الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

١

٢

٣
٤

الباب السابع

حول الأزهر ورسالته

ـ ١ ـ

كانت الغفوة الكبرى التي أصابت العالم الإسلامي في القرون الوسطى ذات أثر بعيد في حياته السياسية والعقلية والاجتماعية في القرن التاسع عشر.

لم يبعد المسلمون هذه الحقبة الطويلة كثيرا عن تقاليد الشرق ، وإنما جافوا روح الإسلام ، وجهلوا مبادئه وأهدافه ، ووقفوا أمام تيار النهضة الغريبة جاهلين عاجزين أذلاء. وبادرهم المستعمرون بتحطيم ما بقي في أجسامهم من منعة ، وفي قلوبهم من إيمان ، وفي أرواحهم من عزة ومثل عليا ... وكانت الأحداث الكبرى التي هزت العالم الإسلامي هزا عنيفا داعية للمفكرين والمصلحين أن يجاهدوا في سبيل البعث والإحياء وتجديد الحياة والأمل في نفوس المسلمين. واقترن ذلك بدعوات جريئة للإصلاح ، انبعثت من رجال الدين حينا ، ومن غيرهم حينا آخر. من أمثال محمد بن عبد الوهاب م ١٢٠٦ ه‍ ، والسيد أحمد خان الهندي ١٨٩٨ م ، والسيد أمير علي ، والكواكبي ١٩٠٢ م ، وجمال الدين الأفغاني ١٨٩٧ م ، ومحمد عبده ١٩٠٥ م ، وسواهم من دعاة الإصلاح ، وحملة رسالته.

كان السيد جمال الدين الأفغاني يريد تحرير الشعوب الإسلامية من

٥

العبودية والاستعمار ، وتكوين حكومة إسلامية موحدة تهتدي بهدى الإسلام ، وبعث الروح القومي في الشرق عن طريق الإصلاح الديني العام .. وكان محمد عبده يريد النهوض بالشرق الإسلامي سياسيا عن طريق النهضة الثقافية به ، ويرى أن الإسلام هو السبيل لتمهيد حركة الإصلاح وتغذيتها ، وأنه هو والعقل والعلم إخوة ، ولذلك دأب على الدعوة إلى تصحيح العقيدة ، وإذاعة رسالة الإسلام ، وإيقاظ الشعور العام بإيقاظ الروح الديني .. وخفتت بعد محمد عبده دعوة الإصلاح في الشرق ، وإن لمعت جذوتها حينا في أفكار الشيخ مصطفى المراغي ، رحمه الله ، الذي كان يعمل للنهوض بالأزهر الحديث حتى يصل إلى مستوى الجامعات الكبرى في الشرق والغرب .. كما أضاءت الشعلة حينا آخر في آراء الشيخ مصطفى عبد الرازق وحمروش وعبد المجيد سليم ، الذين كانوا يحرصون على إحياء التعارف والتعاون بين المسلمين عامة. ولكن هذه الآثار لم تكن على جانب خطير من الأهمية في الإصلاح الديني في الشعوب الإسلامية في القرن العشرين.

ـ ٢ ـ

رسالة الأزهر في رأي المراغي :

رسالة الأزهر عنده هي حمل رسالة الإسلام .. ومتى عرفت رسالته عرفت رسالة الأزهر. والإسلام دين جاء لتهذيب البشر ورفع مستوى الإنسانية والسمو بالنفوس إلى أرفع درجات العزة والكرامة ، طوح الإسلام بالوسطاء بين الناس وربهم ، ووصل بين العبد وربه ، ولم يجعل لأحد فضلا على أحد إلا بالتقوى ، وقد العلم والعلماء ، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات ، وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة ، ووصل إليه العقل ، وفرض عبادات كلها ترجع إلى تهذيب النفس

٦

وتلطيف الوجدان ، وإبان أصول الأخلاق ، وقرر التمتع بالطيبات ولم يحرم إلا الخبائث ، ووضع حدودا تحد من طغيان النفوس ونزوات الشهوات ، ووضع أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين : قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني .. هذه صورة مصغرة جدا للدين الإسلامي ، وشرح قواعده وأسراره ، ومتى أدى الأزهر هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيبا عظيما من السعادة والخير للجمعية الإنسانية. وفي القرآن الكريم حث شديد على العلم ، وعلى معرفة الله وعلى تدبر ما في الكون ، وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق. فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحقة. وليس في المعارف الصحيحة المستقرة شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها ، نعم قد توجد معارف تناقض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغير ذلك ، ولكنا لا نهتم لهذا. فليسر العلم في طريقه ، ولنصحح معارف الماضين ، ولكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر ، ولم يقصد من هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة ، أو كلية للكيمياء أو ما يشبه هذا : ولكنه يعني أن هناك علوما ومعارف لها صلة وثيقة بالدين ، تعين على فهمه ، وتبرهن على صحته ، ويدفع بها عنه الشبهات. فهذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني أو يتعلم منها القدر الضروري لما يوجه إليه.

وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية ، وأصبح الإعلان عنها ضروريا لنشرها وترغيب الناس فيها. ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة ، فقارنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها ، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر النفس منها. وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفا وأكثر قيمة وأمتن مادة ، ومع ذلك فهي في كساد ، وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم ، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم ، وتنفي عنه الملل والسأم ، حدثت هذه الطرق في إلقاء

٧

الدروس والمحاضرات ، وحدثت في تأليف الكتب أيضا ، وهذا المثل ينطبق علينا ، ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر ، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر ، أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف ، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون ، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج ، وهي تحقق العدالة في أكمل صورها. ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم.

على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس ، وأن ييسر لهم هذه المعارف ، وأن يعرضها عرضا حديثا جذابا مشوقا ، ومسألة أخرى يجب أن يعني الأزهر بها : هي تطهير الدين الإسلامي من البدع ، وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده ، فهناك آراء منثورة في كتب المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها ضنا بكرامة الفقه والدين.

من الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها ، وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب الولاة والقضاة للكندي : «كان في مصر قاض شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي. وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب. وكان مرضى الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه ، سأل ذلك القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقعات. فقال الطحاوي : أتسألني عن رأيي أم عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي : ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي : ظننتك تحسبني مقلدا. فقال القاضي : ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟» ، فتخير الأحكام نوع من الاجتهاد ، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه ، فإصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم

٨

الإسلامية على مختلف أقطارها وأجناسها ، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه إذا استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأن نرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في ذلك إخلاصا لله ولرسوله وللمؤمنين وللدين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله ، وجعله هداية عامة لجميع البشر .. ونصيحة أقدمها إلى العلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيا تدبرها ، وهي احترام حرية الرأي ، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر ، ولا نطالب بشيء يعد بدعة ، ولا نحدث في الدين حدثا بهذه النصيحة ، فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة رضى الله عنهم. وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي ، وحاصلها ـ على ما أذكر ـ أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها كالصلاة والزكاة وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا ، أما إنكار أن الإجماع حجة ، وخبر الواحد حجة ، والقياس حجة ، فلا يوجب الكفر ، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقا ، على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع.

على هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم ، وأجمع عليه الأئمة ، ولم يعرف أن بعضهم أثم بعضا ، وعلى الجملة فما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئا منه ، ولا يكذب ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم بطريق قاطعة ، فهو مسلم لا يحل لأحد أن يتهمه بالكفر .. عرضنا لهذه النصيحة لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس ، والعمل بها يمّكن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة ، والعمل على خلافها منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة.

وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم ، فمن أول واجب على أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات ، لغات الأمم الإسلامية وغير الأمم الإسلامية ، والله لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فليحقق الأزهر القدوة ، وليرسل إلى الناس رسلا يفقهونهم في دينهم بلسانهم .. وقد عنى

٩

المراغي بهذه المسألة كما عنى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون «أغرابا» ، فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد ، ونرجو أن يفكروا طويلا فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع.

ـ ٣ ـ

وكان الشيخ عبد المجيد سليم يرى وهو في أول مشيخته الأولى اقتران الإصلاح الديني في العالم الإسلامي بإصلاح الأزهر الشريف.

ومهمة الأزهر في رأيه جد خطيرة ، فهي تشتمل : «تعليم أبناء الأمة الإسلامية دينهم ولغة كتابهم ، تعليما قويا مثمرا ، يجعلهم حملة للشريعة ، أئمة في الدين واللغة ، حفّاظا حرّاسا لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح والقيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته ، وإقامة حجته ، ونشر دينه ... فعلى رعاية هذين الجانبين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر ، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه (١)».

