الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

الأزهري يرد على اسماعيل باشا

نشبت الحرب بين مصر والحبشة في عصر الخديو إسماعيل .. وعلى غير ما كان يتوقع الخديو توالت الهزائم على مصر وتواردت الأخبار كل يوم من ميادين المعارك تحمل إليه مزيدا من الأسى واليأس .. والخلاف والخلاف الذي يدب بين قواده!!

وضاق صدر الخديو يوما بما يتلقاه من أنباء سيئة فاستدعى شريف باشا وركب معه محاولا أن يرفه عن نفسه .. وفجأة التفت الخديو إلى شريف باشا وقال له :

ـ ما ذا تصنع حينما تلم بك ملمة تريد أن تدفعها؟!

قال شريف باشا :

ـ يا أفندينا إن الله عودني إذا حاق بي شيء من هذا أن ألجأ إلى صحيح البخاري يقرأه لي علماء أطهار الأنفاس فيفرج الله عني!

انزاح الهم عن صدر الخديو واتسعت الابتسامة على وجهه .. فإذا كان الأمر كما يقول شريف باشا فبمقدوره أن يحول الهزائم إلى انتصارت دون أن يكلف خزانته شيئا!!

عاد الخديو إلى قصره وأرسل في استدعاء الشيخ العروسي شيخ

٣٢١

الأزهر وقتئذ وطلب منه أن يجمع له جمعا من العلماء الصالحين ليقوموا بتلاوة البخاري إمام القبلة القديمة في الجامع الأزهر بنية دفع الهزيمة عن مصر!

نفذ الشيخ العروسي أمر الخديو وجلس جمع العلماء ، المختارين بعناية .. أمام القبلة يتلون البخاري أناء الليل والنهار ، ولكن دون جدوى .. فالهزائم لم تتوقف ساعة واحدة .. وأخبارها تتوالى دون انقطاع!!

واستبد الغضب بالخديو فصحب شريف باشا إلى العلماء .. وقال لهم.

ـ أما أن هذا الذي تقرأونه ليس صحيح البخاري ، أو أنكم لستم العلماء الذين نعهدهم من رجال السلف الصالح فإن الله لم يدفع بكم ولا بتلاوتكم شيئا؟!

وجم العلماء ولم يجد أحدهم جوابا .. ووسط الصمت الرهيب الذي ساد المكان ارتفع صوت شيخ من أخر الصف موجها حديثه للخديو :

ـ منك يا إسماعيل .. فإنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم»!

ركب الفزع وجوه المشايخ لهذه الجرأة من صاحبهم وتوقعوا عقابا صارما يشملهم جميعا .. إلا أن الخديو لم ينبس بكلمة وسارع بالانصراف هو وشريف باشا!

التف العلماء حول صاحبهم وأخذوا في تأنيبه ولومه .. وبينما هم كذلك أقبل شريف باشا يسأل عن الشيخ الذي رد على الخديو .. ثم صحبه معه وزملاؤه يودعونه وداع الذاهب إلى حتفه ..

٣٢٢

دخل شريف باشا ومعه الشيخ على الخديو في قصره فطلب من الشيخ أن يجلس على كرسي بجواره وقال له : أعد يا أستاذ ما قلته لي في الأزهر ، فأعاد العالم قوله وشرح للخديو حديث الرسول الكريم .. فقال الخديو :

ـ وما ذا صنعنا حتى ينزل بنا هذا البلاء؟

قال الشيخ :

ـ يا أفنديا أليست المحاكم المختلطة قد فتحت بقانون يبيح الربا؟

أليس الفجور برخصة ، أليس الخمر مباحة ..

وأخذ يعدد للخديو أنواع المنكرات التي تجري دون أن ينكرها أحد .. ثم قال : فكيف تنتظر النصر من السماء؟!

قال الخديو :

ـ وما ذا نصنع وقد عاشرنا الأجانب وهذه مدينتهم؟!

ـ إذن فما ذنب البخاري وما حيلة العلماء؟!

قال الشيخ :

سكت الخديو وأطرق طويلا .. ثم قال له :

ـ صدقت .. صدقت .. عاد الشيخ إلى زملائه بعد أن يئسوا من لقائه في الدنيا ، وقد رتب له الخديو مبلغا كبيرا يتقاضاه كل شهر!!!

