شرح اللّمع في النحو

أبي الفتح عثمان بن جنّي

شرح اللّمع في النحو

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠

[قال أبو الفتح] : فإن أضفت ما لا ينصرف ، أو دخلته الألف ، واللام ، فأمن فيه التنوين ، دخله الجر في موضع الجر.

[قلت] : المقصود بالمنع في باب ما لا ينصرف ، إنما هو التنوين دون الجر. والجر حيث منع ، إنما منع على جهة التبع له ، وذلك لأن التنوين هو الفارق بين الاسمين ، وهو [١١ / ب] من خصائص الأسماء. فإذا اجتمع الفرعان ، منعا ما كان من خصائصه ، فلما عاد إلى موضع لا يمكن فيه الجمع بين التنوين والإضافة ، أو الألف واللام عاد الجر ، لأمنهم التنوين في ذينك الموضعين.

وإنما تبع الجر التنوين في المنع ، لأنه من خصائص الاسم ، كما أن التنوين كذلك. فإذن قول من قال : إن الجر في قولك : مررت بالأحمر ، والأشقر ، وباحمدكم ، وعثماننا ، إنما كان ، لأنه دخل هذا الاسم ، ما لم يدخل الفعل ، فعاد إليه الجر ، قول فاسد ، وذلك ، لأنه لو كان كذلك ، كان ينبغي أن يدخله الجر ، إذا دخله حرف الجر ، نحو : مررت بأحمد ، لأن حرف الجر ، لا يدخل الفعل ، فكذلك هاهنا.

[قال أبو الفتح] : فإن وقفت على المرفوع ، والمجرور ، حذفت التنوين ، لأنه زائد ، لا يوقف عليه .. إلى آخر الفصل (١).

[قلت] : الوقف على المرفوع ، والمجرور المنصرفين ، قياسهما ، إذا قيسا بالمنصوب ، أن تقلب التنوين واوا في الرفع ، وياءا في الجر ، كما قلبت التنوين في النصب ألفا. فكان ينبغي أن يقال : هذا زيدو ، ومررت بزيدي ، كما قلت في موضع النصب : رأيت زيدا.

وهذه لغة حكاها سيبويه (٢) عن أزد السراة (٣). لكنهم تركوا هذا القياس في الرفع ، والجر ، لثقل الواو ، والياء. وإذا كانوا قالوا : يا اسما ، على لغة من قال : يا حار ، وأدل ، في جمع : دلو ، فأحرى أن لا يقال : هذا زيدو. وإذا كانوا قد قالوا : لا أدر ، ولم أبل ، وأن يدر ، فحذفوا ما هو من نفس الكلمة ، استخفافا ، فلأن لا يقولوا : مررت بزيدي ، أولى ، وأجدر. ولما قلبوا التنوين الفا في قولك : رأيت زيدا في الوقف لخفة الألف ، وهي في الأسماء. [قال الشاعر] :

٢٠ ـ ...

ولا تعبد الشّيطان ، والله فأعبدا (٤)

وهو نون فقلبوها ألفا ، ففي الأسماء أجدر ، ولأنه أحمل للتصرف. وقد قالوا : رأيت

__________________

(١) تمامه : وأسكنت آخرهما ، لأن العرب انما تبتدئ بالمتحرك ، وتقف على الساكن. اللمع في العربية ٦١.

(٢) الكتاب ٤ : ١٦٧ ، وفيه : (وزعم أبو الخطاب أن أزد السراة يقولون : هذا زيدو ، وهذا عمرو ، ومررت بزيدي ، وبعمري ، جعلوه قياسا واحدا ، فأثبتوا الألف). وينظر : شرح شافية ابن الحاجب ٢ : ٢٧٤.

(٣) السراة ، بفتح السين : جبل بناحية الطائف ، مشرف على عرفة ، ينقاد إلى صنعاء أوله سراة ثقيف ، ثم سراة فهم ، وعدوان ، ثم سراة الأزد ، ثم الحرة آخر ذلك. معجم البلدان ٣ : ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، واللسان (سرا) ١٤ : ٣٨٣ ، وينظر : هامش سيرة ابن هشام ١ : ١٤.

(٤) البيت من الطويل ، للأعشى ، وصدره :

وذا النصب المنصوب ، لا تنسكنّه

 ...

وهو في : ديوانه ١٣٥ ، والكتاب ٣ : ٥١٠.

وبلا نسبة في : المقتضب ٣ : ١٢ ، والإنصاف ٢ : ٦٥٧ ، والمغني ٢ : ٣٧٢ ، وأوضح المسالك ٥٦١.

٨١

زيد (١) ، بحذف التنوين ، قياسا على المرفوع ، والمجرور. [قال الشاعر] :

٢١ ـ إلى المرء ، قيس أطيل السّرى

وآخذ من كلّ حيّ عصم (٢)

ولم يقل : عصما ، حملا على المرفوع ، والمجرور. والزيات (٣) وعلي (٤) يقفان على المرفوع بالروم (٥) ، [١٢ / أ] والإشمام (٦) ، حرصا على البيان. وقد حكى ذلك سيبويه عن العرب (٧).

ويرومان أيضا المجرور في موضع الجر. وحكى سيبويه (٨) أيضا في الوقف على المرفوع ، والمجرور ، ونقل حركة الحرف الموقوف عليه ، إلى الحرف الذي قبله ، كقولك في الوقف على بكر ، في الرفع : هذا بكر. [قال الشاعر] :

٢٢ ـ أنا ابن مأويّة إذ جدّ النقر (٩)

وفي الجر : مررت ببكر ، ونقر. وحكى أيضا ، في الرفع والجر ، تشديد الحرف الموقوف عليه ، تقول : هذا فرجّ ، وجعفرّ ، وهو يجعلّ ، ومررت بجعفرّ (١٠). وجاء ذلك عن ابن كثير (١١) ، في قوله

__________________

(١) الكتاب ٤ : ١٦٧ هامش (٢) وفيه : (وزعم أبو الحسن أن ناسا يقولون : رأيت زيد ، فلا يثبتون الفا ، ويجرونه مجرى المرفوع ، والمجرور).

(٢) البيت من المتقارب ، للأعشى ، في : ديوانه ٣٧ ، والخصائص ٢ : ٩٧ ، وابن يعيش ٩ : ٧٠ ، والخزانة ٣ : ٤٤٣ ، ٤ : ٤٤٥.

وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب ٢ : ٢٧٢.

ومحل الشاهد في البيت ، قوله : (عصم) وقف عليه بالإسكان ، وهو منصوب منون ، وهذه لغة ربيعة.

(٣) أي : حمزة بن حبيب الكوفي.

(٤) هو : أبو الحسن ، علي بن حمزة الكسائي ، النحوي المشهور (ت ١٨٩ ه‍). انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات. أخذ القراءة عن : حمزة ، وابن أبي ليلى ، وعيسى الهمداني ، وأخذ القراءة عنه : حفص بن عمر الدوري ، وابن ذكوان ، وعيسى بن سليمان ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، والفراء ، وأخذ اللغة عن الخليل. ينظر : غاية النهاية ١ : ٥٣٥ ـ ٥٤٠.

(٥) الروم : هو أن تأتي بالحركة الخفيفة بحيث لا يشعر به الأصم حرصا على بيان الحركة التي تحرك بها آخر الكلمة في الوصل أو هو : إخفاء الصوت بالحركة. ينظر : التعريفات ٢١ ، وشرح الجاربردي على الشافية ١٠٨ ، وشرح المكودي على الألفية ٢١٩.

(٦) الإشمام : هو عبارة عن ضم الشفتين بعد تسكين الحرف الأخير ، وتدع بينهما بعض الانفراج ، ليخرج منه النفس فيراهما المخاطب مضمومتين ، فيعلم أنك أردت بضمهما الحركة. ينظر : ابن عقيل ٢ : ٥١٢ ، وابن يعيش ٩ : ٦٧.

(٧) الكتاب ٤ : ١٦٨ ، ١٦٩.

(٨) الكتاب ٤ : ١٧٣.

(٩) من الرجز ، وقبله :

وجاءت الخيل أثابي زمر

وهو لبعض السعديين ، في : الكتاب ٤ : ١٧٣ ، ولعبيد بن ماوية الطائي ، في : اللسان (نقر) ٥ : ٢١٣ ، والتاج (نقر) ١٤ : ٢٧٨.

وبلا نسبة في : الإنصاف ٢ : ٧٣٢.

النقر : صوت باللسان يسكن به الفرس عند اشتداد حركته ، واحتمائه. الأثابي : الجماعات.

(١٠) الكتاب ٤ : ١٦٩.

(١١) هو عبد الله بن كثير بن المطلب الداري (ت ١٢٠ ه‍). كان إمام الناس في القراءة بمكة المكرمة. أخذ

٨٢

تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ)(١) رواه ابن فليح (٢) عنه.

وهذه الوجوه كلها ، أعني : قلب التنوين واوا وياءا ، في المرفوع ، والمجرور ، والإشمام ، والروم ، وتشديد الحرف ، ونقل الحركة ، أشياء تسقط في الوصل ، إلا أن يكون في بعض اللغات ، يحمل فيه الوصل على الوقف. [قال الشاعر] :

٢٣ ـ ببازل وجناء أو عيهلّ (٣)

[وقال آخر] :

٢٤ ـ ضخم يحبّ الخلق الأضخمّا (٤)

يريد عيهلا ، وأضخم. فشدد في الوقف ، ثم جاء بحرف القافية ، فوصل ، كما وقف. وباب حمل الوصل على الوقف كثير يكاد يخرج عن اضطرار ، إلى حال السعة والاختيار. فما ظنك بذلك ، وأبو عثمان ، يحمل قول يونس (٥) في (لبيك) (٦) على ذلك ، ولا يحمله على التثنية ، كما هو مذهب صاحب الكتاب (٧). [قال الشاعر] :

__________________

القراءة عن : عبد الله بن السائب المخزومي ، ومجاهد بن جبر المكي ، ودرباس (مولى ابن عباس). وأخذ القراءة عنه جماعة منهم : البزي ، وقنبل ، وحماد بن سلمة. ينظر : غاية النهاية ١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٥.

(١) ٥٧ : سورة الحديد ١٦. تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣١ ، والبحر المحيط ٨ : ٢٢٣.

(٢) هو عبد الوهاب بن فليح بن رياح المكي (ت ٢٥٠ ه‍). كان إمام أهل مكة في زمانه. أخذ القراءة عن : داود بن شبل ، ومحمد بن سبعين ، ومحمد بن بزيع ، وآخرين. وأخذ القراءة عنه : إسحاق بن أحمد الخزاعي ، والحسين بن محمد الحداد ، ومحمد بن عمران الدينوري ، وآخرون. غاية النهاية ١ : ٤٨٠ ، ٤٨١.

