الأزهر في ألف عام - ج ٣

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٣

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

الأزهر الخالد

تمهيد :

الأزهر هو أعرق الجامعات العلمية في العالم ، فهو أطولها عمرا وأجلها أثرا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي ، بل في تاريخ العلم كله.

والأزهر طوال عصور التاريخ حارس التراث العربي وحامل مشعل الثقافة الدينية ، والملاذ الذي تهوي إليه أفئدة المسلمين من كل مكان ، والضوء الذي ينير لهم الطريق ويبصرهم سواء السبيل.

وللأزهر مكانة كبرى في مصر والعالم الإسلامي جميعه ، وآراؤه فتاوي علمائه تقابل من كل مسلم في العالم الاسلامي بمزيد من التقدير والإجلال والطاعة.

ولم تقم في مصر جامعة علمية بالمعنى الصحيح قبل الأزهر ، الذي له تاريخ طويل وذكريات مجيدة وآثار علمية ودينية عديدة.

من تاريخ الأزهر :

أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلى قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بعد فتحه مصر بنحو عام ، وقد شرع في بنائه يوم السبت لست بقين من

٣٨١

جمادي الأولى سنة ٣٥٩ ه‍ ـ ٩٧٠ م ، ويذكر بعض المؤرخين أنه شرع في بنائه في يوم السبت الرابع من شهر رمضان في العام نفسه. وقد كمل بناؤه لسبع خلون من شهر رمضان سنة ٣٦١ ه‍ ـ ٢٢ يونيو سنة ٩٧٢ م ، وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية ـ ومنبرا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر.

وقد أطلق على هذا المسجد اسم الأزهر نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون ، أو لأنه كان يحيط به قصور فخمة تسمى بالقصور الزهراء ، أو لأنه كان يظن أن هذا الجامع أكثر الجوامع فخامة ورواء ، أو للتفاؤل بأنه سيكون أعظم المساجد ضياء ونورا .. وقد احتفل بافتتاحه في أول جمعة من رمضان عام ٣٦١ ه‍.

وأصبح هذا الجامع مسجد الدولة الرسمي ، وقد حرص وزير المعز يعقوب بن كلس على أن يقيم حفلة علمية في الأزهر ، حيث كان يقرأ على الناس في مجلس خاص يوم الجمعة مصنفاته في الفقه الفاطمي ، كما كان يجتمع يوم الثلاثاء بالفقهاء وجماعة لمتكلمين وأهل الجدل ، وحرص الخليفة كذلك على تكليف كبار العلماء بإقامة حلقات علمية في أروقة الأزهر لتدريس الفقه الفاطمي ، وكان يمنحهم مرتبات شهرية. ولهذا صار الأزهر جامعة علمية ، وظهر ذلك جليا حينما بدأت حلقاته تتحول إلى دراسة جامعية علمية مستقرة. وذلك عام ٣٧٨ ه‍ ـ ٩٨٨ م حينما استأذن ابن كلس الخليفة العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر ، وكان عددهم ٣٧ فقيها.

وفي عام ٣٨٠ ه‍ رتب المتصدون لقراءة العلم بالأزهر ... وبذلك صار الأزهر معهدا جامعيا للعلم والتعليم والدراسة. ومن هذا التاريخ يبدأ الأزهر حياته العلمية الجامعية الصحيحة.

وقد استمرت الحركة العلمية والدينية في الأزهر قوية مزدهرة في عهد

٣٨٢

الفاطميين الذين وقفوا عليه الوقوف وأحاطوه بالرعاية ، وكان في مقدمة الأساتذة المدرسين في الأزهر بنو النعمان قضاة مصر.

ولما قامت الدولة الأيوبية في مصر عام ٥٦٧ ه‍. على يدي مؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي ، محا من مصر المذهب الفاطمي وأحل محله المذهب السني ، وغالى الأيوبيون في القضاء على كل أثر للشيعة وأفتوا بإبطال إقامة الجمعة في الأزهر .. ، فلبثت معطلة فيه نحو مائة عام ، فقضى الأزهر هذه المدة في ركود طويل ، وقد ظلت حلقات الدراسة فيه على الرغم من ذلك مستمرة دون أن تحظى هذه الحلقات في ذلك العصر بكثير من رعاية الدولة.

وفي عام ٦٦٥ ه‍ أعيد افتتاح الأزهر لصلاة الجمعة في عهد بيبرس الذي شجع العلم فيه هو ولأمراء والقواد ، ووقفوا عليه الأوقاف الطائلة ... واستمر الأزهر يؤدي واجبه الديني والعلمي في عهد المماليك وعهد الدولة العثمانية وعهد النهضة المصرية الحديثة.

وأول شيخ تولى مشيخة الأزهر كما يحدثنا التاريخ هو الشيخ الخرشي المالكي المتوفى عام ١١٠١ ه‍ وتولى بعده الكثير من مشايخ الأزهر حتى بلغوا حتى اليوم ٤١ شيخا آخرهم شيخ الأزهر الحالي الشيخ عبد الرحمن تاج.

