الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

بين الزيتونة والأزهر

الزيتونة أزهر تونس ، والزيتونيون أزهريون كما يقول الزيتونيون أنفسهم اعتزازا بالأزهر وكما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وأنفاس من الأزهر ما تزال تسري وتداخل جسم الزيتونة ، وأخرى من الزيتونة ما تزال ترجع على الأزهر (١).

وجامع الزيتونة أقيم في أوائل القرن الثاني للهجرة على يد بانيه عبيد الله بن الحبحاب السلولي ، وقد كان واليا على مصر ، ومنها قدم إلى تونس ، بعد أن استخلف ابنه أبا القاسم على مصر (٢) ـ وكانت مدينة الفسطاط ، دار ابن الحبحاب ، وجامعها ، جامع عمرو ، الذي هو أبو الجامع الأزهر ، قد كان ابن الحبحاب إمام محرابه ، وخطيب منبره ، فلا ضير أن ابن الحبحاب كان واقفا على تخطيط جامع الزيتونة بتونس ، وفي ذهنه صورة جامع الفسطاط ، وفي قلبه حنين إليه ، واهتمام به ، وحنين واهتمام بابنه أبي القاسم ، وقد خلفه فيه.

وكانت صحبة علي بن زياد التونسي لليث بن سعد ، وروايته عنه

__________________

(١) ص ٨٥ التوجيه الاجتماعي في الإسلام ـ من مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية.

(٢) ابن خلدون ١٨٩ ج ٤ بولاق.

٢٤١

بمصر ، ثم انتصابه بجامع الزيتونة محدثا ومدرسا في منتصف القرن الثاني (١) حلقة أولى في سلسلة من الاتصالات العلمية ، ظهرت في مصر القديمة ثم امتدت إلى القاهرة وأزهرها ، وارتبطت بها حلقات كان منها ما هو واضح إشعاعا ، وأتم ظهورا. فالإمام سحنون : عبد السلام بن سعيد التنوخي (٢) ، والقاضي أسد بن الفرات ، بعد أن تخرجا بابن زياد في تونس بجامع الزيتونة ، قد شدا الرحلة إلى مصر. فأخذا عن ابن القاسم ، وأشهب ، وابن وهب ، وابن الحكم ، وتكونت بذلك المدونة ، فكانت أصل المذهب المالكي ، وانعكست الرحلة من القيروان على مصر ، وتتابع العلماء من تونس والقيروان وغيرهما من البلاد الإفريقية ، على الرحلة إلى مصر يسمعون ويهتفون ، مثل : عبد الله بن أحمد التميمي ، نسيب بني الأغلب ، وحمد يس الأشعري ، والقاضي عيسى بن مسكين ، وجبلة بن حمود ، وغيرهم من أهل القرن الثالث الذين أخذوا في مصر عن بني عبد الحكم ، ويونس بن عبد الأعلى ، وابن المواز ، على ما فصله القاضي عياض في «المدارك» ومن بعده في كتب الطبقات.

وقامت الدولة العبيدية في أواخر القرن الثالث ، وكان الاتصال بين علماء تونس وعلماء مصر ، مقويا أهل السنة ، ولا سيما المالكية بتونس وبمصر ، وبدأ العبيديون يحاولون إغراء العلماء بموالاتهم.

نقل عياض في المدارك عن أبي الحسن القابسي : «أن المعز الفاطمي أرسل قبل دخوله مصر إلى أبي إسحاق بن شعبان صلة من مائة مثقال وكتابا ، فقرض ابن شعبان من الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم» وأحرق باقيه في الشمعة أمام الرسول. ورد المائة عليه.

__________________

(١) الديباج لابن فرحون ص ١٩٢ ط السعادة وأعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي ص ٣٧.

(٢) الديباج ٩٨ و ١٦٠.

٢٤٢

وجاء القرن الرابع : قرن أبي عثمان الحداد (١) وابن أبي زيد (٢) والجبلياني (٣) والقابسي (٤) وابن شبلون (٥) وربيع القطان (٦) وتأكدت الصلات بين مصر وتونس والقيروان بما كان بين ابن شعبان وابن أبي زيد ، وبين التلباني المصري (٧) وأبي الحسن القابسي وبين أبي بكر الحويكي (٨) وأبي الحسن القابسي أيضا ، والتهبت نار الثورة بمدينة تونس ، على العبيدين ، وعلى أمير القيروان باديس الصنهاجي لموالاته إياهم وطاعتهم ، وتولى أمر أهل تونس في ذلك صالح المدينة وعالمها وعابدها الشيخ محرز بن خلف الصديقي (٩) فكان لفقهاء مصر في وجه بني عبيد مثل ما كان لفقهاء تونس والقيروان ، وأصبح القول المتردد على ألسنة المتفقهين في حلق جامع الزيتونة وجامع القيروان وجامع الفسطاط قولا متصادقا متجاوبا وكان بعضه صدى لبعض ، فكانت حلقات أبي بكر بن نصر ، أبي الذكر التمار ، وأخيه مؤمل وابن الأسواني ، وابن أبي حجرة القرطبي. في جامع الفسطاط بمصر القديمة ، وقد ذكرها عياض في الطبقة الخامسة ، صورة من حلقات أبي عثمان الحداد بالقيروان والشيخ محرز بن خلف والشيخ معاوية بن عتيق بتونس. وهكذا امتدت فكرة مقاومة الدعوة العبيدية ، والامتناع عن مطاوعتها ، من المغرب إلى المشرق ، حتى بلغت البلاد الشامية.

ذكر عياض في المدارك ترجمة أبي بكر النابلسي ، شهيد مصر سنة

__________________

(١) ترجمته في المدارك من أهل أفريقيا من الطبقة الرابعة وفي أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي.

(٢) المدارك أهل أفريقيا من الطبقة السادسة والديباج ص ١٣٦ ط السعادة وأعلام الفكر الإسلامي.

(٣) المدارك أهل أفريقيا الطبقة السادسة والديباج ص ٨٦ ط السعادة.

(٤) المدارك أهل أفريقيا الطبقة السابعة والديباج ص ١٩٩ السعادة.

(٥) الديباج ص ١٥٨ ط السعادة.

