شرح اللّمع في النحو

أبي الفتح عثمان بن جنّي

شرح اللّمع في النحو

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠

المستثنى على المستثنى منه. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ)(١). ولا خلاف في جواز : ما في الدار إلا زيدا أحد. بتقديم المستثنى على المستثنى منه. وإنما الخلاف في أنه هل يجوز : إلا زيدا قام القوم. فالبصريون لا يجيزونه ، وهو الصواب. والكوفي يجيز ، وليس بشيء (٢). ألا ترى أنه لا يجوز في : عشرين درهما. درهما عشرين. ولا في : طاب زيد نفسا ، تقديمه ، وهو أقوى من هذا ، وتصرفه أكثر. و (إلا) ليس بمتصرف ، فلا يتقدم على الفعل.

[قال أبو الفتح] : فإن فرّغت العامل قبل (إلا) عمل فيما بعدها لا غير. تقول : ما قام إلا زيد. و : ما رأيت إلا زيدا ، فترفعه بفعله ، وتنصبه بوقوع الفعل عليه.

[قلت] : واعلم أنه لا يجوز أن تقول : ما ضربت إلا زيدا بسوط ، فتعلّق ما بعد (إلا) بما قبله ، إذا كان ما قبل (إلا) كلاما تاما. وكذلك ، لا يجوز : ما الخبز زيد إلا آكل. لا تنصب الخبز بآكل. وإنما لم يجز ذلك ، لأن (إلا) بمنزلة حروف النفي. فكما لا يعمل ما بعد النفي فيما قبله ، نحو : زيدا ما ضربت ، فكذا لا يعمل ما بعد (إلا) فيما قبله ، ولا ما قبله فيما بعده إذا كان تاما.

والدليل على أن ما يستثنى به ، بمنزلة النفي ، ما زعمه الكسائي ، والفراء (٣) ، في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(٤). قالا : التقدير : أنعمت عليهم ، لا مغضوبا عليهم (٥) ، ولا الضالين. فإنما جاء (لا) في قوله : (ولا [٨٢ / ب] الضالين) ، لأن في (غير) معنى النفي. وإذا كان كذلك ، كان حكمه حكم النفي. فأما قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)(٦) فليس التقدير : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر ، وإن كان المعنى عليه ، لأنا قد ذكرنا أن ما بعد (إلا) لا يتعلق بما قبله إذا كان كلاما تاما. فإذن يحمل على فعل آخر دل عليه المذكور. كأنه قال : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، أرسلناهم بالبينات ، فأضمر ، لجري ذكره. قال : ومثله : [قول الشاعر] :

٢٠٧ ـ وليس مجيرا ، إن أتى الحيّ خائف

ولا [قائلا (٧)]إلا هو المتعيبّا (٨)

فنصب المتعيب ، ب (يقول) مضمر ، لجري ذكر (قائل). فأما قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(٩) ، فإنه قال (١٠) : لا أعلّق قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، ب (يكلم) المنصوب ، في قوله : (أَنْ يُكَلِّمَهُ) ، لأن في ذاك ، إعمال ما قبل (إلا) فيما بعده ، وذلك ممتنع. ولكني أعلّقه ب (يكلم) آخر ، مضمر ، لجري ذكره. ويجوز أن يعلّق بمضمر ، كما جاء :

__________________

(١) ٧٣ : سورة المزمل ١ ـ ٣.

(٢) الإنصاف (مسألة ٣٦) ١ : ٢٧٥ ، ٢٧٦.

(٣) معاني القرآن ـ للفراء ١ : ٨.

(٤) ١ : سورة الفاتحة ٧.

(٥) مجمع البيان ١ : ٣٠.

(٦) ١٦ : سورة النحل ٤٣ ، ٤٤.

(٧) في الأصل : ولا قائل ، وهو وهم ، لأن (قائلا) معطوف على (مجيرا) خبر ليس.

(٨) البيت من الطويل ، للأعشى ، في : ديوانه ١١٣ ، واللسان (عيب) ١ : ٦٦٣ ، والتاج (عيب) ٣ : ٤٥٠.

(٩) ٤٢ : سورة الشورى ٥١.

(١٠) أي : أبو علي ، في : كتابه (التذكرة).

٢٢١

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ)(١). ولم يذكر الآن آمنت لجري ذكر (آمنت) في قوله : (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ)(٢). قال : فمن نصب : (أو يرسل) ، قدّر : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أو يكلم من وراء حجاب ، أو يرسل. ومن رفع (٣) : (أو يرسل) ، قدر : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً). أو مكلّما من وراء حجاب. لأن قوله : (إِلَّا وَحْياً ،) في تقدير : إلا موحيا. فكأنه قال : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا موحيا ، أو مكلّما من وراء حجاب ، أو مرسلا رسولا. فقدر مع المرفوع اسم الفاعل ، في موضع الحال ، ومع المنصوب الفعل (٤). هذا كلامه الصحيح في التذكرة. وقد خلّط في الحجة. وإذا عرض لك كلامه في موضع قد خلّط فيه ، فلا تقفنّ عند ذلك الكلام ، بل تتبع كلامه ، فإنه لا يقتصر على دفعة في حل المشكلات ، بل يكررها في كتبه ، مرة ، بعد أخرى. وأنت إذا وقفت ، واقتصرت على كلامه ، في موضع ، لم تحل (٥) [٨٣ / أ] بطائل ، ولم يجد عليك ، ولم يعبق بك من فوائده شيء. وينبغي أن تعرف حقي عليك ، وتشكرني على ما أمنحه من فوائده ، وتدعو لي آناء ليلك ، ونهارك : فربما يمتّعك الله بذلك ، وإلا لم يكن فيما استفدت تمتع.

وأعجب من هذا كله ، أنه خلّط في الحجة ، في تعليق (من). ولم يذكر كلاما مفهوما. وذلك ، لأنه أراد أن يقول مثل ما حليته (٦) لك. فقال بعد ذلك الكلام : ويمتنع أن يتصل به الجار من وجه آخر ، وهو أن قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) في صلة (وحي) الذي هو بمعنى : أن يوحي. فإذا كان كذلك ، لم يجز أن تحمل الجار الذي هو (من) في قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) على : (أو يرسل) ، لأنك تفصل بين الصلة ، والموصول ، بما ليس منهما. ألا ترى أن المعطوف على الصلة في الصلة.

فإذا حملت العطف على ما ليس في الصلة ، فصلت بين الصلة ، والموصول بالأجنبي الذي ليس منهما.

__________________

(١) ١٠ : سورة يونس ٩١.

(٢) ١٠ : سورة يونس ٩٠.

(٣) وهم : نافع ، وابن عامر ، والزهري ، وشيبة ، وابن ذكوان ، وهشام ، وأبو جعفر. معاني القرآن ـ للفراء ٣ : ٢٦ ، وتفسير الطبري ٢٥ : ٢٨ ، والسبعة ٥٨٢ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٣ : ٧١ ، وحجة القراءات ٦٤٤ ، والتيسير ١٩٥ ، وتفسير التبيان ٩ : ١٧٢ ، والكشاف ٣ : ٤٧٦ ، ومجمع البيان ٩ : ٣٦ ، وتفسير الرازي ٢٧ : ١٩٠ ، وتفسير القرطبي ١٦ : ٥٣ ، والبحر المحيط ٧ : ٥٢٧ ، والنشر ٢ : ٣٦٨ ، وإتحاف الفضلاء ٣٨٤ ، وغيث النفع ٣٠٤.

(٤) قال أبو علي : والتقدير الصحيح (في قراءة النصب) ما ذهب إليه الخليل من أن يحمل (يرسل) على (أن يوحي) الذي يدل عليه (وحيا) ، فصار التقدير : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيا أو يرسل رسولا فيوحي.

وأما من رفع فقد جعل (يرسل) حالا ...). ينظر : مجمع البيان ٩ : ٣٦ ، ٣٧ ، والجواهر ٢ : ٦٤٦.

(٥) لم تحل بطائل : لم تظفر ، ولم تستفد كبير فائدة. ولا يتكلم بهذه الكلمة إلا في النفي. اللسان (حلا) ١٤ : ٩٢.

(٦) حليته لك : وصفته لك. اللسان (حلا) ١٤ : ١٩٦.

٢٢٢

[أقول] : تصحيح هذا الكلام : أنّ (من) لو كان في صلة (يكلم) وكان (يرسل) عطفا على (وحي) لكان فصلا بين الصلة والموصول. وقوله : لم يجز أن تحمل الجار الذي هو (من) في قوله : (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) على (يرسل) هو سهو. وإنما هو على (يكلم). هكذا وقع في جميع النسخ ، وهذا إصلاحه. ثم قال قبل هذا الكلام ، في قوله : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ)(١) : إنّ انتصاب : (بادي الرأي) ، إنما هو بقوله : (اتّبعك) ، وإن كان قبل (إلا). فجاز أن يعمل فيما بعده. قال : لأن (بادي الرأي) ظرف. والظرف يكتفى فيه برائحة الفعل. فسبحان الله!. أليس قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) :) [ظرفا](٢) أيضا؟. فما بال : (بادي الرأي) يعمل فيه : (أتبعك) قبل (إلا) ولا يعمل في قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ، قوله : (أن يكلّم)؟! أليسا ظرفين؟! فلم جاز هناك ، ولم يجز هاهنا؟!. وإن كان كلامك على الامتناع ، فلم تحمل (بادي الرأي) على المصدر ، دون الظرف ، ولا تعمل فيه (اتبعك) لتتخلص من إعمال ما قبل (إلا) فيما بعد (إلا) ولم يكن في كلامك نقض؟!. [٨٣ / ب].

فهبك استقر كلامك على ما ذكرته في التذكرة ، ففهمنا بذلك أن الذي وقع في الحجة ، تخليط ، فلم ناقضت في هذا؟!. فذكرت في (عسق) ، خلاف ما ذكرت في : (هود). وعلى الجملة ، فقد عفا الله عنك ، إذ لولاك لما فهم كتاب سيبويه ، ولا مشكلاته. وإذا كان كذلك ، فبك نأخذ عليك.