ووسائل إصلاح هذه الجامعة الإسلامية العتيدة تتلخص في رأيه فيما يلي :

١ ـ مراجعة الكتب الدراسية ، وإبقاء الصالح منها ، واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره.

٢ ـ تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية وغيرها حتى يتصل حبل العلم ... وتوجيه العلماء إلى وضع بحوث في الفقه والتشريع تساير الروح العلمي الحاضر.

٣ ـ إعداد جيل قوي من أبناء الأزهر يستطيع أن يحمل الرسالة ، فإن

__________________

(١) من حديث له في المؤتمر الصحفي بإدارة الأزهر في أول نوفمبر عام ١٩٥٠.

١٠

الأمة تريد من الأزهر أن يخرج لها علماء في الدين والشريعة واللغة وسائر العلوم العقلية والاجتماعية المتصلة بها ، على أن يكون هؤلاء العلماء مزودين مع هذا بقدر صالح من العلوم الأخرى التي تفيدهم في مجتمعهم ثقافة عامة ، وفي هذا يقول أيضا موجها كلمته إلى الأزهريين : نصيحتي إليكم أن تعلموا أنكم مجندون في سبيل الله ، فأقبلوا على دراستكم ، وتجملوا بالفضيلة بينكم وبين الناس ، لتحقيق آمال الأمة فيكم ، وإعلاء كلمة الدين والعلم بكم (١).

٤ ـ تشجيع حركة البعوث العلمية التي يرسلها الأزهر إلى جامعات أوروبا للتزود من شتى الثقات .. ولا بدع فإن العلم رحم «بين الناس كافة» كما يقول الأستاذ سليم لعلماء جامعات أوروبا الذين زاروا مكتبه في زيارتهم للأزهر الشريف.

٥ ـ تنظيم هذه الجامعة الكبرى تنظيما يتفق مع خطر رسالتها ، ويساعدها على أداء هذه الرسالة ، بإنشاء مكتبة كبرى ، ودار كبيرة للطباعة ، وإكمال مباني الأزهر الجامعي ، تمهيدا للاحتفال بعيده الألفي ، إلى غير ذلك من وسائل الإصلاح :

أما مهمة الأزهر في سبيل الإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي فتتلخص فيما يلي :

١ ـ العناية بإصلاح حالة الأسر بإصلاح شئونها ، ودعم كيانها ، عن طريق بحث التشريعات اللازمة لها : في الزواج ، والطلاق ، والنفقة ، والحضانة ، والولاية ، وما إليها (٢).

٢ ـ نشر الدين والثقافة في كل ناحية.

__________________

(١) من كلمة أذاعها في أول العام الهجري ١٣٧٠ ه‍.

(٢) من حديث له نشر في الأهرام في ٢٨ ـ ١٠ ـ ١٩٥٠.

١١

٣ ـ إرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أرجاء البلاد الإسلامية لدراسة أحوالها وتهذيب أبنائها.

٤ ـ تشجيع البعوث الوافدة على الأزهر ، وبناء دار كبرى لإقامتهم ، ورعاية شئونهم العلمية والخلقية والدينية.

٥ ـ ربط الأزهر بشتى الجامعات الشرقية ، وإنشاء مراكز ثقافية له في عواصم البلاد الإسلامية.

وأما مهمة الأزهر في الدعوة إلى الدين في العالم ، فهي كما يرى تشمل ما يأتي :

١ ـ توجيه العلماء إلى وضع مؤلفات باللغات الأجنبية ، لبيان حقيقة الإسلام ومزاياه.

٢ ـ إنشاء إدارة للدعاية الإسلامية ، تتولى توجيه الناس إلى الإسلام ومبادئه الخالدة.

٣ ـ ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية.

ـ ٤ ـ

ويرى الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش أن رسالة الأزهر تقوم على دعامة التوجيه العلمي لنظم الدراسة فيه ، لتكوين جيل قوي كفء من أبنائه يتحلى بصفات العلماء ، ومواهب وأخلاق رجال الدين ، دون نظرة إلى الكثرة والعدد ، وأن هذا الجيل القوي يستطيع أن يؤدي رسالة الأزهر العلمية والدينية في مصر والشرق الإسلامي ، وقد بدأ الشيخ في مشيخته بالتفكير في طبع رسائل للتعريف بالدين بشتى اللغات ، وبفتح القاعة الكبرى للأزهر لمحاضرات علمية وتوجيهية يلقيها كبار شيوخ الأزهر.