(٦) المدارك أهل أفريقيا الطبقة الخامسة وشجرة النور ١٦١.

(٧) المدارك أهل مصر من الطبقة الخامسة.

(٨) المرجع السابق.

(٩) المدارك أهل أفريقيا الطبقة الثامنة.

٢٤٣

٣٦٤ ه‍ : «كان شديدا على بني عبيد حين ملكوا مصر والشام ذامّا لهم ، منفرا العامة منهم ، قاليا لهم ، ونقل عن الرقيق أن أبا بكر «كان يفتي في المحافل باستحلال دم من أتى من المغرب ، ويستنفر الناس لقتالهم». يريد بني عبيد ، ثم قال عياض : «وإنما سلك في هذا مسلك شيوخ القيروان في خروجهم عليهم ... ولم يستقر للفاطميين بسبب ذلك قرار ، ففرضت ثورة تونس على خليفتهم المعز بن باديس الصنهاجي أن ينقض طاعتهم حتى فعل (١) وتتابعت مظاهر التمرد عليهم ، والاستخفاف بهم في مصر من ولاية العزيز بن المعز الفاطمي (٢) ثم ولاية الحاكم واغتياله (٣) بعد أن أعلن الرضوخ لقوة الأمة في الدفاع عن عقيدتها ، وصلابتها في التمسك بسنتها فكتب سجله بما فيه ، وأتى اليوم بما يقتضيه ، يطوي ما كان فيما مضى ، فلا ينشر ، ويعرض عما انقضى ، فلا يذكر ، ولا يقبل على ما مر وأدبر ، من إجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية : أيام آبائنا (٤) ...» ثم كانت ولاية الظاهر الذي بدأت الدولة تتضعضع في مدته ، إلى أن انتهى حكمهم الحقيقي في ولاية المستنصر واستبداد بدر الجمالي بأمرهم ، وتلاشى سيادتهم في ظلمة العدوان الصليبي (٥).

والروح التي كانت تعمر الزيتونة بتونس وجامع الفسطاط في مصر ، هي الروح التي ملأت الأزهر وإن كانت السلطة التي أمرت ببنائه نابية عن تلك الروح ؛ لنستنتج من ذلك كله : إن الإخاء قد كان تاما وثيقا بين جامع الزيتونة والجامع الأزهر من يوم أنشىء الأزهر ، إخاء كان في الباطن والروح ، وإن لم يبد في الظاهر والشكل ، فيبقى الأزهر وفيا لروح العابدين العاكفين فيه ، مزورّا عن روح الحاكمين المباهين به.

__________________

(١) المؤنس لابن أبي دينار ص ٦٥ ط تونس الأولى.

(٢) خطط المقريزي ص ١٦٧ ج ٢ وما بعدها ط المليجي بالقاهرة.

(٣) المقريزي ج ٤ من ص ٦٨ حتى ص ٧٤ المليجي القاهرة.

(٤) ابن خلدون ص ٦٠ ج ٤ بولاق.

(٥) المقريزي ج ٤ ص ٤٩ ، ص ١٩٣ ط المليجي.

٢٤٤

وكذلك أقام بنو عبيد بالقاهرة ما أقاموا ، وزال ملكهم عنها بعد استقراره فيها مائتي سنة وخمس سنين من دخول المعز إليها سنة ٣٦٢ ه‍ إلى وفاة العاضد سنة ٥٦٧ ه‍ فبقيت القاهرة بعدهم ، وبقي جامعها الأزهري كما قال أبو العلاء :

تفنى الملوك ومصر بعد فقدهم

مصر على العهد والإحساء إحساء

وقام حكم السلطان صلاح الدين ، وعاد التواصل والامتزاج بين الأزهر وجامع الزيتونة ، وأنشئت المدارس الصلاحية والخوانق ، وانتظمت الدراسة العلمية على الخطة الجامعة بين السنة والكلام والفقه والتصوف ، وهي الخطة التي درج عليها ، منذ القرن الرابع ، الأشعري ، والماتريدي ، والباقلاني ، وإمام الحرمين ، والقشيري : يجمعون بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والجنيدي ، وهي التي برزت واضحة مستعلنة في حكمة الغزالي وبخاصة في كتابه «إحياء علوم الدين».

وكانت المدارس التي أنشأها صلاح الدين في مصر على مثال المدرسة النظامية في بغداد ، والمدارس التي أنشأها الملك العادل نور الدين في دمشق. أما الذي أنشأه العبيديون بمصر فلم يكن يعدو مجالس مرتبة في الجامع الأزهر وجامع الفسطاط ، وكان يظلها حكم الدولة ، ويتحين لها اجتماع الناس يوم الجمعة (١) فعمرت المدارس ، وتوافر فيها الشيوخ والطلاب ، وانتظمت حلق العلم في جامع الفسطاط ، وشاع الفقه على المذاهب الأربعة ، وسارت الدراسة في العلوم على المناهج المتصلة بتلك المذاهب.

ولكن الجامع الأزهر قد اعتراه انطواء امتد إلى أواسط القرن السابع ، فلم يكن لهذه الحركة العلمية فيه مجال. وطال كسوف الأزهر قرنا كاملا ، إذ لم تقم فيه الجمعة إلا سنة ٧٦٥ ه‍ أيام الملك الظاهر بيبرس وبدأ من

__________________

(١) المقريزي ج ٤ ص ٤ ، ص ١٩٣ المليجي.

٢٤٥

يومئذ يستعيد مجده ، حتى انتظم أمره ، وعلا شأنه في منتصف القرن الثامن على يد الأمير بشير الجامدار في عهد الناصر بن قلاوون (١).