[قال أبو الفتح] : وأما (غير) فإعرابها في نفسها ، إعراب الاسم الواقع بعد (إلا). وما بعدها مجرور بإضافتها إليه. تقول : قام القوم غير زيد. كما تقول : إلا زيدا. و : ما قام أحد غير زيد ، كما تقول : إلا زيد.

[قلت] : الأصل في (غير) أن يستثنى بها الصفة. والأصل في (إلا) أن يستثنى بها الاسم.

فالأصل أن تقول : جاءني زيد غير الظريف. وأن تقول : جاءني القوم إلا زيدا. ثم توسعوا في الكلام ، فاستثنوا الاسم ب (غير) واستثنوا الوصف ب (إلا). فقالوا : قام القوم غير زيد. وقالوا : جاءني زيد إلا الظريف ، توسعا في الكلام ، وتفننا. فقولهم : جاءني زيد إلا الظريف. الظريف : مرفوع ، لأنه صفة لزيد. وقد جاء ذلك في كتاب الله ، عز ، وجل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٣). فالتقدير فيه : لو كان فيهما آلهة منفردة ، غير الله. لا بد من هذا التقدير ، لأنه ، لا يخلو : إما أن يكون (إلا) مع الاسم ، وصفا ك (غير) أو يكون قوله : (إلا الله) : بدلا. مثله في قولهم ما قام القوم إلا زيد. فلا يجوز أن يكون قوله (الله) : بدلا من : (من آلهة) لأنك ، إذا قلت : ما قام القوم إلا زيد ، فتبدل (زيدا) مما قبله ، كان معناه : قام زيد. لأن التقدير في قولك : ما قام القوم إلا زيد : ما قام إلا زيد. ومعنى : ما قام إلا زيد : قام زيد. فكذا ، هاهنا. لو كان بدلا ، كان

__________________

(١) ١١ : سورة هود ٢٧.

(٢) في الأصل : ظرف. والصواب : نصبه ، لأنه خبر ليس.

(٣) ٢١ : سورة الأنبياء ٢٢.

٢٢٣

معناه : لو كان فيهما الله لفسدتا! وهذا مستحيل ، وضد المعنى المقصود من الآية. فثبت أن (إلا) مع قوله : (الله) : بمنزلة (غير الله) وغير : وصف : لما قبله ، ومثله. [قول الشاعر] :

٢٠٨ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمرو أبيك إلا الفرقدان (١) [٨٤ / أ]

فقوله : إلا الفرقدان : رفع. لأنه صفة لقوله : وكل أخ. والتقدير : وكل أخ غير الفرقدين ، مفارقه أخوه. لو لا هذا التقدير ، لكان ينبغي أن يقول : إلا الفرقدين ، لأنه استثناء من موجب. فلما رفع ، ولم ينصب ، علم أنه جعل (إلا) مع ما بعده وصفا للمرفوع ، وهو : كل أخ.

ولا نحمل قوله : إلا الفرقدان ، على ما زعمه الفراء (٢) : من أن التقدير فيه : وكل أخ مفارقه أخوه ، إلا أن يكون الفرقدان. لأن ذلك يؤدي إلى حذف الموصول : وإبقاء الصلة. وهذا ممتنع.

ولهذا المعنى ، لم يجوز أبو علي ، في قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)(٣) أن يكون منصوبا على تقدير : الصيام أياما. فأضمر الصيام لجري ذكره في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ، فقال : هذا لا يجوز ، لأنه يؤدي إلى إضمار الموصول ، وإبقاء الصلة. وربما نقول له ، في قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(٤) : لا تجوّز تعليقه بمضمر ، لأنه حذف الموصول ، وإبقاء صلته ، ومنعت من ذلك ، فلا ندري ما تقول في جواب هذا؟!.

[فإن قال] فأنتم ، إذا قلتم : جاءني القوم إلا زيدا ، تنصبون (زيدا) بالفعل ، وبتوسط (إلا) ، و (إلا) هي المعدّية للفعل إلى ما بعدها. وإذا قلتم : جاءني القوم غير زيد ، تنصبون (غيرا) بالفعل من غير توسط (إلا). فمن أية جهة وقع هذا الفرق؟!.

[الجواب] : أنّ قولنا : أتانا القوم غير زيد. (غير) فيه مبهم غير مخصوص. فأشبه الظروف المبهمة لإبهامه. فتعدى إليه الفعل ، كما يتعدى إلى هذه الظروف. كقولك : زيد خلفك ، وعمرو قدامك ، فتنصبهما ب (مستقر) مضمر من غير واسطة جارّ. وإذا قلت : أتانا القوم إلا زيدا ، ف (زيد) مخصوص ، ولا يتعدى إليه الفعل إلا بتوسط حرف. نظيره : قعدت في المسجد. ويدل على أن (غيرا) مبهم : أنك ، إذا قلت : أتانا القوم غير زيد ، ف (غير زيد) هم الآتون ، وهم القوم.

فأشبه الحال ، لمّا [٨٤ / ب] كان الأول في المعنى. فتعدّى إليه الفعل ، كما يتعدى إلى الحال.

ف (غير) منصوب بالفعل قبله ، من غير واسطة حرف. وما بعده مضاف إليه. فإذا كان الكلام موجبا ، قلت : أتانا القوم غير زيد ، فتنصب. وإذا لم يكن موجبا ، وكان تاما ، قلت : ما أتانا القوم غير زيد ، وغير زيد : بالرفع ، والنصب ، كما تقدم في (إلا).

[قال أبو الفتح] : وأمّا (سوى) فمنصوبة على الظرف أبدا. وما بعدها مجرور بإضافتها إليه.

تقول : قام القوم سوى أبيك. و : ما رأيت أحدا سوى أبيك. وإنما كان نصبا على الظرف ، لما

__________________

(١) سبق ذكره رقم (٦٧).

(٢) والكسائي أيضا. ينظر : الخزانة ٣ : ٤٢٣.

(٣) ٢ : سورة البقرة ١٨٤.

(٤) ٤٢ : سورة الشورى ٥١.

٢٢٤

حكاه سيبويه عن الخليل (١) ، من أن قولك : أتانا القوم سوى أبيك ، معناه : مكان أبيك. ومكان أبيك ظرف ، فكذا سوى ، إذا قام مقامه. قال : إلا أن في (سوى) معنى الاستثناء ، وليس في : مكان ذاك : وقد يجيء (إلا) بمعنى (سوى). قال الله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ)(٢) ، أي : سوى ما شاء ربك ، من أن يكونوا هناك. ومثله قولهم : لفلان عليّ ألف درهم إلا ألفين. يلزمه ثلاثة آلاف ، لأن معناه : سوى ألفين.

[قال أبو الفتح] : وأما (ليس) و (لا يكون) و (عدا) و (خلا) فما بعدهن منصوب أبدا. تقول : قام القوم ليس زيدا. وانطلقوا لا يكون بكرا. وذهبوا عدا خالدا (٣).

[قلت] : الاسم في هذه الأشياء منصوب على الحقيقة في : ليس ، ولا يكون ، لأنه خبر. واسم (ليس) مضمر ، وكذا اسم (لا يكون). والتقدير : ليس بعضهم زيدا ، ولا يكون بعضهم زيدا.

وكذا : عدا زيدا ، أي : عدا بعضهم زيدا ، أي : جاوز ، ف (زيدا) مفعول به ، في (عدا) و (خلا).

وعند الكوفيين ، التقدير : ليس فعالهم فعل زيد. فأضمروا الاسم ، والمضاف. وما ذكرناه أقل مؤونة ، وإضمارا. فهو أولى به. فمما جاء مستثنى ب (ليس) قوله ، صلّى الله عليه وسلّم : (ما أحد من أصحابي إلا أخذت عليه ، ليس أبا الدرداء) (٤) ، انتصب (أبا الدرداء) ب (ليس) كنصب [٨٥ / أ] زيد هاهنا.

[قال أبو الفتح] : وأما : حاشى ، وخلا ، فيكونان : فعلين ، فينصبان ، وحرفين ، فيجران. تقول : قام القوم خلا زيد ، وخلا زيدا. وحاشى عمرو ، وحاشى عمرا.

[قلت] : الذي حكاه سيبويه (٥) ، في حاشى ، أنه : حرف ، ويجر ما بعده. ونصب ما بعده ، حكاية الشيباني (٦) ، عن العرب. ووجهه : أنه جعل (حاشى) فعلا ، وفاعله مضمر. و (زيدا) مفعول به ، وتقديره : حاشى بعضهم زيدا. وقد جاء في شعر النابغة :

٢٠٩ ـ ولا أرى فاعلا ، في الناس يشبهه

ولا أحاشي من الأقوام من أحد (٧)

__________________

(١) الكتاب ٢ : ٣٥٠.

(٢) ١١ : سورة هود ١٠٨.

(٣) الكتاب ٢ : ٣٤٧ ، ٣٤٨.

(٤) نزهة الألباب ٥٤ ، والبلغة ١٧٤ ، ومقدمة محقق الكتاب (هارون) ١ : ٧ ، وفي الإصابة في تمييز الصحابة ٢ : ٢٥٣ : (أبو عبيدة بدل أبي الدرداء). وأبو الدرداء : هو : عويمر بن زيد بن قيس ، ويقال عويمر بن عامر ، ويقال : ابن عبد الله ، الأنصاري ، الخزرجي ، (ت ٣٢ ه‍) وقيل ٣١ ه‍). سيد القراء بدمشق ، روى عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عدة أحاديث وهو معدود في من تلا على النبي ولم يقرأ على حد غيره. ينظر : الطبقات الكبرى ٧ : ٣٩١ ـ ٣٩٣ ، وسير أعلام النبلاء ٢ : ٣٣٥ ـ ٣٥٣.