وانتهت قصة الشيخ الذي حقق قول رسول الله : «لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه» ..

أما التاريخ فلم ينته .. إنه ماض في طريقه يضع بصمته على مصير الشعوب!!

٣٢٣
٣٢٤

مفتي .. قبرص!

عاش طالبا في الأزهر منذ سنوات وعاد هذا الشهر إلى القاهرة يحمل لقب مفتي قبرص .. خامس مفتي للأتراك رشح لمنصبه بالانتخاب في الجزيرة الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط .. عاد يحمل لقب دكتور في الشريعة الإسلامية من جامعة أنقرة .. دكتور مصطفى رفعت مصطفى ٤٣ سنة ، أحد الوجوه التي اشترك لأول مرة في القاهرة في المؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.

«بدأ التاريخ الإسلامي في قبرص أيام الخليفة عثمان بن عفان عند ما أرسل معاوية إلى الشام في حملة استولت على جزيرة قبرص عام ٢٨ ه‍. وكانت الحملة تضم السيدة أم حرم بنت ملحان خالة النبي في الرضاعة والتي كان النبي يجلها كثيرا ويعتبرها كأمه وكممرضة أولى في الإسلام كما جاء في الحديث النبوي الشريف وعند ما تقدم الجيش الإسلامي الذي فتح الجزيرة من سواحلها الجنوبية سقطت بنت ملحان من فوق فرسها وماتت على الفور ودفنت في المكان الذي توفيت فيه وأصبح ضريحها هذا منذ ذلك التاريخ البعيد مكانا مقدسا يحج إليه المسلمين ويتبركون به ثم جلب معاوية إلى الجزيرة ١٢ ألفا من المسلمين وأسكنهم فيها وأنشأ مدنا إسلامية مختلفة

٣٢٥

في الجزيرة وبعد الأمويين جاء العباسيون والفاطميون والأيوبيون إلى أن جاءت دولة المماليك حيث فتحوا الجزيرة وأسروا ملكها وأخذوه معهم إلى مصر وبعد مدة أعادوه ملكا على الجزيرة عند ما تأكدوا من إخلاصه لهم وأصبح كل الملوك الذين حكموا بعده تابعين لأوامر المماليك في مصر حتى عام ٥٧١ عند ما استولى العثمانيون على قبرص وبقيت تحت حكمهم وإدارتهم أكثر من ثلاثة قرون».

وجميع الأتراك مسلمون في الجزيرة على مذهب السنية ويقيمون جميع شعائر الإسلام بل أن ركعات صلاتهم كثيرة فهي تضم الفروض والسنن المؤكدة والسنن غير المؤكدة فمثلا ركعات صلاة الجمعة ١٦ ركعة.

وأسماؤهم محمد وأحمد وإبراهيم ومصطفى وعائشة وأم كلثوم وفاطمة.

أكبر التزامات الأسرة التي تنجب أنثى أن تدخر من أجلها الكثير لتقدم بها عقد زواجها منزلا مستقلا وعربة لتنقلاتها مع زوجها .. والطفل يبدأ صلاته في سن الخامسة وصيام رمضان في السابعة .. المرأة غير محجبة لكنها لا تذهب إلى الجامع بل تصلي في بيتها .. صلواتهم ودعاؤهم باللغة العربية الفصحى وتحيتهم «السلام عليكم».

٣٢٦

مسيرة الألف عام

مجلة الاذاعة المصريّة ٢٥ / ١١ / ١٩٧٢

كل مسيرة تبدأ بخطوة .. كذلك بدأت رحلة الألف عام من ١٤ رمضان سنة ٣٥٩ هجرية .. عند ما بدأ القائد جوهر الصقلي ـ بعد التمكين للفاطميين في مصر ـ من بناء الجامع الأزهر ..

وهذه الألف سنة ، ليست عمر .. المآذن والصحن والقباب فحسب ، ولكنها عمر مصر أيضا ، بكل ما تمثله من ريادة في مختلف نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية ، وكمركز إشعاع يفيض بنوره الذي يصل إلى أركان الدنيا ، فقد امتزج تاريخ الأزهر امتزاجا عضويا بتاريخ «الشعب المصري» على توالي الحقب والقرون ، بحيث يصعب الفصل بينهما ..

