الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

والفلوس ، إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى ، وكل قليل تحمل إليه أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات لا سيما في المواسم.

في عهد الدولة الأيوبية

استمر الأزهر في أداء رسالته العلمية ، يحمل مشعل المعرفة الوهاج ، حتى غدا منار العلم وموئل العلماء طوال العهد الفاطمي ، فلما قامت الدولة الأيوبية بدأ نجمه في الأفول ، لأن السلطان صلاح الدين الأيوبي قد عمل منذ اللحظة التي استقل فيها بحكم مصر سنة ٥٦٧ ه‍ على محاربة التشيع ، ونشر المذهب السني ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر مركز الدعوة الشيعية أبطلها قاضي القضاة الشافعي في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي ، المسمى : (صدر الدين عبد الملك بن درباس) ، لأن الشافعية لا يجيزون إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد ، وأقرها في جامع الحاكم ، وبقي الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه نحو مائة عام ، إلى أن أعيدت إليه في عهد المماليك (الظاهر بيبرس البندقداري) سنة ٦٦٥ ه‍.

في أيام المماليك

غير أن هذه المحنة لم تؤثر فيه ، فقد تابع حياته العلمية ، ووجد في ظل المماليك الرعاية الكاملة ، وبرزت صفته العلمية بروزا واضحا في عصرهم ، وتمكن من المحافظة على التراث الإسلامي خلال المحنة التي حلت بالشرق الإسلامي من جراء الغزو المغولي ، ثم ما أصيبت به معاهد العلم والمساجد في الأندلس ، وبلاد المغرب من ذبول وضعف ، مما جعله مقصد العلماء والطلاب من المشرق والمغرب ، يجدون في رحابه الملجأ والملاذ ، وغدت القاهرة ـ مقر الجامع الأزهر ، وكرسي الخلافة الإسلامية ـ قلب العالم الإسلامي النابض ، وأمل العروبة والإسلام ، واعتبر عصر المماليك بحق. «العصر الذهبي للجامع الأزهر» من حيث الإنتاج العلمي

٢٢١

الممتاز ، ومحافظته على التراث الإسلامي ، وقيامه على أداء رسالته العلمية والتعليمية للمسلمين كافة ، واحتلاله مركز الزعامة.

في عهد الأتراك

وأصل الأزهر سيره ، يؤدي واجبه في خدمة الدين والثقافة بهمة فائقة ، ونشاط كبير ، حتى منيت البلاد بالفتح التركي العثماني سنة ٩٢٣ ه‍ (١٥١٧ م) فحلت بالديار المصرية الكارثة ، واغتصب السلطان سليم الأول خير ما فيها من تحف وآثار ، وكتب نفيسة ، وسلب البلاد عمالها وصناعها ، وبعث بكل ذلك إلى القسطنطينية العاصمة ، وكان طبيعيا أن يصيب الأزهر ما أصاب البلاد من أضرار جسيمة ، فاختفت من رحابه الصفوة الممتازة من علمائه الأعلام ، وخفت صوته وانكمشت أهدافه وبرامجه الدراسية ، واقتصرت الدراسة فيه على العلوم الدينية ، والعربية ، واختفت العلوم الرياضية ، والفلسفية ، والطبية وغيرها من سائر العلوم الكونية ، وخيم عليه ركود طويل كاد يقضي عليه ، ويخمد أنفاسه.

وحين جاءت الحملة الفرنسية

وعلى غير انتظار احتل الفرنسيون الديار المصرية سنة ١٢١٣ ه‍ (١٧٩٨ م) فأيقظت حملتهم الأزهر من سباته ، ونبهته من غفوته ، ووجد نفسه تحت ضغط الظروف والحوادث ، تشارك في الحركة القومية بتعبئة قوى الكفاح الشعبي ضد المستعمر الجديد ، وغرس الكراهية في النفوس ضد الفرنسيين ، الدخلاء ، فلعب دورا سياسيا خطيرا إبان الاحتلال الفرنسي ، واحتل موضع القيادة الروحية ، والزعامة السياسية في البلاد ، فكانت يقظة قومية وطنية قبل أن تكون يقظة علمية ، قادها كبار رجال الأزهر بزعامة شيخ الأزهر (الشيخ عبد الله الشرقاوي) ، وثارت القاهرة مرتين في وجه الفرنسيين ، ثم قتل (كليبر) نائب نابليون بيد (سليمان الحلبي) المنتمي

٢٢٢

إلى الأزهر وازعجت هذه الأحداث الفرنسيين ، فنزحوا عن البلاد نهائيا بتسليم الجنرال (مينو) في شهر ربيع الآخر سنة ١٢١٦ ه‍ (سبتمبر سنة ١٨٠١ م) بعد أن مكثوا بها ثلاث سنوات وبضعة أشهر ، أرهقوا فيها أهل البلاد عامة من أمرهم عسرا ، ونالوا من قداسة الجامع الأزهر وكرامة أهله.

