الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

السعد ، وتهذيب المنطق. فقد كتب الشيخ أبي سعيد والشيخ سعادة كل منهما ، حاشية علي الأشموني. أما حاشية الشيخ سعادة فكانت قبل حاشية الصبان ، ولكنا لا نعرفها إلا ذكرا. وأما الشيخ ابن سعيد ، وحاشيته مشهورة مطبوعة ، فقد كان تدريسه الأشموني بتونس ، وكتابته «حاشيته عليه في مدة تدريس الشيخ الصبان الأشموني بالأزهر ، ووضع حاشيته عليه ، فقد أتم الصبان حاشيته سنة ٩٣ وأتم ابن سعيد حاشيته سنة ٩٧ وكان الاتصال بين الحلقتين ، بتردد الطلبة محققا ، حتى أن الشيخ ابن سعيد كثيرا ما يجاذب الشيخ الصبان أبحاثه ، ويعرض طريقته ، وزيادة على اعتماد كل منهما على حاشية الشيخ يوسف.

وتوجد بتونس كتب من ممتلكات الشيخ الصبان عليها خطة يقرب أن يكون هو ـ رحمه الله ـ مكن منها بعض طلبته وفي مكتبتنا نسخة من كتاب النكت للسيوطي عليها تمليك الصبان سنة ١١٨٧ وبقيت صلات الود وثيقة بين الشيخ ابن سعيد والشيخ البناني ، والمراسلة بينهما متسقة وهما من قريتين متجاورتين (زينان ، وبو حجر). ففي ديوان الشيخ ابن سعيد الذي سماه «الفلك المشحون» (١) رسالة من الشيخ البناني إليه بمناسبة سفر والده الشيخ ابن سعيد للحج ومروره بمصر ، يجيبه فيها عن طلبه نسخة من حاشيته على المحلي بأنه سيكتبها بيده ويوجهها إليه فيما بعد ، إلى أغراض أخرى. كل ذلك في أسلوب بليغ من خطاب المودة والتعظيم. وكذلك كان جواب ابن سعيد الذي تضمن ، فيما تضمن من ثناء وتنويه استنجازا للوعد بإرسال حاشية المحلي.

وقد اشتهر اسم الشيخ ابن سعيد بمصر ، واعتنى بكتبه ، مع أنه لم يعمر طويلا ، حتى أن الشيخ حسن العطار ، في منتصف القرن الثاني عشر اعتمد على حاشيته على شرح الخبيصي على التهذيب وجاذبه كثيرا من

__________________

(١) مخطوط مكتبتنا الماسورية.

٢٦١

مباحثها ، في ما كتب هو أيضا على نفس الكتاب ، كما صرح بذلك في خطبة حاشيته وفي ختامها.

وقد طبعت الحاشيتان معا ، كتابا واحدا ، في بولاق سنة ١٢٩٦.

ولم يكن الراحلون إلى الأزهر من الزيتونيين في هذا القرن الثاني عشر محصورين في البناني وسعادة ، بل غيرهما كثيرون. منهم الشيخ محمد بن علي الغرياني (١) الطرابلسي الأصل الذي أخذ عن الشيخ محمد بن سالم الحفناوي ، والسيد البليدي ، والشيخ محمد العشماوي والشيخ أحمد العماري ، وبعد زيارة ـ الحرمين الشريفين ، والأخذ عن أعلام البلد الحرام أمثال الجمال الأخير الطبري ، وتاج الدين القلعي ، وابن عقيلة ، رجع إلى الزيتونة وانتصب للتدريس وكان أستاذ الأساتذة وبه اتصلت رواية الزيتونة بالأزهريين ، وعنه يروى بتلك الأسانيد الشيخ عمر المحجوب في إجازته شيخ الإسلام محمد بن الخوجه التي في ثبته (٢) ، ومنهم الشيخ محمد بن حسين الهدة ، صاحب الحاشية على شرح الورقات فقد أخذ عن الشيخ علي الصعيدي والسيد البليدي ، والشيخ الدمنهوري.

وانتصب للتدريس بجامع الزيتونة (٣) ، وكان يروي عن الشيخ الحفناوي وأجاز بسنده وعنه يروى به الشيخ عمر المحجوب كما في ثبت الشيخ ابن الخوجه أيضا. ومنهم الشيخ إبراهيم بن علي شعيب الذي روى عن الحفناوي أيضا ، وعنه روى الموطأ والصحيحان بذلك السند في جامع الزيتونة ، روى عنه الشيخ حمودة إدريس ، الذي حدث عنه الشيخ المحجوب ، كما في إجازة الشيخ إسماعيل التميمي (٤).

__________________

(١) ترجمته في فهرس الفهارس ص ٢٥٢ ج ٢.

(٢) مخطوط بمكتبتنا.

(٣) ترجمته في أخبار أبناء الزمان لابن أبي الضياف ج ٢ ص ١٥ ط تونس.

(٤) ترجمة في ذيل البشائر ص ٥٤.