وفي عهد محمد علي وأسرته انتقصت أوقاف الأزهر وحقوقه ، ولكنه ظل يؤدي واجبه العلمي والديني بنشاط كبير. ومن الأزهر كان طلبة البعوث الذين بعث بهم محمد علي إلى أوروبا وعادوا إلى مصر ينشرون العلم والمعرفة والنهضة في كل مكان ، وكانت جل المدارس التي أنشأها محمد علي تأخذ طلبتها من طلبة الأزهر الشريف ، ولما أنشئت دار العلوم عام ١٨٧١ م ومدرسة القضاء الشرعي عام ١٩٠٧ م استمدتا طلبتهما من الأزهر. وكان مدرسو الدين واللغة العربية في جميع مدارس الدولة

٣٨٣

ومعاهدها من خريجي الأزهر الشريف. وكذلك كان طلبة مدرسة المعلمين الأولية وأساتذتها.

وقد قام لأزهر بنشاط كبير ، وأسهم بنصيب ضخم من الجهاد الوطني في جميع المواقف القومية الوطنية فهو الذي قاوم الاحتلال الفرنسي لمصر وهو الذي أذكى لهيب الثورة العرابية ، وهو الذي غذي ثورة عام ١٩١٩ ، وله في كل موقف وطني جهاد مذكور مشكور.

ومنذ آخر القرن التاسع عشر إلى عصرنا وضعت قوانين منظمة لشئون الأزهر. ومن أشهر هذه القوانين قانون عام ١٩٣٠ م بإصلاح الأزهر الشريف ، وآخر هذه القوانين قانون عام ١٩٣٦ م الذي يسير الأزهر عليه اليوم في نظامه الجامعي والعلمي ، وفي تقسيمه إلى معاهد وكليات (١).

فضل الأزهر على العلوم والآداب :

الأزهر بيت العلم العتيق ومثابة الثقافة الإسلامية. حمل لواء المعرفة في مصر وفي الشرق الإسلامي قرونا متصلة وحفظ التراث الإسلامي في الدين واللغة والعلوم ونشره على الآفاق طيلة ألف سنة أو يزيد. وقد تخرج فيه أفواج من العلماء خلال عصور التاريخ ممن انتشروا في بقاع الأرض وحملوا معهم مشاعل المعرفة والثقافة التي تزودوا بها في الأزهر فأضاءوا الأرض علما ونورا ورشادا.

ولا يزال الأزهر حتى اليوم كعبة العلوم والآداب ومعقد آمال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

والأزهر هو الذي حفظ العلوم الإسلامية واللغة العربية من الضياع والاندثار وهو الذي حفظ للأدب العربي ، في شتى بلاد العروبة ، رونقه

__________________

(١) راجع الأزهر في ألف عام ـ ٣ أجزاء ـ تأليف محمد خفاجي.

٣٨٤

وبهاءه. وقد تخرج فيه العديد من العلماء والأدباء والكتاب والخطباء والشعراء في كل عصر وكل جيل.

أثر الأزهر في التوجيه الديني :

والأزهر منذ أنشىء حتى اليوم هو الذي يتولى قيادة الحركة الدينية في العالم الإسلامي ، وآراء شيوخه في الحجة القوية التي يقابلها المسلمون في شتى بقاع الأرض بالطاعة والامتثال والقبول. وقد خرج الأزهر الكثير من رجال الدين منذ أنشىء إلى اليوم ، وخريجوه هم الذين تولوا قيادة الحركة الدينية في كل مكان من بلاد العالم الإسلامي.

وفي الأزهر هيئة كبار العلماء التي أنشئت بمقتضى قانون عام ١٩١١ م. وفيه كذلك لجنة للفتوى عام ١٩٣٧ م. وهاتان الهيئتان لهما أثر كبير في التوجيه الديني في العالم الاسلامي.

ومن أعلام الأزهر وأئمته في التوجيه الديني الإمام محمد عبده (١٢٦٦ ه‍ ـ ١٩٠٥ م) وله فضل كبير في الإصلاح الديني وفي إصلاح الأزهر.

ومن أعلامه كذلك محمد مصطفى المراغي ، ومصطفى عبد الرازق وسواهما ، ممن قادوا الحركة الدينية ووجهوها توجيها قويا في العالم الاسلامي كافة.

والأزهر بحق قائد الحركة الدينية في العالم الإسلامي قاطبة.

مكانة الأزهر في العالم الإسلامي :

ولقد ورث الأزهر الحديث ميراثا روحيا وثقافيا ضخما جليلا عن الأزهر القديم ، ورث عنه الرسالة الدينية التي قام منذ أن أنشىء لحمل أمانتها ، والتي أخذها بكلتا يديه ليؤديها إلى العالم شعلة مضيئة هادية ، ومثلا إنسانيا

٣٨٥

رفيعا ، ومذهبا فكريا قادرا على قيادة الحياة والبشرية جميعا إلى السلام والإخاء والأمن والرفاهية.

وورث عنه الرسالة الثقافية التي جاهد من أجلها أجيالا طوالا ، والتي قامت عليها أروقته ومحاريبه وقبابه ومآذنه الشم ، ودأبت على الكفاح في سبيلها حلقاته الطاهرة ، التي تجمع فيها شباب المسلمين ـ من شتى الأقطار والشعوب ـ على كلمة الحق والتقوى والمعرفة ، استجابة لأمر الله ، وتحقيقا لفكرة الإسلام ، وسعيا وراء الحقيقة التي هي أكبر محرر للأمم ، والجماعات والأفراد. من أغلال الجهل والجمود والتأخر.