وشمخ الأزهر طوال حياته المديدة والعامرة .. بوصفه أقدم وأعظم جامعة في دنيا الإسلام ، وكان أعتي المتاريس التي تصدت لكل احتلال طمع في مصر ، ومعقلا من أهم معاقل القومية العربية ، ثم ها هو يستجيب لدواعي التطور وأسبابه فيصبح جامعة عصرية .. تضم جنباته مختلف الكليات العلمية ، وتستوعب مدرجاته طلابا من ٦٥ دولة إسلامية ..

ولم يكن دور الأزهر ، مقصورا منذ البداية ، على إقامة الشعائر فقط ، بل كان مدرسة لعلوم الدين والفقه .. وارتبط في أذهان العالم الإسلامي

٣٢٧

كجامعة إسلامية .. حملت لواء الفكر الإسلامي والإنساني ، ومشعلا من المشاعل التي أضاءت للبشرية طريقها على امتداد القرون ، ولمع في صحنه وأروقته .. كثير من الأسماء الخالدة .. التي أعطت وألهمت وغذت مسيرة الإسلام .. مثل «ابن الفارض» .. و «ابن خلكان» و «البوصيري» ، و «ابن دقمان» المؤرخ المصري ، و «المقريزي» صاحب الخطط و «السيوفي» وله ٥٠٠ مؤلف من بينها تاريخ الخلفاء ، و «ابن إياس» المؤرخ المصري وتألق بجانب هؤلاء .. مفكرون جاءوا إلى مصر ليتلقوا العلم في الأزهر ... مثل «ابن خلدون» .. و «ابن بطوطة» .. و «الجبرتي».

ولا شك أن الفكر المصري والإسلامي .. يدين بالكثير للأزهر ..

الذي تخرج فيه «ابن الهيثم» العالم الذي يشيد بفضله الأوروبيون خصوصا في الطبيعة وطب العيون. و «الشعراني» إمام المتصوفة في مصر ، ومؤرخ! ... «رفاعة الطهطاوي» مؤسس الفكر المصري الحديث .. خصوصا في الترجمة والصحافة. و «الشيخ محمد عبده» و «عبد الله النديم» و «أحمد عرابي» زعيم الثورة العرابية .. و «سعد زغلول» قائد ثورة ١٩١٩. و «الدكتور طه حسين» .. عميد الأدب العربي ... و.. و..

٣٢٨

وفي رسالة الدكتوراه عن دور الأزهر في الحياة المصرية

أثناء الحملة الفرنسية التي كتبها د. مصطفى رمضان

أبرز الباحث حركة علماء الأزهر قبل الحملة في مجالين : المعارضة الدستورية في الديوان العثماني ، مما يدل على أن علماء الأزهر شاركوا في قضايا المجتمع ، وقيادة علماء الأزهر للحركات الشعبية الثورية ضد الحكام الظالمين من العثمانيين والمماليك ، وبذلك نظموا كفاح الشعب المصري قبل مجيء الحملة الفرنسية ..

وأبرزت الرسالة شخصية الأزهر أثناء الحملة الفرنسية ، وبروز الزعامة الشعبية في مجال الدفاع الداخلي ، واستشهاد عدد كبير من زعماء الأزهر :

وقد دبرت خطة لاغتيال كليبر قائد الحملة الفرنسية وكان المنفذ سليمان الحلبي ، وهو من أبناء حلب بالشام.

وتتضمن الرسالة عدة نقاط أهمها :

إبراز دور الأزهر بعد الحملة الفرنسية حيث عاشت مصر في ظل عهد من الفوضى السياسية والاجتماعية وتعددت مراكز القوى في البلاد وحمل الأزهر لواء المعارضة وإظهار الكيان المصري مهما كان الثمن :

حارب الأزهر الابتزاز التركي للشعب.

٣٢٩

ـ عارض علماء الأزهر سياسة الممالك في استغلال الشعب ، وتزعموا حركة لطردهم من القاهرة سنة ١٨٠٤.