أما في تونس ففي نحو عام ٤٤١ ه‍ جاء خطاب الخليفة العباسي من بغداد بتقليد المعز بن باديس ولاية أفريقية (٢). وأعقب ذلك زحف العرب الهلالية ، فسقطت القيروان ، وخربت ، وجلا عنها المعز وآوى إلى المدينة. وانتشر الاضطراب في البلاد ، وقامت إمارات الطوائف : في صفاقس ، وسوسة ، وقابس ، وقفصة ، وبنزرت ، وطبرقة ، والكفاف ، وغيرها ، أما مدينة تونس فقد خلعت طاعة المعز ، وقرر أهلها الانضمام إلى ملك الفرع الصنهاجي الآخر الدي كانت عاصمته قلعة بني حماد ، جنوبي بجاية ، فتوجه وفد من مشيخة مدينة تونس إلى بجاية ، ولقوا ملكها الناصر بن حماد ، فولى بإشاراتهم على مدينة تونس أحد أبنائها وهو عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان (٣) فقامت به في تونس دولة أساسها الشورى ، وعمادها إسناد الأمر إلى أهل المدينة ؛ لتدبير حمايتها من هجمات القبائل ، ومن غزوات الولاة. وعظم شأن بني خراسان ، وسما مظهر ملكهم بتونس ، وكان لعلمائها عندهم منزلة مرعية. فكان أهل تونس وبخاصة علماؤها ، وهم أهل جامع الزيتونة ، في منعة وظهور أمر ، إلى أن مضى الثلث الأول من القرن السادس ، إذ امتدت إليهم يد أمير بجاية ، ثم كانت الطامة الكبرى باحتلال النصارى الترمانديين أصحاب صقلية السواحل الشرقية للبلاد الأفريقية ، فتحركت الثورة من جديد ، للاستعداد لمقاومة الاحتلال الأجنبي ، وانعكست روح الثورة على المدينة ، فتقاتل ربضاها : الجنوبي ربض باب الجزيرة ، والشمالي ربض باب السويقة إلى أن دخلها عبد المؤمن بن علي سنة ٥٥٢ ه‍ ، ثم استنقذ جميع البلاد الساحلية من

__________________

(١) المقريزي أيضا ج ٤ ص ٥٣.

(٢) ابن خلدون ص ١٥٩ ج ٦ بولاق.

(٣) ابن خلدون ج ٦ ص ١٦٥ وما بعدها بولاق.

٢٤٦

المغيرين الإفرنج ، واستنقذ بقية البلاد من أمراء الطوائف ، ووحد البلاد المغربية كلها في ملكه الذي امتد من الأندلس إلى حدود برقة (١).

وفي صدر القرن السابع كانت البلاد الإفريقية قد ازدهرت برد غارات الإفرانج النرمانديين ، وصارت تونس عاصمة البلاد باستقرار الدولة الحفصية وصارت حلق الوعظ والتعليم القائمة بجامع الزيتونة مزدهرة وكذلك كان شأن مدينة القاهرة قبل ذلك بخمسين سنة تقريبا. لما ردت عنها الغارات الصليبية ، وقامت فيها الدولة الأيوبية ، وصارت الحلق في الجامع الأزهر لا تختلف عن الحلق التي يقبلون عليها في جامع الفسطاط : كلها حلق سنية ، لا شائبة فيها للأهواء ، ترعاها الدولة ، ويغشاها الناس غير مكرهين ، ولا وجلين. إلا أن هذا المعنى لم يظهر ظهوره التام في الجامع الأزهر ، وإن ظهر حواليه ، فلم يظهر في الأزهر بذاته إلا في منتصف القرن السابع لما جددت عمارته ، وأقيمت فيه الجمعة على مذهب أهل السنة والجماعة ، ورتبت فيه دروس الحديث والفقه (٢).

فجامع الزيتونة لما قام الأزهر في منتصف القرن السابع برسالته العلمية السنية ، قد كان قائما على تلك الرسالة نفسها ، شديد الساعد في الاضطلاع بها فالتحمت بذلك الصلات بين الجامعين ، وزاد في تأكيد اللحمة تشابه المناهج العلمية ، وتقارب الأساليب التدريسية ، والاتحاد في أكثر مواد الدراسة ، والتفاضل المطرد بين شيوخ المعهدين : أخذا وعطاء.

فالمذهب المالكي بعد أن انقطع علماؤه من الديار المصرية ، في أواخر القرن الرابع تحت حكم الفاطميين ، بدأ يعاود منزلته في أواخر القرن السادس (٣) بمن رحل إلى مصر من الأفارقة والأندلسيين والصقليين الذين رفعوا لواء المذهب المالكي فيها من جديد ، مثل أبي محمد التونسي

__________________

(١) ص ١٦٣ نفس الجزء.

(٢) المقريزي ص ٥٢ ج ٤ ط المليجي.

(٣) شجرة النور ص ٩٣.

٢٤٧

ومحمد بن الفرح القروي الطليلي ـ وقد ذكرهما عياض في المدارك ، ومثل أبي بكر الطرطوشي (١) محمد بن مسلم الصقلي المازري (٢) وابن الحكار العقلي (٣) وغيرهم. فشاعت بذلك الكتب المغربية ، ومناهج الدراسة الأفريقية والأندلسية ، مثل المدونة ، وتهذيبها ، وكتب ابن أبي زيد ، وكتب أبي الوليد الباجي ، وانبعثت في أصول الدين وأصول الفقه طريقة الأشعري ، والباقلاني وإمام الحرمين ، والغزالي ، والمازري ، وتوصلت بذلك المذاهب السنية ولا سيما المذهبان المالكي والشافعي وكان لشيوع دعوة الغزالي إلى وصل التصوف بعلوم الشريعة ، أثرها في تقريب المحدثين والفقهاء والمتكلمين من الصوفية ، وتأثر هؤلاء بهؤلاء ، تأثرا ظهر في طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني وانتشر في المغرب كله بأبي مدين وأصحابه ، ثم تأصل بتونس في طريقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي التي أوصلها هو أصحابه إلى مصر ، وعم انتشارها من تونس ومن مصر غربا وشرقا.

فهذه الأسس هي التي كانت قوام طريقة التخرج في مصر وتونس على السواء ، عليها مضى القرن السادس ، وعليها سار القرن السابع حتى منتصفه لما قامت الدراسة في الجامع الأزهر ، واستمرت ـ عليها مناهج الدراسة في الأزهر بقية القرن السابع والقرون بعده.