في عهد محمد علي

فلما آل حكم الديار المصرية إلى «محمد علي» سنة ١٢٢٠ ه‍ (١٨٠٥ م) لم يجد الأزهر عطفا من النهضة القومية في بادىء الأمر ، ولم يحفظ سيد البلاد الجديد الجميل لعلماء الأزهر الذين ارتقى على أكتافهم إلى منصب الولاية ، وابتدأ عهده بالاستيلاء على أملاك الأزهر الخاصة الواسعة ، وفقد الأزهر بسبب اغتصاب أوقافه أهم موارده المالية ، ومع ذلك فإن رغبة محمد علي في الإصلاح ، وفي إقامة بناء دولته الجديدة على أسس سليمة جعلته يرغب في الاسترشاد بالأفكار الأوروبية ، فاتجه إلى إرسال البعوث العلمية إلى الخارج ، فأنشأ في سنة ١٢٤٢ ه‍ (١٨٢٦ م) البعثة العلمية إلى باريس ، واختار لها نخبة من أنجب طلاب الأزهر ليتلقوا العلم على أساليب جديدة (١) ، فكانت هذه خطوة عملية نحو إصلاح الأزهر وإدخال أساليب البحث الحديث فيه ، والاهتمام بالعلوم الحديثة التي كانت مهملة ، غير أن الأزهر لم يستجب لهذه المحاولة ، وظل متمسكا بأسلوبه القديم ، كما عارض رجاله بشدة دعوة الزعيمين جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده في إصلاح الأزهر ، وضاعت جهودهما في سبيل إصلاح الأزهر هباء ، وإن كانت دعوتهما قد أثمرت في خارجه حيث وجدت استجابة من بعض شباب البلاد ، ونشأ جيل من المفكرين الأحرار شارك فيما بعد في إصلاح الأزهر.

__________________

(١) من بين أعضاء هذه البعثة ، رفاعة بك الطهطاوي الذي عد شيخ المترجمين ، وإبراهيم بك النبراوي أحد نوابغ البعثة الطبية ، وأحمد حسن الرشيدي بك من أكابر خريجي مدرسة الطب ، والبعثات ، وغيرهم كثير ، كان لهم جميعا على النهضة المصرية فضل كبير.

٢٢٣

لم يحل جهود الأزهريين دون بذل عدة محاولات لإصلاح الأزهر بإصدار القوانين المنظمة له ، فصدر أول قانون سنة ١٢٨٨ ه‍ (١٨٧٢ م) في عهد مشيخة الشيخ محمد العباسي المهدي ، وأدخلت بمقتضاه عدة إصلاحات على مناهج الدراسة ، ونظام الإدارة ، ويقرر إدخال (امتحان الشهادة العالمية ، وامتحان الطلاب الراغبين في الحصول عليها ، أمام لجنة بعينها شيخ الجامع الأزهر من بين علمائه).

ثم في عهد مشيخة الشيخ سليم البشري صدر القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ م الذي يعتبر من أهم قوانين إصلاح الأزهر في حينه ، وأكثرها عناية بمناهجه ، وخطة الدراسة فيه ، وبمقتضاه حددت اختصاصات شيخ الأزهر ، وأنشىء مجلس الأزهر الأعلى ، وجماعة كبار العلماء ، وشيوخ المذاهب الأربعة ، وأدخلت العلوم الحديثة فيه.

كما صدر في عهد مشيخة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري المرسوم بقانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٣٠ م ، الخاص بإعادة تنظيم الجامع الأزهر ، والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية ، والذي حولت بموجبه الدراسة العالية بالأزهر (القسم العالي) إلى كليات ثلاث ، وإلى إنشاء أقسام للتخصص في المادة ، والمهنة بعد الحصول على الشهادة العالية من إحدى الكليات ، ولذا فإن هذا القانون يعتبر بحق أول خطوة رسمية في تمكين الجامع الأزهر من مسايرة التقدم العلمي والاجتماعي في العصر الحاضر في تزويد طلابه بما يجب أن يحيط به رجل الدين الحديث من العلوم ومن الاتجاهات.

مشيخة الشيخ المراغي

ثم كانت خطوة أوسع نحو الإصلاح على عهد مشيخة الشيخ محمد مصطفى المراغي الثانية (١٩٣٥ ـ ١٩٤٥ م) بصدور المرسوم بقانون رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ م ، وقد نجح هذا القانون في معالجة الكثير من مشاكل