ـ عند ما جاء «خورشيد» إلى الحكم ، يدفعه جشع شديد لابتزاز الأموال ، نظم الأزهر حركة ثورية بقيادة «عمر مكرم» ، وحاصرت خورشيد بالقلعة ١٨٠٥ ، وأجبرته على التخلي عن الحكم ، وعينت «محمد علي» واليا على مصر ، متوسمة فيه الحرص على مطالب الشعب .. ولكن «محمد علي» خان مبادىء الشعب وزعماءه ، ولعب دورا في تصفية الزعامة الشعبية ، بعد أن استفاد بها في المجالات الآتية :

جمع الضرائب وخداع المماليك وعدم السماح لهم بدخول القاهرة.

مقاومة الحملة الانجليزية بقيادة فريزر عام ١٨٠٧.

٣٣٠

حوار بين العلماء والوالي

في عام ١٨٩ جاء إلى مصر وال تركي جديد هو «أحمد باشا» المعروف بكور وزيرا وكان الوزير كما يقول الجبرتي من «أرباب الفضائل وله رغبة في العلوم الرياضية ... وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر ، والشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري ، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا : لا نعرف هذه العلوم فتعجب وسكت».

ويواصل الجبرتي رواية هذه الحادثة الهامة الطريفة معا «في الجزء الأول من عجائب الآثار ص ١٩٤ ، وقد نقل الدكتور حسين فوزي النجار هذه الفقرة عن الجبرتي في كتابه عن رفاعة الطهطاوي ص ٩» .. يقول الجبرتي :

إن الشيخ الشبراوي دخل على الباشا في يوم جمعة يحادثه كعادته فقال له الباشا : المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها ، فلما جئتها وجدتها كما قيل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، فقال له الشيخ هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف : فقال وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد

٣٣١

سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئا ، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد ، فقال له : نحن لسنا أعظم علمائها وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام ، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفراض والمواريث كعلم الحساب والغيار فقال له : وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك فقال : نعم معرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل. والأمور العطاردية ، وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك ، فقال : وأين البعض ، فقال : موجودون في بيوتهم يسعى إليهم ، ثم أخبره عن الشيخ الوالد «يقصد أباه الشيخ حسن الجبرتي» وعرفه عنه وأطنب في ذكره ، فقال التمس منكم إرساله عندي ، فقال يا مولانا إنه عظيم القدر وليس هو تحت أمري فقال : وكيف الطريق إلى حضوره؟ قال : تكتبون له ارسالية مع بعض خواصكم فلا يسعه الامتناع ففعل ذلك ، وطلع إليه ولبى دعوته وسر برؤياه واغتبط به كثيرا وكان يتردد عليه يومين في الجمعة وهما السبت والأربعاء ، وأدرك منه مأموله وواصله بالبر والإكرام الزائد».

ثم يقول الجبرتي بعد ذلك «وكان المرحوم الشيخ الشبراوي كلما تلاقى مع المرحوم الوالد يقول له : سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فإنه لو لا وجودك كنا جميعا عنده حمير».

هذه هي القصة الواقعية التي يرويها الجبرتي عن مصر في منتصف القرن الثامن عشر ، فمصر آنذاك لم يكن فيها سوى عالم واحد استطاع

٣٣٢

باجتهاده الخاص أن يتعلم بعض أصول الرياضيات ، أما بقية علماء مصر فلم يكونوا يعرفون أكثر من العلوم التي تدور حول اللغة والدين مثل الفقه والنحو وما إلى ذلك.

٣٣٣
٣٣٤

الأزهر أكسفورد الشرق (١)

تذكرت الأزهر .. وأنا أطوف في أرجاء «أوكسفورد» .. صور الأساقفة ذكرتني بشيوخ الأزهر الذين عاصروا الحملة الفرنسية ، وسجنتهم الثورة الفرنسية في القلعة ، وانتهز فنان الجيش المناسبة ، فخلدهم في لوحات ، قبيل إعدامهم أو جلدهم أو تغريمهم.

المدينة حول الجامعة ، يعيش فيها الطلاب والأساتذة ، ذكرتني بجو الأزهر في عصور سالفة .. يوم كان قلب القاهرة النابض يعيش فيه العلماء في منازل مستقلة ، طابقها الأسفل مفتوح باستمرار للضيوف من العلماء أو الطلبة (المجاورين) يتجادلون ويتبادلون المعرفة والأحاجي ..