فكانت الدراسات بالأزهر وبالزيتونة طيلة هذه القرون ، تسير على منهج واحد ، وتعتمد مادة من الكتب مشتركة ، وسندا من العلماء متحدا : فيهم المصريون ، وفيهم الأفارقة وفيهم غير المصريين وغير الأفارقة : من الأندلسيين والمغاربة ، أو من الشاميين والعراقيين والأعاجم وعلماء الروم.

__________________

(١) ترجمته في الديباج لابن فرحون ص ٢٧٦ ط السعادة وفي وفيات الأعيان لابن خلكان «محمد».

(٢) ترجمته في نيل الابتهاج هامش الديباج ص ٢٧٧ ط السعادة.

(٣) من شراح المدونة ترجمته في شجرة النور الزكية رقم ١٢٥.

٢٤٨

ففي فجر القرن السابع ظهرت المدارس بمصر (١) واتسع إليها نطاق التدريس بعد أن كان مقصورا على المساجد. وكان إنشاء المدارس الأولى بمصر في الفسطاط حول جامع عمرو. فهنالك أنشئت المدرسة الصلاحية ، والمدرسة القمحية فكان فيها مدارس أنشئت للفقهاء المالكية مثل القمحية ، وكانت الدراسة فيها بالاعتماد على أمهات المذهب المالكي المشهورة : من كتب العراقيين والأفريقيين والأندلسيين ، ومن بينها كتب ابن أبي زيد والقابسي والمازري وابن بشير وغيرهم من أبناء البلاء التونسية. يشهد لذلك ما ذكره ابن فرحون في الديباج في ترجمة أبي محمد ابن شاس (٢) المتوفى سنة ٦١٠ ه‍ أنه كان مدرسا بالمدرسة المجاورة للجامع العتيق ، مع ما ورد في كتاب الجواهر الثمينة لابن شاس من اعتماد على ابن أبي زيد ويسميه الشيخ ، وابن بشير ويسميه أبا الطاهر ، والمازري ويسميه الإمام أبا عبد الله ، زيادة على أمثال أبي الوليد الباجي ، وابن رشد ، وابن العربي ، من الأندلسيين وعبد الوهاب والأبهري ، وابن القصار ، من العراقيين.

فلما ظهرت المدارس بتونس في أوائل القرن السابع ، كانت الدروس فيها ، وفي حلق جامع الزيتونة ، سائرة على نفس ذلك المنهج ، ومعتمدة نفس تلك الدواوين. زيادة على ما كانت تتلافى فيه المناهج العلمية بين مصر وتونس ، في الفنون الأخرى غير الفقه المالكي ، من الحديث والأصول والتصوف ، وفنون العربية ، مما زاد له تأكد الصلات ، وقوة الامتزاج ، ورواج الأخذ والعطاء ، طردا وعكسا ، بين المركزين.

وظهر في ذلك القرن في مصر العلامة ابن دقيق العيد ، والإمام عز الدين بن عبد السلام والحافظ المنذري ، فصربت سمعتهم إلى تونس ، وأخذ عنهم من رجال الزيتونة مشاهير منهم أبو يحيى بن جماعة التونسي أخذ

__________________

(١) المقريزي ج ٤ ص ١٩١ وما بعدها.

(٢) الديباج ص ٤٠ السعادة بمصر.

٢٤٩

عن ابن دقيق العيد (١) والقاضي أبو القاسم بن زيتون أخذ عن المنذري وعن عز الدين بن عبد السلام (٢) والقاضي عبد الحميد بن أبي الدنيا أخذ عن عز الدين بن عبد السلام (٣) وظهر في تلك الحقبة بتونس الإمام النحوي أبو الحسن بن عصفور ، وظهر كتابه «المقرب» في النحو وكتابه «الممتع» في التصريف ، وغيرها من كتبه فطار صيتها إلى مصر ، وتلقاها عنه بتونس الشيخ أبو حيان ، فروجها في مصر والتزمها وهو الذي اختصر المقرب (٤) ووفد على مصر الإمام الصوفي الشهير أبو الحسن الشاذلي بطريقته التي كان قد أسسها بتونس من أواخر القرن السادس وفيها ربى أصحابه ، ولقن أحزابه وكان له مجلس بجامع الزيتونة ، ثم تردد هو بنفسه على مصر وأخذ عنه فيها وصارت الأسكندرية المركز الثاني لطريقته واستقر بها خليفته أبو العباس المرسي ، وعنه أخذها ابن عطاء الله وانتقل بها إلى مصر ، واشتهرت الطريقة الشاذلية في مصر ، وانتشرت منها انتشارها الشرقي كما انتشرت انتشارها الغربي من تونس (٥).

وكذلك استمر هذا التواصل بين القاهرة وتونس يزيد ثباتا وتوثقا بابن الحاجب ، والقرافي ، وابن جماعة ، إذ كان من الآخذين عليهم : ابن راشد ، أخذ عن القرافي (٦) وابن جابر الوادناشي ، أخذ عن ابن جماعة (٧) وناصر الدين الزواوي ، أخذ عن ابن الحاجب. الذي نشر مختصره الفرعي في أفريقيا والمغرب (٨) وإبراهيم التنسي المطماطي ، أخذ عن القرافي ..

__________________

(١) شجرة النور الزكية رقم ٧١٤.

(٢) الديباج ص ٩٩ ط السعادة القاهرة.

(٣) شجرة النور ٤٥.

(٤) ترجمة أبي حيان في بغية الوعاة للسيوطي (محمد بن يوسف) وكذلك ترجمة ابن عصفور (علي بن مؤمن).

(٥) الدكتور عبد الحليم محمود الإمام أبو الحسن الشاذلي وطريقته.

(٦) نيل الابتهاج هامش الديباج ص ٢٣٥ ط السعادة.

(٧) الديباج ص ٣١٢ ط السعادة.

(٨) شجرة النور ٧٦٤ وابن خلدون ص ٣٧٦ ج ١ بولاق.

٢٥٠

وقابل ظهور هؤلاء بمصر أن ظهر بتونس أمثال ابن هارون الطائي ، وابن الغماز ، والتجاني وابن هارون الكناني ، وابن عبد السلام ، فاعتمدوا كتب المصريين ورووا عنهم ، ورووا عن المتخرجين بهم ، مثل ابن زيتون ، وابن راشد.