وعاشت حلقات الأزهر الجليلة طويلا خلال هذه الأجيال ، وهي نحمل عن العالم الإسلامي رسالة الإسلام الروحية والدينية والثقافية ، وتؤديها ناصعة بيضاء كخيوط الفجر ، مشرقة هادية كضوء الشمس ، ومن هذه الحلقات تخرج زعماء العالم الاسلامي في القديم ، وكانت عن جدارة بمثابة مصنع يصنع الرجال والأبطال ، ممن قادوا الشعوب الإسلامية إلى النهضة ، والحضارة والعزة ، مما جعل للأزهر مكانة كبرى في العالم الإسلامي.

مواقف خالدة للأزهر :

ولا ننس أن الأزهر قد قاد في القديم ثورتين كبيرتين تعدان من أسبق الثورات الدستورية العالمية ، قاد إحداهما عام ١٢٠٠ ه‍ ـ يناير ١٧٨٦ م الشيخ الدردير ، وقاد الأخرى عام ١٢٠٩ ه‍ ـ ١٧٩٥ م شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ عبد الله الشرقاوي ، وكسب الشعب المصري من الثورة الأولى مبدأ دستوريا جليلا هو وجوب احترام الحاكم لإرادة المحكومين ، وكسب من الثانية مبدأ آخر هو أن الأمة مصدر السلطان ، وكانت بمثابة إعلان لحقوق الإنسان ، ووثيقة فريدة في سبيل التحرير سبق بها شعب مصر غيره

٣٨٦

من الشعوب ، كما اعترف بذلك المؤرخون من العرب والغرب.

وقد حمل علماء الأزهر عبء الجهاد لتحرير مصر من الاحتلال الفرنسي منذ دخل جيش نابليون أرض الوطن فاتحا. ولا ننس كذلك أن الأزهر قام بثورة ثالثة في صفر عام ١٢٢٠ ه‍ ـ ١٨٠٥ م لانهاء النفوذ التركي من مصر ، ولكن دجالا سياسيا بارعا يتدفق في أعصابه الدم التركي استطاع بدهائه أن يحول المعركة إلى مغانم شخصية له ولأسرته التي حكمت مصر نحو قرن ونصف من الزمان.

وكان قائد الثورة المصرية الرابعة كذلك أزهريا صميما ، هو الزعيم الوطني القائد «أحمد عرابي» الذي قاد الثورة العرابية للقضاء على نفوذ المستعمرين من الأتراك والمستغلين من الإنجليز. كما كان زعيم الثورة الشعبية الخامسة أزهريا صميما هو المرحوم سعد زغلول ، الذي كان يعمل للقضاء على الاستعمار الإنجليزي وتحرير شعب مصر من أغلاله. ولا ننس كذلك أن قادة ثورة مصر الأحرار تتلمذوا على شيخ أزهري ورع زاهد متصوف كان رائدا روحيا لهم هو الشيخ محمد الأودن من علماء الأزهر المعاصرين.

الأزهر والتجديد :

ولقد تطورت البيئة الثقافية في الأزهر في العصر الحديث : بتأثير الحضارة الفكرية الغربية ، وبفضل لفيف من علمائه الأعلام الخالدين.

ومن الحق أن الأزهر منذ بدأ القرن التاسع عشر كان يتطلع إلى ثقافة الغرب وحضارته في شيء من الفتور والكراهية ، إيمانا بقومية المسلمين السياسية والفكرية والثقافية ، ولكنه لم يجحد فكرة السعي إلى النهضة ، أو الإيمان بالتطور : فسافر بعض أبنائه في بعثات حكومية إلى باريس ولندن وسواهما من عواصم الغرب ، وكان من أشهرهم رفاعة الطهطاوي.

٣٨٧

وتطلع بعض علمائه في أواخر القرن التاسع عشر إلى معرفة بعض اللغات الغربية لدراسة أصول حضارة الغرب الحديثة الفكرية والثقافية ، وللرد على ما يثيره بعض الغربيين حول الإسلام من شبهات ، وكان في مقدمة هؤلاء الإمام محمد عبده ، الذي كان أكبر رائد أزهري للفكر المصري في العصر الحديث.

ولقد نهض شيوخ الأزهر منذ أواخر القرن التاسع عشر بعبء إصلاح البيئة الثقافية داخل الأزهر ، وبعث روح التجديد والحياة في حلقات الأزهر العلمية ، لتكون على صلة بينابيع الفكر الحديثة المتدفقة.

وفي الحق أن الأزهر المحافظ المتمسك بتقاليده وشعائره ونظمه وحياته الثقافية كان أرجح كفة من عوامل التجديد ، وتيارات الجديد.

ومنذ أكثر من ربع قرن من الزمان ، أو بالتحديد في مايو سنة ١٩٢٨ تولى مشيخة الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي وهو تلميذ من تلامذة الإمام محمد عبده ، ولكنه ما لبث أن استقال منها في أكتوبر سنة ١٩٢٩ ، وخلفه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري ، ثم عاد الشيخ المراغي إلى المشيخة في ٢٦ أبريل سنة ١٩٣٥ ، وظل فيها إلى أن توفي في ٢٢ أغسطس ١٩٤٥.

وعلى يد الشيخ الظواهري تحول الأزهر إلى جامعة علمية لها كليات ثلاث : هي الشريعة واللغة وأصول الدين ، وفيها أقسام للدراسات العليا ذات نظام علمي جامعي ، ولكن أثر ذلك لم يظهر إلا في عهد الشيخ المراغي وعلى يديه وبتشجيعه ورعايته ، فكان يشرف هو ومعاونوه من شيوخ الكليات الأزهرية على نظم هذه الدراسات ، ويشترك في امتحاناتها ومناقشات رسائلها ، ويرعى خريجي هذه الأقسام ويضعهم في منازلهم العلمية في كليات الأزهر. وبذلك صار الأزهر يخضع في حياته الثقافية الجديدة للنظم الجامعية الصحيحة.