القاعات والخزائن والردهات ، وبقايا مساكن الطلبة في القرون الماضية كلها منقولة عن أروقة الأزهر ..

«فأوكسفورد» التي قامت بعد الأزهر بقرنين .. إنما أنشئت على نظام الأزهر ووفق تقاليده ، بل وبكتب مترجمة عن مؤلفات علماء الأزهر ، بعد أن عاد الصليبيون من الشرق ، وقد تعلموا عادتين : الاستحمام والعلم ... وحملوا أول ورقة كتابة إلى أوروبا من إنتاج مصانع الورق العربية!.

__________________

(١) جريدة النهضة الكويتية ـ عام ١٩٧٣.

٣٣٥

فلم تكن «أوكسفورد» في البداية ، إلا مكانا يلتقي فيه بعض العارفين ، ببعض الراغبين في المعرفة ثم تطورت إلى جامعة لعلوم اللاهوت ، تنقسم إلى أروقة لكل رواق «ماستر» أو «شيخ الرواق» ، كما كان الحال في الأزهر ، ويسكن فيها الطلبة الذين كان سنهم لا يزيد على ١٣ سنة عند الالتحاق .. وقد استمر نظام الأروقة حتى القرن الخامس عشر ..

ولكن الكليات كانت قد ظهرت منذ أواسط القرن ال ١٣ بينما استمر نظام الأروقة في الأزهر إلى القرن العشرين.

وكان لكل رواق شيخ .. يضم الرواق أبناء جهة واحدة ، فهناك رواق للمغاربة ورواق للشوام ، وآخر للصعايدة .. وكان لكل رواق جراية (أي راتب) خاصة ، يوقفها عليه الأمراء والأغنياء ، ونفس النظام في «أوكسفورد» ..

وكانت الجراية في الأزهر تدفع خبزا ، وهي درجات : رغيفان للطالب المنتسب ، والذي يتحقق انتسابه بحصوله على خزانة يضع فيها كتبه ، وانتسابه إلى رواق ينام فيه ، وجراية «أوتوزبير» (اسم مملوك) وهي أربعة أرغفة لا تعطى إلا لمن يجتاز امتحانا خاصا .. وجراية زينب هانم خمسة وعشرون رغيفا .. وتعطى للعلماء .. وكانت هناك جرايات نقدية بعضها يصل إلى ثلاثمائة جنيه في السنة ، وأبطل الجراية الشيخ المراغي ..

وهذه الوقفيات ، مكنت الأساتذة من التفرغ للعلم ، والعيش مع الطلبة .. وكانت الدراسة حرة على أحدث النظم الجامعية الحالية ، أو بمعنى أصح ، كما نقلت النظم الجامعية المعاصرة عن الأزهر ..

فالأستاذ ذو الكرسي .. أو بتعبير العصر القديم : «من له عامود في الأزهر» هو الذي امتحنته لجنة من العلماء .. وأجازت له حق التدريس ، ويتم الامتحان علنا أمام جمهور من الطلبة ، وعلى يد لجنة من شيوخه .. فإذا جاز الطالب الامتحان سمح له بأن يضع مقعدا بجوار أحد أعمدة

٣٣٦

المسجد وبدأ في تلاوة درسه ، وينضم لحلقته من يشاء من الطلبة الذين يحضرون ما يحلو لهم من دروس بلا تقييد .. ويتقدمون للامتحانات متى وجدوا في أنفسهم استعدادا .. وكانت تدرس في الأزهر شتى العلوم من الفقه إلى ضرب العود والكمان كما كان يفعل الشيخ العطار في مطلع القرن التاسع عشر ..