١٢

وقد نشر الأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء كتابا عنوانه «رسالة الأزهر في القرن العشرين» ، ذهب فيه إلى أن رسالة الأزهر هي أن يفهم الناس الدين على وجهه وأن ننقيه من التفسيرات الخاطئة التي دخلت عليه ، وفوق ذلك عليه أن يعني بأخلاق الأمة وتقاليدها.

وقد أخذ الأستاذ على الأزهر أن التعليم في الأزهر لم يعن بالخلق كما يجب ، وأن الإقبال على العلم بين جدرانه أصبح ضعيفا ، وأن المادية قد دخلت فيه وأفسدت الكثير من حياته.

وإبان أن ثقة الأمة في الأزهر تضعف شيئا لعوامل كثيرة : منها قلة الإنتاج العلمي في محيطه ، وانقلاب الأزهريين إلى موظفين لا غير ، وضعف نفسية الأزهري وثقافته وأفق تفكيره ، وعدم وجود بيئة صالحة في وسط الأزهر.

كما ترجع إلى الفساد الذي استشرى في الأزهر من الناحية الإدارية وغيرها ، وإلى بعد الأزهر عن الحياة العامة ، وإلى عدم انتظام الأمور فيه في الكثير ، وانعدام تنفيذ قوانين الأزهر ، وعدم أخذ الأمور بالحزم ، والسياسة الحزبية التي تفسد على الأزهر كل شيء ، وتدخل في وسطه للهدم والتدمير.

ـ ٦ ـ

وفي عام ١٣٦٢ ه‍ ـ ١٩٤٤ ألقى الأستاذ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء محاضرة في دار كلية الشريعة عنوانها «السياسة التوجيهية العلمية في الأزهر» تتصل برسالة الأزهر ، وجاء فيها :

الغرض من الجامع الأزهر ، كما جاء في المادة الأولى من القانون

١٣

رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ بإعادة تنظيم الجامع الأزهر ، وهو آخر تعديل لهذا التنظيم : ـ

١ ـ القيام على حفظ الشريعة الغراء : أصولها ، وفروعها ، واللغة العربية ، وعلى نشرهما.

٢ ـ تخريج علماء يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد والمدارس ويلون الوظائف الشرعية في الدولة.

وهذا هو الغرض من الجامع الأزهر ، لا من تاريخ هذا القانون فقط ، ولا من تاريخ أول قانون وضع لتنظيم الأزهر ، ولكنه غرضه من يوم أن انسلخت عن الأزهر الصبغة الشيعية التي أنشىء لتركيزها وتنميتها والقضاء بها على المذاهب الأخرى. من يوم أن تولى الظاهر بيبرس ملك مصر سنة ٦٥٨ هجرية ، وأعاد إلى الأزهر حياته العلمية التي أبطلها صلاح الدين الأيوبي عملا منه على إزالة كل أثر للفاطميين ، فمن ذلك الحين ـ فقط ـ تبتدىء حياة الأزهر العلمية التي لا تتقيد برأي ولا مذهب ، ولا تقتصر على علم من العلوم ، فقد درست فيه جميع العلوم الشرعية على اختلاف المذاهب والأصول ، ودرست فيه علوم اللغة العربية بجميع مذاهبها وآرائها ، ودرست فيه آراء علماء العقيدة لا فرق بين فرقة وفرقة ، كما درس فيه كثير من العلوم الرياضية والعقلية ، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية ، وخدمة الشريعة والعقلية ، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية ، وخدمة الشريعة واللغة ، كان هذا هو الغرض من الجامع الأزهر منذ ذلك الحين ، ولم يكن موزعا على طلاب العلم بحيث يختص كل فريق منهم بناحية معينة على نحو ما نرى اليوم ، بل كان جميع طلابه ينهلون من جميع علومه ، لا اختصاص لأحد بعلم ، إلا ما كان عن طريق الاستعداد الفطري ، والميل النفسي ، وقد مرت بالأزهر أطوار مختلفة ، كان فيها بين الصحة والمرض ، والتقدم والتأخر ، والنهوض

١٤

والتقاعد ، والإنتاج والعقم ، ولسنا بصدد الكلام عن هذه الأطوار التي طواها التاريخ بما لها أو عليها ، ولكن مما يهمنا في هذا الحديث ، أن نعرف أن هذه الأطوار ختمت بعهد تجمعت فيه علل ماض طويل ، وأخذت تعمل عملها في صرف الأزهر عن التفكير والإنتاج ، وعن كل نافع من العلوم العقلية والكونية ، وانتهت مظاهر العلم والتفكير فيه إلى أن تغلبت المبادىء الآتية :

١ ـ تغلبت العناية بالمناقشات اللفظية ، وتتبع كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح والحواشي والتقارير على الروح العلمية الموضوعية التي من شأنها أن تخدم الفكرة ، بقطع النظر عما يتصل بها من لفظ وعبارات.