وكان ، في القرن السابع ، والذي بعده ، للرحالين المشاهير ، الذين رحلوا من تونس إلى مصر أثر في إشاعة أسماء الأعلام من القطرين ، كل في القطر الآخر ونعني بهؤلاء أمثال ابن جابر الوادناشي ، صاحب الفهرس المفصل الممتع الذي يوجد مخطوطا بالأسكوريال ، جمع فيه تراجم شيوخه والكتب التي أخذها عنهم ، وأسانيدهم في تلك الكتب إلى مؤلفها ، وبواسطته اتصل كثير من شيوخ مصر بالتونسيين ، كما اتصل كثير من شيوخ تونس بالمصريين من طريقه مباشرة أو بواسطة (١) ابن رشيد الفهري السبتي المتوفى بفاس سنة ٧٢١ ، صاحب الرحلة الشهيرة التي شملت الأندلس والمغرب الأقصى والقطر الجزائري والقطر التونسي ومصر والشام والحرمين الشريفين ، فاتسعت رواياته ، وكثرت لقاءاته ، وجمع أحاديث ذلك كله في رحلته الحافلة التي سماها «ملء العيبة بما جمع طول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة» (٢) وقد جمع في مشايخه أعلاما من التونسيين : مثل ابن هارون الطائي وابن زيتون ، وأعلاما من المصريين : مثل الحافظ المنذري وابن دقيق العيد ، وتواصلت بواسطته أسانيد هؤلاء ، كما تلاقت فيه كثير من الأسانيد المغربية والأسانيد المشرقية ، وخالد البلوري الذي رحل أواسط القرن الثامن بعد أن أقام بتونس ، ودخل مصر ، وجمع من أخبار مشيخته في القطرين ، وأورد عنهم من فوائد العلوم ونكت

__________________

(١) ترجمته في الديباج ص ٣١١ ط السعادة.

(٢) ترجم له المقري في أزهار الرياض أثناء ترجمة ابن الحكيم في الكلام علي ابن خميس أواخر الروضة الأولى : روضة الورد ، وقال عن رحلته أنه جمع فيها من الفوائد الحديثة والفوائد الأدبية ، كل قريبة وغريبة ، وتوجد رحلة ابن رشيد منقوصة في الأسكوريال ويقوم على تحقيقها ودراستها وفهرستها ابنتا الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة.

٢٥١

الآداب ما طفحت به رحلته التي سماها «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» وتوجد منها نسخ عديدة في مصر وفي تونس وغيرهما ـ مراجع أيضا للمدرسين والقضاة والمفتين.

وفي القرن الثامن بلغ التواصل العلمي بين مصر وتونس أوجه ، فتأكد اشتراك المشيخات ، وتبادل الإفادة والاستفادة ، وتناقل التأليف والروايات ، واستمر ذلك ممتدا متسعا مغرقا في القرون الموالية. فكان ظهور الشيخ خليل بن إسحاق ، الفقيه المالكي ، في القرن الثامن ، وبروز شرحه على مختصر ابن الحاجب ، الذي سماه «التوضيح» ثم بروز مختصره الفقهي الجامع الذي نال إعجاب أهل المغرب ، ممكنا لمصر منزلتها عند فقهاء المالكية بتونس ، كما كان في كتاب التوضيح أثر ظاهر للمشيخة التونسية في اعتماده على شراح ابن الحاجب الزيتونيين : ابن عبد السلام وابن هارون ، وابن وليد (١) وفي المختصر أثر واضح لمتقدمي الفقهاء الأفارقة ، مثل : اللخمي ، وابن يونس ، والمطرزي ، وهم ثلاثة من الأربعة الذين بني على اختياراتهم مختصر خليل ، كما هو مبين في خطبته.

وما ظهر مختصر خليل حتى أقبل الناس عليه بالحفظ والدراسة ، وتعليق الشروح ورسخت مكانته في دراسات جامع الزيتونة ، رسوخا لم ينقطع بعد. وشرح مختصر خليل أول ما شرح ، في مصر : شرحه القاضي بهرام الدميري (٢) : شرحيه الكبير والصغير ، فاقترن الشرحان بالأصل في اتساع السعة ، حتى أصبح بهرام يلقب بين جميع الكاتبين على مختصر خليل ، من بعد ، بلقب «الشارح» ودرس المختصر بتونس وجميع البلاد المغربية ، فكان من أشهر من اعتنى به تدريسا وشرحا : العلامة ابن مرزوق الحفيد (٣) وهو تونسي زيتوني ، بالطلب والمجاورة والتدريس ، وتتابع عليه

__________________

(١) تراجمهم الثلاثة في شجرة النور ٧٢٢ ، ٧٣١ ، ٧٣٦.

(٢) ترجمته في نيل الابتهاج ص ١٠١ هامش الديباج ط السعادة.

(٣) ترجمته في نيل الابتهاج أيضا ص ٢٩٣.

٢٥٢

الشراح والدارسون والمعلقون من بعد ، فكان من أصول كتب الدراسة بجامع الزيتونة ، قرونا متتالية ، ومرجع القضاء والفتوى الذي لا محيد عنه وكان حفظه متنا عن ظهر قلب شائعا بين الطلبة. وصارت شروحه التي صنفت من بعد بمصر.

وقابل ظهور خليل بمصر ظهور شيخ الزيتونة وإمامها : ابن عرفة بتونس (١) واشتهاره بتحقيق الفقه المالكي ، نظرا ونقلا ، وتصنيفه المختصر الذي قال فيه الأبي : «ما وضع في الإسلام مثله لضبطه فيه المذهب مسائل وأقوالا مع زوائد مكملة والتنبيه على مواضع مشكلة وتعريف الحقائق الشرعية» : فكانت سمعة ابن عرفة وشهرة كتبه بالغة إلى مصر ، ثم كانت رحلته بنفسه ، وأخذ الكثيرين بمصر عنه ، ومنهم الحافظ ابن حجر ، ورحلة طلبته من بعده ، وأخذهم عن المصريين ، وأخذ المصريين عنهم ، ذات أثر في وصل ما بين الطريقتين طريقة ابن عرفة ، وطريقة خليل ، وصلا ظهر بصورة جليلة في شرح ابن مرزوق على المختصر ، إذ كثيرا ما اعتمد في شرح كلام خليل على استظهارات ابن عرفة ، كما ظهر الاتصال بين الطريقتين أيضا في كتاب الشامل للشيخ بهرام ، كثيرا ما أشار إلى تحقيقات ابن عرفة ، كما نبه على ذلك شراحه (٢) ومن يومئذ أصبح لا يرى شرح لمختصر خليل ، ولا حاشية على شرح له ، إلا ومدار التحقيق على كلام ابن عرفة.