٢٢٤

الإصلاح في الأزهر ، وفي النهوض بالأزهر إلى مستوى الجامعات الحديثة الكبرى ، وقد أرفق الشيخ المراغي مشروع هذا القانون بمذكرة أوضح فيها وجهة نظره ، وأنه يريد للأزهر أن يساير الحياة المعاصرة عن فهم وإدراك ، كما أنه يريد بهذا الإصلاح أن يفي الأزهر بالأغراض التي تحقق آمال المسلمين فيه ، وترجع به إلى عصوره الزاهرة من البحث العلمي السليم ، والتفكير الحر ، ودراسة الفنون التي تتفق مع طابعه القديم ، وتطابق مقتضيات العصر ، وتلبي رغباته ، وأن يتصل بالنهضة الحديثة في الغرب عن طريق تعلم اللغات الأجنبية ليرد شبهات المضللين ، ويدفع التهم الموجهة إلى الدين في كتابات الأجانب المغرضين ، ويفيد من طريقة وضعهم للكتب ، ومعالجتهم للمسائل العلمية ، ونورد فيما يلي بعض فقرات من تلك المذكرة ، فقد جاء فيها. «.. ونحن إذ نحاول إصلاح الأزهر نريد أن نوجد طالبا يفهم مسائل العلم فهما صحيحا ، ويفهم أغراضها ، وصلتها بأدلتها ، وصلتها بعضها ببعض ، ويستطيع التطبيق على الجزئيات ، ويستطيع الاستنباط والتدليل ، ويستطيع فهم الكتب القديمة التي ألفت في العصور المختلفة في جميع الفنون الإسلامية ، ... ، وأحب أن توجد كتب في جمع الفنون الحديثة على أسلوب عربي صحيح مناسب لأذواق الأجيال الحاضرة ، تهذب فيه المسائل على أحسن ما وصل إليه التحقيق العلمي ، وأن تحيا الكتب القديمة الجيدة في الأسلوب والوضع ، ... ، هذا الذي نحاوله بالتجديد. يجب ـ على ما أرى ـ أن يضعه الناس أمامهم ، وأن يجدوا للوصول إليه ، ... ، ولقد كان أسلافنا أشد الناس عناية بالعلم ، فلم يمض الزمن القليل حتى أخذوا علم اليونان ، وأدب الفرس ، وحكمة الهند واستعانوا بذلك كله في تفسير القرآن ، وفي وضع علم الكلام على الأسس التي نراها في مثل المواقف والمقاصد ، واستعانوا به في تنظيم مسائل العلوم جميعها ، فلم يخل علم من أثر الفلسفة والمنطق ، ولقد كانت لهم محاولات جديرة بالإعجاب في التوفيق بين الدين

٢٢٥

ونظريات الفلسفة ، ... وتغيرت نظريات الفلسفة ، وحدثت نظريات أخرى ، وكان من شأن هذا كله أن توجه على الأديان جملة ، وعلى الإسلام خاصة حملات ، وصار من الواجب الحتم على علماء المسلمين أن يحيطوا علما بكل ما يوجه إلى الأديان عامة ، وإلى الإسلام خاصة من مطاعن ، وأن يردوا تلك المطاعن التي توجه إلى الإسلام ، ويذودوا عن عقيدتهم بأدلة ناصعة ، وأسلوب مقنع ممتع ، ليجنبوا المتعلمين تعليما مدنيا الشبه الزائفة ، وليضموا إلى الإسلام أفرادا وشعوبا من الأمم التي تتطلع إلى الإسلام ، وتبتغي الوقوف على خصائصه ومزاياه ، وهذا لا يتم لهم على ما ينبغي إلا بالاتصال بغيرهم اتصالا علميا ، وبتعرف اللغات الحية التي يكثر فيها الانتاج العلمي ، والتي يتناول بها العلماء مسائل الإسلام ، ومسائل اللغة العربية ، لذلك وجب أن يكون لأهل الأزهر نصيب من هذه اللغات ، وهنالك فائدة أخرى لتعلم اللغات ، وهي أنها تساعد على معرفة طريقة وضع الكتب ، وعلى معرفة الأسلوب الحديث في التأليف والتفكير ، وطريقة عرض المسائل على أنظار المتعلمين ..... الخ ..».

بهذا الإصلاح يكون الشيخ المراغي قد أتم ما بدأه الشيخ محمد عبده ، وقد كرس الشيخ المراغي فترة السنوات العشر التي أعقبت صدور القانون رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ م على تنفيذ هذه الإصلاحات حتى لقي ربه في الثاني والعشرين من أغسطس سنة ١٩٤٥ م رحمه الله.

وقد تعاقب على كرسي مشيخة الجامع الأزهر بعد الشيخ المراغي عدد من جلة شيوخ الأزهر هم. الشيخ مصطفى عبد الرزاق ، وكان مؤمنا بالإصلاحات التي أدخلها الشيخ المراغي ، غير أن المنية قد عاجلته سنة ١٩٤٧ م ثم الشيخ محمد مأمون الشناوي ، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الأولى ، والشيخ إبراهيم حمروش ، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الثانية ، والشيخ محمد الخضر حسين ، والشيخ عبد الرحمن تاج ، والشيخ محمود شلتوت ، وقد صدرت خلال هذه الحقبة عدة قوانين معدلة للقانون

٢٢٦

رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ م ، والقانون رقم ٤٠ لسنة ١٩٥٦ م ، ثم القرار الجمهوري رقم ١٥٢٥ لسنة ١٩٥٩ م ، وكلها تستهدف إصلاح الأزهر والنهوض به ، والارتفاع بمستواه العلمي والمادي.