٢٦٢

وزاد في قوة انجذاب الزيتونيين إلى الأزهر في هذا القرن الثاني عشر أن حفلت مصر بمقدم أسانيد في البلاد الشرقية بلغت سمعتهم عنان السماء ، يعتبر في مقدمتهم شهرة وعلو مقام الحافظ محمد مرتضى الزبيدي فقد تسابق الناس للأخذ عنه ، وتزاحموا على مجالس إملائه ، حتى كان القاصدون إلى الحج ـ ولو من غير خاصة الطلبة يغتنمون إقامتهم بمصر عابرين لحضور مجالسه الجامعة ويكتب لهم الشهادة بالسماع ، والإجازة ، وبذلك شاعت الرواية عنه ، وانتشر خطه في الإجازات والأثبات وكتب السنة المقروءة عليه. ومن أخص تلاميذه من شيوخ الزيتونة الشيخ عمر بن المؤدب ، والشيخ محمد بن حمودة الصفار ، وأبناء الشيخ الغرياني ، بل إن عامة طلبة جامع الزيتونة في ذلك العصر يعتبرون طلبة له ، لأنه كتب في إجازته لأبناء الشيخ الغرياني : كذا أجزت لطلبة العلم الملازمين في حلقة دروس والدهم وسائر أحبابهم وأصحابهم ممن فيه أهلية التحمل لهذا العلم (١) وقد كان الشيخ مرتضى أخذ عن الشيخ الغرياني ، كما أخذ عن الشيخ أحمد بن عبد الله السوسي من علماء الزيتونة وعن هذا الاتصال المحكم بين الأزهر والزيتونة ، في القرن الثاني عشر ، تولدت صلات أشد إحكاما ، وروابط أتم انتظاما ، في القرن الثالث عشر ؛ فقد استهل ذلك القرن وسمعة أعلام من الأزهريين قد ضربت ما بين المشرق والمغرب ؛ بكتبهم القيمة التي شاعت في عصرهم وعم الإقبال عليها : مثل الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي ، الذي عظمت شهرة دروسه وأسانيده وكتبه واعتمدت حواشيه ، ولا سيما حاشيته على شرح الدردير على المختصر الخليلي ، التي اعتمدها فقهاء الزيتونة ، في الدروس والفتاوى والأحكام ، وعلقوا عليها ، وجاذبوا مؤلفها بحوثه ونقوله : وتحقيقاته فكان شيخ الإسلام أحمد بن حسين ، والشيخ المفتي محمد الشاهد ، وغيرهما من شيوخ المذهب المالكي في أواسط القرن الثالث عشر ، يعتمدون كلام الشيخ

__________________

(١) بخطه في مكتبتنا.

٢٦٣

الدسوقي ، ويستندون إليه في فتاويهم وتحاريرهم ، كما هو ثابت في الوثائق ومنقول في الأخبار وكان للطباعة في القرن الثالث عشر ، ولا سيما في النصف الأخير منه ، أثر في سرعة ايصال الكتب وبسط شهرتها فعرفت كتب الشيخ الخضري ، والشيخ علي الصعيدي ، والشيخ الباجوري ، والشيخ العطار ، وشاعت في مناهج الدراسة الزيتونية فقوي بذلك تشابه المناهج بين الزيتونة والأزهر ، حتى لم يبق فرق يذكر ، لا في المناهج ، ولا في صورة التكوين العلمي للخريجين. ففي الربع الأخير من القرن الماضي كان شيخ الإسلام سالم أبو حاجب (١) يدرس الأشموني بجامع الزيتونة ، درسا اشتهر وشدت له الرحال ، وكان يتتبع حاشية الصبان. ويكثر البحث فيها ويكتب بحوثه وتقريراته ، أو يكتبها طلبته ، وكان الشيخ الأنباني ، في تلك الأيام نفسها ، يدرس الأشموني بالجامع الأزهر ، ويكتب على حاشية الصبان وكان بعض الطلبة يتردد بين الدرسين : مثل الشيخ مصطفى بن خليل ، فكانت المباحث التي تثار في أحد الدرسين يبلغ صداها إلى الآخر حتى أنه لما طبعت تقريراته الشيخ الإنبابي على الصبان ، قضى الشيخ سالم العجب من توارد الخواطر ، حتى عدل عن طبع تقريراته ، إذ أصبح غالبها مستغنى عنه بما طبع من تقريرات شيخ الإسلام المصري ، سمعت ذلك من كثير من أساتذتنا تلاميذ الشيخ سالم ، كما سمعت منه شيئا يرجع إلى هذا المعنى في أسلوب حديثه الفكه وهو في العقد العاشر من حياته رحمه الله وانتهى القرن الثالث عشر بما كان من الروابط موصولا بين الأزهر والزيتونة في ذات الفقيه الكبير الشيخ محمد عليش ، الذي أخذ عن الشيخ محمود مقديش (٢) وروى عن الشيخ محمد بن ملوكة (٣) وعنه أخذ كثير من الزيتونيين منهم الشيخ مصطفى بن خليل وكثيرا ما كانت تعرض المسائل عن الحوادث

__________________

(١) شجرة النور ١٦٨٩.