٣٨٨

هذا عدا ما صنع الشيخ من تقدير للكفايات العلمية ، ورعاية للبحث الثقافي الحر في داخل الأزهر ، فصنع بذلك نهضة ثقافية جديرة بالتأمل والتقدير.

الأزهر الخالد

الأزهر جامعة الإسلام العريقة ، ومنارته الهادية ، وسيظل النور متألقا منه إلى قيام الساعة. ومن عجب أن تقوم في مصر دعوة إلحادية ترمي إلى إلغاء التعليم الديني بحجة توحيد التعليم ، أوقل إلى إلغاء المعاهد الإبتدائية والثانوية الأزهرية ، والتي تمثل ثلثي بناء الأزهر العالمي ، ونحو ٨٠ في المائة من طلبة الأزهر الشريف.

ونحن نسائل هؤلاء الداعين إلى توحيد التعليم : هل ألغت فرنسا أو انجلترا أو أمريكا التعليم الديني في بلادها؟ كلا ... وهل ألغت هذه الشعوب التعليم الديني في المستعمرات التي تحكمها؟ كلا ... وهل ألغت فرنسا المعاهد الابتدائية والثانوية لجامعة الزيتونة الدينية في تونس بحجة توحيد التعليم؟ كلا ...

إن هذا الموقف الذي يقفه طه حسين من الأزهر يدلنا على سخف شديد وتفاهة واضحة. فطه حسين هو سفير فرنسا الثقافي في الشرق الأوسط ، وهو الذي تعامل عام ١٩٤٧ مع وكالة يهودية وأصدر لها مجلة الكاتب المصري ، وحشد لها الأقلام ليكونوا جميعا عمالا وأجراء لدى الوكالة اليهودية في مصر.

وفي الحق أن نقول : إن الأزهر ليس ملكا لمصر وحدها ، بل كذلك ملك للعالم الإسلامي كله ، وقد شارك العالم الاسلامي الأزهر في الدفاع عن الأزهر ومقوماته ، وأيدت الجماعات الإسلامية في كل مكان الأزهر الشريف ، وإن طه حسين الذي يثرثر في الصحف ويقول فيما يقول : إن

٣٨٩

الأزهر لا يتعلم كما يتعلم الناس ، يفوته أو ينسى أنه في عام ١٩٥١ كان وهو وزير للمعارف يصرح في وفود الأزهر بأن الأزهر هو المكان الأول الذي تحيا فيه علوم الدين والعربية ، وينسى كذلك ما كتبه في مناسبات عديدة في تمجيد الأزهر وثقافته.

والدكتور لطفي السيد لا يمكن أن يكون متعصبا للأزهر ، وله كلمة في التنويه بالأزهر وثقافة بمناسبة ترؤسه لجنة مناقشة رسائل العالمية من درجة أستاذ عام ١٩٤٤ ، وقد قال في كلمته هذه : أحمد الله أن أصبح الأزهر اليوم في مستوى علمي رفيع ، وصرنا نتحدث فيه في الفلسفة القديمة ، ويتحدث أصحاب الرسائل العلمية من خريجيه عن (الإله عند أرسطو) وإنها لنهضة تبشر بالخير كل الخير بإذن الله ، وكلمته مسجلة في الجزء الثاني من كتاب (المنتخبات) لعميد الجيل الدكتور لطفي السيد. وشهادة الدكتور منصور فهمي وأمين الخولى وسواهم للأزهر ، لا يمكن أن تحمل على أي لون من العصبية ، وقد كان هؤلاء وسواهم ممن أسهموا في أعمال مناقشة رسائل خريجي أقسام العالمية من درجة أستاذ في الأزهر الشريف.

على أن مناهج الأزهر اليوم متخمة بالعلوم الحديثة في شتى مراحل التعليم فيه ، وهذه العلوم من الكثرة إلى حد أن صرنا نشكو من أنها أصبحت تستأثر بوقت الطالب الأزهري ، وتضعف مستواه في العلوم الدينية والعربية.

وإنا لنرجو أن تزداد الثقة بالأزهر يوما بعد يوم ، وما ذلك على الله بعزيز ، وإنه لم يجن على الأزهر إلا تدخل السياسة قديما في شئونه ، ونرجو للأزهر اليوم كل عزة وكرامة ، ونهضة وتقدم ، في شتى جوانب نشاطه الروحي والفكري والثقافي.

٣٩٠

الدكتور طه حسين والازهر

يرى د. طه أن إغلاق ثلثي الأزهر إصلاح له .. وأن إبعاد ٩٠ في المائة من طلاب الأزهر عن معهدهم الذي ينهلون منه الثقافة الإسلامية الصحيحة يجب أن يكون هو الخطوة الثانية التي تخطوها مصر في عهد ثوارها. والدكتور طه لم يدع في يوم من الأيام إلى إلغاء جامعة من جامعاتنا اكتفاء بأخواتها ، وهو الذي حارب إدماج أقسام اللغة العربية في آداب الجامعات الثلاث في قسم واحد. وفي عهده في وزارة المعارف كان يشجع إنشاء المدارس الأجنبية والخاصة والحرة ، ولم يزعم أن من مبادىء الإصلاح إدماج هذه المدارس أو الجامعات بعضها في بعض ، فكيف به يقف من الأزهر هذا الموقف العابث الذي لا يتصور طه نفسه خطره على نفسه وعلى مصر وعلى العالم العربي والإسلامي.