وهكذا تقلبت الأحوال بالأزهر من عسر ويسر ، وذاق خلالها حلاوة العزة والقوة ، ومرارة الوهن والضعف خلال فترة تجاوزت الألف عام من عمره المديد ، ورغم الظروف والأحداث التي مرت به لم يقصر في أداء واجبه ، وظل عامرا بالطلاب ، زاخرا بالعلماء يؤدي رسالته العلمية والوطنية في ثقة واطمئنان ، وأخيرا صدر القانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١ م بشأن إعادة تنظيم الأزهر ، والهيئات التي يشملها في عهد الشيخ محمود شلتوت ، وأصبح الجامع الأزهر لأول مرة بموجب هذا القانون (جامعة) ، وأضيف إليه عدد من الكليات بجانب كلياته الثلاث السابقة ، وأصبحت كليات (جامعة الأزهر) الجديدة اليوم هي ، المعاملات والإدارة (التجارة) والبنات الإسلامية ، والهندسة والصناعات ، والطب ، والزراعة ، والتربية ، وقد ترك الباب مفتوحا لإنشاء كليات أخرى ـ غير الكليات التسع ـ ومعاهد عالية طبقا لحاجة التطور ومسايرته.

وكان هذا التطور الجديد ضرورة تحتمها الحياة المعاصرة ، وتقتضيها ظروف المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي الذين ينظرون إلى الأزهر على أنه من بين مقدساتهم ، لجليل نفعه ، وعظيم أثره في خدمة علوم الدين واللغة ، وحفظ تراث الإسلام والعروبة.

وقد نوهت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١ م بمكانة الأزهر ، وما يرجى له من مستقبل ، وبما يمكن أن يؤديه من خدمات جليلة في جميع أجراء العالم الإسلامي بعد إعداد أهله وفق أهداف هذا القانون ، فقد جاء فيها : «... لقد قام الأزهر بدور عظيم في تاريخ العلم ، وفي تاريخ الإسلام ، وفي تاريخ العروبة ، وفي تاريخ الكفاح القومي على توالي

٢٢٧

العصور ، ووقف قلعة شامخة في وجه كل المحاولات لاستعبادنا ، والسيطرة علينا ، وتحطيم كياننا القومي والروحي» ، «وكانت التقاليد العلمية في الأزهر أساسا للنظام الجامعي ، والتقاليد الجامعية في كل بلاد الدنيا ، فهو أقدم جامعة في العالم ، وإن لم يكن اسمه بين أسماء جامعاتنا».

(ومن علم الأزهر شع نور الإسلام في بلاد كثيرة من أفريقيا ، ومن آسيا ، وأزداد عدد المسلمين عشرات الملايين ، وكانت بعوث الأمم المختلفة إلى الأزهر سببا لتوثيق علاقاتنا ببلاد كثيرة ، وشعوب كثيرة منذ أقدم العصور إلى اليوم ، وقد اكتسب اسم الأزهر بذلك قدسية ، واكتسب المنتسبون إليه احتراما ، وصار رأيه هو الرأي في كل ما يتعلق بالعقيدة والشريعة ، وصار هو الجامعة الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب ، لا يطلب أحد علوم الإسلام إلا عن طريق الأزهر ، ولا تتجه قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى معهد يفد إليه أولادهم للتزود من أسباب المعرفة غير الأزهر .... الخ).

ثم تناولت المذكرة بالتفصيل المبادىء التي تحقق ما يهدف إليه القانون من إصلاح الأزهر حتى يعود إليه شبابه ، وترتفع مكانته ، وينهض برسالته في الداخل والخارج ويصبح ابن الأزهر قادرا على المشاركة بدور إيجابي نافع لمجتمعه خاصة ، والمجتمع الإسلامي عامة ، «وحتى يتوافر للأمة نوع من الخبرات التي تملك إلى جانب العقيدة الواعية كفاية عملية ومهنية وعلمية ، تشارك في مجالات العلم والإنتاج في نفس الوقت الذي تدعو فيه إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة».

فالأزهر اليوم سيد جامعات الإسلام دون منازع ، وإليه يرجع الفضل في صيانة الثقافة الإسلامية العربية في ظلمات العصر التركي العثماني بمصر ، وفي مقدور الأزهر اليوم أن يشق طريقه في ظل هذا التطوير ، وتلك الرعاية التي تظله بها الدولة ليؤدي إلى العالم الإسلامي أعظم الخدمات ،

٢٢٨

ويضيف إلى مآثره القديمة مجدا جديدا إذا جدد نفسه ، وفهم رسالة الإسلام العلمية كما كان يفهمها سلفنا العظيم ، حتى تتأكد زعامته ، وتتألق مشاعل المعرفة من أرجائه ، حتى يعم نورها أرجاء المعمورة ، ذلك ما نرجوه ، والله ولي التوفيق.