(٢) شجرة النور ١٥٤٤.

(٣) شجرة النور ١٥٥٩.

٢٦٤

والأحكام على الشيخ محمد عليش لأخذ فتواه فيها.

وقد كان من أجل الراجلين من الزيتونة إلى الأزهر في القرن الثالث عشر : الشيخ مصطفى بن خليل فقد كان أكمل تحصيله بالزيتونة وسمى عدلا بتونس ، ثم سافر إلى مصر ، فقرأ بالأزهر على الشيخ إبراهيم السقاء ، والشيخ عليش ، والشيخ الإنبابي ، وأجازة الشيخ أحمد بن عبد الرحيم الطهطاوي. ويوجد نص إجازته له بخطه في دار الكتب المصرية ، ثم رجع الشيخ مصطفى إلى تونس في أواخر القرن الثالث عشر ، وسمي مدرسا من الطبقة العليا بجامع الزيتونة ، وعلت منزلته ، وأخذ عنه وتخرج به كثير من علماء النصف الأول من القرن الحاضر.

وإنه ليكفي لإظهار الامتزاج الذي اكتمل في القرن الماضي بين الأزهر والزيتونة الرجوع إلى قوانين التعليم في المعهدين ، حتى يتبين أن الكتب التي تدرس في مراتب التعليم الثلاث : الابتدائية والمتوسطة ، والعالية ، إنما كانت متحدة بصفة غالبة ، لا يستثنى من ذلك إلا عدد قليل جدا ، على ما جاء في الفصول ٣ ، ٤ ، ٥ ، من الأمر العالي الصادر بضبط قانون التعليم في جامع الزيتونة سنة ١٢٦٢ مع مقارنتها بما أثبته المرحوم الشيخ منصور رجب من أسماء أشهر الكتب التي تدرس بالأزهر في كتابه : «الأزهر بين الماضي والحاضر» علاوة على أن الكتب التي كانت تدرس ـ بجامع الزيتونة وضبطها قانون ١٢٩٢ وهي مائة وخمسون كتابا يوجد من بينها ستة وأربعون كتابا هي مصرية أزهرية وكذلك ارتبط القرن الحاضر بالقرن قبله ، إذ انعقدت من القرنين أسباب امتدت من السابق منهما وشدت باللاحق».

نعم «كانت العروة الوثقى لا انفصام لها» الجمعية التي أنشأها السيد جمال الدين الأفغاني ، بعد خروجه من مصر سنة ١٢٩٩ الوثاق الذي شدت به الصلات المتينة بين رجال من علماء الأزهر ، انتصبوا لقيادة حركة الإصلاح في العالم الإسلامي ، وآخرين من علماء الزيتونة ، ساروا معهم

٢٦٥

في ذلك السبيل (١) فيهم الشيخ محمد بيرم ، والشيخ محمد السنوسي ، والشيخ أحمد الورباني ، واستمر ذلك الاتصال يملأ قرننا الحاضر حركات متحدة المصادر ، متشابهة المظاهر. بين الأزهر والزيتونة وزار الشيخ محمد عبده تونس زيارته الأولى سنة ١٣٠٢ وامتزج بعلمائها ثم عاد بعد عشرين سنة وألقى محاضرته القيمة «العلم لطرق التعليم» وكان لمجلة المنار رواج واسع في تونس وأثر قوي في إشاعة دعوة الشيخ محمد عبده الإصلاحية. ولا نريد أن ندخل في صلة هذه الحركة بالأزهر : وما كان بين المنار والأزهر ، مما كتب فيه صاحب المنار كتابا خاصا. ولكننا نكتفي بأمرين هامين يتضح بهما ما كان لهذه الحركة من انتساب متين إلى الأزهر ؛ يجعل انتشار دعوتها بتونس داخلا في موضوعنا أولهما أن قوام مجلة المنار ، وأعظم مادتها ، إنما كان ما تنشره من تلخيص دروس الشيخ محمد عبده في تفسير القرآن العظيم ، وهي دروس أزهرية كانت تلقى في الرواق العباسي ، وثانيهما أن أهم ما تحدده المنار ، من دعوة الشيخ محمد عبده ، هي دعوته إلى إصلاح التعليم في الأزهر ، وأقصى ما تقصد إلى تحقيقه هو أن يتولى الأستاذ الإمام أمر الأزهر ، أو أن يكون مشاركا فيه مشاركة ذات نال ، فكان من هنالك منشأ الأحداث التي شطرت الأزهر شطرين : بين مناصرين لدعوة الشيخ محمد عبده ، ومعارضين لها. وكان ذلك الانقسام ساريا إلى جامع الزيتونة فنشأت فيه حركة (٢) فكرية قوية شطرت رجاله أيضا إلى شطرين بين أنصار دعوة الشيخ محمد عبده والمنار وخصومها ، وجعلت أكثر الطلبة من شيعة مفتي الديار المصرية ، ومطالبين بإصلاح التعليم الزيتوني على المبادىء التي طالب بها لإصلاح التعليم الأزهري ، وكانت حركات الطلبة في الأزهر مثالا موجها لحركات الطلبة في الزيتونة فلما أضرب الطلبة في

__________________

(١) فهرس الفهارس ص ٢٨٠ ج ١.