(٥) الكتاب ٢ : ٣٤٩.

(٦) هو : أبو عمرو إسحاق بن مرار ، الشيباني ، (ت ٢٠٦ ه‍ ، وقيل ٢١٠ ه‍). كان عالما باللغة ، حافظا لها ، جامعا لأشعار العرب. طبقات النحويين واللغويين ١٩٤ ، ونزهة الألباء ٧٧ ـ ٨٠.

(٧) البيت من البسيط ، في : ديوانه ١٣ ، والإنصاف ١ : ٢٧٨ ، وابن يعيش ٢ : ٨٥ ، وهمع الهوامع ٣ : ٢٨٨ ، والخزانة ٣ : ٤٠٣ ، ٤٠٤ ، ٤٠٥.

وبلا نسبة في : اللسان (حشا) ١٤ : ١٨١ (صدره) ، والمغني ١ : ١٢١.

٢٢٥

فهو مستقبل : حاشيت. فثبت أنه فعل.

ومما يحتج ، لكونه فعلا ، قوله تعالى : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ)(١). وقرأ أبو عمرو : (حاش لله) (٢) ، فحذف الألف. وقلّ ما يدخل الحذف في الحرف ، إنما بابه الأفعال ، والأسماء. وإذا كان : (حاشى لله) ، فعلا ، فيحتاج إلى الفاعل. وفاعله مضمر في الآية ، وتقديره : حاشى يوسف ، وبعد يوسف لله ، أي : لخوف الله ، قال : ولا يكون (حاشى) هاهنا ، حرفا ، لأن حرف الجر لا يدخل على مثله ، وقد جاءت بعده اللام.

وأما سيبويه ، فيمكن أن يكون اللام عنده ، زيادة. ويكون (حاشى) حرفا ، وقد نص على ذلك أبو الحسن ، في الكتاب (٣). والذي يدل على أن (حاشى) : حرف جر [قول الشاعر] :

٢١٠ ـ حاشى أبي ثوبان ، إنّ به

ضنّا ، على الملحاة ، والشّتم

هذا وقع في الكتاب ، ونقله عن المقتضب (٤) ، وليس بصحيح ، والصحيح :

٢١١ ـ حاشى أبي ثوبان ، إنّ أبا

ثوبان ، ليس ببكمة فدم

عمرو بن عبد الله ، إنّ به

ضنّا ، على الملحاة والشتم (٥)

فجر. ولو كان (حاشى) فعلا ، ك (خلا) و (عدا) لجاز : ما حاشى زيدا ، كما جاز : ما خلا زيدا. ولم نرهم استعملوا ذلك. فإذا قلت : ما خلا زيدا ، نصبت مع (ما) لا غير. [كما قال لبيد بن ربيعة العامري] :

٢١٢ ـ ألا كلّ شيء ، ما خلا الله ، باطل

وكلّ نعيم ، لا محالة ، زائل (٦)

وإنما نصب مع (ما) ولم يجر ، لأن (ما) مصدرية ، فيقتضي وصله بالفعل. ولو كان (خلا) حرفا يجر ، لم يجز في هذا الوجه أن يكون وصلا [٨٥ / ب] ل (ما) لأن (ما) حرف لا يقتضي العائد إليه. فوجب أن يكون فعلا ناصبا ، لما بعده. فأما [قول الشاعر] :

٢١٣ ـ وبلدة ليس بها طوريّ

ولا ، خلا الجنّ ، بها إنسيّ (٧)

__________________

(١) ١٢ : سورة يوسف ٣١.

(٢) السبعة ٣٤٨ ، وحجة القراءات ٣٥٩ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ١٣٨ ، والنشر ٢ : ٢٩٥. وفيها جميعا خلاف ما ذهب إليه الشارح ، إذ قرأ أبو عمرو وحده بثبات الألف.

(٣) لم أجد نص أبي الحسن في الكتاب.

(٤) المقتضب ٤ : ٣٩١ ، إذ قال المبرد : وما كان فعلا ف (حاشى).

(٥) البيت من مرفل الكامل ، للجميح الأسدي ، في : المفضليات ٣٦٧ ، ولسبرة بن عمرو الأسدي في : اللسان (حشا) ١٤ : ١٨١.

وبلا نسبة في : الإنصاف ١ : ٢٨٠ ، وابن يعيش ٢ : ٨٤ ، والمغني ١ : ١٢٢ ، والخزانة ٤ : ١٨٢ ، وهمع الهوامع ٣ : ٢٨٤.

(٦) البيت من الطويل ، في : ديوانه ١٣١ ، والعقد ٥ : ٢٧٣ ، والمغني ١ : ١٣٣ ، والخزانة ٢ : ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧.

(٧) من الرجز ، للعجاج ، في : ديوانه ٣١٩ ، والخزانة ٣ : ٣١١ ، ٣١٤ ، ٣٣٨.

٢٢٦

فلا يوهمنّك صحة قول أحمد بن يحيى ثعلب (١) ، إنه يجوز : إلا زيدا قام القوم ، لأنه قال :

ولا ، خلا الجنّ ، بها إنسيّ

على تقدير : ولا بها إنسيّ ، خلا الجنّ. فإنا نقول : إن التقدير فيه : وبلدة ليس بها طوري ، ولا إنسي ، خلا الجن. فحذف (إنسيا) وأضمر المستثنى منه. وما أظهر : تفسير لما أضمر. وهذا معنى قول ابن السري ، في جواب أحمد ، إنهم يرفعون (إنسيا) بالظرف. يعني ، بقوله : بها إنسي : إنسي : يرتفع بها ، فلا يتقدم على (بها) ما في حيزها. فقد منحناك نبذة من أصول السراج (٢) ، لتعلم أن هذا غير موقوف على بعض دون بعض. والعائد في صلة (ما) المصدرية ، يعود إلى فاعل (خلا) المضمر ، ولا يعود إلى (ما) لأن (ما) حرف لا يقتضي العائد. وهذا آخر المنصوبات في كتاب اللمع.

باب حروف الجر

والأصل فيها (من) وهو ينقسم إلى خمسة أقسام :

[الأول] : أن يكون لابتداء الغاية ، كقولك : سرت من البصرة.

أي : كان ابتداء سيري ، من هذا المكان.

[الثاني] : أن يكون (من) للتبعيض كقولك : أخذت من المال ، أي : بعضه.

[الثالث] : أن يكون للتبيين ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ)(٣) ، بيّن الرجس أنه منها.

[الرابع] : أن يكون (من) بمعنى البدل ، كقوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ)(٤) ، أي : بدل الآخرة. وكقولك : (أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)(٥) أي : بدل ذرية قوم آخرين. [قال الشاعر] :

٢١٤ ـ فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبرّدة ، باتت على الطّهيان (٦)

قالوا : بدله.

[الخامس] : أن يكون (من) زائدة في الكلام. وذلك في النفي ، دون الإثبات. كقولك : ما جاءني من أحد ، أي : ما جاءني أحد. لأن أحدا هذا يدل على استغراق الجنس في النفي. قال الله

__________________

وبلا نسبة في : الأصول ١ : ٣٧٣ ، ٣٧٤ ، والإنصاف ١ : ٢٧٤.

العرب تقول : ما بالدار طوري ، ولا دوري : أي ما بها أحد. اللسان (طور) ٤ : ٥٠٨.

(١) الأصول ١ : ٣٧٣ ، ٣٧٤.

(٢) الأصول ١ : ٣٧٣ ، ٣٧٤.

(٣) ٢٢ : سورة الحج ٣٠.

(٤) ٩ : سورة التوبة ٣٨.

(٥) ٦ : سورة الأنعام ١٣٣.

(٦) البيت من الطويل ، للأحوال الكندي ، في : اللسان (طها) ١٥ : ١٧ ، والخزانة ٩ : ٤٥٣ ، الطهيان : اسم لقمّة جبل ، أو خشبة يبرد عليها الماء. اللسان (طها) ١٥ : ١٩.

٢٢٧

تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ)(١). وقال : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)(٢). ف (من) [٨٦ / أ] زائدة. ألا ترى رفع (غير) بالحمل على الموضع. ولا يجوز زيادة (من) في الإثبات ، عندنا. ويجيزه الأخفش ، وذلك في نحو قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)(٣). هو ، عند الأخفش : واسألوا الله فضله. وعندنا : وأسألوا الله شيئا من فضله. فأما قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)(٤) فإن (من) الأولى : لابتداء الغاية ، أي ابتداء النزول من هذا المكان. وقوله : (من جبال) : بدل منه ، أو تبيين ، أو زائدة ، عند الأخفش (٥). وقوله : (من برد) : تبيين من جبال. أي : من جبال من برد ، كما تقول : خاتم حديد ، وخاتم من حديد. أو تكون زائدة ، على قول الأخفش. أي : فيها برد. يرتفع برد بالظرف ، لجري الظرف على النكرة ، وصفا.

ويجوز أن تكون ، عند سيبويه : فيها شيء من برد ، فحذف شيئا. [قال الشاعر] :

٢١٥ ـ لو قلت : ما في قومها ، لم تيثم

يفضلها في حسب ، وميسم (٦)

أي : ما في قومها أحد يفضلها. فأما [قول الشاعر] :

٢١٦ ـ هاجرتي ، يا ابنة آل سعد

أأن حلبت لقحة للورد

جهلت من عنانه الممتد (٧)

ف (من) عند الأخفش : زائدة. أي : جهلت عنانه. وعند سيبويه : أنّ (جهل) يؤول إلى معنى النفي ، وكأنه ، قال : ما علمت من عنانه. والشيء يحمل على النفي في المعنى. ألا ترى أنهم قالوا : قل رجل يقول ذاك إلا زيد. فرفعوا (زيدا) لأن معنى : قل رجل يقول ذاك : ما يقول رجل ذاك. وقالوا : قلما سرت حتى أدخلها. فنصبوا (أدخلها) لأن قوله : قلما سرت ، معناه : تقليل السير ، ونفيه. فهو بمنزلة قولهم : ما سرت حتى أدخلها. وقالوا : (شرّ أهرّ ذا ناب) (٨). فرفعوا (شرا) بالابتداء ، لأن معناه : ما شر أهر ذا ناب. إنما كان في تقدير : ما شر ، لأن (شرا) نكرة.