(٣) من الرجز ، لمنظور بن مرثد الأسدي ، وربما نسبوا منظورا هذا إلى أمه حبة ، فقالوا : منظور بن حبة ، وقبله : نسل وجد الهائم المغتل وهو في : الكتاب ٤ : ١٧٠ ، والخصائص ٢ : ٣٥٩ ، ومقاييس اللغة (ع ه ل) ٤ : ١٧٣ ، والإنصاف ٢ : ٧٨٠ ، واللسان (ك ل ل) ١١ : ٥٩٧ ، و (ف وه) ١٣ : ٥٢٦ ، والخزانة ٤ : ٤٩٤ ، ٦ : ١٣٥ ، ١٣٦.

(٤) من الرجز ، لرؤبة ، وقبله : ثمت جئت حية أصما هو في : ديوانه ١٨٣ ، والكتاب ١ : ٢٩ ، ٤ : ١٧٠ ، واللسان (ض خ م) ١٢ : ٣٥٣ ، و (ف وه) ١٣ : ٥٢٦.

وروي (ضخما) ، بدل : (الأضخما). ورواية (ضخما) هي الصواب ، إذ لا يجوز الجمع في القوافي بين (أصم) ، و (الأضخم) ، ثم إن رواية (الأضخما) بكسر الهمزة ، وفتح الخاء تذهب بمحل الشاهد ، إذ لا ضرورة فيه ، لأن وزن (افعل) موجود في لغة العرب نحو : أردب.

وقد روى سيبويه (الكتاب ٤ : ١٧٠): (بدء) ، بدل : (ضخم) ، فالبدء ، معناه : السيد.

(٥) هو : يونس بن حبيب (ت ١٨٩ ه‍). سمع من العرب ، وروى عنه سيبويه واكثر ، وسمع منه : الكسائي ، والفراء. ينظر : أخبار النحويين البصريين ٢٧ ، ونزهة الألباء ٤٧ ، والبلغة ٢٩٥.

(٦) الكتاب ١ : ٣٥١ ، وفيه : (زعم يونس أن (لبيك) : اسم واحد ، ولكنه جاء على هذا اللفظ في الإضافة ، كقولك : عليك).

(٧) الكتاب ١ : ٣٤٨ ، ٣٥٢.

٨٣

٢٥ ـ دعوت ، لما نابني مسورا

فلبّي ، فلبّي يدي مسور (١)

ألا ترى أن له أن يقول : إن (لبيك) أصله : لبّى ، فوقف على لغة من قال في أفعى : أفعي (٢). فقال : لبّى ، ثم وصل ، كما وقف. قال : وهذا لا يكون تثنية ، كما زعمت ، يا صاحب الكتاب. وكيف لا يكون إجراء الوصل مجرى الوقف ، سعة ، وقد قرأ من الأئمة السبعة جماعة : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)(٣) بتشديد الميم. ولا يحمل فيه (لمّا) على معنى (إلا) ولا على معنى (لمّ) ولا على معنى (حين) كما هو متعارف من معاني هذه الكلمة. ولكن يحمل على (لمّ) من قوله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) (١٩) (٤). أي : (وإنّ كلّا لمّا) (٥). والوقف عليه (لمّا) فوصل. كما وقف ، فكذا [١٢ / ب] شأن هذه الأشياء. [قال الشاعر] :

٢٦ ـ إذا تجرّد نوح قامتا معه

ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا (٦)

فكسرة اللام ، ليست مثل الكسرة في قولك : مررت ببكر ، وإنما هي كسرة لإتباع كسرة الجيم. والإتباع في كلامهم كثير. وربما يبلغ حد السعة ويخرج عن حد الاضطرار. ألا ترى أنه قرأ من الأئمة السبعة ، غير المدني (٧) ، والشامي (٨) : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ)(٩) بالنصب ، دون الرفع (١٠). وقد قال : إن تأتني أكرمك ، وأحدثك ، بنصب الثاء ، ليست في القوة كالرفع فيه ، لأنه

__________________

(١) البيت من المتقارب. بلا نسبة في : الكتاب ١ : ٣٥٢ ، والمغني ٢ : ٥٧٨ ، وابن عقيل ١ : ٥٣ ، ولرجل من بني أسد في اللسان (ل ب ب) ١ : ٧٣٢.

(٢) حدث الخليل ، وأبو الخطاب : أنها لغة لفزارة ، وناس من قيس. ينظر : الكتاب ٤ : ١٨١.

(٣) ١١ : سورة هود ١١١.

(٤) ٨٩ : سورة الفجر ١٩.

(٥) لم أجد من السبعة من قرأ (لما) بالتنوين ، وإنما قرأ بها : الزهري ، وسليمان بن أرقم. حجة القراءات ٣٥١ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ١١٤ ، والكشاف ٢ : ٢٩٥ ، ومجمع البيان ١ : ٣٢٨ ، وتفسير القرطبي ٩ : ١٠٥ ، والبحر المحيط ٥ : ٢٦٦.

(٦) البيت من البسيط ، لعبد مناف بن ربع الهذلي ، في : ديوان الهذليين ٢ : ٣٣٣ ، والإنصاف ٢ : ٧٣٤ ، (شرح الشاهد رقم ٤٥٣) ، واللسان (جلد) ٣ : ١٢٤ ، وفيه : تجأوب ، بدل : تجرد ، والخزانة ٧ : ٤٥ ـ ٥٠.

تجرد : تهيأ. نوح : جمع نائحة. سبت : جلد مدبوغ تلطم به النساء النائحات وجوههن. يلعج : يحرق يقول : إذا تهيأ النساء للنياحة ، قامت ابنتاي معهن ، وقد ضربتا ضربا اليما يحرق الجلد.

(٧) المدني : هو أبو رويم ، نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، الليثي (ت ١٦٩ ه‍). أخذ القراءة عن سبعين من التابعين ، منهم : أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وشيبة بن نصاح القاضي ، روى القراءة عنه : مالك بن أنس وأبو عمرو بن العلاء وعبد الملك بن قريب الأصمعي وآخرون. انتهت إليه رئاسة القراءة بالمدينة. ينظر : غاية النهاية ٢ : ٣٣٠ ـ ٣٣٤.

(٨) الشامي : هو عبد الله بن عامر ، الشامي ، اليحصبي ، ويكنى : أبا عمرو (ت ١١٨ ه‍). أخذ القراءة عن : أبي الدرداء ، والمغيرة بن أبي شهاب ، صاحب عثمان بن عفان ، وآخرين روى القراءة عنه : يحيى بن الحارث الذماري ، وأخوه عبد الرحمن ، وربيعة بن يزيد ، وآخرون. وقد انتهت إليه مشيخة الإقراء بالشام. ينظر : غاية النهاية ١ : ٤٢٣ ـ ٤٢٥.

(٩) ٤٢ : سورة الشورى ٣٥.

(١٠) السبعة ٥٨١ ، وحجة القراءات ٦٤٣ ، ومجمع البيان ٩ : ٣١ ، وتفسير الرازي ٢٧ : ١٧٦ ، وتفسير القرطبي ١٦ : ٣٤ ، والنشر ٢ : ٣٦٧.

٨٤

كأنه قيل : أفعل إن شاء الله. يريد : أن مجموع الشرط ، والجزاء ، واجب ، فلا يحسن نصب ما بعده بالواو ، والفاء ، وإنما ذلك في غير الواجب ، ألا ترى أن النصب في : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) محمول على الشذوذ في قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١) وكان النصب في (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) شاذا ، ولم يكن شاذا في (وَيَعْلَمُ) ، لأن هاهنا ، إتباعا لما قبله مع الحاصل في (فَيَغْفِرُ) ، وربما يضعف الشيء لعلة واحدة ، ويقوى إذا انضمت إلى تلك الواحدة ضميمة أخرى. كيف وعهدك الآن قريب من باب : ما لا ينصرف ، حيث لم يمنع السبب الواحد الصرف ، حتى ينضم إليه الثاني. فقوله : (وَيَعْلَمُ)(٢) بعد قوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَ)(٣) ، منصوب نصبا مستحسنا ، لشيئين : الإتباع ، وكونه بعد الشرط ، والجزاء. وإن أشبه الواجب ، فإنه ليس بواجب محض (٤). ألا ترى أن الثاني موقوف على الأول ، وكأنه إلى الواجب أقرب ، لأنه قال (٥) : ولحاقهما ، يعني الخفيفة ، والثقيلة ، في الجزاء قليل. وهو كما قال. وإنما زدنا ، هاهنا ، في شرح هذا الفصل ، لأنه لم يذكر الوقف في غير هذا الموضع ، من هذا الكتاب. ومثل قولهم : بكر ، [قول الشاعر] :

٢٧ ـ أذاقتهم الحرب أنفاسها

وقد تكره الحرب بعد السّلم (٦)

ف (السّلم) ليس ك (الجلد) ، لأن قوله (الجلدا) قد تحركت الدال بما تستحقه من الحركة ، فلا يتصور فيه النقل. وإنما هو إتباع ، ولم يتحرك الميم [١٣ / أ] في (السّلم) فكان منقولا إلى اللام.

وهذا النقل لا يجيء في المنصوب (٧). لا تقول : رأيت البكر. قال : لأن قولك : رأيت البكر ، في

__________________

(١) ٢ : سورة البقرة ٢٨٤. قال سيبويه : وبلغنا أن بعضهم قرأ : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بالنصب.

الكتاب ٣ : ٩٠ ، ورويت القراءة بالنصب عن : ابن عباس ، والأعرج ، وأبي العالية. وعاصم الجحدري ، وأبي حيوة ، وهي عند البصريين على إضمار (أن). إعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٣٠٤ ، وتفسير القرطبي ٣ : ٤٢٤ ، والبحر المحيط ٢ : ٣٦٠.

(٢) ٤٢ : سورة الشورى ٣٥.

قرأ العامة بنصب (يعلم) ، ورفعه : نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وزيد بن علي. تفسير الطبري ٢٥ : ٢٢ ، والسبعة ٥٨١ ، والحجة ـ لابن خالويه ٣١٩ ، وحجة القراءات ٦٤٣ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٣ : ٦٣ ، والكشف ـ للقيسي ٢ : ٢٥١ ، والتيسير ـ لأبي عمرو الداني ١٩٥ ، وتفسير التبيان ـ للطوسي ٩ : ١٦٤ ، ومجمع البيان ٩ : ٣١ ، وتفسير القرطبي ١٦ : ٣٤ ، والنشر ٢ : ٣٦٧ ، والبحر المحيط ٧ : ٥٢١ ، وإتحاف الفضلاء ٣٨٣.

(٣) ٤٢ : سورة الشورى ٣٤.

(٤) يعني : أن مجيء (يعلم) بعد تمام الشرط ، والجزاء ، جعله شبيها بالجزاء ، وليس بجزاء محض ، مما سهل ذلك رفعه على الاستئناف ، ونصبه بالفاء ، أو الواو نصبا مستحسنا بإضمار (أن) قبله ، والتقدير : وأن يعلم ، أي : وليعلم. ينظر : الكتاب ٣ : ٨٩ ، ومجمع البيان ٩ : ٣١ ، ٣٢ ، وتفسير القرطبي ١٦ : ٣٣ ، ٣٤.

