحد المسلمين الأمريكان ليدرس في الأزهر ، وقد أمرت له بمنحة شهرية. أدعو الله لهذا ولغيره أن يكون جهاده وتعلمه في سبيل العلم .. في سبيل الربط الحر المتين بين دول الأرض بما ينشر السلام ويحققه.

ثم استطرد الأستاذ الأكبر قائلا : إن مشيخة الأزهر تدعوك يا دكتور طه والمستر سالات والدكتور تقي ، تدعوكم من الآن لزيارة هذه المدينة المعدة على أحدث النظم في العالم ..

ثم سأل المستر سالات : لما ذا لا تترجمون كتب فضيلتكم إلى اللغات الأخرى؟

فأجاب الأستاذ الأكبر : إنني أعدكم بترجمتها ..

فتدخل الدكتور طه حسين في الحديث وقال : إنني أتمنى لو ترجمت إلى الأسبانية واذكر بهذه المناسبة أنني عند ما كنت وزيرا للمعارف أرسلت بعثة إلى اسبانيا فاشترك الأزهر بواحد وكنت أود أن لو انتفع به الأزهر وهو الآن أستاذا في كلية دار العلوم.

وبعد ساعة .. انتهى حديث شيخ الأزهر وطه حسين والمستر سالات .. انتهى حديثهم عن حرية الفكر .. الحرية التي توصل إلى السمو في الهدف وتحقق آمال الناس جميعا فيما يهدفون إليه .. الحرية التي تأبى توجيه العلم إلى الشر وتحطيم القوى .. الحرية التي تهدف إلى التعارف الحر على أساس العلم لا على أساس السياسة ..

٤١٥

وانصرف الضيوف الثلاثة .. وأحسست بأنهم خرجوا بشيء جديد عن الأزهر .. أقدم جامعات لعالم واحد المصادر الكبرى للإشعاع العالمي .. كانوا يسيرون إلى الباب الخارجي وكأنهم يحاولون الخطو إلى الوراء .. ليتحدثوا من جديد .. عن حرية الفكر .. وحرية المعرفة.

٤١٦

محمد عبد المنعم خفاجي (١)

ـ أديبا ـ

ـ ١ ـ

عالم يخطو إلى السبعين ، في صدره عزيمة الشباب ، وعلى ظهره أعباء سنين طوال ، قضاها مجاهدا مكافحا في سبيل خدمة الثقافة والأدب ، وعلى تجاعيد وجهه تلوح سمات المحتد وعراقة الأصل وطيبة النفس والتصميم على مواصلة الكفاح في رحلة شاقة إلى المجد ، والإعتماد على النفس دون محاولة للاستعانة بجاه أحد أو بنفوذه.

ومن وراء ذلك كله مؤلفات ينوء بحملها جلد إنسان ، وذكر ذائع في كل مكان من أرجاء العالم العربي والإسلامي ، واعتزاز من كثير من المفكرين به وبأدبه.

وقد كتب عنه من المقالات ما لا يمكن حصره ، ونشرت عنه دراسات عديدة من أهمها :

(١) كتاب صورة من الفكر المعاصر تأليف الأستاذ فكري أبو النصر.

(٢) كتاب من رواد الأدب المعاصر تأليف الأستاذ حليم متري.

__________________

(١) ص ٣٤ ج ٤ صور من الأدب الحديث ـ مكتبة الأنجلو بالقاهرة.

٤١٧

(٣) الكتاب العربي.

وعنه كتبت تراجم في كتب عديدة من أمثال : الأزهر في ألف عام ، وبنو خفاجة وتاريخهم السياسي والأدبي ، ونشر كثير من شعره في كتاب «مع الشعراء المعاصرين» وفي ديوانه «أحلام الشباب».

ـ ٢ ـ

ويمكننا أن نتعرف إلى المذهب الأدبي عند أديبنا في كتبه ، مما يمكن تلخيصه فيما يلي :

١ ـ يؤمن أديبنا بضررة الملكة الأدبية والموهبة الذاتية كأساس لبناء الأديب من الجانب الفني والثقافي ، ومن ثم نجده يحيل كل الخصائص الذاتية التي تميز أديبا عن أديب إلى أثر هذه المواهب.

٢ ـ ويرى أن الثقافة الأدبية الحديثة للأديب يجب ـ فوق تناولها لجميع الثقافات الممكنة ـ أن تتناول التعرف إلى جميع الثقافات الأدبية القديمة والحديثة والمعاصرة عند جميع الشعوب ، ومن ثم يحرص على الاتصال بروائع الآداب الأوروبية المترجمة ، ويرى وجوب التعاون والإخاء الأدبي بين الأدب العربي وهذه الآداب. كما يرى وجوب دراسة الآداب الشرقية عامة والعربية خاصة عند جميع الشعوب التي يتصل تاريخنا بتاريخها وحياتنا بحياتها ومن أجل ذلك أسهم في نشر كثير من الآثار الأدبية القديمة والمعاصرة لأدباء من أبناء مصر والبلاد العربية. وبحثه عن الشعر السوداني المعاصر الذي نشره في كتابه «قصص من التاريخ» يعد بحثا جامعا أصيلا جديدا.