٢ ـ تغلبت روح التقديس للآراء والأفهام التي دونها السابقون ، والسمو بها على مستوى النقد ، وعدم الاكتراث بما قد يظهر من آراء جديدة ، ولو كان لها من السداد والقوة ما لها.

٣ ـ تغلبت نزعة الإشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام ، فتراهم يقولون : لو طلقها نصف تطليقة أو ربع تطليقة ، ولو قال لها أنت طالق إن شئت ، فقالت له : شئت إن شئت ، وتراهم يقولون : لو تزوج جنية ، فالحكم في النسب والميراث كذا ...

ولقد أكثروا من هذا في العبادات والمعاملات ، وأنفقوا فيه من الوقت والتفكير ما كان جديرا بهم أن يدخروه للنافع المفيد ، ووصل الأمر في ذلك إلى أن الكمال بن الهمام وهو من أفذاذ علماء القرن التاسع يقول : ومن مسائل قبل وبعد ما قيل منظوما.

رجل علق الطلاق بشهر

قبل ما بعد قبله رمضان

ثم يندفع في تخريج هذا الفرض وبيان حكمه ، ثم يأتي بعده ابن نجيم الحنفي ـ صاحب البحر والأشباه ـ فيتولى الشرح والبيان والتكميل

١٥

ويقول : «إن هذا البيت يمكن إنشاده على ثمانية أوجه ، الخ.

ويشاركه في ذلك علماء عصره ثم يأتي من بعدهم ابن عابدين من علماء القرن الثالث عشر فيضع رسالة في هذا الفرض تحت عنوان «إتحاف الذكي النبيه ، بجواب ما يقول الفقيه» ، يشرح فيها أبياتا أولها :

ما يقول الفقيه أيده الل

ه ما ولا زال عنده الاحسان

في فتى علق الطلاق بشهر

قبل ما بعده قبله رمضان

ويورد في الرسالة آراء جميع من تقدمه من العلماء في الشرح والحكم ، ولا بد أن يجعل الجواب نظما كالسؤال ، وهكذا اشتغل المتأخرون بمثل هذه الفروض وأعرضوا بها عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم وقضيتهم.

٤ ـ تغلبت نزعة الاشتغال باختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي ، ولقد تناولت هذه الحيل كثيرا من أبواب الفقه ، ولم تقف عند الحد الذي أثر عن الأئمة من جعلها وسيلة للتخلص من ضرر أو مكروه ، بل افترضوا حيلا يسقطون بها الواجبات ، ويفسدون بها الالتزامات ، فتجد حيلا لإسقاط الزكاة وحيلا لإسقاط حق الشفعة ، وحيلا لإسقاط عدة المطلقة ، وحيلا لإسقاط الحدود .. وهكذا مما لا يتفق ومقاصد الشريعة ـ ولقد أطنب ابن القيم أحد أفذاذ علماء القرن الثامن في كتابيه «أعلام الموقعين ، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» في الرد على فكرة الاحتيال على هذا النحو ، وبين أنها مضادة لروح التشريع ، وقال : «إن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة ، ونسبوها إليهم وهم مخطئون» ، وإذا علمنا أن العناية بالاحتيال الفقهي وصل أمرها إلى أن جعلوه فنا من كتبهم ، وبابا من أبوابها ، لأخذ منا العجب مأخذه ، فهذا ابن نجيم من علماء القرن العاشر يضع عنوانا في كتابه (الأشباه والنظائر) فيقول «الفن الخامس من الأشباه والنظائر وهو فن الجبل».