أبراج الكنائس التي يعتليها طلبة «أوكسفورد» في شهر مايو (أيار) من كل عام يتلون من فوقها صلاة لاتينية تمجد الثالوث المقدس .. ذكرتني بمآذن الأزهر التي كان يعتليها المجاورون (الطلبة) يتلون الابتهالات والمدائح النبوية في أيام الرضا .. ويكبرون في غير أوقات الصلاة ، إذا ما نشب خلاف بين الأزهر وسلطات المدينة ، أو قاد الأزهر ثورة الأهالي ضد استبداد السلطة .. تماما كمعارك طلاب «أوكسفورد» و «كمبريدج» مع سلطات المدينة منذ سبعة قرون .. لقد نشأت أوكسفورد في القرن الثاني عشر .. بينما وضع حجر الأساس في بناء الأزهر في نيسان (ابريل) ٩٧٠ وتم بناؤه في حزيران (يونيو) ٩٧٢ ، أي أنه أكمل ألف عام .. شهد فيها الفصل الدرامي من تاريخ حضارتنا .. تألقها .. فجمودها .. ثم انهيارها ..

ولا شك أن كل الذين قارنوا بين تاريخ الأزهر ، و «أوكسفورد» ، وعرفوا كيف قامت جامعات أوروبا الحديثة على غرار الأزهر ووفق نظمه ، بل وبالمعرفة التي نقلتها أوروبا عن الأزهر.

يدركون أن أقدم كتاب في جامعة «أوكسفورد» مكتوب سنة ١٣٧٩ ..

وعند ما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر ـ وهي أكبر فصل في تاريخ الأزهر كمؤسسة قيادية ـ كان أحدث الكتب التي تدرس فيه قد كتبت حول هذا التاريخ! ..

٣٣٧

فالأزهر كان ذروة تألق حضارة بدأت رحلة الانهيار .. أما «أوكسفورد» ، فكانت بداية حضارة جديدة في طريق النمو والازدهار .. فنمت الجامعات مع المجتمع النامي من حولها.

عند ما بني الأزهر كانت الحضارة العربية قد امتلكت كل أسس المعرفة اللازمة لانطلاق الثورة الصناعية ، لو لا أن هب على العالم الإسلامي اعصاران .. الحروب الصليبية ، ثم الخراب المغولي .. فتحول المجتمع المدني المتحضر ، إلى مجتمع عسكري خشن .. وتراجع العلماء ليحكم العسكر .. وحشدت موارد البلاد واستنزفت في القتال .. وأحرقت المدن والمزارع وكل آثار الحضارة على يد الفاتح المتقدم ، أو المنهزم المنسحب ..

وانتقلت شعلة الحضارة من الشرق المغزو ، إلى الغرب الغازي وهناك افرخت ونمت ، وتطورت إلى الحضارة الحديثة ..

وكان الثمن فادحا :

تخلفت مسيرة الحضارة العالمية ، حوالي خمسة قرون ، قضتها أوروبا في النقل الحذر المستريب للعلوم الإسلامية مع حصر المعرفة بها في دوائر خاصة .. ثم التوسع في الترجمة والدرس والفهم والتمثل وأخيرا التطور .. ولو استمرت شعلة الحضارة في النمو على شواطئنا ، لما كانت هناك هذه الفجوة ..

كذلك اقترن النمو الحضاري الجديد بالاستعمار ، ولو مضت حضارتنا في نموها لما كانت البشرية قد عرفت الاستعمار ، ولا كان التخلف قد فرض على ثلاثة أرباع شعوب العالم ، من أجل تقدم ورفاهية الربع .. فحضارتنا لم تعرف الاستعمار ، بل قامت مراكز المدنية والرفاهية في كل البلدان ، وعلى قدم المساواة ، ووفق إمكانات كل بلد ، ولعل أقلها حظا كانت الجزيرة ، بلاد الفاتحين ..

٣٣٨

ألف عام .. بدايتها الأزهر .. الجامع الجامعة ، والأصل في المسجد أنه جامعة .. ومن المسجد وفي المسجد ظهر ونبغ كل العلماء ، ودرست كل العلوم ..