(٢) كتاب الحركة الفكرية والأدبية بتونس ص ٤٣ ط معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة سنة ١٩٥٦.

٢٦٦

الأزهر سنة ١٣٢٧ لم يتأخر الطلبة الزيتونيون أكثر من أربعة أشهر حتى ابتدأوا المظاهرات والاضرابات ودخلت بذلك الحياة الزيتونية ، تبعا للحياة الأزهرية في طور جديد (١).

وإلى جانب هذا التواصل في الحركة الإصلاحية ، كان جانب آخر من التواصل الزيتوني الأزهري يتمثل في ما كان متمثلا فيه من قبل من البحث العلمي والدراسة لقد استمر طلبة من الزيتونة يقصدون الأزهر ، وآخرون من الأزهر يأتون الزيتونة وأصبحت الحياة النظامية في المعهدين تمهد لهؤلاء وهؤلاء سبيل الالتحاق بكل من المعهدين باعتبار ما بلغ إليه الطالب من درجة في المعهد الآخر. وإن من أشهر الأزهريين الذين آووا إلى الزيتونة فاعتبرت له دراسته الأزهرية. وسمح له بذلك الاعتبار أن يتقدم إلى امتحان «التطويع» مباشرة بدون أن يتدرج في مراحل الدراسة العلامة المرحوم ، شهيد حركة العلماء المسلمين في الجزائر الشيخ محمد العربي التبسي الذي تخرج بشهادة التطويع عقب رجوعه من الأزهر سنة ١٣٤٠.

كما استمرت آثار الدروس الأزهرية العليا محل الاعتناء والإقبال من الأساتذة الزيتونيين ، والرواية متصلة الأسانيد بينهم أيضا.

فكان لشيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني في حياته ، رواج عظيم لكتبه في الزيتونة حتى أن حاشيته على البناني على المحلي على جمع الجوامع كان يدرسها تدريسا شيخ شيوخ الزيتونة يومئذ أستاذنا شيخ الإسلام محمد بن يوسف فضلا عن أعلام الزيتونة من تلاميذه مثل أستاذنا المحقق الشيخ محمد الصادق القاضي ، كان ذلك والشيخ الشربيني حي ، وقد علت سمعة تلك الحاشية ، واهتم الناس بها ، وأصبحت مناط البحث والتحليل ، حتى أن اتقان تدريس المحلي كان يقاس في الزيتونة باتقان تحليل الشربيني وتأصل ذلك في مقايس دروس المناظرات التي يتقدم بها خريجو الزيتونة

__________________

(١) الحركة الفكرية ص ٩٧.

٢٦٧

لنيل منصب التدريس من الطبقة الثانية. وكذلك كان مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت معتني بتحاريره وأسانيده متلقاة من أكفائه سنا ومقاما ـ فقد اجتمع به الشيخ محمد بن يوسف في رحلته إلى مصر والشام سنة ١٣٢٧ وروى عنه ، وحدث بسنده وقد حدثني به ـ رضي الله عنه ـ في إجازته إياي المكتوبة بخطه سنة ١٣٤٢ عن الشيخ عبد الرحمن الشربيني عن الشيخ إبراهيم السقا عن الشيخ الأمير الصغير عن الشيخ الأمير الكبير ...

وأخذت سهولة الموصلات ، وتيسير وسائل الحج تنمو بعد الحرب العالمية الأولى ، فنمت معها الاتصالات الأزهرية الزيتونية وكثر سفر شيوخ الزيتونة للحج والعمرة ، وكثرت بذلك زياراتهم للأزهر والتقاؤهم بعلمائه.

وحدثت بعد الحرب العالمية الثانية صور من التلاقي لم تكن تعرف من قبل ، إذ نشأ التواصل الرسمي بين الجامعتين الأزهرية والزيتونية فيما ربطت المواصلات بين الشيخين على عهد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ مصطفى عبد الرازق ، وما اتسق من صور التعاون الرسمي بين الجامعتين حتى أنه لما توفى شيخ الأزهر سنة ١٣٦٧ أعلن شيخ جامع الزيتونة نعيه في الصحف ببلاغ رسمي ، وعطلت الدروس في جميع المعاهد الزيتونية بالقطرين التونسي والجزائري وكذلك اتبع الأمر في المناسبات المشابهة.