٢٢٩
٢٣٠

بين الأزهر وجامعة القرويين

هناك التشابه بين الأزهر الذي قام بالقاهرة وجامع القرويين الذي قام بفاس في نقطة البداية. كل منهما قام على أنه مسجد ، ثم أصبح بعد ذلك مسجدا جامعا لفترة من الفترات ، ثم مقرا للدراسات الإسلامية والعربية.

وعند ما صار كل منهما مقرا للدراسات الإسلامية والعربية تناولت الدراسة فيهما جميع فروع المعرفة المختلفة التي يتكون منها التراث الإسلامي والعربي.

فبجانب علوم اللغة والفقه وعلوم التفسير والحديث والعلوم الأخرى الدينية كانت الطبيعة وكان الطب وكانت الرياضة وكانت الفلسفة ، كل منها يكون جانبا من جوانب فروع المعرفة التي عنى بها الأزهر وجامع القرويين. وكان لكل فرع من هذه الفروع علماء مبرزون هنا وهناك يرحل إليهم طلاب العلم ويقيمون لديهم فترة طويلة أو قصيرة للتلمذة عليهم في موضوع المعرفة والتعرف على منهجهم في البحث. وكان من أشهر العلماء في الأزهر الأئمة العلماء : ابن الحاجب ، وخليل والخرشي ، والزرقاني ، والعدوي ، والدرديري ، والأمير ، والبناني ، وابن السبكي ، وجلال الدين المحلي ، والسيوطي ، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري ، وابن حجر ، والعيني ،

٢٣١

والأسنوي ، والأشموني ، والصبان ، والملوي ، وابن الهيثم الذي وضع الأسس العلمية لنظريات نيوتن في علم الطبيعة. وكان من أشهرهم في القرويين : الأئمة العلماء الحافظ أحمد بن علي بن قاسم الزقاق ، والمفتي محمد بن قاسم القصار ، والفقيه أحمد بن محمد بن يوسف الصنهاجي ، والمتكلم أبو عمرو السلالجي وهو من طبقة أبي المعالي الجويني في الشرق ، والمحدث ابن رشيد السبتي والحافظ أبو العلاء العراقي ، واللغوي ابن زاكور ، والرياضي ابن البناء المراكشي ، والطبيب أبو القاسم الوزير

وكان هناك تشابه بين الأزهر وجامع القرويين في طريقة الدرس وفي منهاج البحث : فكانت هناك الحلقة ، وكانت هناك المناقشة ، وكانت هناك المحاضرة والتعقيب عليها ، وكان أسلوب الدراسة في واقع أمره أسلوبا لتربية العقل ، وتخطيط طريق التفكير والوصول إلى الحق في ذاته. وما كان للجامع الأزهر ولجامع القرويين من أسلوب في البحث إذ ذاك هو ما للجامعات المعاصرة اليوم في منهج البحث.

وهناك التشابه فيما طرأ على التعليم في كل منهما من تغيير وما أصابه من تقلبات ، تبعا للعهود السياسية التي مرت على كل من القاهرة وفاس : فنجد تشابها في طابع التعليم أيام أن حكم الفاطميون في مصر والأدارسة في المغرب ، وتشابها في طابع التعليم أيام حكم الأيوبيون بمصر والموحدون بالمغرب. كما نجد تشابها في إطار المعرفة نفسه : اتسع فترة فشمل جميع الفروع المختلفة التي يضمها اسم التراث الإسلامي والعربي ، وضاق في فترة أخرى فلم يشمل علوم الرياضة والطبيعة والطب والفلسفة.

وهناك تشابه كذلك بين الأزهر والقرويين فيما مر على التعليم في كل منهما من مراحل الإصلاح والتطور : سواء في طريقة التعليم أو في نظام الاختبار أو في تعدد المراحل أو في منهاج المواد ، أو في تغيير الكتاب : فقسمت مراحل التعليم في كل منهما إلى ثلاث ، وأخذ بنظام المحاضرة

٢٣٢

بجانب نظام الحلقة في طريقة التدريس ، ورتبت كتب التعليم على حسب ما بينها من اختلاف في الحجم وفي أسلوب التعبير ، وعلى أية حال لم ينتقل التعليم في كل منهما طفرة ليساير الوضع الغربي سواء بسواء بسبب ما لكل منهما من طابع المحافظة على ما ورثناه من تراث روحي وفكري وعلمي ، وما لهما من طابع التمسك بالقيم التي خلفها آباؤنا في حياتنا وتوارثناها جيلا بعد جيل. وربما كان لهذا الطابع الذي للأزهر وجامع القرويين على السواء دخل كبير في مقاومة الغزو الفكري ، والغزو السياسي والاقتصادي للوطن العربي.