(٥) أي : سيبويه ، وقد ذكر الشارح كلامه بالمعنى ، ونصه : (ومن مواضعها (أي : مواضع النون الخفيفة ، والثقيلة) الأفعال غير الواجبة .... فإن شئت أقحمت النون ، وإن شئت تركت). الكتاب ٣ : ٥١٣.

(٦) البيت من المتقارب ، للأعشى ، في : ديوانه ٣٩ ، ودقائق التصريف ١٠٠ ، واللسان (س ل م) ١٢ : ٢٩٢.

(٧) الوقف على المنصوب المحلى ب (آل) ، الساكن ما قبل آخره : مسألة خلافية بين الكوفيين ، والبصريين.

ذهب فيها الكوفيون إلى جواز أن يقال في الوقف : رأيت البكر ، بفتح الكاف في حالة النصب وذهب

٨٥

تقدير : رأيت بكرا ، لأن الألف ، واللام ، لا تلزمان الكلمة. فالراء ، في تقدير الحركة ، فلا يتصور فيه النقل إلى ما قبله. [قال الشاعر] :

٢٨ ـ ثمّ استمرّوا ، وقالوا : إنّ مشربكم

من ماء شرقيّ سلمى : فيد أو ركك (١)

أصله : ركّ ، ففك الإدغام ، وفتح الكاف ، لأجل الراء ، ضرورة ، واتساعا. وفي القصيدة :

٢٩ ـ كما استغاث بسيء فزّ غيطلة

خاف العيون ، فلم ينظر به الحشك (٢)

فتح الشين ، لأجل فتحة الحاء ، وأصله : الحشك ، لأنه الدرة. فافهم هذا ، فإنه قد أخفي عنك في قوله تعالى : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ)(٣) واحدة قربات ، بضم الراء ، إتباعا لضم القاف.

باب إعراب الاسم المعتل

الاسم المعتل : ما كان آخره ياءا ، قبلها كسرة ، أو ألفا. إنما قال : ياءا قبلها كسرة ، لأن الياء إذا سكن ما قبلها ، كان الاسم الذي فيه ، في حكم الصحيح ، نحو : ظبي ، ونحي. هذا في حكم : زيد ، وعمرو. فأما ما كان آخره ياءا قبلها كسرة ، فإنه يسمى : منقوصا ، وإنما سمي منقوصا ، لأن الرفع ، والجر قد نقصا منه ، ودخله النصب في موضع النصب. وهذا المنقوص على ضربين : منون ، وغير منون. فالمنون على ضربين : موصول ، وموقوف عليه. فإذا كان موصولا ، وكان منونا ، فنحو قولك : هذا قاض ، في موضع الرفع. ومررت بقاض في موضع الجر. وأصله : هذا قاضي ، ومررت بقاضي ، استثقلت الضمة ، والكسرة ، في الياء ، فحذفتا منها ، فسكنت الياء. والتنوين بعدها ساكنة ، فحذفت الياء ، لالتقاء الساكنين. وكان حذف الياء أولى من حذف التنوين ، لأن التنوين للفرق بين المنصرف ، وغير المنصرف. والياء لا يفرق بين الشيئين ، فكان التنوين بالإبقاء أولى من الياء ، لهذا المعنى. فأما في موضع النصب ، فإنك تنصبه فتقول : رأيت قاضيا يا فتى. واحتمل النصب ، في الياء ، لخفته. [١٣ / ب] فأما في حالة الوقف ، فإنك تقول في موضع الرفع ، والجر : هذا قاض ، ومررت بقاض ، فتحذف التنوين ، كما حذفت في : زيد ، وعمرو. وتقف على الضاد ، ساكنة. قال الله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(٤) وفيه لغة أخرى (٥) ، وهي أن تقول : هذا قاضي ، ومررت

__________________

البصريون إلى عدم جواز ذلك ، وقول الباقولي ترديد لمذهبهم. ينظر : الإنصاف (مسألة ٦) ٢ : ٧٣١.

(١) البيت من البسيط ، لزهير بن أبي سلمى ، في : ديوانه ٧٦ ، والمقتضب ١ : ٢٠٠ ، والعقد ٥ : ٣٥٥ ، واللسان (ركك) ١ : ٤٣٤.

سلمى : أحد جبلي طيء ، وثانيهما : أجا. فيد : نجد قريب منهما. قال الأصمعي : سألت بجنبات فيد عن ركك ، فقيل : ماء هاهنا ، يسمى : ركا.

(٢) البيت من البسيط ، في : ديوانه ٨٢ ، واللسان (سوء) ١ : ٩٩ ، و (فزز) ٥ : ٣٩١ ، و (حشك) ١٠ : ٤١٢ ، و (غطل) ١١ : ٤٩٧.

السيء : اللبن قبل نزول الدرة. الفز : ولد البقرة. الغيطلة : الشجر الملتف. الحشك : شدة الدرة في الضرع.

(٣) ٩ : سورة التوبة ٩٩.

(٤) ١٣ : سورة الرعد ١١.

(٥) الكتاب ٤ : ١٨٣ ، وفيه ، قال سيبويه : (حدثنا أبو الخطاب ، أن بعض من يوثق بعربيته من العرب ، يقول : هذا رامي ، وغازي ، وعمي). وينظر : الأصول ٢ : ٣٩٦.

٨٦

بقاضي ، فتقف بالياء ، لأن الياء إنما حذفت ، لأجل التنوين. فإذا زال التنوين ، عاد ما حذف من أجله. وبذلك وردت قراءة ابن كثير (١) : (ما لهم من دونه من والي). فأما في موضع النصب ، فإنك تقول : رأيت قاضيا. فتقف بالألف المبدلة من التنوين ، كما تقول : رأيت زيدا. فأما إذا لم يكن منونا ، فإنك في موضع الرفع ، والجر تثبت الياء ساكنة ، فتقول : هذا القاضي ، ومررت بالقاضي يا فتى. والأصل فيه ، هذا القاضي ، ومررت بالقاضي ، فأسكنت الياء استثقالا للضمة ، والكسرة فيها ، فبقيت الياء ساكنة. فأما في موضع النصب ، فإنك تقول : رأيت القاضي ، فتفتح الياء لخفة الفتحة.

فأما إذا وقفت على هذا النحو ، فإنك تقول في الرفع ، والجر : هذا القاض ، ومررت بالقاض ، فتحذف الياء في الوقف ، لأن الياء تجري مجرى الحركة في نحو : لم يدر ، ولم يرم. وإذا كانت بمنزلتها ، وهي تحذف في الوقف كان ما في حكمها كذلك. قال الله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٩) (٢) ومنهم من يقف بالياء ، فيقول : هذا القاضي ، ومررت بالقاضي ، فلا تحذف الياء ، لأن الموجب لحذفها التقاء الساكنين ، ولم يلتقيا هنا. وبذلك وردت القراءة عن ابن كثير (٣) (الكبير المتعالي) وهو الاختيار ، عند سيبويه (٤) ، ولا يلزمه قراءة الجمهور : (الكبير المتعال) بحذف الياء ، لأن ذلك كقولك : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) (٥)(ما كُنَّا نَبْغِ)(٦) فأما في موضع النصب ، فإنك تقول : رأيت القاضي : فتثبت الياء ، ولا تحذفها ، لأنها كانت في الوصل بالفتح ، فلما وقفت أسكنت ، فظهر الفرق بين الوقف ، والوصل ، فلم تحتج إلى الحذف. فهذا معنى قوله : تقف بالياء لا غير. [١٤ / أ] يعني أن المنصوب بخلاف المرفوع ، والمجرور. فأما إذا ناديت هذا النحو من الأسماء ، نحو قولك : يا قاضي ، فسيبويه ، والخليل (٧) يثبتان الياء. وحكى سيبويه عن يونس (٨) أنه كان يحذف الياء. قال : لأن المنادى موضع حذف ، وتخفيف. ألا تراهم ، قالوا : يا حار ، فحذفوا ما هو أجلد ، وأقوى من الياء (٩) فما ظنك بالياء ، وقد جرى عليها ما جرى قبل النداء؟. فقال الخليل له : هذا إنما يكون أن لو وقع بعد الياء حرف ساكن في النداء ، والياء في المنادى المفرد في

__________________

(١) وكذلك : قنبل ، ويعقوب. السبعة ٣٧٢ ، وحجة القراءات ٣٧٥ ، والنشر ٢ : ١٣٧ ، ٢٩٧.

(٢) ١٣ : سورة الرعد ٩.

(٣) ويعقوب كذلك. النشر ٢ : ٢٩٨.

(٤) الكتاب ٤ : ١٨٣ ، وفيه : (فإذا لم يكن في موضع تنوين فإن البيان أجود في الوقف).

(٥) ٨٩ : سورة الفجر ٤.

(٦) ١٨ : سورة الكهف ٦٤.

(٧) هو : أبو عبد الرحمن ، الخليل بن أحمد ، الفراهيدي ، نحوي ، لغوي ، زاهد (ت ١٧٠ ه‍ على الأرجح). كان أستاذ سيبويه ، له : كتاب : (العين) في اللغة ، و : (معاني الحروف) ، وهو واضع علم العروض ، والقوافي. ينظر : مراتب النحويين ٥٤ ، وطبقات النحويين واللغويين ٤٧ ـ ٥١ ، ونزهة الألباب ٤٥ ـ ٤٧.

(٨) الكتاب ٤ : ١٨٤ ، وفيه ، قال سيبويه : (سألت الخليل عن القاضي في النداء ، فقال : اختار : يا قاضي ، لأنه ليس بمنون ، كما اختار هذا القاضي. وأما يونس فقال : يا قاض. وقول يونس أقوى).

(٩) يعني : الثاء ، في حارث ، وهي حرف صحيح ، فوصفه بالجلادة مجازا.

٨٧

تقدير الضمة ، دون التنوين ، فلا سبيل إلى الحذف. وأجمعا (١) مع يونس ، أنك لو ناديت اسم الفاعل من (أرى ، يري) قلت : يا مري. ولا يقول يونس : يامر ، كما قال يا قاض ، لأن في : يامر ، إجحافا بعد إجحاف. أعني حذف الياء ، بعد حذف الهمزة. وتوالي إعلالين مطرح في كلامهم.