ولم تزل مظاهر الاتصال تبرز فيما بين المعهدين متعاقبة فقد ولى الشيخ محمد الخضر حسين التونسي مشيخة الأزهر الشريف عام ١٣٧٤ ه‍ ، ثم كانت زيارة الأستاذ مدير الجامعة الأزهرية الشيخ أحمد حسن الباقوري ، والتف حوله علماء الزيتونة وعظموا مقدمه ، وقد خطب في جامع الزيتونة وقد انتدب غير مرة أستاذا زائرا للكلية الزيتونية المرحوم الشيخ منصور رجب الذي وافاه الأجل في مدينة تونس في ذي الحجة ١٣٨٤ ـ ١٥ أبريل ١٩٦٥ بعد أن ترك فيها جمهورا من التلاميذ والأحبة ، وقد صلى عليه

٢٦٨

شيوخ الزيتونة صفوفا بإمامة شيخهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور قبل نقل جنازته إلى مصر.

وطالما اعتزت الكلية الزيتونية بتوالي زيارة الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود الذي كانت زيارته الأولى سنة ١٣٨٢ ، وجلس تحت قبة جامع الزيتونة الأعظم. ثم ترادف فضيلته على الكلية وأبنائها حتى أصبحت مشيخته للزيتونيين لا تضيق عن مشيخته للأزهريين.

٢٦٩
٢٧٠

الباب الثاني عشر

شخصيّات .. ومواقف

ابن السّبكى

عرف تاريخ الثقافة العربية كثيرا من البيوتات العلمية التي استفاض العلم فيها ، وكان إرثا طيبا يؤول إلى الأبناء فيما يؤول إليهم من عقار وحطام ، فكان علم الأبناء امتدادا ناضجا لعلم الآباء. وقد صان هؤلاء الأبناء ذلك الموروث العلمي العظيم ، وعملوا على إثرائه وإخصابه. وبحسبنا في هذا المقام أن نذكر الامام أبا حاتم الرازي ، محمد بن إدريس بن المنذر ، المتوفي سنة ٢٧٧ ه‍. وابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم ، المتوفي سنة ٣٢٧ ، من أئمة علم الجرح والتعديل. والإمام ضياء الدين خطيب الري ، عمر بن الحسين بن الحسن ، وابنه الفخر الرازي ، محمد بن عمر ، المتوفي سنة ٦٠٦ ه‍ من فرسان علم الكلام.

على أنه لم يستعلن تأثير والد في ولده كما استعلن في تاريخ الإمام العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي ، المولود في سنة ٦٨٣ ه‍ والمتوفى في سنة ٧٥٦ ه‍. وولده العلامة تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي ، المولود في سنة ٧٢٧ ه‍ ، والمتوفى في سنة ٧٧١ ه‍.

وقد أجمع المؤرخون على فضل الوالد وسعة علمه ، فيقول عنه

٢٧١

الذهبي ـ فيما ينقل عنه السبكي :

«القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء ، كان صادقا ثبتا خيرا دينا ، من أوعية العلم ، يدري الفقه ويقرره ، وعلم الحديث ويحرره ، والأصول ويقربها ، والعربية ويحققها». ويكفي دليلا على علم هذا الرجل أنه كان الوحيد من بين علماء عصره الذي تصدى لابن تيمية ـ على عنفه وشدته ـ ورد عليه في مسألتي الطلاق ، وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وهما المسألتان اللتان زعزع بهما ابن تيمية كيان العلماء في عصره. فرد عليه الإمام السبكي في مسألة الطلاق برسالتين : رافع الشقاق في مسألة الطلاق. والتحقيق في مسألة التعليق. ورد عليه في الزيارة برسالة : شفاء السقام في زيارة خير الأنام. أو شن الغارة على من أنكر السفر للزيارة. ويقول فيه ابن تيمية : «لقد برز هذا على أقرانه». وقد نبغ صاحبنا تاج الدين في منتصف القرن الثامن الهجري ـ عصر الموسوعات العلمية ، هذا العصر الذي كان بمثابة الصحوة الفارهة بعد النكسة التي أصابت العالم الاسلامي ، والتي كادت تأتي على تراثه الضخم العريض ، إبان الغزو التتري الكاسح.

وقد ولد تاج الدين بالقاهرة ، ونسب إلى قرية سبك من أعمال المنوفية. ولم ينصرف الفتى في صباه إلى اللهو واللعب ، كما يفعل لداته وأترابه ، فقد هدهد سمعه في سن تفتحه وفود العلماء ، تفد إلى بيت أبيه ، تنشد العلم وتطلب الفتيا. فأقبل على ألوان المعرفة يحصلها على مهل واتئاد في الأزهر الشريف حتى اكتملت له أدوات العالم المجتهد. وكان مجلى هذه الثقافة الواسعة العريضة في نهاية الشوط موسوعة علمية ضخمة ، لمت أطراف الثقافة العربية ، وجلتها على نحو معجب خلاب ، على امتداد سبعة قرون في كتابه الخالد «طبقات الشافعية الكبرى».

لقد انفسح هذا الكتاب العظيم من خلال ترجمته لرجال المذهب

٢٧٢

الشافعي ـ لكثير من المباحث الفقهية والفتاوي الشرعية ، والمقالات ، والمناظرات ، والنوادر والملح ، كما حفل بالضوابط اللغوية ومسائل علم الكلام والأصول. كما كان مصدرا أدبيا لكثير من الكتب التي عالجت شؤون الحب.