وهذا الذي حصل في الفقه المالكي ، في القرن الثامن ، من التواصل الأزهري الزيتوني قد حصل مثله أيضا في علوم العربية. فقد ظهر بمصر ، في ذلك القرن ، إمام العربية : أثير الدين أبو حيان ، وقد مر ذكر أخذه عن ابن عصفور بتونس ، وجمال الدين بن هشام ، فأظهرا في علم النحو آثارهما

__________________

(١) ترجمته في الديباج ص ٣٣٧ ونيل الابتهاج ص ٢٧٤ ط السعادة وفي نيل الابتهاج أخذ ابن حجر عنه بنقل تصريح ابن حجر بذلك في أنباء الغمر.

(٢) الكامل على الشامل للسخاوي مخطوط.

٢٥٣

الجليلة جمعا وتحقيقا وحسن تصنيف فكانا فرسي رهان في خدمة العربية مواصلة لطريق ابن مالك ، واتقانا لأثره ، وكان ما بينهما. من كثرة المخالفة وتراد المباحث عتنا مع أبي حيان بابن عصفور ، يضع مباحث ابن عصفور بينهما على بساط المجادلة.

واختصت كتب ابن هشام بالإقبال عليها ، ولا سيما كتاب «مغنى اللبيب» فقد اشتهر وذاع صيته بالزيتونة منذ القرن الثامن ، في حياة مؤلفه الذي يقول ابن خلدون عنه (١) : «وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب فأتى من ذلك بشيء عجيب دل على قوة ملكته واطلاعه» فدخل «مغنى اللبيب» في كتب الدراسة بالزيتونة من أوائل القرن التاسع ، درسه الحفيد ابن مرزوق ، وكان قد تلقاه بمصر عن ابن المؤلف الشيخ محيى الدين بن هشام (٢) واشتهرت دراسة المغنى والاعتماد عليه ، وقد ألف الشيخ محمد الرصاع ، في منتصف القرن التاسع كتابه في ترتيب آي مغنى اللبيب ، فنوه فيه باشتهار كتب ابن هشام ، ولا سيما المغنى ، وتتابع العلماء على التسليم بعظيم قيمته من قديم ، كما صرح بما يشهد لرواج كتب أبي حيان ، وخصوصا تفسيره البحر المحيط ، والاعتناء بما في جامع الزيتونة واعتماد المدرسين عليه وعلى الزمخشري في تفسير القرآن (٣) وكان ذلك في الوقت الذي يدرس فيه المغنى بالجامع الأزهر : فقد ذكر بدر الدين الدماميني في حاشيته على المغنى ، المعروفة بالحواشي المصرية (٤) أنه قرأ المغنى بالأزهر في مدة مائة وثلاثين يوما سنة ٨١٢ ه‍.

__________________

(١) ص ٤٨١ ج ١ بولاق.

(٢) نيل الابتهاج ص ٢٩٧ هامش الديباج ط السعادة.

(٣) ذكر من ذلك بحثه مع شيخه ابن عقاب في درسه للتفسير سورة آل عمران قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والكتاب مخطوط.

(٤) مخطوط المكتبة العبدلية بتونس.

٢٥٤

وكذلك كان القرن الثامن أيضا ظرفا للتواصل الأزهري الزيتوني في مجال العلوم العقلية والأدب فكانت شهرة آل السبكي ، بمصر ، حاملة أهل العلوم على الرغبة في الاتصال بهم ، والأخذ عنهم كما ترى ذلك في رحلة خالد البلوي ، وكانت شهرة ابن خلدون في تونس والمغرب ، ثم رحلته إلى مصر ، وتصدره للاقراء بالجامع الأزهر (١) مهيأة لأخذ أعلام الأزهر عنه مثل ابن حجر والمقريزي والأقفهسي ، وزائدة في ذيوع شهرته ؛ وشهرة الزيتونة ، وعلمائها بالمشرق.

وجاء القرن التاسع بأعلامه الذين علا بهم مجد الأزهر فكان للزيتونيين تطلع إليهم ، واتصال بهم ، فظهر الحافظ ابن حجر ، الذي أخذ عن ابن عرفة وابن خلدون ، فشدت إليه الرحلة من المشرق والمغرب وكان مدرس الأزهر وخطيبه. وقد اتصل به من التونسيين الزيتونيين وأخذ عنه : أبو عبد الله التريكي (٢) وأبو الحسن القلصادي (٣) الأندلسي الأصل ، والكفيف ابن مرزوق (٤) وهو كأبيه ابن مرزوق الحفيد ، زيتوني بالطلب وظهر الجلال المحلي ، والسراج البلقيني وغيرهما من الذين حفل بدروسهم وتآليفهم وإسنادهم القرن التاسع ، فكان رجوع كثير من الزيتونيين إليهم ، وأخذهم عنهم ملاقيا بينهم وبين أعلام الزيتونة من أهل أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع. فقد أخذ الحفيد ابن مرزوق عن الجلال المحلي (٥) وجمع بينه وبين ابن عرفة وأخذ القاضي ابن فرحون المدني ، وهو تونسي الأصل (٦) عن ابن عرفة في حجته (٧) كما أخذ عن السراج البلقيني ، واعتمده في مواضع

__________________

(١) ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي رقم ٣٨٦ ص ١٤٥ ج ٤ ط القدسي.

(٢) ترجمته في نيل الابتهاج ص ٣٢٣ ط السعادة وشجرة النور ٩٥٣.

(٣) نيل الابتهاج ص ٢٠٩.

(٤) نيل الابتهاج.

(٥) نيل الابتهاج.

(٦) وفيات ابن قنفذ.