وأما ما كان في آخره ألف مفردة ، فإنه يسمى : مقصورا. وإنما سمي مقصورا ، لأنه ممنوع عن ظهور الحركات في لفظه. وهو على ضربين : منصرف وغير منصرف ، فالمنصرف على ضربين : واوي ، ويائي. فالواوي ، نحو : عصا ، أصله : عصو ، أبدلت من الواو ألف ، لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، فصار عصا. وجاءت التنوين لتمكن الاسم فأوجبت حذف الألف لالتقاء الساكنين وكان التنوين بالإبقاء أولى ، للفرق بين المنصرف وغير المنصرف. وهكذا حكم اليائي. نحو : فتى أصله : فتين فأبدلت من الياء ألف على ما تقدم. قال الله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً)(٢). فلم يجر الثاني ، كما لم يرفع الأول ، لأن الاسم مقصور. هذا حكمه في الوصل. فأما في حال الوقف ، فلا خلاف أنك تقف بالألف ، في الأحوال الثلاثة فتقول : هذه عصا ، ومررت بعصا ، ورأيت عصا. وإنما الخلاف في هذه الألف : من أية جهة جاءت؟! فسيبويه (٣) زعم أن الألف في موضع الرفع ، والجر ، هي التي حذفت من أجل التنوين ، في حالة الوصل ، وأنها في موضع النصب ، بدل من التنوين. وقال أبو عثمان (٤) : الألف في الأحوال [١٤ / ب] الثلاث ، بدل من التنوين. وقال السيرافي : الألف في الأحوال الثلاث ، هي المبدلة من الواو ، أو الياء (٥). والقول قول سيبويه ، لأن قياس المعتل على الصحيح ، ونحن قد حذفنا في الصحيح ، في موضع الرفع ، والجر : التنوين. فإذا حذفنا ، هاهنا ، عادت الألف. وفي الصحيح المنصوب ، أبدلنا من التنوين ألفا ، نحو : رأيت زيدا.

فليكن المعتل بهذه المثابة. وفائدة هذا الخلاف ، أنه إذا قلنا : الألف بدل من التنوين ، لم نجز فيها الإمالة. وإذا قلنا : الألف بدل من الياء ، أجزنا فيها الإمالة ، وقد جاء : (هذا هُدىً)(٦) ، بالإمالة.

فيكف يكون بدلا من التنوين؟!.

[فإن قلت] : فقد جاء (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٧) بالإمالة ، وعلى زعمك : الألف

__________________

(١) أي : سيبويه ، والخليل.

(٢) ٤٤ : سورة الدخان ٤١.

(٣) ٤ : ١٨٧ ، إذ لم يذكر الشارح عبارة سيبويه بنصها ، وإنما ذكر فحواها ، ونص عبارته : (واما الألفات التي تذهب في الوصل ، فإنها لا تحذف في الوقف ، لأن الفتحة ، والألف أخف عليهم).

(٤) هو : أبو عثمان ، بكر بن محمد بن بقية ، المازني ، البصري (ت ٢٣٠ ه‍). روى عن أبي عبيدة ، والأصمعي ، وأبي زيد. كان متسعا في الرواية ، قديرا على الكلام ، قال تلميذه المبرد : لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان. ينظر : نزهة الألباء ١٨٢ ـ ١٨٧.

(٥) شرح شافية ابن الحاجب ٢ : ٢٨٣.

(٦) ٤٥ : سورة الجاثية ١١.

أمالها : حمزة ، والكسائي ، غيث النفع ٣١٠.

(٧) ٢ : سورة البقرة ١٢٥.

أمالها : حمزة ، والكسائي ، وخلف ، والأعمش. إتحاف الفضلاء ١٤٧.

٨٨

بدل من التنوين؟. قلت هذا كقوله (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٦) (١)(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) (٢)(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٣٦) (٣) فافهمه.

[قال أبو الفتح] : فإن وقفت على المنصوب المنون ، أبدلت من تنوينه ألفا ، وحذفت الألف الأولى التي هي حرف الإعراب ، لسكونها ، وسكون الألف التي هي عوض من التنوين بعدها. وفي هذا نظر لأن هذه الألف ، أعني : الأصلية ، قد حذفت قبل الوقف. فكيف يصح منه هذا الكلام؟! وما الحاجة إلى تصوير إعادة الألف الأصلية ، ثم حذفها ، لالتقاء الساكنين. وأما غير المنصرف ، فنحو : حبلى ، وبشرى ، وشورى : هذه الألف لا تحذف ، إذ ليس بعدها تنوين ، لأن الاسم ، لا ينصرف ، لكونه مؤنثا بألف التأنيث. وقوله (ما لم يلقها ساكن من كلمة أخرى) يعني : أنك ، إذا قلت : هذه حبلى القوم ، حذفت الألف ، لالتقاء الساكنين. وإذا قلت : هذه حبلى. فالضمة في الألف مقدرة. وكذلك : رأيت حبلى ، الفتحة فيها أيضا مقدرة ، دون الكسرة ، لأن الاسم ، لا ينصرف. وما لا ينصرف في موضع الجر ، مفتوح ، نحو : مررت بأحمد [١٥ / أ] : [أقول] : وأما الممدود ، فكل اسم ، وقع في آخره ألف ممدودة ، نحو : كساء ، ورداء ، فالإعراب جار على آخره.

اعلم أن الممدود على أربعة أقسام (٤) :

[الأول] : أن تكون الهمزة فيه أصلية ، نحو : قرّاء ، ووضّاء (٥) ، لأنه من : قرأت ، ووضؤت.

فهذا النحو منصرف. ويكون في التثنية ، والجمع ثابت الهمزة. كقولك : قرّاءان ، وقراؤون.

[الثاني] : أن تكون الهمزة بدلا من واو ، أو ياء ، كلاهما لام الفعل ، وذلك ، نحو : كساء ، ورداء ، من : كسوت وردايان (٦) ، ولا يجوز أن تحتج ، بتردّيت ، على أن اللام في رداء : ياء ، ولا بأردية. ألا ترى أن قولك : ترديت ، وقعت الياء فيها زائدة على الثلاث ، مثل : أغزيت ، وتغازيت وأردية ، جاء مثلها : أكسية فالحجة في ردايين. والواو ، والياء ، إذا وقعتا طرفين ، وقبلهما ألف ، أبدلتا همزتين. فكساء ، ورداء ، يجري عليهما الإعراب ، كما جرى على الصحيح.

__________________

(١) ٩١ : سورة الشمس ٦.

أمالها : الكسائي ، وأبو عمرو. الحجة ـ لابن خالويه ٣٧٢ ، والتيسير ـ للداني ٢٣٣ ، والكشف ـ للقيسي ٢ : ٣٨١ ، وتفسير التبيان ١٠ : ٣٥٦ ، والنشر ٢ : ٣٧ ، وإتحاف الفضلاء ٤٤٠.

(٢) ٧٩ : سورة النازعات : ٣٠.

أمالها : حمزة ، والكسائي ، وخلف. الكشف ـ للقيسي ٢ : ٣٨١ ، والتيسير ـ للداني ٢١٩ ، والنشر ٢ : ٣٧ ، وإتحاف الفضلاء ٤٣٢ ، وغيث النفع ٣٦١.

(٣) ٧٥ : سورة القيامة ٣٦.

أمالها : حمزة ، والكسائي ، وخلف. التيسير ١٥١ : ٢١٧ ، والنشر ٢ : ٣٧ ، وإتحاف الفضلاء ٤٢٨.

(٤) شرح شافية ابن الحاجب ٢ : ٥٤.

(٥) القراء (بضم القاف ، وتشديد الراء مفتوحة) : الناسك المتعبد ، والقراء (بفتح القاف وتشديد الراء) : الحسن القراءة ، أو الكثيرها. التاج (قرا) ١ : ٣٦٥ ، والوضاء (بضم الواو وتشديد الضاد مفتوحة) : الوضيء ، الحسن الوجه. التاج (وضؤ) ١ : ٤٨٩.

(٦) المصباح المنير ٢٤١.

٨٩

فقد قالوا : عباية ، وشقاوة ، ونهاية ، فلم يقلبوا الواو ، والياء همزتين ، كما قلبوهما في : كساء ، ورداء ، فإنهم قد صاغوا حرف التأنيث كأنها من الكلمة ، وأنها ليست في تقدير الانفصال على هذا التقدير. فجرت التاء فيها مجراها في : (خُطُواتِ الشَّيْطانِ)(١) فافهمه.

[الثالث] : أن تكون الهمزة بدلا من حرف زائد للإلحاق. وذلك ، قولهم : علباء. أصله : علباي ، وأصل علباي : علبا ، فألحقت بسرداح.

حيث زيدت الياء. قال سيبويه (٢) : الياء التي أبدلت همزة في علباء ، قد ظهرت في قولهم : درحاية ، لمكان الهاء ، كما ظهرت في عظاية ، وصلاية (٣) ، ونهاية ، وعباية.

[الرابع] : أن تكون الهمزة ، بدلا من ألف التأنيث في : صحراء ، وحمراء ، وخنفساء. أصل الكلمة : حمرا ، مثل : سكرى ، وحبلى ، وشورى ، وقصوى. الألف ألف التأنيث ، فزيدت ألف أخرى ، لمد الصوت ، فاجتمعت ألفان ، إحداهما للتأنيث ، والأخرى لمد الصوت ، فتطرفت التي للتأنيث ، وتقدمت [١٥ / ب] التي هي لمد الصوت ، لأن حرف التأنيث تقع آخر الكلمة ، فأبدلت منها حيث اجتمعت مع الأخرى التي هي لمد الصوت همزة. فهذا النحو لا ينصرف : كما لا ينصرف : حبلى وأخواتها. فهذا شأن الممدود. ثم ذكر بعد هذا ، حال المهموز ، أنه يجري على آخره الإعراب. وإنما ذكرها ، لأن الهمزة ، حرف لا يثبت على وتيرة واحدة. فأراك أن الهمزة ، وإن كانت كذلك ، فهي إذا وقعت حرف إعراب ، جرى عليها الإعراب. ثم ذكر بعد ذلك : الياء ، الساكن ما قبلها آخر الاسم ، نحو : ظبي ، ونحي. وقد قدمنا أن هذا النحو ، في حكم الصحيح ، وأن الإعراب جار عليه. وكذلك المدغم ، نحو : كرسيّ ، وصبيّ ، فهما في حكم : ظبي ، ونحي. ألا ترى أن الياء الأولى المدغمة في الثانية ، ساكنة ، بمنزلة الباء ، في ظبي ، والحاء في (نحي) ، فهو في حكم الصحيح.

[قال أبو الفتح] : واعلم أن في الأسماء الآحاد ، ستة أسماء ، تكون في الرفع بالواو ، وفي النصب بالألف ، وفي الجر بالياء. [فإن قلت] : لم جعل إعراب هذه الأسماء بهذه الحروف؟! وهلا جعلت بالحركات ، مثل : زيد ، وعمرو؟!.

[قلت] : إنهم أرادوا لهذا المعنى توطئة ما أرادوه في التثنية ، والجمع. وذلك ، لأن التثنية ، والجمع لم يمكن إعرابهما بالحركات ، لأن الحركات قد استوفتها الآحاد ، فلم يكن هناك بد من مراجعة أصول الحركات ، على ما ستقف عليه ، إن شاء الله. فأرادوا أن يكون للتثنية نظائر من الآحاد ، فخصوا هذه الأسماء ، من جملة سائر الأسماء ، لأن هذه الأسماء مضمنة. ألا ترى أن الأب ،

__________________

(١) ٢ : سورة البقرة ١٦٨.