والنكرة لا يبتدأ به إلا إذا كان نفيا. فأما قول [الشاعر] :

٢١٧ ـ لبسن الفرند الخسروانيّ ، فوقه

مشاعر ، من خزّ العراق المفوّف (٩)

فقدره أبو علي تقديرين : أحدهما ، على مذهب سيبويه ، والآخر : على مذهب الأخفش.

فعند سيبويه ، تقديره : فوقه المفوف من خز العراق. والمفوف يكون من الحرير ، دون الخز. وقد

__________________

(١) ٣٥ : سورة فاطر ٣.

(٢) ٧ : سورة الأعراف ٥٩.

(٣) ٤ : سورة النساء ٣٢.

(٤) ٢٤ : سورة النور ٤٣.

(٥) تفسير القرطبي ١٢ : ٢٨٩ ، إذ ذهب الأخفش إلى أنها : زائدة في الموضعين.

(٦) من الرجز ، سبق ذكره رقم (١٤٧).

(٧) من الرجز ، لم أهتد إلى قائله.

(٨) مجمع الأمثال ١ : ٣٧٠ رقم (١٩٩٤) ، والكتاب ١ : ٣٢٩.

(٩) سبق ذكره رقم (٥٨).

٢٢٨

جعله من الخز ، مجازا. وعند الأخفش ، من : زائدة [٨٦ / ب] ، أي فوقه : خز العراق المفوف.

كقوله : (فِيها مِنْ بَرَدٍ)(١) ، على تقديره.

ومن حروف الجر : (إلى) وهي لانتهاء الغاية ، كقولك : سرت من البصرة إلى الكوفة. أي : انتهى سيري إلى الكوفة. والكوفة غاية له. وهذه الغايات ، من جهة اللغة ، بمنزلة المجمل ، لا يعرف من ظاهرها ، دخولها فيما قبلها ، حتى تجيء قرينة توجب ذلك. ألا ترى أن قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(٢) دخلت المرافق ، في الغسل ، عند الأكثرين. وقال : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٣). والليل غير داخل في الصوم. وقال : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) (٤). فالسلام منتهى طلوع الفجر. فمن قال لامرأته : أنت طالق من واحدة إلى ثلاث ، تطلق ثنتين. لأن الأول ، لمّا كان لابتداء الغاية ، دخل في الفعل ، والآخر خرج عنه خروج الليل من الصوم. وعند زفر (٥) : تطلق واحدة ، لأنه يخرج الغاية الأولى ، والآخرة من الكلام. وروي عن أبي حنيفة (٦) ، أيضا ، أنه يقع ثلاث ، ويدخل الآخر ، أيضا للغاية ، كقوله : (إلى المرافق).

٢٤ : سورة النور ٤٣. وقالوا : إن (إلى) تجيء بمعنى (مع). قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)(٧). قالوا : معناه : مع أموالكم. وكذا قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)(٨). أي : مع الله. وهذا ، في الحقيقة غير ما يدعون فيه. وإنما (إلى) على بابه. فقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)(٩) ، تقديره : ولا تأكلوا [أموالهم] : مضمومة إلى أموالكم. وكذلك قوله (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ، معناه : من يضيف نصرته إياي إلى نصرة الله. فهذا مجاز هذا الكلام.

وأما (في) فللوعاء ، والمحل. كقولك : اللّصّ في الحبس ، والمال في الكيس. قالوا : وتجيء (في) بمعنى (على) كقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)(١٠). قالوا : معناه : على جذوع النخل. وهذا في الحقيقة على معناه ، لأن الجذع ، إذا اشتمل على المصلوب ، كان المصلوب فيه. قالوا : وتجيء (في) بمعنى (مع). كقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (٢٩) (١١) ، أي : مع عبادي. وهذا ، في الحقيقة : ادخلي في عرض عبادي ، وفي جملتهم.

وأما (عن) فيكون [٨٧ / أ] على ثلاثة أضرب : يكون حرفا ، ويكون معناه لما عدا الشيء ،

__________________

(١) ٢٤ : سورة النور ٤٣.

(٢) ٥ : سورة المائدة ٦.

(٣) ٢ : سورة البقرة ١٨٧.

(٤) ٩٧ : سورة القدر ٥.

(٥) هو : أبو الهذيل ، زفر بن الهذيل بن قيس العنبري من تميم (ت ١٥٨ ه‍) ، صاحب الإمام أبي حنيفة ، كان فقيها حافظا ، ومحدثا ، غلب عليه الرأي. (الجواهر المضيئة ٢٤٣ ، ٢٤٤).

(٦) هو : الإمام نعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه (ت ١٥٠ ه‍) ، الفقيه الكوفي ، إليه ينسب الحنفية. (الجواهر المضيئة ٤٥١ ـ ٥١٨).

(٧) ٤ : سورة النساء ٢.

(٨) ٦١ : سورة الصف ١٤.

(٩) ٤ : سورة النساء ٢.

(١٠) ٢٠ : سورة طه ٧١.

(١١) ٨٩ : سورة الفجر ٢٩.

٢٢٩

منصرفا عنه. كقولك : رميت عن القوس ، لأنه تعداك إلى غيرك. ويكون عن : اسما ، بمعنى : الجانب.

وقد جاء ذلك في الشعر كثيرا. [قال الشاعر] :

٢١٨ ـ ولقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني ، مرّة ، وأمامي (١)

ف (عن) هاهنا : اسم ، لأنه دخل عليه (من) ومعناه : الجانب ، و (من) تختص بالأسماء. فثبت أنه اسم. ويكون (عن) بمعنى (بعد). قالوا في قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) (٢) ، أي : حالا ، بعد حال. [قال الشاعر] :

٢١٩ ـ بقيّة قدر ، من قدور تورّثت

من آل الجلاح ، كابرا بعد كابر (٣)

فاستعمل (بعد) مكان (عن) فثبت أنه بمعناه.

وأما (على) فلما عدا الشيء ، وصار فوقه. ويكون : اسما ، وفعلا وحرفا. فكونه اسما ، قولهم : جئت من عليه ، أي : من فوقه. [قال الشاعر] :

٢٢٠ ـ غدت من عليه ، بعد ما تمّ ظمؤها

تصلّ ، وعن قيظ ببيداء مجهل (٤)

أي : غدت من فوقه. أنشده سيبويه ، وأبو علي (٥). ويكون فعلا. قال الله تعالى : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)(٦). وقال : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ)(٧). فهذا فعل ، لأنك تقول : علا يعلو علوا. وكونه حرفا ، قولهم : زيد على الفرس ، أي : صار فوقه ، وعلاه.

وأما (ربّ) فهو حرف عندنا. وقال الكوفيون (٨) : بل هو اسم ، لأن نقيضه : كم. وكم : للعدد ، والكثرة ، فيكون اسما. وكذلك رب : للعدد ، والقلة. فكما أن ذاك اسم ، فكذا هاهنا.

وهذا الذي ذكروه : باطل. لأنا ، لم نحكم على كم بكونه اسما ، لما ذكروه ، وإنما حكمنا باسميته ، لأنه يدخل عليه حرف الجر ، كقولك : بكم رجل مررت. وتخبر عنه ، كقولك : كم مالك؟ كم : مبتدأ. ومالك : خبره.

وهذا المعنى معدوم في (رب). فيكون حرفا ، ولا يكون اسما. وهو للتقليل. ويختص بالنكرة. كقولك : رب رجل أكرمت. وتكون تلك النكرة موصوفة. ويكون (رب) مع المجرور منصوبا بفعل ظاهر ، أو مضمر ، كقولك : رب رجل يقول ذاك أكرمته فيكون (ذاك) في موضع

__________________

(١) البيت من الكامل ، لقطري بن الفجاءة ، في : شعر الخوارج ٤٥ ، وديوان الحماسة ١ : ٣٥ ، والخزانة ١٥٨ ، ١٦٠.

وبلا نسبة في : ابن عقيل ٢ : ٢٩ ، والأشمعوني ٣ : ٣٠٣ ، والمغني ١ : ١٤٩ ، ٢ : ٥٣٢ ، وهمع الهوامع ٢ : ٢٤١.

(٢) ٨٤ : سورة الانشقاق ١٩.

(٣) البيت من الطويل ، لم أهتد إلى قائله.

(٤) البيت من الطويل ، لمزاحم العقيلي ، في : اللسان (علا) ١٥ : ٨٨ ، والخزانة ٦ : ٥٣٥ ، ١٠ : ١٤٧ ، ١٥٠.

وبلا نسبة في : الكتاب ٤ : ٢٣١ ، والتحصيل ٥٧٣ ، والمقتضب ٣ : ٥٣ ، ومقاييس اللغة (علا) ٤ : ١١٦ ، وابن يعيش ٨ : ٣٨ ، والأشمعوني ٣ : ٣٠٤ ، وهمع الهوامع ٤ : ٢١٩.

(٥) المقتصد ٢ : ١٤٥.

(٦) ٢٣ : سورة المؤمنون ٩١.

(٧) ٢٨ : سورة القصص ٤.

(٨) الإنصاف (مسألة ١٢١) ٢ : ٨٣٢ ، والمغني ١ : ١٣٤.