ولو كان الدكتور طه يحرص على سمعة الفكر المصري المعاصر حقا لما لجأ إلى هذا المنطق السوفسطائي العجيب الذي يجعل به الحق باطلا والباطل حقا ، ويظن أن الناس قد صدقوا هذا المنطق المقلوب. وأنا أزعم أن الدكتور طه سوفسطائيا وإنما هو يحاول أن يلجأ إلى منطق السوفسطائيين ليقنع الناس برأيه لغرض في نفسه. وأشهد أن فرنسا الاستعمارية لم تحاول في يوم من الأيام أن تغلق الأقسام الابتدائية والثانوية من جامعة الزيتونة الدينية في تونس ، بدعوى توحيد التعليم ، أو باسم إصلاح الزيتونة ، والتعليم الابتدائي والثانوي في الأزهر ـ وهو الذي تجمع مناهجه بين ثقافات وزارة المعارف وعلوم الدين واللغة على أوسع نطاق ـ ليس هو الذي تعمل الدولة على تصفيته لأن الشعب نفسه ، والدولة نفسها ، لا ترى فيه إلا الخير كل الخير لمصر وللعالم الإسلامي كافة. ولو قدر الغي التعليم الابتدائي والثانوي من الأزهر لما استطاع مثل الدكتور طه أن يتعلم وأن يسمع به الناس.

٣٩١

والشعوب الإسلامية كافة ترسل أبناءها إلى الأقسام الابتدائية والثانوية في الأزهر ، فماذا يريد الدكتور طه لأبناء هذه الشعوب الإسلامية بعد إغلاق المعاهد الأزهرية الابتدائية والثانوية ، أظنه سيحاول أن يشرع لهذه الشعوب ، كما يحاول اليوم أن يشرع لمصر ولشعب مصر ولثورة مصر.

وفي البلاد الإسلامية معاهد ابتدائية وثانوية على غرار الأزهر ، وبعضها تتبع الأزهر ، فما ذا تصنع يا دكتور طه بهذه المعاهد بعد إغلاق مثيلاتها من الأزهر في مصر؟.

وأنت تعلم أن مثل هذه المعاهد هي الوسيلة الوحيدة لتعليم الثقافة الإسلامية والعربية في بعض الشعوب المسلمة التي يحكمها الاستعمار. ويعمل جاهدا على أن يحطم فيها كل مقوماتها لتظل فريسة في أنيابه إلى الآن.

وما رأيك يا دكتور طه وأنت تدعو إلى تعليم الشعب في أن هذه الأقسام الابتدائية والثانوية هي التي كان يلجأ إليها أبناء الشعب ليتعلموا ويتثقفوا ، ثم هي الوسيلة الوحيدة للتعليم لدى أغلبية الريف الذين لا يؤمنون إلا بالأزهر وثقافته.

والدكتور طه لا يجهل أن هذا التعليم الديني قد قام تحقيقا لمشيئة أهل مصر الإسلامية ، ووقف عليه المسلمون في مصر وغيرها أوقافا طائلة ، ولا يزالون يمدونه بالعون والرعاية في مصر الإسلامية وفي غيرها من الشعوب المسلمة ، وأنه هو الذي تحققت فيه مجانية التعليم وديمقراطيته وظروف تكافؤ الفرص أمام الشباب الإسلامي لا اليوم فحسب ، ولا الأمس فقط ، بل طيلة ألف عام أو يزيد.

والدكتور طه يدعو إلى توحيد التعليم تحت راية وزارة المعارف وجعل كليات الأزهر معاهد للتخصص في الثقافة الإسلامية ، وكيف يتخصص طالب في شيء لم يمهد له؟ ومن الذي يستطيع أن يفهم بعد التوجيهية

٣٩٢

أصول الفقه وعلوم أصول الدين وفلسفة العربية في كتاب سيبوية وغيره ، وفلسفة اللغة في الخصائص والمخصص وغيرهما.

والدكتور طه يقول : إنه يحب أن يشارك الأزهريون في كل ميدان ، فيكون منهم مهندسون وأطباء وسوى ذلك ، وأنا أحب أن يشرح الدكتور للناس ذلك ، فلقد أحب ألا يكون هناك تعليم ابتدائي أو ثانوي خاضع للأزهر ، ثم فرض أن حامل التوجيهية سوف يدخل كليات الأزهر ليتخصص في الدين واللغة ، فمتى يكون مهندسا أو طبيبا؟ أيكون ذلك وهو يحمل التوجيهية فقط ، أم سوف يكون كذلك بعد تخرجه من الأزهر؟ أليس هذا هو عين سوفسطائية الدكتور طه ، التي ينعتها بلقب التجديد واسم المنطق.

والدكتور طه ، يعلم أن حامل التوجيهية لن يدخل الأزهر لأنه لا يستطيع أن يدرس بعد التوجيهية علوم الأزهر وثقافته. أرح نفسك يا دكتور من هذا الالتواء والتعقيد والتكلف البغيض ، ادع في الناس إلى إغلاق الأزهر لا لذنب جناه الأزهر ولكن لأنه لم يستطع أن يؤمن بمنطقك بأفكارك. ثم لأن له تاريخا مضيئا ، ومنزلة كريمة في العالم الإسلامي منذ عشرة قرون.