(٢) الكتاب ٣ : ٢١٤ ، إذ حكى الشارح ـ رحمه الله ـ قول سيبويه ، ونصه : (فإن قلت : فما بال علباء ، وحرباء؟ فإن هذه الهمزة التي بعد الألف ، إنما هي بدل من ياء ، كالياء في درحاية ، وأشباهها).

(٣) الدرحاية : الكثير اللحم ، القصير ، السمين ، الضخم البطن ، اللئيم الخلقة.

العظاية : دويبة معروفة ، على خلقه : سام ابرص.

الصلاية : مدق الطيب.

٩٠

يتضمن : الابن. والأخ ، يتضمن : الأخ. وكذلك : ذو ، بمعنى : صاحب ، يتضمن : مملوكا. فكان بالتخصيص أولى. ولان أغلب حال هذه الأسماء ، أن تكون مضافة. والمضاف ، والمضاف إليه اسمان ، فكان إلى التثنية أقرب من سائر الآحاد. والقياس في هذه الأسماء أن تكون [١٦ / أ] مثل : رحى ، وعصا ، لأن قولك : أبوك. أصله : أبو. وكذلك : أخوك. أصله : أخو. وذو ، أصله : ذوي.

كما أن عصا ، أصله : عصو. فكان يجب أن يبدل الواو ، والياء ألفين لتحركهما ، وانفتاح ما قبلهما. فكان يقال : هذا أبا ، ورأيت أبا ، ومررت بأبا. لكن تركوا هذا القياس ، لما أعلمناك ، من توطئة ما أريد في : التثنية ، والجمع. ثم اختلفوا في هذه الحروف. هل هي حروف إعراب ، أم أنفس الإعراب؟! فعندنا (١) : الواو في موضع الرفع ، حرف الإعراب. والألف في موضع النصب ، والياء في موضع الجر كذلك. وزعم الفراء : أن الواو في قولك : جاءني أبوك ، بمنزلة الضمة ، في قولك : جاءني زيد. والألف في قولك : رأيت أباك ، بمنزلة الفتحة في قولك : رأيت زيدا. والياء في قولك : مررت بأبيك ، كالكسرة ، في قولك : مررت بزيد (٢).

قال : لأن هذه الواو ، والألف ، والياء تتغير ، كما تتغير الحركات ، فوجب أن يكون بمنزلتها.

[فإن قلتم] أنها لو كانت كالحركات ، فما حرف الإعراب؟! [قلت لكم] : إن حرف الإعراب ، إنما يحتاج إليه إذا كان الإعراب حركات لا تستقل بأنفسها. فأما إذا كانت أنفس الحروف إعرابا ، فهي مستقلة لا تحتاج إلى ما تقوم به.

نقول : إن هذه الحروف ، لامات الفعل. ألا ترى أنك تقول في التثنية : أبوان ، فكانت كالدال من زيد ، والراء من عمرو. وإنما تغيرت في الرفع ، والنصب ، والجر ، كما تغيرت في التثنية ، والجمع. وسنبين ، لم كان ذلك في التثنية ، والجمع؟. فإذن ، هذه حروف إعراب ، وإن تغيرت ، لثباتها في التثنية ، ثبات سائر اللامات. لكنهم أتبعوا العين لام الفعل ، في الرفع ، فقالوا : أبوك ، فضموا الباء ، لأجل الواو ، ورأيت أباك ، ففتحوا الباء ، لأجل الألف ، وكذلك : مررت بأبيك ، كسروا الباء ، لأجل الياء. ثم اعلم أن هذه الأسماء ، تختلف أحوالها ، عند الإفراد عن الإضافة. فأب ، وأخ ، يعودان إلى حالتهما في الإعراب. أعني : إعراب المفرد. فتقول : هذا أخ ، وأب [١٦ / ب] ، ورأيت أخا ، وأبا ، ومررت بأخ ، وأب ، كما تقول : هذا زيد ، ورأيت زيدا ، ومررت بزيد. وأما فوك ، فأصله : فوه ، على وزن (فعل) بإسكان العين. ولم يكن على (فعل) بفتح العين ، لأنهم قالوا : أفواه. و (أفعال) جمع (فعل) والسكون أصل ، والحركة زيادة ، والزيادة لا تثبت إلا بالدليل.

فحذفت لام الفعل من فوه ، فجعل عند الإضافة بمنزلة : الأب ، والأخ ، فتقول : هذا فوك ، ورأيت

__________________

(١) هذه من مسائل الخلاف بين : الكوفيين ، والبصريين.

ذهب فيها الكوفيون إلى أن الأسماء الستة معربة من مكانين ، فالضمة ، والواو : علامة للرفع ، والفتحة ، والألف : علامة للنصب ، والكسرة ، والياء : علامة للجر.

وذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد ، فالواو : علامة للرفع ، والألف : علامة للنصب ، والياء : علامة للجر. الإنصاف (مسألة ٢) ، ١ : ١٧.

(٢) ثمار الصناعة ٦٨.

٩١

فاك ، ووضعت الشيء في فيك. فإذا أفرد عن الإضافة عوضت الميم من الواو ، فيقال : هذا فم ، ورأيت فما ، ومررت بفم. ولا يجوز في الإضافة : هذا فم زيد ، ولا : هذا فمك ، لأن الميم جاءت هنا ، حتى لا يجب حذف الواو. ألا ترى أنا لو قلنا (فو) ، في الإفراد ، لحقته التنوين ، لتمكن الاسم ، وهي ساكنة ، والواو ساكنة ، فيجب حذف الواو ، فيبقى (ف) وليس في الأسماء المتمكنة ، اسم على حرف واحد ، فتجنبوا إذن ، وعوضوا الميم ، من الواو ، لأن الميم من الشفة ، كما أن الواو كذلك. [فإن قلت] : فلم زعمتم أن الميم بدل من الواو ، [وقد قال الشاعر] :

٣٠ ـ هما نفثا في فيّ من فمويهما

على النابح العاوي أشدّ رجام (١)

فلو كانت الميم ، بدلا من الواو ، لم يجمع بينهما؟.

[قلت] : إن هذا ضرورة ، فيجوز فيه الجمع بين العوض ، والمعوض منه. وفيه وجه آخر ، وهو : أنه أبدل الميم من الواو ، وأبدل الواو من الهاء ، فليس في الكلمة ، على هذا حذف. فوزنه على هذا (فعليهما) وعلى الأول (فعييهما). [قال الشاعر] :

٣١ ـ خالط من سلمى خياشيم وفا (٢)

فإن التقدير فيه : وفاها ، على تقدير المضاف إليه. كذا زعمه الأخفش. وليست الألف فيها بدلا من التنوين ، كما هو في : رأيت زيدا ، لأن هذا يؤدي إلى أن يكون الاسم المتمكن على حرف واحد. وأما : ذو مال ، فلا يفرد عن الإضافة أبدا ، لما ذكرناه من أنه إذا أفرد لحقته التنوين ، فيوجب حذف الواو ، فيبقى الاسم على حرف واحد. [١٧ / أ] و (ذو) وصلة إلى وصف الأسماء بالأجناس ، كما أن الذي وصلة إلى وصف المعارف بالجمل. تقول : مررت برجل ذي مال. أردت أن تصف الرجل بالمال الذي هو اسم جنس ، فلم يمكنك ، أن تقول : مررت برجل مال ، فجئت بذي ، وصلة إلى هذا المعنى. كما أنك إذا قلت : مررت بزيد الذي في الدار ، إنما جئت بالذي ، لأنه لم يمكنك ، أن تقول : مررت بزيد في الدار ، لأن (في الدار) لا يكون وصفا لزيد. وإذا كان كذلك ، لم يجز إضافة (ذي) إلى المضمر ، لأن المضمر ليس بجنس. ولهذا المعنى ، قال سيبويه (٣) : أما العبيد فذو عبيد ، ولم يقل : فذوها ، وكرر العبيد ، إذ لا يستجيز إضافتها إلى المضمر. إلا أنه قد جاء : صل على محمد ، وذويه (٤). وجاء في الشعر : ذووه. فقد ، قال أبو علي : إنما جاء هذا ، لأنهم

__________________

(١) البيت من الطويل ، للفرزدق ، في ديوانه ٤٠٩ ، والكتاب ٣ : ٣٦٥ ، ٣٦٦ ، واللسان (فوه) ١٣ : ٥٢٨ ، والخزانة ٤ : ٤٦٠ ، ٤٦٤ ، ٧ : ٤٧٦ ، ٥٦٤.

وبلا نسبة في : المقتضب ٣ : ١٥٨ ، والإنصاف ١ : ٣٤٥.

(٢) من الرجز ، للعجاج ، وبعده : صهباء خرطوما عقارا قرقفا وهو في : ديوانه ٤٩٢ ، والخزانة ٣ : ٤٤٢ ، ٤٤٤ ، ٤ : ٤٣٧ ، ٦ : ٥١٠ ، ٧ : ٢٤٤ ، ٢٤٦.

وبلا نسبة في : المقتضب ١ : ٢٤٠ ، والمسائل المشكلة ١٥٦.

(٣) الكتاب ٣ : ٤١٢ ، ونص العبارة فيه (إنما فوك بمنزلة قولك : ذو مال فإذا أفردته ، وجعلته اسما لرجل ، ثم أضفته إلى اسم ، لم تقل : ذوك ، لأنه لم يكن له اسم مفرد).

(٤) معنى ذويه ، أي : أصحاب هذا الاسم ، وهو محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال الكميت (الخصائص

٩٢

يحملون الشيء على الشيء. فحملوا هاهنا ، (ذو) على الصاحب ، فذووه ، كأصحابه ، وكذلك (ذويه). ألا ترى أنه قد جاء : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ)(١) والمراد به : اجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو يحاجوكم عند ربكم ، إلا لمن تبع دينكم ، فحمل : ولا تؤمنوا ، على : اجحدوا ، فعومل معاملته. ولو لم يكن كذا لكان : ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو يحاجوكم عند ربكم إلا لمن تبع دينكم ، فكنت تعدي : تؤمنوا بالجارّين (٢) ، ولا يجوز ذلك. كما لا يجوز التعدي بالهمزتين ، ولا بالتشديدتين (٣) ، ولا ينجيه قوله رحمه الله (٤) : إن (لا تؤمنوا) ، بمعنى : لا تقروا. لأن كل ما يدعيه في الإقرار ، فهو مدعى عليه ، في الإيمان ، فلا (ذا) ، ولا [قول الشاعر] :

٣٢ ـ فلأبغيّنكم قنا ، وعوارضا

ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد (٥)

فقال هذا ، لأنه مكان. وإذا كان كذلك ، فهذا لا يغنينا إلا أن يكون يقدر الجار : إلى أن يؤتي ، كالمطرح المرفوض الذي لا يكون أصلا. وهذا يتأتى على قول سيبويه (٦) ، دون الخليل ، لأنه يقدر أنّ (أن) منصوبة الموضع بالفعل الذي قبله (٧) ، كما انتصب : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ)(٨).