ويسوقنا من أجل ذلك الحديث عن وجه التشابه بين الأزهر وجامع القرويين في موقف كل منهما تجاه المستعمرين الغازين ، وفيما قام به كل منهما من حمل راية الجهاد والكفاح ضد المستعمر الأجنبي ، وفيما أصاب كلا منهما من نقمة المستعمر وعنته ، وفيما سببه المستعمر لحملة التراث الإسلامي والعربي في كل منهما من أذى وأضرار مادية وأدبية في المجتمع العربي الخاص والعام ، وفيما ضيقه من خناق على هؤلاء وأقامه من عقبات في سبيل سعيهم في الحياة ، وفي الحصول على وضع في المجتمع يجعل منهم مواطنين لهم ما لمواطنيهم الآخرين من حقوق ، وعليهم ما عليهم من واجبات.

وهناك التشابه بين الأزهر والقرويين في حفظ التراث الإسلامي والعربي وصيانته من التبديد والضياع ، فلم تفتر عناية كل منهما عن رعاية حفظ القرآن الكريم ودرسه وتفهم معانيه ولم تفتر رعاية كل منهما عن نقل ما كان للأولين العرب والمسلمين إلى خلفائهم من بعد جيلا بعد جيل من أفهام في القرآن ، ومن حلول لمشاكل الحياة ومن معارف كانت تدور في محيطهم الثقافي. وقد كانت صدور علماء وطلاب كل من الأزهر وجامع القرويين مقرا للقرآن الكريم ، وكانت عقولهم مرجعا لتفكير المسلمين ، وكانت

٢٣٣

ألسنتهم تنطق بأسلوب كتاب الله ، وهو الأسلوب العربي المبين ، فحفظوا القرآن من التحريف ، وحفظوا التفكير من الضياع.

وهناك التشابه بين الأزهر والقرويين في تأثر الأزهر بعلماء بغداد الذين وفدوا في عهد المماليك إلى القاهرة في سنة ٦٥٦ ه‍ بعد سقوط بغداد ، وفي تأثر القرويين بعلماء الأندلس الذين وفدوا إلى المغرب بعد سقوط الأندلس في القرن الرابع عشر الميلادي.

وهناك التشابه في حركة الإصلاح القوية التي قام بها محمد عبده في الأزهر في نهاية القرن التاسع عشر والشيخ أبو شعيب الدكالي في القرويين في أوائل القرن العشرين.

وهناك التشابه بين الأزهر وجامع القرويين في تربية الحماس القومي ، وننمية الروح الوطني ، والقيام بالحركات المعبرة عن سخط الوطن وتكوين الرأي العام ، والدفع إلى بقائه في النضال بين الدخلاء الغاضبين وبين أصحاب الوطن المعتدي عليهم.

كل هذه الأوجه من التشابه بين الأزهر وجامع القرويين تجعل لجامع القرويين في القاهرة صدى قويا لا يتضاءل ولا يضعف مهما فرق الاستعمار فيما مضى بين أجزاء الوطن الواحد ومهما حاول بأساليبه المختلفة أن يضعف من الصلات الثقافية والترابط الروحي بين فاس والقاهرة ، ومهما حاول وبذل في وضع العقبات المادية والمعنوية في طريق لقاء العربي القاهري بالعربي المغربي.

وجامعة القرويين من أقدم جامعات العالم بعد الأزهر إذ أن مسجد القرويين لم يتحول إلى جامعة للتدريس إلا سنة ٥٣٨ ، أما الأزهر فقد هيىء لتدريس الفقه والعلوم في الرابع الأخير من القرن الرابع الهجري. وعلى ذلك تكون الجامعة الأزهرية أقدم جامعات العالم على الإطلاق. ويعزي إليها ـ وإلى شقيقتها : «الزيتونة» في تونس ، و «الأزهر الشريف» في

٢٣٤

القاهرة ، أكبر الفضل في نشر الإسلام الحنيف والحفاظ على تعاليمه السمحة وحماية لغة القرآن وآدابها والعمل على إثرائها في جميع فروع المعرفة ... بالإضافة إلى ما قامت به هذه الجامعات الإسلامية الكبرى من تزويد شعوبنا العربية خلال مراحل تطورها بالقادة والعلماء والمرشدين الروحيين طوال القرون الماضية.

وتاريخ جامعة القرويين بالذات يرتبط أوثق ارتباط بتاريخ مدينه «فاس» التي كانت منذ إنشائها عاصمة للدولة المغربية في عهد الآدارسة ومن خلفهم إلى مستهل القرن الهجري الحالي ، حيث أخذ الاستعمار يتسلل إليها. وقد سارت هذه الجامعة في تاريخها الطويل العامر ، ككل كائن حي ، تنهض وتنمو آنا ، وتجمد وتتعثر آنا آخر ... ولكن الأمر الذي لا يمكن أن ينكره أحد عليها ، أنها ظلت ـ في كل الأحوال ـ تحمل علم الدراسات الإسلامية وما يتصل بها عن جدارة ، في هذا الجزء الهام من وطننا العربي الكبير. واستطاعت أن تثبت حقا أنها منارة الهدى والعرفان ، وأساس الارتكاز الروحي عند المسلمين كافة في المغرب العربي.