٣ ـ وأديبنا يرى أن الأدب لا بد أن يخدم هدفا اجتماعيا أو قوميا أو إنسانيا ، وإلا فقد جزءا كبيرا من مقوماته ، ومن أجل ذلك نراه في كتابته عن

٤١٨

الأدب المعاصر يشيد بروائع الآثار الواقعية في الأدب والشعر (راجع مقدمة كتابه قصص من التاريخ).

٤ ـ وهو مع ذلك يرى أن الأدب المعاصر تنقصه الملكة والذوق البلاغي ، كما أن الأدب القديم كان ينقصه الاتجاه والمذهب والرسالة ، ومن أجل ذلك فهو يبشر بأدب جديد تتجلى فيه خصائص الأدبين أكثر وضوحا عما هي عليه الآن.

ومن صور آرائه في الأدب الحديث ما كتبه في مقدمة كتابه «قصص من التاريخ» بعنوان (الأدب والحياة) قال :

«الأدب لم يعد اليوم ترفا وفنا خالصا ، وتصاوير مزخرفة منمقة وبلاغة أدبية محضة ، ولم يعد يقصد للترفيه والتسلية وقطع الوقت ، وليس الأدب مقصورا على إثارة الشهوات الجنسية كسبا لجمهور القراء الفارغين التافهين ، وليس بخورا يحرق في مواكب الطغاة تمجيدا وتسبيحا بحمدهم ، ولا دعاية تنشر لتضليل الرأي العام وإلهائه وكسبه بجانب الديمقراطية أو غيرها ، فلم يعد لأمثال هذه الآداب بيننا قيمة ، ولم يعد القارىء المثقف يؤمن بمثل هذا الأدب الأجوف ، ولم تعد أحكام النقد وقفا على طائفة من الكتاب والنقاد المضللين ، الذين ساروا في كل ركب ، ومشوا تحت لواء كل موكب ، ووقفوا حياتهم على الدعاية لسياسة الغرب باسم الصداقة والأحلاف والديمقراطية في الشرق العربي.

ونحن نبدأ عهدا أدبيا جديدا نحطم فيه هذه الأصنام الزائقة ، وهذه الأقلام الجوفاء ، وهذه الأغراض التي تاجرت بحريتنا الفكرية والأدبية ، وأخضعت الأدب لأهواء السياسة ومشيئتها ، وأثرت على حساب الأدباء المساكين.

نحن نمقت هذه العصابات الأدبية الضالة ، التي قتلت النبوغ وحاربت

٤١٩

الفكر وضاقت ذراعا بمواهب الشباب من الأدباء فقبرتها ، وسخرت الأقلام للتسبيح بحمدها بين الناس.

أصبح الأدب يدعو إلى الحرية والكرامة والحياة الطيبة للأفراد والجماعات والشعوب ، الحرية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، والكرامة التي تدع الإنسان مؤمنا بأنه لم يخلق عبدا لإنسان ، وإنما خلق إنسانا يشعر بكرامته الإنسانية وقيمته في المجتمع ، والحياة الطيبة التي تتكافأ فيها الفرص ، وتتساوى فيها المواهب ، ويجد فيها كل إنسان له عملا لائقا ، وعيشا شريفا ، ومستوى ماديا مناسبا وعناية واحدة من الحاكمين ، والتي تنعدم فيها الفروق بين الناس ، وتقل فيها المشكلات أمام الفرد ، فلا يضطر إلى الانتحار لأنه لا يجد الخبز لنفسه وأولاده ، ولا يعيش متسولا عالة على الناس ولا يقعد به المرض أو الجهل عن أن يعيش وأن تحفظ عليه كرامته في وطنه .. يجب أن يكون الأدب اليوم صدى الحياة المدوي ، وصوتها المجلجل في كل سمع ، ولسانها المعبر عن آمال الإنسانية وآلامها وأفراحها وأحزانها وسعادتها وشقائها ، وأن يعبر في وضوح عن حياتنا التي نحياها : حياة الفلاح في حقله ، وحياة العامل في مصنعه ، وحياة الموظف في وظيفته ، وحياة الفتاة التي نادينا بحريتها ، وحطمنا الأغلال دونها ، ثم لم نعمل شيئا في سبيلها ، لتستطيع الاحتفاظ بحريتها الطبيعية التي تحميها لها الحياة ، فلم نساعدها على العمل الشريف ولا على الزواج المناسب ، وعلى حياة الأسرة الهادئة ، وتركناها وحدها في الميدان ، تقضي حياتها محرومة من الزوج السعيد الصالح ، والأولاد الذين تتشوق في لهفة إليهم.

والوضوح والبساطة والجمال والصدق هي الخصائص الأدبية الأولى ، والعناصر الفنية الأساسية لكل أدب جميل بليغ. ولكن خلود هذا الأدب وذيوعه يتوقف فوق ذلك على مضمونه وعلى أن يكون الأدب إنساني النزعة ، رفيع الهدف والغاية ، يعمل مساعدا لنواميس الحياة على التقدم والنهضة والازدهار».

٤٢٠