إي والله عشرة قرون كاملة ، حقق الأزهر فيها لمصر العزة والكرامة ومعاني القومية الصحيحة ورباها على الحرية ، وتعشق الثورة والإيمان بمصر ، مصر الخالدة العزيزة وظل فيها معقل القومية ، وملاذ الفكر الحر المتوثب المنطق إلى أهدافه النبيلة في الحياة.

الأزهر في القرن العشرين (١)

من روح مصر ، ومن ضميرها الوطني ، وكفاحها القومي ، انبثق فجر الحرية والثورة والكرامة والعزة والاستقلال لمصر الخالدة ، مصر التي تقهر

__________________

(١) محاضرة القيتها في هيئة التحرير عام ١٩٥٥.

٣٩٣

الأحداث ، والتي تسلم أبناؤها الثائرون أمانة الوطن المفدي ، بعد أجيال طويلة ملؤها النضال في سبيل الشعب : حريته وعزته وكرامته.

وفي هذا المجال نذكر الأزهر ، الأزهر العريق في التاريخ ، في المجد ، في الجهاد ، والذي عرفت له مصر أروع الأعمال ، وسجلت الأيام له أمجد الصفحات في تاريخنا القومي والوطني.

وعند ما نريد الحديث عن «رسالة الأزهر في القرن العشرين» لا بد أن نشير إلى تاريخ الأزهر في الكفاح الوطني ، لأنه جزء لا يتجزأ من تاريخه الثقافي والديني ، ومن رسالته التي حملها خلال العصور والأجيال ، بل من تاريخ بلادنا التي حملت رسالة الثقافة والحضارة ، وألهمت الإنسانية أرفع معاني النهضة والتقدم والحياة.

وفي هذه السبيل نذكر الشيخ الإمام الدردير رضوان الله عليه ، وتذكر كفاحه من أجل مصر وشعبها الحر الأبي ، ففي عام ١٢٠٠ ه‍ : ١٧٨٦ م أعلن علماء الأزهر الشريف الثورة ضد الأمراء من المماليك ، لإسرافهم في فرض الضرائب ، ونهب أموال الشعب ، وكانت الثورة بقيادة الشيخ الدردير ، الذي بادر فأعلن تصريحه الخالد المأثور : سنثور مع الشعب ، وننهب بيوت المماليك كما ينهبون بيوتنا ، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم».

وجاء الأمراء يعتذرون للإمام الزعيم ، ولم يقبل الشيخ اعتذارهم حتى ألزمهم بميثاق وطني مكتوب ، أعلن فيه لأول مرة حقوق الإنسان قبل ميلاد الثورة الفرنسية بسنوات ثلاث ، ونص فيه على حرية الشعب ، وعدم جواز فرض ضرائب إلا بإرادته ، وعلى أن الأمة مصدر السلطان.

ونذكر كذلك الشيخ الإمام عبد الله الشرقاوي ، وجهاده من أجل مصر. ففي عام ١٢٠٩ ه‍ : ١٧٩٥ م أعلن علماء الأزهر الشريف الثورة

٣٩٤

على المماليك ، وأجمعوا على مقاومة أمرائهم بالقوة إلى أن يستجيبوا لمطالب الشعب ، وكان قائد هذه الثورة هو الإمام الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر أيام ذاك ، وكان مجلس الثورة يعقد في الأزهر ، وأعضاؤه هم : الشيخ الشرقاوي : والشيخ البكري ، والشيخ الأمير ، والسيد عمر مكرم ، ولم تنته الثورة إلا بعد اعتذار أمراء المماليك ، وبعد أن أصدر أعضاء مجلس قيادة الثورة وثيقة وقعوا عليها وألزموا الأمراء بالتوقيع كذلك عليها ، وكانت إعلانا وطنيا جليلا لحقوق الشعب ، حيث تضمنت ما يلي :

١ ـ ألا تفرض ضريبة إلا إذا أقرها مندوبو الأمة.

٢ ـ أن ينزل الحكام على مقتضى أحكام المحاكم.

٣ ـ ألا تمتد يد ذي سلطان إلى فرد من أفراد الأمة إلا بالحق والشرع.

وعند ما دخلت الحملة الفرنسية مصر نبعت ثورة القاهرة الأولى من الأزهر الشريف عام ١٢١٣ ه‍ ـ ١٧٩٨ م ، وكان مجلس الثورة مكونا من كبار علماء الأزهر آنذاك ؛ ورئيسه هو الشيخ السادات ؛ وكان يعقد اجتماعاته في الأزهر. وقد بطش نابليون بالثوار الأحرار ، وأغلق الأزهر ، وأعدم ثلاثة عشر عالما من أبر علمائه بوطنهم ودينهم.

وكذلك قامت ثورة القاهرة الثانية عام ١٢١٤ ه‍ ـ ١٨٠٠ م من قلب الأزهر ، وكانت بزعامة الشيخ الأزهري والسيد الوطني عمر مكرم نقيب الأشراف في مصر ، وقد أخمدت هذه الثورة بقوة وعنف ، وقبض على زعمائها ، ونكل بهم تنكيلا شديدا.

وفي عام ١٢٢٠ ه‍ ـ ١٨٠٥ م أعلن علماء الأزهر الثورة على الوالي التركي خورشيد باشا» ، وأجمعوا على عزله ، وكتبوا للخليفة العثماني بذلك ؛ وقد كان عمر مكرم زعيم هذه الثورة ، ولا ننسى كلمة خالدة له

٣٩٥

يومذاك ، عند ما ذكره أحد قواد الأتراك بالآية الكريمة : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ؛ فرد عليه عمر مكرم في عزة وإباء : أولو الأمر هم العلماء وحماة الشريعة والسلطان العادل.