والفصول الأولى لقصة إنشاء القرويين ، تبدأ ـ كما يجمع المؤرخون ـ مع هجرة ثمانمائة عائلة أندلسية ، تبعتها هجرة ثلاثة آلاف عربي من القيروان بتونس ، إلى مدينة فاس ، واتخاذهم لها وطنا ثانيا في أوائل القرن الثالث للهجرة.

وقد استقر المغتربون من الأندلس في شرقي المدينة بضاحية عرفت فيما بعد ، باسم «عدوة الأندلسيين». أما المغتربون من القيروان ، فقد استقر بهم المقام في الجهة المقابلة بضاحية على الضفة اليسرى كانت تسكنها القبائل ، وسميت أيضا باسم «عدوة القرويين».

وكان بين المغتربين التونسيين رجل ورع ، يعيش في بسطة من الرزق بسبب ما حمله معه من المال ، هو «محمد بن عبد الله الفهري

٢٣٥

القيرواني». وقد توفى عقب فترة وجيزة من وصوله إلى فاس. وخلف ثروة طائلة لابنته «فاطمة أم البنين» وشقيقتها «مريم».

وعقدت الشقيقتان العزم على إنفاق جزء كبير مما ورثتاه عن أبيهما في بناء مسجد يخلد اسم أسرتهما واسم البلاد التي نزحتا منها. وكان من أهم الدوافع لهما على ذلك علمهما بحاجة الناس الملحة في كل «عدوة» من فاس إلى مساجد يؤدون فيها الصلاة ، نظرا لضيق المسجدين القديمين القائمين فيها بالناس.

ولم يطل تفكير الشقيقتين ، فشرعت «مريم» في بناء مسجد «الأندلس» في شرق المدينة. وبدأت «فاطمة» في بناء مسجد «القرويين» في جنوبها. وكان ذلك في يوم سبت ـ وهو يصادف غرة رمضان من سنة ٢٤٥ الموافق ٣٠ نوفمبر من سنة ٨٥٩ وهو المسجد الذي عرف بعد ذلك باسم «جامعة القرويين».

ولقد كانت الطريقة التي سلكها البناءون في البناء أنهم التزموا أن يأخذوا كل حاجاتهم من الرمال والحجارة من نفس البقعة دون غيرها. كما أنهم عثروا على عين ماء غزيرة تجاور الموقع الذي اختير لإقامة المسجد. وكان ذلك كله تحريا من المشرفين على البناء كي لا تدخل في بناء المسجد شبهة ـ على ما يقول «ابن أبي زرع» في كتاب «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى». وظلت «فاطمة» صائمة منذ أن شرع في بنائه ، إلى أن تم واكتمل وأقيمت فيه الصلاة.

وقرويين الأمس ، ليست هي قرويين اليوم ... إذ لم تكن القرويين عند نشأتها الأولى ، تشتمل إلا على أربع صحون وعلى محراب وفناء غرست فيه بعض الأشجار .. وحينما بنيت لم تكن بها حلقات للدرس كما أصبحت فيما بعد ، بل كانت مجرد مسجد يحضره الناس الذين يؤدون فيه صلاة الجمعة ، وكانت الفكرة في إنشائها ـ كما يروي «أبو الحسن علي

٢٣٦

الجزنائي» في كتابه «زهرة الآس في بناء مدينة فاس» ـ هي ضيق المساجد التي يصلي فيها أهل العدوة وافتقارهم إلى مسجد جامع يلم شعثهم ويجمع شملهم وتلقى من فوق منبره الخطبة الرسمية.

ولقد تطلب تزايد عدد السكان واتساع نطاق المدينة إدخال إصلاحات جمة على مباني القرويين القديمة واستحداث مبان وصحون جديدة ألحقت بها ... فلم يكد ينقضي إلا نحو قرن حتى أصبحت مساحتها أربعة أضعاف ما كانت عليه بعد بنائها. كما ذكر مؤلف كتاب «القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ فاس».

وكان من أوائل الذين لهم فضل السبق في إدخال هذه الإصلاحات على مسجد القرويين الخليفة عبد الرحمن الأموي الذي أسهم بمال كثير في تجديده ، وكان شديد الشغف بالمباني والمنشآت ، وكذلك السلطان علي بن يوسف بن تاشفين ، وغيرهما من الأمراء الذين عملوا على توسعة رقعته بشراء الأملاك والأراضي المجاورة له وضمها إلى القرويين ، حتى صار أعظم مسجد في أفريقيا الشمالية. وبدأت مع حلول سنة ٥٣٨ هجرية ، تعقد فيه حلقات التدريس في علوم الفقه والشريعة على أيدي علماء أجلاء وفدوا من القيروان ونقلوا معهم جل العلوم الدينية ، وإليهم يعزى الفضل في تحقيق هذه الخطوة التي تأخرت قرنين أو يزيد!