٢٣٠

الجر صفة لرجل. والجار ، والمجرور في موضع النصب ب (أكرمته). كما أن الجار ، والمجرور [٨٧ / ب] في قوله تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ)(١) ، في تقدير : مرسلا إلى فرعون وملئه ، فكذا هاهنا. وأما قول [الشاعر] :

٢٢١ ـ ربّ رفد هرقته ذلك اليوم

وأسرى من معشر أقتال (٢)

ف (أسرى) موصوف بقوله : من معشر. وفي (معشر) ضمير انتقل إليه من المحذوف ، لأن (أسرى) معطوف على (رفد). فكما أن النكرة المجرورة ب (رب) تلزمه الصفة ، فكذا ، ما عطف عليه في حكمه. وتلزم (رب) صدر الكلام ، ولا يجوز تقديم ما عمل فيه عليه ، لأنه يشبه حرف النفي ، لما يتضمنه من التقليل. ويدخل على (رب) الهاء ، فيفسر بمفرد ، كقولك : ربه رجلا. وهذه الهاء فسّر بهذا المفرد ، كما فسر بالمفرد ، في (نعم) في : نعم رجلا زيد. ويدخل على رب (ما) ويكفه عن العمل في الاسم ، كقولك : ربما قال ذاك. قال الله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢) (٣). ف (ما) كافة ، هاهنا ، كفت (رب) عن العمل في الاسم. وليس كما زعم من زعم ، من غير تصريح باسمه (٤) ، إجلالا له : أنّ (ما) مصدرية ، وأنه مع الفعل بتأويل المصدر ، وأنه في موضع الجر ب (رب) لأنه قد قال خلاف ذلك ، في موضع آخر وفي ذكر هذا خلاف للإجماع ، لأنهم أجمعوا أن (ما) تدخل على (رب) فتكفه عن العمل. [قال الشاعر] :

٢٢٢ ـ ربّما تكره النفوس من الأمر ،

له فرجة ، كحلّ العقال (٥)

[وقال الآخر] :

٢٢٣ ـ ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات (٦)

وتقدير المصدر في هذه المواضع ، ممتنع. فافهمه.

وأما الباء ، فحرف جر ، وقد تقدم ذكرنا له ، وفي تحريكه ، وأقسامه ، وكذا اللام في باب البناء ، في أول الكتاب.

وأما الكاف ، فعلى ضربين : يكون حرفا ، ويكون اسما. فأما كونه حرفا ، فكقولك : جاءني الذي كزيد. فالكاف ، هاهنا : حرف ، لأنه صلة الذي. ولو كان الكاف اسما ، لجاز : جاءني الذي

__________________

(١) ٢٨ : سورة القصص ٣٢.

(٢) البيت من الخفيف ، للأعشى ، في : ديوانه ١٣ ، والمقتصد ٢ : ٨٣١ ، والأمالي ١ : ٩٠ ، ٢ : ٧ ، وابن يعيش ٨ : ٢٨ ، والخزانة ٩ : ٥٧٥ ، ٥٧٦.

الرفد : القدح. أقتال : جمع قتل ، بكسر القاف ، وهو العدو.

(٣) ١٥ : سورة الحجر ٢.

(٤) لم أهتد إلى معرفته.

(٥) البيت من الخفيف ، لأمية من أبي الصلت. في : ديوانه ٣٦٠ ، والكتاب ٢ : ١٠٩ ، ٣١٥ ، والتحصيل ٢٧٦ ، والخزانة ٦ : ١٠٨ ، ١١٣ ، ١١٥ ، ١١٩ ، ١٠ : ٩.

وبلا نسبة في : المقتضب ١ : ٤٢ ، وابن يعيش ٢ : ٤ ، والأشموني ١ : ١٦٤ ، وشرح شذور الذهب ١٣٢.

(٦) البيت من المديد ، لجذيمة الأبرش. في : الكتاب ٣ : ٥١٨ ، والتحصيل ٥١٩ ، والخزانة ١١ : ٤٠٤.

وبلا نسبة في : المقتضب ٣ : ١٥ ، وابن يعيش ٩ : ٤٠ ، وهمع الهوامع ٤ : ٢٣٠ ، ٤٠١.

٢٣١

مثل زيد ، وهذا لا يجوز ، لأن (مثلا) مفرد. والذي : لا يوصل بمفرد ، وإنما يوصل بجملة ، أو بظرف ، فقولك : كزيد ، في حكم الظرف ، لأنه جار ومجرور ، وكونه اسما ، [قول الشاعر] : [٨٨ / أ]

٢٢٤ ـ وصاليات ، ككما يؤثفين

 ... (١)

فالكاف الثانية : اسم. لأن الأولى دخلت عليه. وتكون الكاف زائدة ، كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٢). فالكاف زائدة على كل حال ، لأن المعنى : ليس مثله شيء. ولو كان غير زائدة. لكان المعنى : ليس مثل مثله شيء. وهذا كفر ، تعالى عما يقول الظالمون علو كبيرا. وقول [الشاعر] :

٢٢٥ ـ لواحق الأقراب فيها كالمقق (٣)

أي : فيها المقق. وليس التقدير : فيها شيء كالمقق ، لأن معناه : فيها طول ، أي : هي طويلة.

[قلت] : وتقول : ما زيد كعمرو ، ولا شبيه به ، ولا شبيها به. فإذا جررت ، صار التقدير : ما زيد كعمرو ، ولا كرجل شبيه به ، فاثبتّ له شبيها ، ونفيت الشبه عن ذلك الشبيه. وإذا نصبت ، نفيت عن زيد التشبيه ، لأنه محمول على موضع الجار والمجرور. وكأنك قلت : ما زيد مثل عمرو ، ولا زيد شبيها بعمرو فافهمه. فلو لم يكن فيه إلا هذا لكان كافيا.

باب مذ ومنذ

[قال أبو الفتح] : اعلم أن كل واحدة منهما ، يصلح أن يكون اسما رافعا ، وأن يكون حرفا جارا. والأغلب على (مذ) أن يكون اسما رافعا. والأغلب على (منذ) أن يكون حرفا جارا. فإذا كان معنى الكلام : بيني وبينه كذا ، فارفع بهما. تقول : ما رأيته مذ يومان ، و : ما زارنا منذ ليلتان.

وتقول : أنت عندنا مذ اليوم. و : ما فارقتنا منذ الليلة ، فتجر ، لأن معناه : في اليوم ، والليلة.

[قلت] : اعلم أن (منذ) و (مذ) ابتداء غاية ، في الأزمنة ، بمنزلة : (من) في الأمكنة. فلا يجوز (من) في الزمان ، كما لا يجوز (مذ) في المكان. لا تقول : جئتك مذ بغداد ، كما لا تقول : جئت من اليوم. فهذا للزمان ، خاصة ، كما أن ذلك للمكان.

[فإن قلت] : فقد قال الله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)(٤) ، فأدخل (من) على قوله : (أول) ، وهو (أفعل) مضاف إلى (يوم). وأفعل ، أبدا ، بعض ما أضيف إليه. فهو زمان ، فأدخل عليه (من). وهو خلاف قولك. [وقال الشاعر] :

__________________

(١) عجز بيت من السريع ، سبق ذكره رقم (٧)

(٢) ٤٢ : سورة الشورى ١١.

(٣) من الرجز ، لرؤبة ، وقبله في : قب من التعداء حقب في سوق وهو في : ديوانه ١٠٦ ، وابن عقيل ٢ : ٢٦ ، والخزانة ١٠ : ١٧٧ ، ١٨٤.

وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٤١٨ ، والإنصاف ١ : ٢٩٩.

(٤) ٩ : سورة التوبة ١٠٨.

٢٣٢

٢٢٦ ـ لمن الدّيار بقنّة الحجر

أقوين من حجج ، ومن دهر (١)

فحجج : سنون ، وهو زمان [٨٨ / ب] ، فأدخل (من) عليه.

[الجواب] : أما الآية ، فتقديره : من تأسيس أول يوم. فحذف المصدر في اللفظ ، وهو مراد في المعنى. و (من) داخل على ذلك المصدر. وكذا البيت :

 ...

أقوين من حجج ، ومن دهر

أي : من مرّحجج ، فحذف المضاف في اللفظ ، وهو مراد في المعنى. والشيء يحذف في اللفظ ، ويقدر في المعنى. ألا ترى أنه [قال الشاعر] :

٢٢٧ ـ أكلّ امرئ تحسبين امرءا

ونار ، توقّد بالليل نارا (٢)

وتقديره : وكلّ نار. فحذف في اللفظ ، وهو مراد في المعنى. لو لا ذلك ، لم يجز جر نار ، إذ [مر](٣) هناك. ولا يحمل على امرئ ، في قوله : أكلّ امرئ ، لأنه لا يجيز العطف على عاملين.

وفي حمله على امرئ : عطف على عاملين ، وكنا قديما ذكرنا ذلك.

ف (منذ) و (مذ) للأزمنة ، وإنما كان (مذ) أكثره مرفوعا ما بعده ، لأنه محذوف من (منذ).

والحذف في الأسماء أكثر منه في الحروف. ألا ترى أنّ مثل : إن في : إنّ. وكأن وريديه في : كأنّ.

ورب ، في : ربّ. وربما ، في : (ربما يودّ الذين كفروا) ، ليس مثل : أب ، ودم ، وغد ، وعصا ، ورحى ، وفريزد ، وفرازد. ومذ ومنذ ، إذا كانا اسمين كانا مرفوعين بالابتداء ، وما بعدهما : الخبر.