وكان أيضا مرجعا أصيلا في جمع أشعار الشعراء. على أن أهميته الكبرى بعد كل ذلك ترجع إلى أنه حفظ لنا كثيرا من النصوص التي ضاعت أصولها. كتاريخ نيسابور ، للحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله ، المعروف بابن البيع ، المتوفى سنة ٤٠٥ ه‍ وتاريخ مصر لابن يونس ، عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة ٣٤٧ ه‍ ، وغير هذين الكتابين كثير من هذه الأمهات التي عبث بها الزمان.

وقد عالج ابن السبكي في كتابه هذا ذلك المنهج العلمي ، الذي عرف فيما بعد ، ونسب إلى ابن خلدون ، ذلك المنهج القائم على تمحيص الأخبار ، والتنبه لما تفعله المعاصرة والعصبية في المذهب.

استمع إليه يقول في ترجمة أحمد بن صالح المصري ، في الطبقة الثانية : «ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد ، واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة ، فجرحه لذلك». ولم تقف تلمذته للإمام الذهبي حائلا دون نقده مر النقد لمخالفته هذا المنهج القائم على الحيدة والتجرد ، فيقول عنه : «وهو شيخنا ومعلمنا ، غير أن الحق أحق أن يتبع ، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه».

ولكن هذه الحياة العلمية المخلصة لم تشغل صاحبنا عن أن يلمس مظاهر الضعف والعسف التي استعلنت في الحكم المملوكي الجائر. فظهرت دعواته الإصلاحية النقدية في كتابه القيم : «معيد النعم ومبيد النقم». لقد كان هذا الكتاب ثورة عاتية على نظم الحكم ، وأخلاق الناس

٢٧٣

فقد أتيح لابن السبكي من خلال مشاركته في الحياة العامة ـ مدرسا وخطيبا وقاضيا ـ أن يرى وبحس مدى التمزق الذي شمل الأمة نتيجة للحكم المملوكي البغيض ، الذي نبتت فيه فكرة «تركي وفلاح». والذي استأثر فيه المماليك بالمناصب الكبرى ، وتركوا أصحاب الأرض الحقيقيين يشربون العرق ويقتاتون السهد. وقد وضع ابن السبكي كتابه هذا ردا على سؤال ورد عليه ، أو وضعه هو بين يدي كتابه ، موضوعه : «هل من طريق لمن سلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه ، وردت عليه» وأجابه عن هذا السؤال راح ابن السبكي ينقد بقسوة وصراحة طوائف الأمة ، ابتداء من السلطان إلى أرباب الحرف ، آخذا في طريقة نواب السلطان والقضاة والمدرسين ورجال الدين من العلماء والصوفية.

استمع إليه يلخص رأيه في الأتراك عموما ، فيقول : «وقد اعتبرت كثيرا من الأتراك يميلون إلى أول شاك ، وما ذاك إلا للغفلة المستولية على قلوبهم» ثم يسخر من هؤلاء الأتراك وتعلقهم من الإسلام بالمظاهر الفارغة ، فيقول : «وأما أنك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به ، ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا ، ليقال : هذا جامع فلان ، فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبدا». ثم يتكلم عن السلطان ويحدد اختصاصاته فيقول : «إن الله لم يوله على المسلمين ليكون رئيسا آكلا شاربا مستريحا ، بل لينصر الدين ويعلي الكلمة». وحين يتحدث عن العلماء والمفتين يأخذ على بعض هؤلاء وأولئك تعصبهم لمذاهبهم ، وأضاعتهم الوقت في الخلافيات ، فيقول مخاطبا العلماء : «لو أن الشافعي وأبا حنيفة ومالكا وأحمد أحياء يرزقون لشددوا النكير عليكم وتبرأوا منكم فيما تفعلون» ثم يأتي إلى المفتين فيقول : «ومنهم طائفة تصلبت في أمر دينها ، فجزاها الله خيرا ، تنكر المنكر وتتشدد فيه ، وتأخذ بالأغلظ ، وتتوقى مظان التهم ، غير أنها تبالغ فلا تذكر لضعفة الايمان من الأمراء والعوام إلا أغلظ المذاهب ، فيؤدي ذلك إلى عدم انقيادهم وسرعة نفورهم. فمن حق هذه الطائفة

٢٧٤

الملاطفة وتسهيل ما في تسهيله فائدة لمثل هؤلاء إلى الخير ، إذا كان الشرع قد جعل لتسهيله طريقا ، كما أن من حقها التشديد فيما ترى أن في تسهيله ما يؤدي إلى ارتكاب شيء من حرمات الله».