ولما ولي محمد على حكم مصر استبد بالحكم ، وتنكر للشعب ، وبطش بالحريات ، وأسرف في فرض الضرائب ، وخان العهد الذي عاهد عليه العلماء بأن يحكم بالعدل والشريعة ، فاجتمع في الأزهر الشريف مجلس وطني من العلماء ، في أواسط جمادى الأولى ١٢٢٤ ه‍ ـ أول يوليو ١٨٠٩ م لمقاومة محمد علي حتى يخضع لمشيئة الشعب في عدم فرض ضرائب جديدة ، وإلغاء الضرائب المستحدثة ، ورفض السيد عمر مكرم زعيم العلماء التوقيع على ميزانية محمد علي السنوية ، وقال كلمة خالدة مأثورة : «إن هذا الحاكم ـ يريد محمد علي ـ محتال ، وإذا تمكن فسيصعب إزالته ، فلنحاربه من الآن ، وأسرع محمد علي فخلع السيد عمر مكرم من نقابة الأشراف ، ونفاه إلى دمياط ، وقد ألقى السيد عمر مكرم تصريحا عقب إبلاغه بصنيع محمد علي معه ، جاء فيه : «إني راغب عن منصب النقابة ، زاهد فيه ، فليس فيه إلا التعب. وأما النفي فهو غاية مطلوبي ، حتى لا أكون مسئولا أمام الله عن ظلم يقع على الشعب ، وإني لا أريد إلا أن أعيش في بلدة لا تدين لحكم محمد علي». وظل السيد عمر مكرم منفيا في دمياط وطنطا حتى توفاه الله عام ١٢٣٧ ه‍ ـ ١٨٢٢ م.

ولسنا ننسى الثورة العرابية وزعيمها الأزهري المصري القائد : أحمد عرابي ، وكيف وقف علماء الأزهر وراءه صفا موحدا ، يدعون الشعب إلى الجهاد تحت رايته ، وأصدروا فتوى شرعية بمروق الخديوي توفيق عن الدين لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده. وأعلنوا في المؤتمر الوطني عزل توفيق ، ووقف أوامره وتكليف عرابي بالدفاع عن البلاد ، وأن يبلغ المجلس الوطني هذه القرارات إلى السلطان.

٣٩٦

وقد نكل الإنجليز وتوفيق بعد ذلك بعلماء الأزهر تنكيلا شديدا. واستمر شيوخه لا يبالون بالحكام من أسرة محمد علي ، ولهم في ذلك مواقف مشهورة ، حتى قامت الثورة المصرية عام ١٩١٩. فنبعت من قلب الأزهر ، واشتعلت شرارتها في صحته ، وانبثق من منبره ومحرابه فجر الحرية لشعبنا المجيد الذي نال ما تمناه بفضل كفاحه الطويل العتيد.

ولا ننس موقف الشيوخ الثلاثة : عبد المجيد سليم ومأمون الشناوي وإبراهيم حمروش ، من سياسة القصر وعبثه بقوانين الأزهر واستقلاله وحريته ، وكيف أصدروا بيانا مطبوعا موجها إلى العالم الإسلامي ، ينددون فيه بفاروق ورئيس ديوانه ورئيس وزرائه ، ويسجلون عليهم في صراحة تدخلهم في شئون الأزهر وعبثهم بقوانينه. وللشيخ عبد المجيد سليم عند ما هدده رئيس الديوان بالخطر كلمة مأثورة خالدة : ما دمت أتردد بين بيتي والمسجد فلا خطر بإذن الله ، وله كلمة أخرى ندد فيها بفاروق وعبثه ومجونه عند ما أقام في كابري لاهيا عابثا ، قالها الشيخ وأعلنها وسارت مسير الأمثال ، وهي : «تقتير هنا وإسراف هناك».

هذه قطرة من كفاح الأزهر وأدائه لرسالته ، وللأمانة الملقاة على كواهل علمائه نحو الشعب. وهي تصور لنا في وضوح روح الأزهر وجوهره وسر خلوده وبقائه شاهق الذرى على مر الأجيال ، راسخا يرسل الضوء والنور والهدى إلى كل مكان رسوخ الجبال الراسيات. وهل هناك أروع من أن يصدر شيخ معمم فتوي ببيع أمراء المماليك الأتراك ليصرف ثمنهم في مصالح المسلمين ، لأن حكم الرق سار عليهم ، وهم أرقاء لسادتهم من أبناء مصر ، لأن السلطان اشتراهم من مال الدولة ، ولا يزال حكم الرق مستصحبا عليهم. وكان من جملة هؤلاء الأمراء نائب السلطنة ، وكلهم أصحاب حكم ، وسلطان ونفوذ وجاه ، وكان ذلك في منتصف القرن السابع الهجري ، وبعد منتصف القرن الثاني عشر الميلادي بقليل ، وكان هذا

٣٩٧

الإمام هو الشيخ عز الدين بن عبد السلام رضوان الله عليه.

وبعد فإن رسالة الأزهر في القرن العشرين تشمل الرسالة الدينية الكبرى ، والرسالة الثقافية والأدبية ، ورسالته الوطنية والاجتماعية.