فإذا قلت : لم أره مذ يومان ، فالكلام : جملتان : إحداهما : لم أره ، جملة من فعل وفاعل. ومذ يومان : مبتدأ ، وخبر ، فهي جملة ثانية. وإذا كانا حرفين ، كانا جارين. فقولك : أنت عندنا مذ اليوم. أنت : مبتدأ. وعندنا : في موضع الخبر. ومذ اليوم : معمول (عندنا) يتعلق بالظرف. والتقدير : أنت مستقر عندنا في اليوم ، أو : من اليوم. فكما أن قولك : في اليوم ، لو ظهر كان معمولا للظرف ، ولم يكن جملة ، فكذا هاهنا ، لأنه بمنزلته ، وإذا كانا اسمين ، كانا يدلان على معنيين : أحدهما : انتظام أول الوقت ، وآخره ، كقولك : لم أره مذ يومان. أي : بيني وبينه هذا المقدار. فإذا كان كذلك ، كان ما بعدهما [٨٩ / أ] مبهمين دالين على العدد ، لا يجوز التوقيت ، مكان ذلك ، لأنك إذا قلت لم أره ، كأنه قيل لك : كم ذلك؟. فقلت : يومان. فكما أنّ جواب كم : مبهم معدود غير محصور ، فكذا ها هنا. وكذلك ، لو قال ، هاهنا : لم أره منذ جمعة ، جاز ، لأنّ الجمعة معدودة.

والمعنى الثاني ، في رفع ما بعدهما : أن يدل على أول الوقت ، حسب. وإذا كان كذلك ، كان ما بعدهما ، مؤقتين. تقول : لم أره منذ يوم الجمعة ، ومنذ يوم السبت ، فيدل هذا على أن انقطاع

__________________

(١) البيت من مرفل الكامل ، لزهير بن أبي سلمى ، في : ديوانه ١١٠ ، والإنصاف ١ : ٣٧١ ، وابن يعيش ٤ : ٩٣ ، ٨ : ١١ ، والخزانة ٩ : ٤٣٩ ، ٤٤١.

(٢) البيت من المتقارب ، لأبي دؤاد الإيادي ، في : الكتاب ١ : ٦٦ ، والتحصيل ٨٧ ، وابن يعيش ٣ : ٢٦ ، ٨ : ٥٢ ، ٩ : ١٠٥ ، والخزانة ٤ : ٤١٧ ، ٧ : ١٨ ، ٩ : ٥٩٢ ، ١٠ : ٤٨١.

وبلا نسبة في : همع الهوامع ٤ : ٢٩١.

(٣) الأصل غير واضح.

٢٣٣

الرؤية في أول هذا الوقت ، لأنه ، لما قلت : لم أره ، فكأنه قيل لك : من متى؟. فقلت : منذ يوم الجمعة. فهذا كله يدور في التقدير على سؤال السائل. وإذا قلت : لم أره منذ يومان ، فتقديره : أمد ذلك يومان. فأمد ذلك : مبتدأ. ويومان : الخبر. وإذا قلت : منذ يوم الجمعة ، فكأنه قال : أول ذلك يوم الجمعة. فافهم هذا ، فإنه من المشكلات ، ولم يوضحه لك أحد سوى أبي بكر بن السري ، رحمه الله ، ونقل عنه لفظه ، بعينه فارسهم في الإيضاح (١).

وأما إذا كانا حرفين ، فهما يدلان على أول الوقت. ويقدر تقدير : (من) أو تقدر (في).

وزعم قوم أنهما ، إنما يجران ، لأنهما اسمان مضافان إلى ما بعدهما (٢). فما بعدهما : مجرور بالإضافة ، لا لأنهما حرفان ، بل هما اسمان مضافان إلى ما بعدهما. فقيل لهم : أو يضاف المبني؟! فقالوا : نعم.

قال عز من قائل : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(٣) ، فأضاف (لدن) إلى (حكيم). وهو مبني ، فكذا : مذ ومنذ : يضافان ، وهما مبنيان.

وهذا الكلام ، لم يرضه أبو سعيد ، رحمه الله ، وقال : إن معنى هذا الكلام يعني : أنت عندنا مذ اليوم ، أي : في اليوم ، و (في) حرف.

فكذا ما قام مقامه ، وأفاد معناه.

[قال أبو الفتح] : و (منذ) مبنية على الضم. و (مذ) مبنية على الوقف. فإن لقيها بعدها ساكن ، ضمت الذال ، لالتقاء الساكنين. تقول : منذ اليوم ، ومذ الليلة ، فحذفت النون تخفيفا.

[قلت] : (مذ) و (منذ) إذا كانا حرفين فلا إشكال في بنائهما [٨٩ / ب] لأن الحروف مبنية.

وكان حق (منذ) أن يبنى على السكون ، لكن عدل عنه ، لالتقاء الساكنين ، واختير الضم من الحركات ، إتباعا للميم. ولا يعتد بالنون ، حاجزا حصينا ، كما لا يعتد بحروف المد واللين. فكما أنهم قالوا في اسم الفاعل من (أنتن) منتن ، ومنتن ، فضموا التاء ، تبعا للميم ، ولم يعتدوا بالنون ، حاجزا ، فكذا هاهنا. وقال بعضهم : منتن ، فكسر الميم ، تبعا للتاء ، ولم يعتد بالنون ، حاجزا ، وقالوا في : أجيئك : أجؤك. [قال الشاعر] :

٢٢٨ ـ رحلت سميّة ، غدوة ، أجمالها

غضبى عليك. فما تقول بدالها (٤)

فلزم فتحة اللام إلى آخر القصيدة ولم يعتد بالهاء ، حاجزا ، فكأنه قدر : أجمالا ، وبدالا ، فكما أن قبل الألف مفتوح ، فكذا (أجمالها) و (بدالها) و (زال زوالها) فتح من غير اعتداد بالهاء ، كما اعتد به الآخر في قوله :

٢٢٩ ـ كتائب يردي المقرفين نكالها

 ... (٥)

فضم ، ولم يفتح ، إلى آخر القصيدة. وقالوا : ردّ ، و : ردّ ، و : ردّ ، فاستجازوا : الفتح ، والضم ، والكسر. ثم يقولون : ردّه ، بالضم ، لا غير ، و : ردّها ، بالفتح ، لا غير. فضموا مع المذكر ،

__________________

(١) المقتصد ٢ : ٨٥٣.

(٢) الإنصاف (مسألة ٥٦) ١ : ٣٨٢ ، والمغني ١ : ٣٣٥.

(٣) ١١ : سورة هود ١.

(٤) سبق ذكره رقم (٦٠)

(٥) صدر بيت من الطويل ، لم أهتد إلى قائله.

٢٣٤

كأنّ الهاء معدومة ، وكأنه يقول : ردّوا ، وقالوا : ردّها ، بالفتح ، كأنهم يقولون : ردّا ، ولا اعتداد بالهاء. فقول من قال : زرّه ، و : زرّه ، و : زرّه ، خطأ لا يجوز. فكيف يورد في الفصيح ، وهو لحن.

فكما أنهم لم يعتدوا بالهاء في هذا ، لم يعتدوا بالنون في (منذ) و (منتن) فضموا.

وأما إذا كانا اسمين ، فإنهما بنيا لتضمنهما معنى (من) و (إلى) إذا كان ما بعدهما مبهمين. أو (من) وحدها ، إذا كانا لأول الوقت. فكما أن (كم) و (من) بنيا لتضمنهما معنى [الحرف](١) ، فكذا هاهنا.

وتقول : لم أره مذ قيامك ، ومذ قام زيد ، ومذ أنّ الله خلقني ، ومذ قدم زيد. فتوقع الفعل ، والمصادر ، هاهنا. فيزعم الفارس (٢) : أن المبتدأ مراد. والتقدير : مذ يوم قدم فلان ، ومذ وقت قيامك ، فحذف. وابن السري يزعم : أن (مذ قام) إنما جاز ، لدلالة الفعل على الزمان. والأول أوجه. ولا تقول : ما رأيته مذ عبد الله ، لأنه ليس بزمان. وقالوا : مذ الحجاج الخليفة. لأن وقته معلوم ، أي : مذ زمن الحجاج. وتقول : ما رأيته مذ يوم الجمعة ، ويوم السبت ، تنصب (يوم السبت) بالحمل على موضع (مذ) إذ موضعه [٩٠ / أ] منصوب على الظرف. قال : و (مذ) إن لقيها ساكن ، ضمت الذال ، لأن أصله (منذ). والحرف إذا كان له أصل في الحركة ، ثم سكن ، ثم احتيج إلى تحريكه ، روجع الأصل ، وردّ إليه ما كان في الأصل. ألا ترى أنه يقال : ذهبتم الآن في : ذهبتم ، فتضم الميم ، لالتقاء الساكنين ، لأن أصله (ذهبتمو) فكذا هاهنا. ولهذا قرأ الأكثرون : (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)(٣) ، بضم الميم ، لأن أصل (عليهم) (عليهمو) فردّه عند التقاء الساكنين إلى الضم. فأما قراءة أبي عمرو : (عليهم الذّلّة) ، بكسر الميم (٤) ، فليس على أنه اعتقد في (عليهم) أن أصله (عليهمي) فسترى ذلك إن شاء الله تعالى.

باب حتى

اعلم أن (حتى) من عوامل الأسماء ، دون الأفعال. وعملها في الأسماء : الجر ، إذا كانت للغاية.

نحو قولك : أكلت السمكة حتى رأسها ، أي : إلى رأسها ، قال الله تعالى : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) (٥). ف (حتى) في هذه الآية : حرف جر. ولا بد لها من شيء يتعلق بها. وليس في الكلام لها متعلق إلا شيئان : أحدهما : قوله : سلام. والآخر (هي). ولا يسهل تعلقه بسلام ، لأن (سلاما) مصدر ، ولا يتعلق بالمصدر شيء ، وقع الفصل بينه وبين المصدر. وهي : مبتدأ. وسلام : خبره. وقد وقع (هي) بينه وبين ما يتعلق به ، فلا يسهل ذلك ، ولا يتعلق ب (هي) إذ لا يصح : هي حتى مطلع الفجر ، لأنه لا معنى للفعل فيه. ولكن ، لما كان قوله : (سلام) : مصدرا ، بمعنى :

__________________

(١) الأصل غير واضح.

(٢) أي : أبو علي ، الفارسي. المقتصد ٢ : ٨٥٥.

(٣) ٢ : سورة البقرة ٦١.