ويرسم ابن السبكي المعلم للمدرس منهجا تربويا راشدا حين يقول : «وحق عليه أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين ، ثم أن كانوا مبتدئين فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات ، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون ، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات ، بل يدخل بهم في المشكلات». وتتجلى دعوة صاحبنا الإصلاحية في أبهى صورها حين يأسى للفلاح الذي يستهلك في السخرة والإقطاع. فحين يتكلم عن منصب ناظر الجيش وتحديد اختصاصاته يقول : «ومن قبائح ديوان الجيش الزامهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة. والفلاح حر ، لا يد لآدمي عليه ، وهو أمير نفسه».

وبعد ... ألا تعتقد معي أيها القارىء الكريم أن هذا الرجل إنما يتكلم بلغة عصرنا ، كمصلح اجتماعي ، وكعالم نفساني ، بصير بالنفس الإنسانية ، عالم بضعفها.

وكان طبيعيا بعد هذا النقد المر الجارح لنظام الحكم وأخلاق الناس أن تتعرض حياة الرجل ومصير أسرته للزوابع والأعاصير. فيعزل عن منصب القضاء ، لأسباب واهية ذكرها الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» وتجري له محاكمة ، يحكم عليه فيها بالحبس سنة. ولكن هل ضعف ابن السبكي ، أو تخاذل؟ استمع إلى معاصره الحافظ ابن كثير يقول : «جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله. وحصل له من المناصب والرياسة ما لم يحصل لأحد قبله ، وإبان في أيام محنته عن شجاعة وقوة على المناظرة ، حتى أفحم خصومه ، ثم لما عاد عفا عنهم ، وصفح عمن قام عليه».

٢٧٥

وبعد هذه الحياة الخصبة الزاخرة بالعلم والإصلاح انطفأت هذه الشعلة التي توهجت عبر أربع وأربعين سنة. وحق لابن السبكي أن يقول في زهو ورضا ، في ورقة كتبها إلى نائب الشام : «وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق ، لا يقدر أحد يرد على هذه الكلمة».

توفي تاج الدين شهيدا بالطاعون (بالدهشة) ظاهر دمشق ، في ذي الحجة. خطب يوم الجمعة ، وطعن ليلة السبت رابعه ، ومات ليلة الثلاثاء سابعه سنة ٧٧١ ه‍ ودفن بتربة السبكية بسفح قاسيون ، عن أربع وأربعين سنة ، بعد أن جلا صفحة مشرقة في تاريخ علماء المسلمين.

٢٧٦

الشيخ محمد الحفني شيخ الأزهر

الشيخ (١) الإمام العلامة ، أوحد زمانه علما وعملا ، المشهود له بالتحقق والكمال ، والمجمع على تقدمه في كل مجال أبو الأنوار شمس الدين محمد الحفني بن السيد سالم بن علي الحفناوي ، الأزهري ، الشافعي الخلوتي ، الذي ينتسب إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وهو الثامن من الأئمة الكبار ، الذين تولوا مشيخة الأزهر الشريف.

ولد رضي الله عنه على رأس سنة ١١٠٠ ه‍ بقرية حفنا التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية ، ونسب إليها ، حتى صارت هذه النسبة علما عليه بالغلبة ، وصار لا يذكر إلا بها.

نشأ بقريته ، وحفظ بها من القرآن الكريم إلى سورة الشعراء ، وكان أبوه وكيلا لأحد الأمراء ، ويقطن بالقاهرة. مقر عمله ، فأبقاه لديه. ولما أكمل حفظ القرآن الكريم ، اشتغل بحفظ المتون : كألفية ابن مالك ، والسلم ، والجوهرة ، وغيرها ، ثم جاور بالأزهر الشريف وأخذ عن شيوخه العلم ـ وكلهم أئمة بنورهم ينجلي الظلام ، وأقطاب ببركتهم يدرك المرام ـ منهم : محيي السنة الشيخ أحمد الخليفي ، والشيخ أحمد الملوي ،

__________________

(١) عن مجلة الأزهر الأستاذ أحمد نصار.

٢٧٧

والشيخ محمد الديربي ، والشيخ عبد الرءوف البشبيشي ، والشيخ محمد السجاعي ، والشيخ يوسف الملوي ، والشيخ عبده الديوي ، والشيخ محمد الصغير.

ومن أجل شيوخه ، الذين سمع منهم : شيخ المحدثين الشيخ محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت. أخذ عنه التفسير والحديث والإحياء للإمام الغزالي ، وصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وسنن ابن ماجه والموطأ والمعجم الكبير والأوسط والصغير للطبراني ، وصحيح ابن حبان ، والحلية للحافظ أبي نعيم ، وغير ذلك.

واجتهد ولازم ، حتى شهد له شيوخه جميعا بالتفوق ، وأثنوا على دقة فهمه ، ورجحان عقله ، وسعة معرفته وأجازوه بالإفتاء والتدريس ، وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره المبارك ، فكان أمره عجبا يلفت النظر ، لقصر هذه المدة ، التي حفظ فيها القرآن ، وأتم طلب العلم فصار أهلا للإفتاء والجلوس للتدريس ، ولكن ابن العناية ملحوظ فأقرأ الكتب الدقيقة في حياة شيوخه ، وشهد له معاصروه بالبراعة ، والإجادة في الإفادة ولازم درسه أكثر طلبة العلم.