[١٧ / ب] [ومثله قول الشاعر] :

٣٣ ـ أمرتك الخير ، فأفعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال ، وذا نشب (٩)

__________________

٣ : ٢٧) :

إليكم ذوي آل النبي تطلّعت

نوازع من قلبي ظماء ، وألبب

وقال كعب بن زهير (ديوانه ١٥٢) :

صبحنا الخزرجية ، مرهفات

أبار ذوي أرومتها ذووها

وقال الآخر (اللسان ذوو) ١٥ : ٤٥٨) :

إنّما يصطنع المع

روف في الناس ذووه

(١) ٣ : سورة آل عمران ٧٣.

(٢) يقصد بالجارين : اللام في : (لمن تبع دينكم) ، والباء المقدرة في : (بأن يؤتى أحد ...).

(٣) أي : التضعيف.

(٤) أي : أبو علي الفارسي. مجمع البيان ٢ : ٤٥٩ ، ٤٦٠.

(٥) البيت من الطويل ، لعامر بن الطفيل (رواية ابن الأنباري) ، في : ديوانه ٥٥ وفيه : الملا ، بدل : قنا ، ولأوردن ، بدل : لاقلبن ، والكتاب ١ : ١٦٣ ، والمفضليات ٣٦٣ ، والخزانة ٣ : ٧٤ ، ٧٦ ، ٧٨ ، ٧٩.

قنا : جبل في ديار بني ذبيان. عوارض : جبل لبني أسد. اللابة : الحرة ذات الحجارة السود. ضرغد : حرة ، أو جبل بعينه.

(٦) الكتاب ٣ : ١٥٣ ، تحت باب : (هذا باب من أبواب أن التي تكون ، والفعل بمنزلة : المصدر).

(٧) يعني : أن الجار إذا حذف من : (أن يؤتى) كان على الخلاف ، فيكون في قول الخليل : جرا ، وفي قول سيبويه : نصبا.

(٨) ٧ : سورة الأعراف ١٥٥ ، وتقديره : اختار موسى من قومه ، فحذف (من) فوصل الفعل ، فنصبه. وإنما حذف (من) لدلالة الفعل عليه ، مع إيجاز اللفظ.

(٩) البيت من البسيط ، لعمرو بن معديكرب ، الزبيدي ، في ديوانه ٣٥ ، والكتاب ١ : ٣٧ ، والمغني ١ : ٣١٥ ،

٩٣

فأما عند الخليل ، فإن الجار مقدر. وإنّ (أن) في تقدير الجر ، ولم ينتصب ، وإن حذف الجار. [قال الشاعر] :

٣٤ ـ يا ربّ حيّ شديد الضغن ذي لجب

دعوته ، راهنا ، منهم ، ومرهون (١)

أي : من راهن ، منهم ، ومرهون.

[وقول الآخر] :

مشائيم ، ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب ، إلّا ببين غرابها (٢)

فهذا كذلك ، فيلزمه السؤال. فليس له إلا أن : لا تؤمنوا : أي : اجحدوا.

[قال الشاعر] :

٣٦ ـ فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبى ، بينهما أسهلا (٣)

وقال الله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ)(٤)(انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ)(٥) ، لأنه ، كأنه ، لما قال : (آمنوا) كأنه قال : (ائتوا) (٦) كما أنه : لما قال : (ولا تؤمنوا) كأنه ، قال : (اجحدوا). فهذا من ذاك.

__________________

وللعباس بن مرداس ، في ديوانه ٣١ ، ولخفاف بن ندبة ، في ديوانه ١٢٣.

وبالنسب أعلاه ، ولأعشى طرود ، وزرعة بن السائب ، في الخزانة ١ : ٣٣٩ ، ٣٤٢ ، ٣٤٣.

وبلا نسبة في : المقتضب ٢ : ٣٦ ، وابن يعيش ٨ : ٥٠ ، وشرح شذور الذهب ٣٦٩.

(١) البيت من البسيط ، لذي الإصبع العدواني ، في : ديوانه ٩٧ ، والمفضليات ١٦٤ ، والأغاني ٣ : ١٠٦ ، وأمالي القالي ١ : ٢٥٧.

(٢) البيت من الطويل ، نسبه سيبويه للفرزدق ، وليس في ديوانه ، الكتاب ١ : ٣٠٦ ، ٣ : ٢٩. وللأخوص ، أو الأحوص ، الرياحي (نسبة إلى جده الأدنى) ، أو اليربوعي (نسبة إلى جده الأعلى) ، في : الكتاب ١ : ١٦٥ ، والتحصيل ١٣١ ، ١٩٨ ، والبيان والتبيين ٢ : ٢٦٠ ، ٢٦١ ، والإنصاف ١ : ١٩٣ ، وابن يعيش ٢ : ٥٢ والخزانة : ٤ / ١٥٨ ، ١٦٠ ، ١٦٤ ، ٨ / ٢٩٥ ، ٥٥٤.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣٥٤ ، ورسالة الغفران ٣٣٦ ، وشفاء العليل ١ : ٣٣٧.

(٣) البيت من السريع ، لعمر بن أبي ربيعة ، في : ديوانه ٣٤٩ ، والكتاب ١ : ٢٨٣ ، والأغاني ٨ : ١٤٤ ، ومجمع البيان ٣ : ١٤٣ ، والخزانة ٢ : ١٢٠.

وقد اختلفت الرواية عما رواه سيبويه ، ففي ديوانه :

وواعديه سدرتي مالك

أو ذا الذي بينهما أسهلا

وفي الأغاني :

سلمى ، عديه سرحتي مالك

أو الربا بينهما منزلا

وعلى الرواية الأخيرة لا شاهد فيه ، لأن (منزلا) إما بدل من الربا ، أو حال منه ، سرحتا مالك : شجرتان لمالك. السرحة : واحد السرح. وهو كل شجر عظيم ، لا شوك له.

والشاهد فيه : نصب (أسهل) بفعل محذوف تقديره : ائت مكانا أسهل.

(٤) ٤ : سورة النساء ١٧٠.

(٥) ٤ : سورة النساء ١٧١.

(٦) أي : آمنوا ، وائتوا خيرا ، وانتهوا ، وافعلوا خيرا. قال سيبويه : (ومما ينتصب في هذا الباب على إضمار الفعل المتروك إظهاره (وانتهوا خير لكم) ٤ : النساء ١٧١ ، و (وراءك أوسع لك) و (حسبك خيرا لك). إذا كنت تأمر ، وإنما نصبت : خيرا ، وأوسع ، لأنك تريد أن تخرجه من أمر ، وتدخله في آخره). ينظر : الكتاب ١ :

٩٤

وهذا شيء قد اعترض. ولنعد إلى ما كنا فيه ، فنقول : إن قوله (وذويه) محمول على أصحابه ، فعومل معاملته ول (ذو) موضع آخر في كلامهم ، وهو أن يكون بمعنى (الذي) فهذا لا يتغير في الرفع ، والنصب ، والجر.

[قال الشاعر] :

٣٧ ـ قولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا

هلمّ ، فإنّ المشرفيّ الفرائض (١)

[وقول الآخر] :

٣٨ ـ فإن لم تغيّر ، بعض ما قد صنعتم

لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه (٢)

فهذه طائية. وهو بالواو بعد المجرورين في البيتين. وأما (حموك) ، و (هنوك) ، فإنهما مرة يكونان من باب : دم ، وأخ. فتقول : هذا حم ، وهن ، وحمان ، وهنان. وعلى هذا قوله عليه السّلام : (من تعزّى بعزاء الجاهلية ، فأعضّوه بهن أبيه ، ولا تكنوا) (٣). ومرة يكونان من باب المهموز.

تقول : هذا حمؤ ، وهنء. ومرة يكونان من باب المقصور. تقول : حما ، وهنا ، كعصا ، ورحى فإذا كانا مثل : دم ، ويد ففي الإضافة ، مثل : أبيك ، وأخيك ، فالمحذوف من (هن) الواو ، لقولك : هنوات. [قال الشاعر] :

٣٩ ـ أرى ابن نزار ، قد جفاني وملّني

على هنوات ، كلّها متتابع (٤)

ويروى : شأنها متتابع. [فإن قلت] : لقد زعمت أن المحذوف من : هن ، الواو. وقد قالوا في التصغير : هنيهة ، ولو كان المحذوف واوا لم يقولوها بالهاء؟.

[قلت] : إن قولهم هنيهة ، أصلها هنيوة ، أبدلت من الواو ياء. فقالوا : هنيّة ، ثم يكرهون التضعيف [١٨ / أ] فيبدلون الهاء من الياء ، فيقولون : هنيهة.

باب التثنية

التثنية للأسماء ، خاصة ، دون الأفعال ، والحروف. وإنما كان كذلك ، لأن التثنية : ضم اسم إلى اسم ، على لفظه ، وزنته ، كضمك زيدا إلى زيد ، وعمرا ، إلى عمرو ، حين قلت : جاءني الزيدان ، والعمران ، أصله : جاءني زيد ، وزيد ، وعمرو ، وعمرو. فكرهوا تكرار اسمين ، فضموا أحدهما إلى صاحبه ، فحذفوا ، وأقاموا الألف ، والياء مقامه. فقالوا : جاءني الزيدان. فالتثنية في المتفقين بمنزلة العطف في المختلفين. فقولنا : جاءني الزيدان ، بمنزلة قولنا. جاءني زيد ، وعمرو. فكما أنه ليس في

__________________

٢٨٢ ، ٢٨٣.

(١) البيت من الطويل المخروم ، لقوال الطائي ، في : الإنصاف ١ : ٣٨٣ ، والخزانة ٥ : ٢٨ ، ٦ : ٤١.

الفرائض : جمع فريضة ، وهي الأسنان التي تؤخذ في الصدقات.

(٢) البيت من الطويل ، لعارق الطائي ، واسمه : قيس بن جروة ، وبهذا البيت سمي : عارقا ، وجاءت في رواياته : لئن ، بدل : فإن. ابن يعيش ٣ : ١٤٨ ، والخزانة ٧ : ٤٣٨ ، ١١ / ٣٣٩.

(٣) مسند ابن حنبل ٥ : ١٣٦ ، وكنز العمال ١ : ٢٥٧.

(٤) البيت من الطويل ، بلا نسبة في : الكتاب ٣ : ٣٦١ ، والتحصيل ٤٩٢ ، والمقتضب ٢ : ٢٧٠ ، وابن يعيش ١ : ٥٣ ، واللسان (هنا) ١٥ : ٣٦٦.