(٤) الحجة ـ لأبي علي ١ : ٤٣ ، والمحتسب ١ : ٢٣٢ ، والتيسير ١٩ ، وغيث النفع ٥١.

(٥) ٩٧ : سورة القدر ٥.

٢٣٥

مسلّمة هي : جاز تعليق (حتى) به ، لأنه لو ظهر اسم الفاعل ، تعلق به (حتى). فكذا ، إذا قام مقامه (سلام). ومجيء المصدر بمعنى الفاعل ، كثير جدا. قال الله تعالى : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً)(١) ، أي : غائرا. وقال في عكسه :

٢٣٠ ـ ...

ولا خارجا ، من فيّ ، زور كلام (٢)

وقالت العرب : سواء درهمه ، وديناره. كما تقول : مستو درهمه ، وديناره. فعومل (سواء) معاملة (مستو). قال الله تعالى : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ)(٣). كما تقول : مستو محياهم ومماتهم.

وقال : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)(٤) ، أي : مستو. فصح قولنا : إنّ سلاما : مصدر بمعنى الفاعل ، فاستجيز تعليق (حتى) به ، وإن وقع [٩٠ / ب] الفصل ، كما يستجاز مع الفاعل.

وقد تأتي (حتى) فتعطف ما بعدها على ما قبلها. وذلك إذا كان ما بعدها ، مخرجا مما قبلها ، تحقيرا ، أو تعظيما. تقول : قدم الحاجّ ، حتى المشاة. وقدم الناس ، حتى الأمير. ولو قلت : رأيت القوم ، حتى فرسا ، لم يجز ، لأنه ليس من جنس ما قبله. قال سيبويه (٥) : ولو قلت : لم أذهب حتى أقل ، لم يجز ، كما جاز : لم أذهب فأقل ، لأن القول ليس من الذهاب في شيء.

وتأتي (حتى) وما بعدها : مبتدأ وخبر. تقول : مررت بالقوم حتى زيد ممرور به. فزيد : مبتدأ ، وما بعده : الخبر. [قال الشاعر] :

٢٣١ ـ سريت بهم ، حتى تكلّ جيادهم

وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (٦)

فجياد : مبتدأ. ويقدن : خبره. وما : زائدة. فأما قوله :

٢٣٢ ـ ألقى الصّحيفة ، كي يخفف رحله

والزّاد ، حتّى نعله ألقاها (٧)

فقد جوز فيه الجر ، كما جاء : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) وجوز فيه : الرفع ، كما جاء :

 ...

وحتى الجياد ما يقدن ...

وجوّز فيه : النصب ، بالعطف على الزاد. وكما جاء : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ)(٨) ، وذلك ، لأن العربي ، إذا شغل الفعل عن المفعول بضميره ، استجاز رفع المفعول بالابتداء ، ونصبه بإضمار

__________________

(١) ١٨ : سورة الكهف ٤١.

(٢) عجز بيت من الطويل ، سبق ذكره رقم (١٥٢).

(٣) ٤٥ : سورة الجاثية ٢١.

(٤) ٢٢ : سورة الحج ٢٥.

(٥) الكتاب ٣ : ٢٣.

(٦) البيت من الطويل ، لامرئ القيس ، في : ديوانه ٩٣.

وبلا نسبة في : الأشموني ٤ : ٤٣٧ ، وهمع الهوامع ٥ : ٢٥٩.

(٧) البيت من الكامل ، للمتلمس ، في ملحق ديوانه ٤٢٧ ، ولابن مروان النحوي في الكتاب ١ : ٩٧ ، أو مروان النحوي في الكتاب ١ : ٩٧ (هامش ٢ ـ هارون) ، ولأبي مروان النحوي في الخزانة ٣ : ٢١ ، ٢٤ ، ٣ : ٤٧٢.

وبلا نسبة في : التحصيل ١٠٤ ، وابن يعيش ٨ : ١٩ ، والأشموني ٣ : ٢٣١ ، وهمع الهوامع ٤ : ١٧١ ، ٥ : ٢٥٩.

(٨) ٣٦ : سورة يس ٣٩.

٢٣٦

فعل. فمن قال : (والقمر قدّرناه) ، بالرفع (١) ، فهو : مبتدأ وخبر. ومن قال : (والقمر قدرناه) ، بالنصب ، فالقمر : منصوب بإضمار فعل يفسره (قدرناه) كأنه قال ، مثلا : وقدرنا القمر ، فأضمر (قدرنا) استغناءا عنه ، بقوله : (قدرناه).

والاختيار ، في مثل هذا ، الرفع. والنصب جائز حسن. فأما إذا كان هذا المفعول الذي شغل الفعل بضميره ، بعد جملة من فعل ، وفاعل ، نحو قولك : قام زيد ، وعمرا ، كلمته ، فالاختيار فيه : النصب. والرفع جائز. وإنما اختير النصب ، لإضمار فعل معطوف على ما تقدم من الفعل ، والفاعل ، ليكون موافقا له ، ومطابقا. فعلى هذا : والزاد ، حتى نعله ..... تنصب (نعله) ب (ألقى) مضمرة ، فيكون موافقا لقوله : ألقى الصحيفة. واستغنى عنها ، بقوله : ألقاها. ونظير ذلك في التنزيل : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ)(٢). فنصب (الظالمين) بإضمار فعل ، دل عليه : (أعد لهم عذابا) ، فكأنه قال : ويعذب الظالمين [٩١ / أ] فيكون محمولا على (يدخل).

[قال الشاعر] :

٢٣٣ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ، ولا

أملك رأس البعير ، إن نفرا

والذّئب أخشاه ، إن مررت به

وحدي. وأخشى الرّياح ، والمطرا (٣)

فنصب (الذئب) بإضمار فعل فسره (أخشاه). ولو رفع (الذئب) لم ينكسر البيت ، لكنه نصبه ، لأن قبله :

 ...

ولا أملك رأس البعير ....

فعلى هذا تصرّف (حتى) في الأسماء.

فأما دخولها في الأفعال ، فعلى ضربين ، أعني إذا دخلت على المضارع ، ونصبته ، كانت بمعنى (إلى أن) وبمعنى (كي). على ما ذكره أبو الفتح. قال الله تعالى (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(٤) وقال : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)(٥). فنصب بإضمار (أن). و (أن) مع ما بعده ، في تقدير المصدر : مجرور ب (حتى). فأما من قرأ (٦) : (حتّى يقول الرسول) فإن رفع الفعل بعد (حتى) إنما يكون ، إذا كان ذلك الفعل بمعنى الماضي ، أو بمعنى الحال. تقول : سرت حتى أدخلها فله معنيان : سرت حتى

__________________

(١) وهي قراءة : ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وروح. مجمع البيان ٨ : ٤٢٣ ، والنشر ٢ : ٣٥٢.

(٢) ٧٦ : سورة الإنسان ٣١.

(٣) البيتان من المنسرح ، للربيع بن ضبع الفزاري ، في : الكتاب ١ : ٨٩ ، ٩٠ ، والتحصيل ١٠٢ ، وأمالي المرتضى ١ : ٢٥٥ ، ٢٦٥.

وبلا نسبة في : المحتسب ٢ : ٩٩ ، وهمع الهوامع ٤ : ٢٨١.

(٤) ٢ : سورة البقرة ٢١٤.

(٥) ٤٧ : سورة محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ٤.

(٦) وهو : نافع. النشر ٢ : ٢٢٧ ، وإتحاف الفضلاء ١٥٧.

٢٣٧

دخلتها ، وسرت أدخلها الآن. ويكون الدخول موجب السير. ولو قلت : سرت حتى أدخلها ، بالنصب ، فالسير واقع ، والدخول لم يقع. فالرفع في : (حتى يقول الرسول) ، إنما هو على المضي.

أي : وزلزلوا حتى قال الرسول. ويكون على المعنى الآخر ، على حكاية الحال ، أي : وزلزلوا حتى بلغ حال الرسول إلى هذا. فأبدا لا يخلو ما بعد حتى عما ذكرنا. وتقول : سرت حتى تطلع الشمس ، بالنصب ، لا غير ، لأن طلوع الشمس ، ليس موجب السير. [وتقول] سرت حتى أدخلها ، بالرفع ، وتطلع الشمس. لم يجز إلا رفع (تطلع). ترفع (تطلع) عطفا على قوله : أدخلها.

فإن قلت : حتى أدخلها ، وحتى تطلع الشمس ، جاز نصبه لظهور (حتى) الدالة على (أن) المضمرة. ولو قلت : ما سار زيد حتى يدخلها ، بالرفع ، لم يجز عندنا ، لأن السير لم يقع ، فلا بد من نصب ما بعد (حتى).

والأخفش (١) يجيز الرفع ، ويحمل النفي على الإثبات. وليس بالصواب ، لأن النفي يخالف الإثبات ، فلا يقاس عليه. فإن قلت : أين سار زيد حتى يدخلها ، جاز الرفع ، لأن السير واقع. ولو قلت : أسار حتى يدخلها ، لم يجز الرفع ، لأن [٩١ / ب] السير غير واقع. ولو قلت : [قلما](٢) سرت حتى أدخلها ، لم يجز بالرفع ، لأن (قلما) نفي ، بدليل قولك : قل رجل يقول ذاك إلا زيد.

ولو قلت : إنما سرت حتى أدخلها ، جاز الرفع ، لأنه سير محقق. ولو حملت إنما على النفي ، والإثبات ، كأنك قلت : ما سرت إلا لهذا ، كان نفيا. ولو قلت : كان سيري حتى أدخلها ، وكانت (كان) ناقصة ، لم يجز رفع ما بعد (حتى) لأنه يبقى (كان) بلا خبر. وإنما يبقى (كان) بلا خبر ، لأنها إذا رفع (أدخلها) آذن بتمام الكلام قبله ، فلا يكون خبرا لكان. فإن كان (كانت) تامة ، جاز رفع : يدخلها ، لأن السير أوجبه. ولو قلت : كان سيري أمس حتى أدخلها ، وجعلت (أمس) خبر (كان) جاز الرفع. ولو علقته بنفس سيري ، كان فيه التفصيل من النقصان ، والتمام. فاعرف هذا ، فإنه مشكل ، ولا يعرفه إلا من أخذه من أفواه الرجال.