وكان إذ ذاك في ضيق من العيش. وفي ذلك يقول :

إني أقول لنفسي وهي ضيقة

وقد أناخ عليها الدهر بالتعب

صبرا على شدة الأيام ، إن لها

وقتا وما الصبر إلا عند ذي الحسب

ولكن هذا الحال ، لم يخرجه عن القناعة والرضا ، ولم يبد منه أن لدنيا عنده قدرا فقد أنشد :

خبز وماء وظل

هو النعيم الأجل

جحدت نعمة ربي

إن قلت إني مقل

ثم أخذ بالأسباب لزيادة دخله ، فاشتغل بنسخ الكتب بالأجر ، وإن كان ذلك

٢٧٨

قد شق عليه ، خوفا من أن يشغله النسخ عن متابعة إقراء العلم ، ولكنه لم يستمر طويلا حتى أذن الله فجاءه الفرج وأقبلت الدنيا عليه ، وصار رزقه فيضا إلهيا ، فاتجه بكليته إلى العلم وعقد الدروس ، وقرأ جمع الجوامع للعلامة السبكي ، والأشموني على الألفية ومختصر السعد ، وحاشية حفيده عليه. وابن عبد الحق على البسملة ، وغيرها.

واشتغل بعلم العروض ، حتى برع فيه وأجاد نظما ونثرا ، حتى عرف بالفصاحة ، وجودة البيان ، وكثيرا ما كان يرتجل الشعر ، فمن ذلك قوله :

أتطلبون رضائي الآن عن نفر

قلوبهم بنفاق لم تزل مرضى

تجاهروا بقبيح الفسق ، لا ربحوا

إن كنت أرضى ، فإن الله لا يرضى

ومن نثره : من رسالة لبعض تلاميذه في الطريق ، وقد جمعت بين قوة الأسلوب وعذوبة اللفظ ، وضمت إلى حسن التوجيه ، نهجا عاليا في التربية والتهذيب ، قال فيها :

«.. ومن زاد عليك إقباله ، وتوجهت إليك بالصدق آماله ، فاصرف قلبك إليه ، وعول في التربية عليه ، ومن عنك بهواه صد ، بعد أخذك عليه وثيق العهد ، فدعه ولا تشغل به البال ، وأنشده قول أستاذنا (أي السيد مصطفى البكري) لمن عن طريقنا قد مال :

ألم تدر أنا من قلانا سفاهة

تركناه غب الوصل يعمى بصده

ومن صدعنا حسبه الصد والجفا

وإن الردى أصماه من بعد بعده

ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته

وأنا نكافيه على ترك حمده

وإنا غدا لما نعد محبنا

واتباعنا لسنا نهم بعده

ومن أردت زجره للتربية وإرشاده ، فليكن ذلك على انفراد ، إذ هو أرجى لإسعاده ، ولا تزجر بضرب ولا نهر بين الناس ، فإن ذلك ربما أوقع المريد من اليأس ، ولا تلتفت لمن أعرض ، ولا لمن يصحبك لغرض ،

٢٧٩

وعليك بالرفق للإخوان ، سيما أخوك فلان ، فالخير لمن صاحب بإحسان ، والأدب واللطف محمودان ، والغلظة والحقد موبقان ، فاصرح القال والقيل ، واصفح الصفح الجميل ، ولك ولكل من أخذ عنك أو حبك ، منا ومن أهل سلسلة طريقتنا ما سرك ، فابشر إن عملت بما أشرنا بكل خير ، ومزيد الفتح ، والمسير في السير».

وقد تخرج عليه غالب أهل عصره وطبقته ، ومن دونهم : كأخيه الشيخ يوسف الحفناوي ، والشيخ إسماعيل الغنيمي صاحب التآليف البديعة ، والتحريرات الرفيعة ، وشيخ الشيوخ على الصعيدي العدوي ، والشيخ محمد الغيلاني ، والشيخ محمد الزهار ، وغيرهم ، وكانت على مجالسه هيبة ووقار قلما يسأله أحد لجلالته.

ومن مؤلفاته المشهورة التي أتحف بها المكتبة العربية في كل علم وفن :

١ ـ الثمرة البهية في أسماء الصحابة البدرية : في التاريخ.

٢ ـ حاشية على شرح الأشموني على الألفية : في النحو.

٣ ـ حاشيته على شرح الهمزية لابن حجر الهيثمي : في الأدب.

٤ ـ رسالة في التسبيح والتحميد : في الفضائل والآداب.

٥ ـ رسالة في التقليد في الفروع : في أصول الفقه.

٦ ـ رسالة في الأحاديث المتعلقة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم.

٧ ـ حاشية على الجامع الصغير للسيوطي في جزءين : في الحديث.

٨ ـ حاشية على شرح الشنشوري على الرحبية : في المواريث.

٩ ـ حاشية على مختصر الشيخ التفتازاني.

٢٨٠