(٧) نيل الابتهاج ٣١.

٢٥٥

كثيرة من كتابه «تبصير الحكام».

وخلف القرن التاسع لمطلع القرن العاشر الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي بمجده العالي في ذيوع التآليف الكثيرة المهمة ، فتأثرت الدراسة في جامع الزيتونة في القرن العاشر باسمه تأثرا قويا امتد إلى القرون التالية ، وحطت الرحال على كتبه ، وثار تحقيق المباحث من رسالته ، ودارت الروايات على أسانيده وتأثرت الدراسة الزيتونية في القرن العاشر ، بأعلام القرن التاسع من الأزهريين وكتبهم ، فشاع تفسير الجلالين ، وكثير من كتب المحلي ، ولا سيما شرحه على جمع الجوامع ، وشرح العيني على البخاري ، وكتب الشيخ خالد الأزهري ، مثل التصريح وشرح الأجرومية ، وقد ورد ذكرهما كلها في المشيخات والإجازات والتراجم ، كما شاع التحديث في الإجازات بأسانيد شيخ الإسلام زكرياء الأنصاري : آنا برواية التونسيين عن تلاميذه المصريين مثل رواية الشيخ أحمد بن إبراهيم الأندلسي عن الشيخ زين العابدين البكري عن أبيه عن الشيخ زكرياء. وآنا برواية التونسيين عمن لقوا الشيخ زكرياء من الفاسيين مثل رواية الشيخ خروف عن سقين العاصمي ، كما في كثير من الإجازات التونسية ، والمغربية بعامة ، بسند الشيخ عبد القادر الفاسي المشهور. وظهر بالأزهر في القرن العاشر أيضا أمثال الناصر اللقاني ، والبدر القرافي ، والقسطلاني ، وابن نجيم ، فشاعت كتبهم بتونس في القرن نفسه ، ولا سيما شرح القسطلاني على البخاري ، وكتاب المواهب اللدنية له وشرح العلامة الشنشوري ، خطيب الجامع الأزهر على متن الرحبية في الفرائض.

وكان من الذين طلعوا بتونس في أفق الزيتونة في القرن العاشر : الشيخ محمد خروف والشيخ محمد مغوش. أما الشيخ خروف فقد رحل إلى مصر ، وأخذ عن الناصر اللقاني ، والشمس اللقاني والشيخ أبي الحسن شارح الرسالة ، بعد أن أخذ عن جماعة من التونسيين مثل الزنديري ، وسليطن ومحمد مغوش وقد شاع الأخذ عن الشيخ خروف في الأسانيد

٢٥٦

الفاسية برواية أبي عبد الله القصاري وأبي المحاسن الفاسي وبواسطة خروف تتصل الأسانيد الفاسية بكثير من الشيوخ الأزهريين وكتبهم (١) وأما الشيخ مغوش فقد نشأ بتونس وعظم شأنه فيها أواخر العهد الحفصي ، ثم خرج إلى المشرق قبل منتصف القرن العاشر ، واستقر بمصر ، وتوفى فيها ، وقد انتشرت سمعته العلمية ، في المشرق والمغرب ، وأخذ عنه المشارقة والمغاربة. ومن أشهر المصريين الذين أخذوا عنه شهاب الدين الخفاجي (٢).

فهؤلاء هم الذين زادوا بتلاواتهم وكتبهم وأسانيدهم ، في تقوية الصلة وكان انتظام القطرين المصري والتونسي ، في سلك الخلافة العثمانية في هذا القرن ، معينا على زيادة التواصل بين الأزهر والزيتونة ، كما كان ظهور المذهب الحنفي في تونس ، باستقرار النظام العثماني ، مهيئا لأسباب الاتصال بأعلام من فقهاء المذهب وأساتذته بالأزهر ، وممهدا لانتشار كتبهم في تونس ودخولها في مناهج الدراسة مثل كتب ابن نجيم التي كان بعضها متابعة لدروسه بالأزهر مثل شرحه على المنار. وكتب الشيخ حسن الشرنبلالي التي كانت كذلك ناشئة من دروسه في الأزهر.

وبذلك كان كثير من مدرسي الزيتونة في القرن الحادي عشر تلاميذ لأعلام الأزهر : الشيخ إبراهيم اللقاني ، والشيخ عبد الباقي الزرقاني ، وابنه الشيخ محمد ، والشيخ الشبراخيتي ، وشيخ الإسلام محمد الخرشي ، فالشيخ المفتي محمد بن مصطفى كان تلميذ الشيخ إبراهيم اللقاني (٣) والشيخ محمد بن شعبان قرأ على الشيخ إبراهيم اللقاني جوهرته في التوحيد

__________________

(١) ترجمته في فهرس الفهارس ص ٢٧٩ ط فاس وشجرة النور الزكية رقم ١٠٦١ والإسناد عنه في إجازة الشيخ عبد القادر الفاسي.

(٢) أخباره في كتاب المؤنس لابن أبي دينار ص ١٥٤ ط تونس الأولى ترجمته في نيل الابتهاج ص ٣٣٦ والشقائق النعمانية ص ٥٢ ج ٢ هامش وفيات الأعيان.

(٣) ذيل بدائر أهل الإيمان لحسين خوجه ص ٧٧ تونس.

٢٥٧

بالجامع الأزهر (١) وهو الذي أقرأها بتونس ، كما ذكر ذلك متلقيها عنه الشيخ محمد قويسم ، في خاتمة كتابه : «سمط للآل» (٢).