٩٥

قولك : جاءني الزيدان علم بالأول منهما مجيئا فكذا في قولنا : جاءني زيد وعمرو وإذا كان معنى التثنية ، لم يتصور ذلك في الأفعال ، ولا في الحروف. ألا ترى أنك إذا قلت : ضرب زيد ، تناول قولك (ضرب) جنس الضرب ، قليله ، وكثيره ، فلم يتصور فيه ، ما صورناكه في الاسم.

[فإن قلت] : فقد قالوا : ضربا؟

[قلت] : ذلك تثنية الفاعل ، لا تثنية الفعل. ألا ترى أن معناه : ضرب اثنان. وليس معناه :

ضرب ضربين. وأما الحروف ، فهي آلة تربط أجزاء الجمل ، بعضها ببعض ، فلا يتصور فيه معنى التثنية ، إذ ليس الغرض فيه ذلك وإذا ثبت هذا ، وتقرر فإن التثنية ، والجمع ، على حد التثنية ، جاءا في حالة الإعراب ، مخالفين لما للآحاد عليه من الإعراب. ألا ترى أن إعراب الآحاد ، إنما هو بالحركات التي هي الضمة ، والفتحة ، والكسرة. فلما جاؤوا إلى التثنية ، والجمع ، على حدها ، وعجزوا عن استعمال الحركات ، لاستيفاء الآحاد إياها ، لجؤوا إلى أصول هذه الحركات التي هي : الضمة ، والفتحة ، والكسرة. ألا ترى أن أصل الواو : الضمة ، وأصل الألف : الفتحة ، وأصل الياء : الكسرة ، على ما تقدم شرحنا إياه. فجاؤوا بهذه الحروف ، وهي ثلاثة. وللتثنية ثلاثة أحوال : رفع ، ونصب ، وجر. وللجمع مثل ذلك. وليس معهم إلا ثلاثة أحرف ، فتجب قسمتها على ستة ، فاقتضت الحكمة في هذه الفتحة [١٨ / ب] أن تكون الألف في المرفوع في التثنية ، والواو للجمع ، والياء للتثنية ، مجرورة ، وللجمع أيضا. ففتح ما قبلها في التثنية ، وكسر ما قبلها في الجمع ، للفرق بين الحالتين. وبقي النصب فيهما ، ولم يكن هناك حرف ، فلم يكن بد من حمل النصب فيهما : إما على الجر ، أو على الرفع ، فقال سيبويه (١) : وكان حملها على الجر أولى ، لأن الجر يختص بالأسماء ، والرفع قد يجاوز الأسماء إلى الأفعال ، وينتقل إليها ، وهو كما قال ، لأن ما كان من خصائص الشيء كان أرسخ قدما فيه ، مما ينتقل منه إلى غيره. فهذه حكمة هذه القسمة.

[فإن قلت] فلو خرجت القسمة على غير هذا؟ فكانت الواو في التثنية مرفوعة ، مفتوحا ما قبلها. والياء فيها مجرورة ، مكسورا ما قبلها ، والألف فيها منصوبة ، ومفتوحا ما قبلها. وفي الجمع : الواو فيه مرفوعة مضموما ما قبلها ، والياء فيه مجرورة ، مفتوحا ما قبلها ، والألف فيه منصوبة ، مفتوحا ما قبلها ، ويكون النون فارقا بين المنصوبين ، يفتح في حالة ، ويكسر في أخرى.

[قلت] : هذه القسمة فاسدة. والأول أحسن ، لأن النون ، لا تثبت في جميع الأحوال ، بل تسقط عند الإضافة ، فكان يؤدي إلى اللبس ، والاشتباه. وإذا ثبت هذا ، وجبت هذه القسمة على هذه القضية. فهذه الحروف ، حروف إعراب عندنا. وقال الفراء (٢) : هي أنفس الإعراب. وقال

__________________

(١) الكتاب ١ : ١٩ ، وقد ذكر الشارح معنى كلام سيبويه ، ونصه : (وافق النصب (أي : نصب الفعل إذا لحقته التثنية) الجزم في الحذف ، كما وافق النصب الجر في الأسماء ، لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء ، والأسماء ليس لها في الجزم نصيب ، كما أنه ليس للفعل في الجر نصيب).

(٢) بل : الكوفيون كلهم ، وأيدهم قطرب من البصريين. الإيضاح في علل النحو ١٣٠ ، والإنصاف (مسألة ٣) ١ : ٣٣.

٩٦

الأخفش (١) : هي دلائل الإعراب. وقال الجرمي (٢) : انقلابها علامة النصب ، والجر (٣). والصحيح قول سيبويه (٤) ، وإن الألف في الرفع حرف الإعراب ، والياء ، والواو كذلك في الحالتين ، يعني : النصب ، والجر. والدليل على صحة هذا ، أن قولك : جاءني الزيدان ، لا تألو الألف فيه ، ولا الياء ، في قولك : رأيت الزيدين ، ولا الواو ، في قولك : جاءني الزيدون ، من أن يكون حروف إعراب ، كالدال ، في زيد ، والراء في : عمرو ، أو يكون كالضمة ، والفتحة ، والكسرة. فالذي يدل على أنها كالدال ، هو : أنا لا نفهم معنى التثنية ، ولا الجمع ، إلا بوجود هذه.

[١٩ / أ] : [فلما] كانت كالضمة ، وأختيها ، لم يخل بسقوطها معنى التثنية ، والجمع. ألا ترى أنك إذا قلت : هذا زيد ، فحذفت الضمة ، لم يختل معنى الاسم ، فبطل قوله. وبقي قوله : لم قلب ياءا ، والدال لا تنقلب في المفرد؟ فنقول له : إن القياس كان يقتضي ، أن التثنية ، في الأحوال كلها بالألف ، لأن الألف حرف إعراب ، بمنزلتها في رحى ، وعصا. فكما لا تنقلب هناك ، وجب أن لا تنقلب هاهنا. وعلى هذا جاء قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ)(٥) الألف ، في موضع النصب ، على القياس الذي هو الأصل (٦). ألا ترى أن العرب ، إذا لزمت شيئا في موضع ، لمعنى مخالف للقياس ، والأصل الذي ينبغي أن تكون عليه القاعدة استعملت بعض الكلم على الأصل ، تنبيها ، منهم على ذلك. كقولهم : استقام ، واستمال ، واستقاد ، فقلبوا حرف العلة ، ولم يصححوا ، لتحركها في الأصل ، وانفتاح ما قبلها الآن. ثم جاء قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ)(٧) ولم يكن ليقول : استحاذ ، تنبيها ، على الأصل ، فكذا جاء : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) تنبيها على الأصل الذي كان ينبغي أن يكون عليه الاستعمال. وإذا كان كذلك ، ونبهوا على الأصل ، في بعض المواضع ، فالعدول عن هذا الأصل ، إلى قلب حرف الإعراب ، إنما كان لأجل أنه لو ترك هذا القلب لكان الكلام مشتبها ،

__________________

(١) الإنصاف مسألة (٣) ١ : ٣٣.

(٢) هو : أبو عمر ، صالح بن إسحاق ، الجرمي ، النحوي (ت ٢٢٥ ه‍). أخذ النحو عن : أبي الحسن الأخفش ، وغيره ، وأخذ اللغة عن : أبي زيد ، وأبي عبيدة ، والأصمعي ، وطبقتهم ، وصنف كتبا كثيرة ، منها ، مختصره المشهور في النحو. قال أبو علي ، الفارسي : (قل من اشتغل بمختصر الجرمي ، إلا صارت له بالنحو صناعة). ينظر : أخبار النحويين البصريين ٥٥ ـ ٥٧ ، وطبقات النحويين واللغويين ٧٤ ـ ٧٥ ، ونزهة الألباء ١١٤ ـ ١١٧.

(٣) الإنصاف (مسألة ٣) ١ : ٣٣.

(٤) الكتاب ١ : ١٧ ، وثمار الصناعة ٦٨.

(٥) ٢٠ : سورة طه ٦٣.

(٦) وهي قراءة : نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، وأبي جعفر ، وشعبة ، ويعقوب ، والشنبوذي ، والحسن ، والأعمش ، وشيبة ، وطلحة ، وحميد ، وأيوب ، وأبي عبيد ، وأبي حاتم ، وابن عيسى الأصبهاني ، وابن جرير ، وابن جبير الأنطاكي. معاني القرآن ـ للأخفش ٢ : ٤٠٨ ، وتفسير الطبري ١٦ : ١٣٦ ، والسبعة ٤١٩ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ٣٤٣ ، والحجة ـ لابن خالويه ٢٤٢ ، وحجة القراءات ٤٥٤ ، والتيسير ١٥١ ، وتفسير التبيان ٧ : ١٨٢ ، ومجمع البيان ٧ : ١٤ ، وتفسير القرطبي ١١ : ٢١٦ ، والبحر المحيط ٦ : ٢٥٥ ، والنشر ٢ : ٣٢١ ، وإتحاف الفضلاء ٣٠٤.

(٧) ٥٨ : سورة المجادلة ١٩.

٩٧

موقعا للبس. ألا ترى أنك ، لو قلت : ضرب الزيدان العمران ، لم يعرف الفاعل من المفعول. وهذا بخلاف المفرد ، لأن المفرد ، في نحو : ضرب موسى عيسى ، لا يشتبه ، لما يتعاقب عليه من الصفات ، والتأكيد ، وسائر التوابع ، نحو : ضرب موسى العاقل عيسى الأديب. وضرب موسى نفسه ، عيسى نفسه. وهذا المعنى لا يتأتى في التثنية ، لأن ما يتبع التثنية طبق للتثنية ، ووفق لها. لو قلت : ضرب الزيدان العاقلان ، العمران العاقلان ، لم تكن لتزيد بهذا الإتباع ، إيضاحا ، لم يكن له قبل. فلهذا المعنى جاء القلب ، أعني لهذا البيان. وقد وقع التنبيه بقوله (إِنْ هذانِ) : وهو المختار ، من الأقاويل ، في هذه الآية. فأما قول من [١٩ / ب] قال : إن (إن) بمعنى : نعم (١) ، وهذان : مبتدأ ، ولساحران : الخبر. وقول من قال : إنه [كقول الشاعر] :

٤٠ ـ فليت كفافا كان خيرك كلّه

وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي (٢)

في أحد التأويلين ، من أن التقدير : فليته ، أي : إنه هذان لساحران ، فقولان فاسدان ، ودعويان خارجتان ، عن كلام العرب ، لأن اللام لا تدخل على الخبر : أعني لام الابتداء ، في باب المبتدأ ، والخبر ، لا يقال : زيد لقائم ، إنما يقال : لزيد قائم. [قال الشاعر] :

٤١ ـ أم الحليس ، لعجوز شهربه

ترضى من اللّحم بعظم الرقبه (٣)

من الشواذ التي لا اكتراث بها ، كما جاء فيها : (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(٤) بالفتح (٥) ، مع اللام. وإن زعم عالمهم ، المبرد الذي عرض هو عليه (٦) ، فرضي ، من أن التقدير : إن هذان لهما ساحران (٧) ، وأنّ اللام داخل على المبتدأ ، في التقدير. فإن هذا جمع بين الضدين ، لأن اللام للتأكيد ، والتأكيد للإطناب ، والإسهاب. والحذف للإيجاز ، والاختصار ، فلا يجمع بين الضدين.