وإن كان الجيل المعاصر ، يحفظ أسماء طلاب أوكسفورد وكمبريدج عن ظهر ـ قلب من اسحق نيوتن إلى سبنسر ، وجون ميلتون .. فليسمحوا لنا في الذكرى الألفية للأزهر أن نقدم لهم أحد العلماء الذين درسوا فيه سنة (١٠٣٨) .. تعرفنا به كاتبة ألمانية هي الدكتورة «سيجريد هونكة» فتقول : «إن الحسن بن الهيثم توصل إلى نظرية في علم الضوء خاصة بالأشعة وانكسارها كانت نقطة تحول في أبحاث الطبيعة وبخاصة علم الضوء .. وهو الذي أثر في أوروبا تأثيرا بعيدا وعرفته باسم «الهزن» وكان أشهر الأساتذة العرب الذين أخذوا بيدها في هذا المضمار من البحوث. فقد وضع نظرية حول حركة الأفلاك .. وقد ظلت هذه النظرية تدرس بغير تعديل في أوروبا أربعة قرون ، فوجدت مائدة في ألمانيا محفورة سنة ١٤٢٨ عليها نظرية «الحسن» في حركة الأفلاك».

«وقد نقد الحسن سنة ١٠٣٨ نظرية اقليدس وبطلميوس في علم الضوء ، فقال : إن الأجسام المرئية هي التي يصدر منها شعاع الضوء فتراه العين وليس العكس». «وكانت هذه النظرية قفزة في علم الضوء. وهو مؤسس العلم التجريبي وليس روجيه بيكون أو باكوفون فرولام أو ليوناردو دهفينشي أو جاليليو .. وأصبح اسم الحسن بن الهيثم هو النجم الذي أضاء الطريق ومهد لقيام الأبحاث الحديثة بعد أن سبق أوروبا إليها» ... وهو الذي فسر خسوف الشمس والقمر ، واكتشف أن القمر جسم مظلم بعكس النجوم ، وهو أول من اخترع صندوقا للضوء يشبه آلة التصوير ، وهو أول إنسان رأى صورة العالم مقلوبا من خلال مرور الصورة في جهازه العجيب .. وهو الذي فسر انكسار الضوء في الهواء والماء واستطاع تحديد

٣٣٩

ارتفاع الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الأرضية. «والجدير بالذكر أنه توصل إلى تحديدها بدقة ، وعرف أنها خمسة عشر كيلومترا» ..

«وفسر قوس قزح الذي عجز أرسطو عن تفسيره ، واخترع أول نظارة للقراءة .. وحتى يومنا هذا تعرف في جامعات أوروبا المسألة المعقدة المتصلة بالإلمام بالطبيعة والرياضة معا والتي حلها الحسن بن الهيثم بمعادلة من الدرجة الرابعة أظهرت نبوغه الرياضي في الجبر .. إذ حسب البعد البؤري لمرآة مقعرة .. تعرف هذه المسألة باسم «مسألة الهزن» (الحسن)».

وكتابه المتضمن لهذه النظريات لا وجود له بالعربية ، بل بقت ترجمته اللاتينية .. ضاع الأصل العربي مع ضياع الحضارة ، ونفي العالم العربي وكتابه : «كتاب المناظر» إلى أوروبا حيث ساهم في بناء العلم الحديث.

وإذا كانت جامعة «أوكسفورد» قد بدأت مكتبتها بكتابين لا زالا مربوطين بالسلال إلى الآن كما كان وضعهما في القرن الثالث عشر .. فإن مكتبة الأزهر في القرن العاشر كان بها مليون وستمائة ألف كتاب .. ولكن الانهيار الحضاري جعل الخليفة يسدد مرتبات الجند والموظفين بالكتب .. وكان «الفرنجة» يشترون هذه الكتب بالرطل ، وينقلونها إلى كنائس وأديرة .. فجامعات أوروبا.

فالأزهر لم يبدأ بالفقه والنحو والعروض وحدهم كما يتصور البعض ، بل كانت تدرس فيه كل علوم العصر ، من علوم الدين والفلسفة والمنطق إلى الرياضيات والطب والهندسة والفلك .. واستمر الحال على ذلك رغم التدهور الحضاري .. ذلك أن الإسلام ، بطبيعته ، يحتم دراسة حد أدنى من العلوم التطبيقية ، فنظام الميراث يحتم دراسة الحساب بل ويقود إلى الجبر وكذلك الزكاة ، وضبط الكيل والميزان يفتح الباب لدراسة الأثقال والحجوم والروافع وخواص المواد التي تصنع منها. ومراقبة الهلال لمعرفة

٣٤٠