١٦

٥ ـ تغلبت روح التعصب المذهبي الشديد ، حتى وصل الأمر في ذلك بين أتباع الأئمة إلى المناقشة في صحة الاقتداء بالمخالف في المذهب ، وأخذت هذه المسألة في كل مذهب مجالا واسعا في البحث والتفريع ، ووصل الأمر أيضا إلى البحث عن حكم التزوج من الشافعية ، فترى الكمال بن الهمام وهو في الكلام على حكم التزوج بالوثنيات ينقل عن أحد علماء الحنفية : أنه لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال ، ثم يقول بعد هذا النقل : «ومقتضاه منع مناكحة الشافعية» ، واختلف فيها هكذا : قيل يجوز ، وقيل يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته». وترى أثر هذه النزعة في حكم الحاكم بحل متروك التسمية عمدا ، وفي حكم العقد الذي يشترط فيه بعض المذاهب ما لا يشترط البعض الآخر .. وهكذا وصل التعصب المذهبي إلى مثل هذا الحد ، وصارت المذاهب بين المسلمين ـ وبين أبناء الأزهر ـ أديانا يتقاتل أهلها ، ويضلل بعضهم بعضا ، وهي لا تخرج عن أنها آراء وأفهام حذر أئمتها الأولون من تقليدها والعمل بها دون الاطمئنان إليها بمعرفة الحجة والبرهان.

٦ ـ تغلبت الفكرة القائلة بتحريم تقليد غير المذاهب الأربعة ، فحجروا واسعا ، ومنعوا رحمة اختص الله بها هذه الأمة ، ولقد ظهرت هذه الفكرة على وجه أوضح منذ عهد قريب ، يوم وضع الأستاذ الشيخ المراغي ، مشروع الزواج والطلاق ، فقام ثلاثة من علماء الأزهر بعمل مذكرة تناهض هذا المشروع ، وتبني مناهضتها على أنه لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة فكتب المراغي مذكرة قيمة ، لها خطرها في التوجيه الفقهي والتشريعي ، بين فيها كثيرا من مسائل الاجتهاد والتقليد ، كما بين آراء العلماء في تأثر الفقه بالعرف والعادة ، ويجدر بنا في هذا المقام أن نعلم أن العلماء الذين تناولوا هذه المسألة قديما واستساغوا أن يحكموا بمنع تقليد غير الأربعة لم ينظروا إلى خصوصية في ذات المذاهب الاربعة ، وإنما جعلوا مناط التقليد على وجه العموم الثقة بالمذهب الذي يقلد ، واطمئنان النفس إلى صحة النقل

١٧

عنه ، فمن ثبت عنده رأي من آراء الأئمة أو الصحابة جاز له تقليده والعمل بمقتضاه ، لا فرق بين إمام وإمام ، ولا بين الأربعة وغيرهم ، ولهذا يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام «لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة ، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده ، وفاقا ، وإلا فلا» ، ويقول أيضا «إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله» ، ومن هنا يقول القرافي : «انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر ، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ، ويعمل بقولهما من غير نكير ، فمن ادعى دفع هذين الإجماعين فعليه الدليل» أه ، هذا هو أصل الفكرة فانظروا كيف حرفت وجعل التقليد خاصا بالمذاهب الأربعة ، بل جعل واجبا يذكر تبيين ما يجب على المكلف أن يدين به ويعتقده ، فيقول بعض المؤلفين في منظومته : «وواجب تقليد حبر منهم».

ورث الأزهر أيضا فكرة أن من قلد إماما من الأئمة الأربعة فليس له أن يحيد عنه ، بل يجب عليه أن يلتزمه بدون حجة ولا بحث وراء دليل ، ولا يصح أن يقلد غيره ولو في غير ما قلده فيه ، ومذكرة الثلاثة التي أشرنا إليها قد تأثرت بهذه الفكرة أيضا ؛ فأوجبت على القاضي أن يحكم بمذهبه ، وحظرت عليه أن يحكم بغيره ، وذلك على الرغم من أن علماء الأصول يقولون في هذه المسألة «والأصح أنه لا يلزم ، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة فيقلده في دينه وفي كل ما يأتي ويذر دون غيره».

ورث الأزهر أيضا القول بحرمة تتبع رخص المذاهب حتى جعلوا عدم تتبع ذلك شرطا في صحة تقليد غير الإمام ، وصاحب التحرير يقول أيضا في هذه المسألة : «ولا يمنع منه مانع شرعي» إذ للإنسان أن يسلك الأخف

١٨

عليه إذا كان له إليه سبيل ، ولا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع ، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما علمت من الشرع ذمه عليه ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما يخف على أمته».