وأما قول الأخفش : إن هذه الحروف ، دلائل الإعراب (٨) ، فإن هذا يؤول إلى قول سيبويه وذلك لأن القول عند سيبويه : إن هذه الحروف حروف إعراب (٩). والحركة فيها مقدرة [ليبقى] دليل

__________________

(١) قاله : المبرد ، والزجاج ، وقطرب. حجة القراءات ٤٥٥ ، ومجمع البيان ٧ : ١٥ ، ١٦.

(٢) البيت من الطويل ، ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي ، في : الأغاني ١٢ : ٢٩٥ ، وأمالي القالي ١ : ٦٨ ، والخزانة ٣ : ١٣٣.

(٣) من الرجز ، لرؤبة ، في : ملحق ديوانه ١٧٠ ، ولرؤبة ، وعنترة بن عروّس ، في الخزانة ١٠ : ٣٢٢ ، ٣٣٣.

وبلا نسبة في : أصول ابن السراج ١ : ٣٣٣ ، وابن يعيش ٣ : ١٣٠ ، ٧ : ٥٧ ، وابن عقيل ١ : ٣٦٦ ، واللسان (شهرب) ١ : ٥١٠ ، والتاج (شهرب) ٣ : ١٦٩.

الشهربة : العجوز الكبيرة.

(٤) ٢٥ : سورة الفرقان ٢٠.

(٥) وهي قراءة : سعيد بن جبير. التبيان ـ للعكبري ٢ : ١٦١ ، والبحر المحيط ٦ : ٤٩٠ ، والمغني ١ : ٢٣٣.

(٦) أي : الزجاج.

(٧) مجمع البيان ٧ : ١٦ ، وفيه ، قال الزجاج : (تقديره : نعم ، هذان لهما ساحران ...).

(٨) الإيضاح في علل النحو ١٣٠.

(٩) الكتاب ١ : ١٧ ، ١٨ ، وفيه : (واعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زيادتان : الأولى منهما حرف المد ، واللين ،

٩٨

الإعراب ، كقول الأخفش ، لا فرق بينهما. وأما قول الجرمي ، فإنه كان يزعم : أن المرفوع لا حرف إعراب فيه ، ولا إعراب ، لأنه قال : انقلابها إلى الياء ، علامة النصب ، والجر ، وهو فاسد ، لأن انقلاب الألف ، ياءا ، إنما يصدر عن فعل القالب ، فكيف يكون هذا إعرابا في الكلمة؟! وأما النون في التثنية ، فيما كان منصرفا ، فبدل من الحركة ، والتنوين ، نحو : الزيدين ، والعمرين ، النون فيهما بدل من الحركة ، والتنوين اللتين كانتا في : زيد ، وعمرو. [فإن قلت] : فالحركة في الألف ، والياء ، مقدرة ، فكيف يكون النون بدلا عنهما؟!.

[قلت] : إن الحركة لم تبرز إلى اللفظ. وما لا يبرز إلى اللفظ ، كان كالمطرح ، وإن قدر في الحرف. ألا ترى أنك ، إذا سميت بقدم ، وكبد ، امرأة [٢٠ / أ] لم تصرفها ، بلا اختلاف ، بخلاف : هند ، ودعد ، وجمل ، لأن في (هند) مذهبين : الصرف ، وترك الصرف. فترك الصرف (١) : للتعريف ، والتأنيث. والصرف : لأن الخفة قاومت أحد السببين. أعني : سكون الأوسط. وفي (قدم) : إجماع.

فإن سميتها ب (دار) ، صرفتها ، بالإجماع ، وإن كان أصل دار : دورا ، لأن الحركة لم تبرز إلى اللفظ ، وكانت بمنزلة المطرح. وأما النون ، في نحو قولك : أحمدان ، وما لا ينصرف ، فإنها عند قوم ، بدل من الحركة ، فحسب. وعند آخرين ، بدل من الحركة ، والتنوين ، لأن التثنية ترد الاسم إلى الأصل ، فجاءت النون لأجل ذلك. وأما النون ، في : هذان ، وذان ، وتان ، فإن هذه الأشياء ، عند أبي علي (٢) ، ليست بتثان لآحاد ، وإنما هي صيغ ، وضعت للتثاني. ألا ترى أن قولك : هذان ، لو كان تثنية لهذا ، لقيل : هاذيان ، واللذيان ، واللتيان ، كما قيل في تثنية : زيد : الزيدان. فلما جاء الأمر مخالفا لما في سائر الأصول ، علم أن مثل هذه الأشياء ، صيغ وضعت للتثنية. وكسر النون فيها ، لا يدل على أن قولك : هذان : تثنية لهذا. ألا ترى أنه قد جاء : يقومان ، ولا يدل على أن (يقومان) تثنية.

وقد جاء الفتح في نون التثنية ، وفي نون يقومان. روى الحلواني (٣) ، عن هشام (٤) ، عن ابن عامر :

__________________

وهو : حرف الإعراب .... وتكون الزيادة الثانية : نونا كانها عوض لما منع من الحركة ، والتنوين ، وهي : النون ، وحركتها : الكسر).

(١) المقتصد ٢ : ٩٩٣ ، وفيه : (قال الشيخ أبو علي : فإن كان الاسم الثلاثي : ساكن الأوسط ، صرف ، ولم يصرف. فترك الصرف لاجتماع التأنيث ، والتعريف ، والصرف ، لأن الاسم على غاية الخفة ، فقاومت الخفة أحد السببين).

(٢) المقتصد ١ : ١٩١ ، وفيه : (فإن النون في : (هذان) بمنزلة النون في : رجلان ، وإنما هي صيغة مرتجلة للتثنية .... يدلك على ذلك : أنه لو كان مثنى لوجب أن يدخله الألف ، واللام ، كما يدخل سائر الأسماء المعارف إذا ثنيتها .... فلما لم يقل : الهذان علمت أنه : اسم وضع للتثنية).

(٣) هو : أحمد بن يزيد بن أزداذ ، أبو الحسن ، الحلواني (توفي سنة نيف ، وخمسين ، ومئتين للهجرة). أخذ القراءة عن : أحمد بن محمد القواس بمكة ، وعن : قالون بالمدينة ، وعن : هشام بن عمار بالشام. قرأ عليه : الفضل بن شاذان ، وابنه : العباس بن الفضل ، وآخرون ينظر : غاية النهاية ١ : ١٤٩ ، ١٥٠.

(٤) هو : هشام بن عمار بن نصير ، السلمي ، الدمشقي (ت ٢٤٥ ه‍ ، وقيل ٢٤٤ ه‍). أخذ القراءة عن : أيوب بن تميم ، وعراك بن خالد ، وآخرين. روى القراءة عنه : أبو عبيد ، القاسم بن سلام ، وأحمد بن يزيد ، الحلواني ، وآخرون. كان مشهورا بالنقل ، والفصاحة ، والعلم ، والرواية ، والدراية. ينظر : غاية النهاية ٢ :

٩٩

(أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ)(١) بفتح النون (٢) ، على لغة من (٣) قال :

 ...

والعينانا (٤)

وذلك ، لأن الحركة في النون ، لالتقاء الساكنين ، فقد يكون الكسر ، وقد يكون الفتح ، لأن قبله ألفا.

[قال أبو الفتح] : وتسقط النون عند الإضافة ، كقولك : جاءني غلاما زيد ، إنما سقطت النون مع الإضافة ، لقيامها مقام التنوين. والتنوين ، والإضافة لا يجتمعان. فكذا ما خلفه ، وقام مقامه.

[قلت] : كان من الواجب أن لا تسقط النون عند الإضافة ، لأن النون بدل من الحركة ، والتنوين. فإن كانت التنوين تسقط مع الإضافة ، فالحركة لا تسقط معها ، وذلك ، كما زعمت.

ولكن لما ترددت النون بين الحركة والتنوين ، أثبتت مع الألف ، واللام ، مراعاة لجانب الحركة وحذفت مع الإضافة [٢٠ / ب] مراعاة ، لجانب التنوين. ولم يكن الأمر ، على العكس من هذا ، لأن في ذلك ، جمعا ، بين النون ، والمضاف إليه. وفيما فعلوا ، الاسم يفصل بين الألف ، واللام ، وبين النون.

[قال أبو الفتح] : والمؤنث كالمذكر ، في التثنية. إنما ذكر هذا ، لأنهما يختلفان في الجمع. ألا ترى أن جمع المؤنث ، مخالف لجمع المذكر.

[قلت] : الجمع على ضربين : جمع تصحيح ، وجمع تكسير. فجمع التصحيح : ما سلم فيه نظم الواحد ، وبناؤه ، وهو على ضربين : جمع تذكير ، وجمع تأنيث. فأما جمع التذكير ، فنحو قولك : زيد ، والزيدون ، وعمرو ، والعمرون. هذا يسمى جمع التصحيح ، لأن حركات الواحد ، وسكناته ، سلمت فيه ، من غير تغيير ، ولا تبديل ، ويسمى : الجمع على حد التثنية ، لأنه ، كما سلم في التثنية ، لفظ المفرد ، سلم في الجمع. ويسمى : الجمع على الجزءين ، لأنه يدور على الواو ، والياء ، وهما من حروف الهجاء. وقد ذكرنا ، لم كان بالواو ، والياء ، في باب التثنية. وهذا الجمع يختص بالعقلاء. وأبو علي يقول : يختص بأولي العلم. وما أحسن قول أبي علي (٥) ، رحمه الله. ألا ترى أنه

__________________

٣٥٤ ـ ٣٥٦ ، وتهذيب التهذيب ١١ : ٥١ ـ ٥٤.

(١) ٤٦ : سورة الأحقاف ١٧.

(٢) وهي ، كذلك قراءة : أبي عمرو ، وشيبة ، وأبي جعفر ، وعبد الوارث ، وهارون بن موسى ، والجحدري ، والحسن. الكشاف ٣ : ٥٢٢ ، وتفسير الرازي ٢٨ : ٢٤ ، والبحر المحيط ٨ : ٦٢.

(٣) وهم : بنو الحارث بن كعب. ينظر : الخزانة ٧ : ٤٥٢.

(٤) من الرجز ، لرجل من بني ضبة ، وتمامه :

أحب منها الأنف ...

وهو بهذه النسبة في الخزانة ٧ : ٤٥٢ ، ٤٥٣ ، ٤٥٧.

وبلا نسبة في : الجمل ١ : ١٥٠ ، وابن عقيل ١ : ٧١.

(٥) المقتصد ١ : ١٩٢ ، وفيه : (جمع السلامة : هو الجمع الذي على حد التثنية .... ويكون في الأمر العام لأولي العلم.).

١٠٠