وتدور عجلة الأيام دوراتها السريعة ويزداد ازدهار القرويين في عهد المرابطين الذين بنوا فيها للعلم أمجادا وصروحا شامخة خلدها التاريخ. واستطاعت الجامعة أن تخرج عظماء وعلماء أحالوا المغرب في مدى قصير من «دويلة» كانت تتهاوى من الضعف ، وأمة يشيع فيها التأخر والجهالة ، إلى دولة يحكمها دستور السماء الكريم الذي أنزل على محمد عليه السلام.

وظلت القرويين معهد دراسة وعلم ، وتخرج فيها ملايين من المغاربة

٢٣٧

في أجيال مختلفة. وظلت على مر القرون حصنا للعروبة والإسلام. واجتذبت شهرتها التي طبقت الآفاق عددا كبيرا من العلماء الأجانب من أنحاء أوروبا ومنهم الرحالة «جريريتا» والبابا «سلفستر» الذي نقل الأرقام العربية إلى الغرب ، كما نقل نظريات الفقه الإسلامي واستخدمها في تطوير القانون الروماني ، وكثير غيرهم من العلماء الأوروبيين الذين توافدوا على مر السنين ـ على القرويين ـ للإفادة من خزانتها التاريخية المملوءة بالمؤلفات والكتب والمخطوطات النفيسة النادرة ، في مختلف فروع العلوم والمعرفة ، وأطلعوا العالم بعد عودتهم إلى بلادهم على الحضارة التي تغمر البلاد الإفريقية والمغرب العربي بنوع خاص!.

ولعل أزهر عهد تحقق فيه للقرويين ما كانت تصبو إليه من أسباب النمو والتقدم ، كان عهد السلطان «أبي عنان المريني» ففيه أنشأت الجامعة أضخم مكتبة مزودة بالمخطوطات النادرة ، وشيدت مساكن خاصة للطلاب الذين يردون عليها من أطراف البلاد ، كما أجرى السلطان عليهم «جرايات» شهرية تكفيهم ليتفرغوا لطلب العلم ... كما كان للعلماء دور خاصة لسكناهم ، وخدم معينون يوفرون لهم كل وسائل الراحة حتى يستطيعوا التوفر على أداء رسالتهم نحو طلابهم على أكمل وجه.

وكان علماء القرويين من أغنى طبقات الشعب ، بسبب ما كان يسبغه عليهم الملوك من الهدايا وما يجرونه عليهم من الرواتب الضخمة!.

واستمرت جامعة القرويين تقوم بواجبها ، في حرية تامة ... إلى أن ابتلى المغرب بالاستعمار الفرنسي ، وأوجس الفرنسيون منها خيفة ... أرادوا في مبدأ الأمر أن يوصدوا أبوابها أمام الطلاب ، أو يحددوا عددهم ، زاعمين أن في ذلك ترقية للبلاد ... ولكنهم اصطدموا بمعارضة شديدة ... إذ فطن «المولى يوسف» الجالس على عرش البلاد لغرض المستعمرين من ذلك .. وأدى الصراع بينه وبينهم إلى انتباه جماعة من

٢٣٨

العلماء واتجاههم إلى بعث الحركة السلفية ومحاربة الجمود ، وتطوير الدراسات لتساير روح العصر .. وكانت الخطوة الإيجابية لتحقيق ذلك الغرض ، عند ما عين جلالة الملك محمد الخامس في سنة ١٩٣٧ ، الأستاذ «محمد الفاسي» ، وهو من علماء القرويين ، ومن الذين استكملوا دراستهم في جامعة باريس ، مديرا للقرويين فأدخل العلوم العصرية واللغات الأجنبية في مناهج التعليم ، إلى جانب المواد الدينية ، كما أنشأ قسما خاصا بالقرويين لتعليم الفتيات ، وقد تخرجت فيه إلى الآن عشرات منهن يحملن شهادة «العالمية»!.

ويزدان تاريخ الحركة الوطنية في المغرب بأنصع الصفحات التي سجلها كفاح علماء القرويين وطلابها ضد القوى الاستعمارية ... ودورها في تحرير المغرب يماثل تماما دور الأزهر الشريف في ثورة سنة ١٩١٩ وما بعدها ...

وأصبحت اليوم تضم ألافا من الطلاب ، فضلا عن فروعها التي تتمثل في المعاهد الدينية المنتشرة في أنحاء المغرب ، سواء في «تطوان» أو «طنجة» أو «مراكش» أو منطقة «سوس».

٢٣٩
٢٤٠