وورث الأزهر فكرة كان لها أثر خطير في انحرافه عن سبيل التفكير الصحيح وتقدير الآراء بقيمتها العلمية : هي خطة المعاداة لطائفة من العلماء نضجت عقولهم وأدركوا أسرار الشريعة ، وخالفوا الناس في كثير مما درجوا عليه ، وتحرروا من الإغلال التي قيد المقلدون بها أنفسهم ، حكم الأزهر عليهم بأحكام جائرة ، وشكك في تدينهم وإخلاصهم وآرائهم ، وشوهوا في الكتب وعلى ألسنة الدعاة بغير حق ، وجعل ذلك سبيلا إلى رفض العمل بآرائهم ، وعدم الاعتداد بأفكارهم فصرفت الأنظار عنهم ، وصرنا نسمع من أسباب رفض الرأي : هذا رأي ابن تيمية ، وابن تيمية ضال مضل ، وهذا قول ابن القيم تلميذه ، كما يقال : هذا رأي الزمخشري وهو معتزلي ، أو ابن رشد وهو فيلسوف ... وهكذا ، كأن هؤلاء ليسوا من أهل العلم ، ولا من رجال البحث أو كأن الحق وقف على طائفة من الناس لا يعدوها .. وأخيرا ورث الأزهر في ذلك العهد : القول بتحريم الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية وأخذ يحارب المشتغلين بها جيلا من الزمن ، ولعل من الطريق في ذلك أن نشير إلى الاستفتاء الذي تقدم به بعض الناس إلى الشيخ الانبابي شيخ الجامع الأزهر ، وإلى مفتي الديار المصرية الشيخ محمد البنا سنة ١٣٠٥ ه‍ يسألون فيه : هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية ، مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وغيرها من سائر المعارف؟ وهل يجوز قراءتها كما تقرأ العلوم الآلية من نحو وغيره في الجامع الأزهر؟

هذه هي التركة المثقلة التي خلقتها العصور المظلمة ، واحتملها الأزهر في طور مرضه الشديد كعقائد دينية ، وواجبات يرى أن يتمسك بها

١٩

وأن يذود عنها ، وأن يرمي خارج محيطه بمن يفكر في التحلل منها ، ولقد كانت النتيجة الحتمية لهذا الميراث الثقيل أن وقفت حركة التفكير العلمي في الأزهر ، وحرم نفسه لذة البحث والنقد ، وانحصرت مظاهر التبريز والنبوغ فيه في القدرة على حل المشاكل اللفظية في المتون والشروح والحواشي ـ التي تعود على العلم بكبير فائدة ، وبهذا انقطعت علاقة الأزهر بالأمة في تفكيره وعلومه وتشريعه ، وأصبحت النظرات المتبادلة بينهما كالنظرات المتبادلة بين طائفتين ضاقت كل منهما ذرعا بصاحبتها ، وأخذت تتربص بها الأحداث والدوائر.

ظل الأزهر كذلك حتى هيأ الله له ـ على سنة الله سبحانه : من عدم إخلاء الأمم ممن يعرف الحق ويدعو إليه ـ واحدا من أبنائه لا ينسى التاريخ فضله ، هو الاستاذ الإمام المصلح له الشيخ محمد عبده رحمه الله ورضي عنه. صاح بالأزهر صيحة أيقظته من نومه ، ونبهته بعض الشيء إلى واجبه ، وكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر ، انتفع به من انتفع ، وأزور عنه من أزور ، ولكنه مع ما قوبل به من محاولات متعددة لإطفائه ، ظل قويا وهاجا يجذب إليه أنظار المؤمنين ، وينفذ إلى بصائر المخلصين ، ويعلو ويتسع أنفه شيئا بعد شيء. ومنذ ذلك الحين اتجهت الأنظار إلى وضع نظم من شأنها أن تمكن الأزهر من الانتفاع بهذا النور ، والسير على هداه حتى يقوم برسالته ، ويصل إلى غرضه المنشود ، فوضعت نظم متلاحقة متشابهة ضمت إلى العلوم الشرعية والعربية كثيرا من العلوم العقلية والرياضية فاتسع لها صدر الأزهر ، وهضمتها عقليته الجديدة. والأزهر الآن في كلياته ومعاهدة والقضاء الشرعي والإفتاء ، والوعظ والإرشاد في المساجد وغيرها ، كل أولئك ينتفعون بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم ، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها ، واستمر الأزهر كذلك إلى أن تولى مشيخة الأزهر للمرة الأولى الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وهو من أبناء الأزهر الذين عرفوا تاريخه

٢٠