وكذلك الشيخ محمد زيتونة (٣) والشيخ محمد الصفار (٤) والشيخ محمد العواني (٥) والشيخ أحمد برنار (٦) والشيخ محمد سعادة (٧) والسيد أحمد الشريف إمام دار الباشا (٨) والشيخ علي النوري الصفاقسي إمام القراءات المشهور (٩) والشيخ محمود مقديش الصفاقس (١٠) كانوا كلهم من تلاميذ أولئك الأعلام الأزهريين وبواسطتهم دخلت كتب هؤلاء الأئمة إلى تونس ، وشاعت دراستها ، ولا سيما شروح الشبراخيتي والزرقاني والخرشي على مختصر خليل وشرح الزرقاني على الموطأ ، وشرحه على المواهب ، وتوجد خطوط هؤلاء الشيوخ إلى الآن في المكاتب بتونس : ففي المكتبة العبدلية إجازة الشيخ إبراهيم اللقاني بخطه ، وفي المكتبة العبدلية أيضا نسخة من شرح الأبي على صحيح مسلم بخطه أيضا كتبها سنة ١٠١٢ ه‍ ، وفي تونس نسخة بخط الشيخ إبراهيم من كتاب مغنى اللبيب لابن هشام ، ونسخة من شرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على المختصر هي أصله الذي بخطه. وفي المكتبة العبدلية جزء من شرح المواهب اللدنية للشيخ محمد الزرقاني ، كانت من أملاك الأمير حسين باشا وقد قوبلت بإذنه على نسخة منسوخة من أصل المؤلف ، المكتوب بخطه ، الذي قرأه بدرسه على طلبته بالأزهر في آخر عمود.

__________________

(١) الذيل ص ٨٠.

(٢) مخطوط.

(٣) ذيل ١٣٤.

(٤) ذيل ١٢٠.

(٥) ذيل ١٠٠.

(٦) ذيل ١٤٠.

(٧) ذيل ١٦١.

(٨) شجرة النور ١١٨٨.

(٩) شجرة النور ١٢٥٥.

(١٠) شجرة النور ١٤٦٢.

٢٥٨

وكذلك شاعت الرواية بأسانيد أعلام المحدثين بالأزهر في ذلك القرن : مثل أسانيد الشيخ الطولوني يروى بها الشيخ محمد زيتونة ، وأسانيد الشيخ الشبراوي يروى بها السيد أحمد الشريف (١) والشيخ علي النوري (٢).

وكان للعلامة التونسي محمد زيتونة رحلتان إلى مصر سنة ١١١٤ ه‍ وسنة ١١٢٤ ه‍ خلفا صدى بعيدا وأثرا حميدا ، في توثيق الصلات بين علماء الأزهر وعلماء الزيتونة ، بما عرف أهل الأزهر وعلماء الأسكندرية من فضله وعلمه ، وما أظهر في دروسه ومجالسه ، مما نال ثناءهم ، وجلب اعتناءهم لا سيما درسه في تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ليلة المعراج في رجب من سنة ١١١٤ ه‍ بجامع تربانة بالأسكندرية ، الدرس الذي نوه بذكره حسين خوجه في ذيل كتابه بشائر أهل الإيمان (٣) وكان ممن أخذ عن الشيخ زيتونة من علماء مصر المحدث الشيخ أحمد الصباغ الأسكندري ، صاحب الثبت المشهور.

وكثيرا ما تصدت رحاب الأزهر بطلب الفتوى ، في حوادث تنزل بالبلاد التونسية ، أو قضايا يدق محل النظر فيها ، كما وقع سنة ١٠٤٦ ه‍ في إمارة يوسف داي ، أن وجه سؤال إلى علماء الأزهر في قضية حال تتعلق بتوريث زوجة شهد بطلاقها بعد موت الزوج ، وكتب في (المسألة) رسالة الشيخ عمر بن علي الفكروني الأزهري ، وهو تونسي الأصل ، من مدينة سوسة ، وكان قاضيا مالكيا بمصر شيخا لرواق المغاربة بالأزهر ـ ومن تلاميذ الشيخ سالم السنهوري.

واتصلت سلاسل الرواية ، والملاقاة ، وتلقى الدروس ، كامل القرن

__________________

(١) فهرس الفهارس ج ٢ ص ٧٩ ط فاس.

(٢) شجرة النور ١٢٢٥.

(٣) ص ١٣٤ ط تونس.

٢٥٩

الثاني عشر ، قوية نامية متتالية ، وفيه شد كثير من التونسيين الرحلة إلى الأزهر لاستكمال تخرجهم فيه بالأساتذة الأعلام الذين كانت سمعتهم السائرة تجلب إليهم الشادين في طلب العلم من الآفاق ، لا سيما وقد أثرت القرون الماضية في تشابه مناهج الدراسة ، واتحاد الكتب التي يزاولها الدارسون ، ويعتني بتقريرها والتعليق عليها المدرسون ، والشراح ، والمحشون ، فمختصر خليل ، وكتب القرافي ، والبيضاوي ، وكتب ابن هشام ، وشرح الأشموني على الألفية ، وكتب العضد ، والتفتازاني ، وكتب ابن حجر والسيوطي ، والقاضي زكرياء ، وأسانيد هؤلاء الثلاثة الأخيرين ذكرا ، هي التي كان عليها مدار الدراية والرواية ، على السواء ، بمصر وبتونس ، وعليها عكف الطلبة ، وبها تخرج العلماء في المعهدين العظيمين : الأزهر والزيتونة. ففي الوقت الذي أقبل فيه الشيخ محمد بن سعيد الحجري ، الملقب بالنحم الثاني على جامع الزيتونة ، آتيا من قرية أبي حجر ، في الساحل الشرقي التونسي ، كان اثنان من تلك البلاد الساحلية نفسها قد وفدا على الجامع الأزهر : وهما الشيخ محمد سعادة والشيخ عبد الرحمن بن جاد الله البناني. أما الشيخ محمد سعادة فقد رجع إلى تونس مملوء الوطاب ، متين الأسباب ، من دروس الشيخ محمد الزرقاني ، والشيخ أحمد الفقهيه ، والشيخ عبد الرءوف البشبيشي ، ومن أسانيد الشيخ علي الطولوني ، والشيخ عبيد النمرسي (١).

وأما الشيخ البناني فقد أقام بمصر ، وكان من أعظم علماء الأزهر وأكثرهم طلبة وأبعدهم شهرة ، ناهيكم بشرحه على المحلي ، وتقريراته على شرح التفتازاني على التلخيص.

ولقد كانت الكتب التي اعتنى بها كل واحد من هؤلاء الثلاثة : هي الكتب التي اعتنى بها بقيتهم في الزيتونة وفي الأزهر : الأشموني ، ومختصر

__________________

(١) ترجمته في ذيل البشائر ص ١٦٠ ط تونس.

٢٦٠