باب الإضافة

[قال أبو الفتح] : وهي ، في الكلام ، على ضربين : أحدهما : ضم اسم إلى اسم ، هو غيره ، بمعنى اللام. والآخر : ضم اسم إلى اسم ، هو بعضه ، بمعنى (من). الأول منهما نحو قولك : هذا غلام زيد ، أي : غلام له. وهذه دار عبد الله ، أي دار له. والثاني نحو قولك : هذا ثوب خز ، أي ثوب من خزّ. وهذه جبة صوف ، أي : جبة من صوف.

[قلت] : الإضافة ، كما ذكر ، قسمان : أحدهما : بمعنى اللام ، يكون الأول غير الثاني. والآخر : بمعنى (من) يكون الأول بعض الثاني ، ويقع عليه اسم الثاني. فالأول على ضربين : أحدهما ، أن تكون فيه الإضافة محضة. والآخر : غير محضة. فالأول أيضا ، قسمان : أحدهما : أن يكون المضاف غير ظرف. والآخر : ظرف. فالأول : قولك : غلام زيد. والتقدير : غلام لزيد. فحذف التنوين ،

__________________

(١) المغني ١ : ١٢٦. وفيه : (أجاز الأخفش الرفع بعد النفي على أن يكون أصل الكلام إيجابا).

(٢) في الأصل : قل ما.

٢٣٨

وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهما لا يجتمعان ، لأن التنوين مقطع الاسم ، وتمامه. والمضاف إليه بعض المضاف ، ومن تمامه ، فلا يدخل التنوين بينهما ، لأن التنوين يفصل بينهما والفصل بينهما ممتنع [٩٢ / أ] إلا في ضرورة الشعر. [قال الشاعر] :

٢٣٤ ـ لمّا رأت ساتيد ما استعبرت

لله درّ ، اليوم ، من لامها (١)

أي : در من لامها اليوم. [وقال الآخر] :

٢٣٥ ـ كأنّ أصوات ، من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس ، أصوات الفراريج (٢)

أي : كأن أصوات أواخر الميس. ففصل للضرورة. فأما في غير الضرورة ، فالفصل ممتنع.

وقراءة ابن عامر : (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٣) ، بإضافة (قتل) إلى (شركائهم) مع الفصل بالمفعول ، لم يستحسنوه (٤) ، لما ذكرناه. وأما الظروف ، فقولك : خلف زيد ، وعند بكر. تقديره : خلفا لزيد ، فهو بمعنى اللام. فإن قلت : فإن الاسم ، إذا تضمن معنى الحرف ، وجب بناؤه. فلم لم يبن هاهنا ، وقد تضمن معنى اللام؟!.

قلنا : إن الاسم ، إنما يبنى ، إذا تضمن معنى الحرف ، ولم يجز إظهار الحرف معه. وهاهنا ، إظهار اللام جائز. فقولنا : غلام زيد ، أي : غلام لزيد ، ومعناهما واحد ، وكلاهما في اللفظ سائغ.

فاعرفه.

والأسماء المتضمنة للحروف ، على ثلاثة أقسام : قسم يتضمن معناها ، ولا يظهر معها ، فيبنى لتضمنه معنى الحرف. مثل (من) و (كم) فتضمنتا معنى (الهمزة). ولو أظهرت (الهمزة) لم يجز. وقسم ثان ، وهو : أن يكون الاسم معدولا عن اسم آخر ، نحو : سحر ، فهو معدول عن (السّحر) باللام. فهذا لا يبنى ، لأن (سحر) اللام فيه مراد ، كما في المعدول عنه ، ظاهر. فهو في اللفظ غير منطوق به ، ولكنه في التقدير مراد. لو لم يكن مرادا ، لم يكن معدولا ، لأن العدل هو أن تلفظ ببناء ، وتريد آخر. وإذا كان تقديره بمنزلة الثبات ، لم يجب بناؤه.

وقسم ثالث : وهو الإضافة ، والظروف ، وغير ذلك. نحو : غلام زيد ، وجلست خلفك ، وقمت اليوم. لو أظهرت الحرف ، جاز. ولو لم تظهر ، جاز. فهذا معرب غير مبني ، أيضا ، فافهمه.

والقسم الثاني ، من الأول ، وهو الإضافة التي ليست بمحضة ، وهو ينقسم أربعة أقسام :

__________________

(١) سبق ذكره رقم (١٩).

(٢) البيت من البسيط ، لذي الرمة ، في : ديوانه ٢ : ٩٩٦ ، والكتاب ١ : ١٧٩ ، ٢ : ١٦٦ ، ٢٨٠ ، والتحصيل ١٤٤ ، والخصائص ٢ : ٤٠٤ ، والإنصاف ٢ : ٤٣٣ ، والخزانة ٤ : ١٠٨ ، ٤١٣ ، ٤١٩. وبلا نسبة في : ابن يعيش ٣ : ٧٧.

(٣) ٦ : سورة الأنعام ١٣٧. السبعة ٢٧٠ ، وحجة القراءات ٢٧٣.

(٤) فقد رد هذه القراءة جمع من العلماء ، منهم : النحاس ، والزمخشري ، وابن عصفور ، الخصائص ٢ : ٤٠٧ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٥٨٢ ، والكشاف ٢ : ٥٤ ، ومجمع البيان ٤ : ٣٧٠ ، وتفسير القرطبي ٧ : ٩١ ، والنشر ٢ : ٢٦٣ ، وينظر : أثر القرآن والقراءات في النحو العربي ٣٢٣.

٢٣٩

[الأول] : اسم الفاعل ، إذا كان بمعنى الحال ، أو الاستقبال ، إذا أضفته إلى ما بعده ، كانت إضافته غير محضة ، كقولك : هذا ضارب زيد غدا ، وضارب زيد الآن ، فهذه الإضافة في تقدير الانفصال. وكأنك ، قلت : هذا ضارب [٩٢ / ب] زيدا ، ولو لا ذلك لكانت معرفة ، ولو كانت معرفة ، لم تجر وصفا على النكرة ، في نحو قوله تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)(١) ، لأن النكرة ، لا توصف بالمعرفة. ولم يجز نصبه على الحال ، في نحو قوله ، عز ، وجل : (ثانِيَ عِطْفِهِ)(٢) ، لأن الحال ، لا تكون معرفة. ولم تدخل عليه (رب) في نحو [قول الشاعر] :

٢٣٦ ـ يا ربّ غابطنا ، لو كان يعرفنا

لاقى مباعدة منكم ، وحرمانا (٣)

لأن (رب) لا تدخل إلا على النكرة. ولم تدخل عليه الألف ، واللام ، في نحو قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ)(٤) ، لأن الألف ، واللام لا تجتمع مع الإضافة. فهذه الأشياء تدل على أنّ الإضافة ، في اسم الفاعل الذي معناه الحال ، والاستقبال : غير محضة.

فأما إذا كان اسم الفاعل بمعنى الماضي ، فإضافته محضة عندنا ، وإعماله فيما بعده ممتنع.

نحو : هذا ضارب زيد أمس ، لو قلت : ضارب زيدا أمس ، لم يجز عندنا (٥) ، خلافا للكوفي ، إلا على حكاية الحال ، نحو قوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)(٦). فأعمل (باسطا) في (ذراعيه) وهو ماض ، لأنه يحكي الحال ، كقوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ)(٧). والعلة في امتناع إعمال (فاعل) إذا كان ماضيا ، وجوازه إذا كان مستقبلا ، أو حالا : علة معلومة. وهو : أن الفعل لما أشبه الفاعل ، أعرب. ف (الفاعل) أيضا ، أعمل ، إذا كان بمعنى المضارع. وهذا المعنى معدوم في الماضي. ولأن (يضرب) و (ضاربا) سيان في الحركات ، والسكنات. فجاز إعماله ، كما جاز إعراب (يضرب).

[والثاني] : من الإضافة التي ليست بمحضة : الصفة المشبهة باسم الفاعل ، نحو قولك : مررت برجل حسن وجهه ، إذا أضفت (حسنا) إلى الوجه ، فقلت : مررت برجل حسن الوجه. فإضافة (حسن) إلى الوجه ، غير محضة. لأن (حسنا) أشبه (الفاعل) ، فكما أن (الفاعل) الذي معناه المضارع ، إضافته غير محضة ، فكذا هاهنا. وأنت إذا قلت : مررت برجل حسن وجهه ، جررت (حسنا) صفة لرجل ، ورفعت (وجهه) ، لأنه فاعل (حسن). وكأنك قلت : مررت برجل يحسن وجهه. وإذا قلت : مررت برجل حسن الوجه ، ففي (حسن) ضمير يعود إلى (رجل). [٩٣ / أ] والوجه : جر بالإضافة ، وإضافته غير محضة ، لأنك لو قلت : مررت بالرجل الحسن الوجه ، وإدخال

__________________

(١) ٤٦ : سورة الأحقاف ٢٤.

(٢) ٢٢ : سورة الحج ٩.

(٣) البيت من البسيط لجرير في ديوانه ٥٩٥ ، والكتاب ١ : ٤٢٧ ، والتحصيل ٢٣٧ ، والمقتضب ٤ : ١٥٠ ، واللسان (عرض) ٧ : ١٧٤.

(٤) ٢٢ : سورة الحج ٣٥.

(٥) أي : عند البصريين ، فهو لا يعمل إلا في : الحال ، والاستقبال. ينظر : الأصول ١ : ١٤٨.

(٦) ١٨ : سورة الكهف ١٨.

(٧) ٢٨ : سورة القصص ١٥.

٢٤٠