فمن صميم رسالته الدينية :

١ ـ إنشاء المراكز الإسلامية في دول أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى وأفريقيا لنشر رسالة الإسلام وتعاليمه الصحيحة.

٢ ـ وتلخيص رسالة الإسلام في مؤلفات حديثة ، ونشرها بجميع اللغات العالمية.

٣ ـ ومحاربة المادية والمذاهب الهدامة الوافدة علينا من أوروبا وأمريكا والدعوة إلى الروحية السامية المهذبة ، وإذاعتها بين جميع الطبقات.

٤ ـ والعمل على إنماء الأخوة الدينية والروحية بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ونشر رسالة التقدم الروحي والديني في البلاد الإسلامية.

٥ ـ وإذاعة مبادىء الإسلام وأصوله الرفيعة الصالحة لقيادة الإنسانية بين مختلف الجماعات والطبقات ، وإحياء الشعور الديني وتنمية روح التدين بين الأفراد والشعوب.

ومن صميم رسالة الأزهر الثقافية والأدبية :

١ ـ نشر التراث القديم في شتى العلوم الإسلامية نشرا علميا حديثا.

٢ ـ ووضع مؤلفات حديثة في جميع فروع الثقافة ، وتناول مشكلاتنا العامة والخاصة بالدراسة والبحث على ضوء الدين.

٣ ـ وإقامة معاهد دينية في جميع مدن مصر والعواصم العربية والإسلامية لتعميم الثقافة الدينية الصحيحة.

٣٩٨

٤ ـ وترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة دقيقة إلى شتى اللغات.

٥ ـ والنظر إلى مناهج الأزهر وعلومه وكتبه الدراسية نظرة جدية جديدة تتفق وحياتنا الفكرية ومطالبنا الروحية.

٦ ـ ودعم التقاليد الجامعية الصحيحة في الأزهر مما يتفق وتقاليده القديمة الموروثة ، وتعزيز النظام العلمي الجامعي فيه ، وإقرار نظام الدراسات العليا فيه على أسس جامعية رفيعة.

٧ ـ وإنشاء أقسام جديدة في كليات الأزهر لدراسة اللغات والآداب الأوروبية الحديثة ، وأهم المذاهب الروحية والفكرية المعاصرة.

٨ ـ وتنمية التعاون الثقافي بين الأزهر ومختلف المعاهد والجامعات في الشرق والغرب.

٩ ـ وكذلك نشر الثقافة العربية والأدبية ، وإخراج أمهات كتب اللغة ومصادر الأدب إخراجا علميا منظما.

١٠ ـ وتنظيم المواسم الثقافية والأدبية لزيادة ثقافة الشباب ، والارتفاع بمستواهم الفكري.

ومن صميم رسالة الأزهر الوطنية والاجتماعية.

١ ـ العمل على بعث الروح الثوري في الشعب.

٢ ـ ومشاركة الدولة في التوجيه الاجتماعي والوطني في صفوف الأمة.

٣ ـ والمعاونة في محو الأمية ، وفي نشر الأمن ، وإذاعة الوئام بين الناس ، وفي خلق روح التضحية والقومية والإيثار والعدل وحب تحمل المسئولية في نفوس الشباب.

٤ ـ وتخفيف الآلام عن المنكوبين والمحرومين والأشقياء في

٣٩٩

المجتمع ، إلى غير ذلك من صميم رسالة الأزهر التي هي جزء لا يتجزأ من رسالة الإسلام ديننا الكريم.

ومن المؤسف حقا أن تكون القوانين في الأزهر رجعية عتيقة بالية إلى الحد الذي يحول بين الكثير من الشباب والتعليم الديني ، وأن تهمل أمور الشباب فيه إهمالا خطيرا فلا يلقون رعاية ولا توجيها خارج حجرات الدراسة. ولا يتمتعون برحلات علمية منظمة ، ولا بنواد رياضية صغيرة أو كبيرة ، ولا باتحاد منظم يرعى شئونهم إلى غير ذلك من شتى ألوان التقصير الذي نشكو منه ونطالب بتلافيه.

ويحضرني هنا رأي قديم للمرحوم مصطفى صادق الرافعي ، إذ قال : إنه لا ضير على الأزهر أن تعاونه الشعوب والحكومات الإسلامية بالمال والنفقة الواسعة ؛ ليسير قدما نحو أداء رسالته كاملة غير منقوصة في خدمة الشعوب العربية والإسلامية ، وإنه لا ضير عليه كذلك من منح ألقاب علمية للمفكرين المسلمين في كل مكان ، فإن في ذلك زيادة لنفوذه الديني والروحي في شتى أنحاء العالم الإسلامي.

وبعد فلقد اجتمعت كلمة مصر والأزهريين على النهوض بهذا المعهد العتيق ، ورفعه إلى الأمام بيد قوية وعقل فتي ، وروح وثاب ، ونحن لا ننسى موقف الثورة منا ؛ ورعايتها للأزهر وسط المحن والشدائد والدعوات الإلحادية السافرة ، فلقادة الثورة وأبطالها الشكر والتقدير على تصريحاتهم القوية النبيلة التي أعزوا بها من شأن الأزهر ، ودافعوا فيها عن حضارة الإسلام ومعهده العتيق.

ومنذ اليوم سيساند الأزهر الثورة وتساند الثورة الأزهر لخلق مصر الناهضة الحرة الأبية ، ولإعزاز الدين والإسلام والوطن.

٤٠٠