أبي الفتح عثمان بن جنّي
المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠
وكذلك بيت حاتم :
١٧٧ ـ وأغفر عوراء الكريم ، |
|
ادخاره ... (١) |
حجة عليه.
[فإن قلت] : أكثر ما في هذا أن المصدر [٧١ / أ] مضاف والإضافة قد يجوز أن يكون في تقدير الانفصال ، كما هو في اسم الفاعل ، نحو قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) (٢) وقوله : (عارِضٌ مُمْطِرُنا)(٣). وقوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ)(٤) [الجواب] : أنّ هذا في اسم الفاعل جائز. ولا يجوز في المصدر ؛ لأن اسم الفاعل يجري على الفعل ، ويشبهه في حركاته ، وسكناته. فالإضافة فيه ، إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال في تقدير الانفصال. فأما المصدر ، وإن كان يعمل بشبه الفعل ؛ فإنه اسم غير جار على الفعل ، لا في حركاته ، ولا في سكناته. ثم هذا الكلام لا يصح من أبي عمر ؛ لأنه قد [قال الشاعر] :
١٧٨ ـ فليت لي بهم قوما إذا ركبوا |
|
شدوا الإغارة ، فرسانا ، وركبانا (٥) |
فنصب الإغارة ؛ لأنه مفعول له. وهو معرفة. ولا يكون منصوبا بشدوا ؛ لأن (شدوا) لازم. ومعناه : وثبوا. كقوله :
١٧٩ ـ وأنذر إن لقيت بأن أشدّا |
|
... (٦) |
فافهمه.
والمفعول له ، وإن كان مصدرا ؛ فإنه لا يجوز أن يقوم مقام الفاعل ، كما جاز ذلك في سائر المصادر. لا تقول : جيء ابتغاء الخير. كما تقول : سير عليه سير شديد والأخفش يجيز ذلك.
وليس بالسهل ؛ لقلة تصرف هذا الباب ؛ فلا يجوز قياسه على سائر المصادر ، ولا على الظروف ؛ لأن الظروف قد اتّسع فيها. وأجيز فيها ما لا يجوز في الأسماء الصريحة. ألا ترى أنه فصل بها بين العامل ، والمعمول في نحو قولهم : كان فيك زيد راغبا. وإن في الدار زيدا. وقالوا : كلّ يوم لك ثوب.
باب المفعول معه
[قال أبو الفتح] : وهو : كلّ ما فعلت معه فعلا. وذلك نحو قولك : قمت وزيدا. أي : مع زيد. واستوى الماء والخشبة. أي : مع الخشبة وجاء البرد والطيالسة. أي : مع الطيالسة. وما زلت أسير والنيل. أي مع النيل. ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها. إي : مع فصيلها.
[قلت] : الواو في قولك : قمت وزيدا. وقولك : ما صنعت وأباك : هي التي جاءت ،
__________________
(١) صدر البيت من الطويل ، سبق ذكره رقم (١٧٦)
(٢) ١ : سورة الفاتحة ٤.
(٣) ٤٦ : سورة الأحقاف ٢٤.
(٤) ٢٢ : سورة الحج ٩.
(٥) البيت من البسيط ، لقريط بن أنيف العنبري ، في : ديوان الحماسة ١ : ٥ ، واللسان (ركب) ١ : ٤٢٩ ، والخزانة ٦ : ٢٥٣.
(٦) البيت من الوافر ، لم أهتد إلى قائله.
وعدّت : (صنعت) و (قمت) إلى المنصوب ؛ كما عدّت الباء (مررت) إلى زيد ، وعدّت (إلّا) قام القوم إلى الاسم الذي بعده. وإذا كان كذلك ، فقول أبي إسحاق إن قولهم : ما صنعت وأباك : منصوب بفعل مضمر ، على تقدير : ما صنعت ولا بست أباك : قول فاسد. لأن انتصاب الاسم إذا أمكن حمله على الظاهر ، لا يحمل على المضمر. وقول الأخفش : إنّ انتصاب الاسم إنما هو بحذف (مع) وإقامة الواو مقامه ؛ باطل بقوله : كل رجل وضيعته ، وأنت أعلم ومالك. فإن هذا ، ونحوه : الواو فيها بمعنى (مع) والاسم غير منصوب. فثبت قول سيبويه (١). وإنّ الاسم منصوب بالفعل الواقع قبله بتقوية الواو. وإنما نصب الاسم في قولك : قمت وزيدا ، ولم يرفع بالحمل على التاء. لأن التاء فاعل. وقد جرى من الفعل مجرى أحد أجزائه ؛ فلم يحسن العطف عليه ، كما لا يحسن العطف على نفس الفعل ؛ ولأنه لو عطف على الأول بالواو لم يفهم منه من معنى المصاحبة ما فهم منه الآن. لأن الواو للشركة ، والجمع دون القران. فقولك : قمت وزيدا يراد منه المصاحبة والقران. وكذلك : جاء البرد والطيالسة ، يراد : القران والمصاحبة ، دون محضية الجمع.
وقولهم : استوى الماء والخشبة : يراد منهما تساويهما ، دون الجمع والشركة المجردة من القران.
وكذلك ما زلت أسير والنيل ، على هذا.
فإن قلت : فإنّ (استوى) يقتضي فاعلين. كقولك استوى زيد وعمرو ، وليس في قولك : استوى الماء والخشبة ، فاعلان ، فإنّ استوى قد جاء ، ولا يكون مسندا إلى فاعلين. قال الله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) (٢) وقال (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) (٣) ولا أجعل الواو ، في قوله : (وهو) عطفا على الضمير في (استوى) لأنه لم يؤكده ، ولم يقل (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) (٦) هو ، حتى يجيء : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) على أنّ قولهم : استوى الماء والخشبة محمول على المعنى من تساويهما ، كما قالوا : حسبك ينم الناس. فجزموا (ينم) لما كان (حسبك) بمعنى : اكتف. فكذا ، هاهنا.
وقد جاء المفعول معه في أشياء غير هذا. قالوا [٧٢ / أ] ما شأنك وزيدا ؛ أي مع زيد. أي ، ما شأنك مع زيد على تقدير : ما شأنك ملابسا زيدا ؛ فهو منصوب بمضمر. وقالوا : ما أنت وزيدا ؛ أي : مع زيد. و : كيف أنت وزيدا. قال (٤) : لأن التقدير : ما كنت وزيدا ، وكيف كنت وزيدا ؛ فكثر استعمال (كان) هناك فأضمروه. [قال الشاعر]
١٨٠ ـ فما أنا ، والسير في متلف |
|
يبرّح بالذكر الضابط (٥) |
وإنما نصب : ما شأنك وزيدا ، لأنك لو عطفت ، وجررت ؛ كنت عطفت المظهر على
__________________
(١) الكتاب ١ : ٣٩٣. ونصبه" قولك : كل رجل ، وضيعته ، (الواو) في معنى : مع".
(٢) ٢٠ : سورة طه ٥.
(٣) ٥٣ : سورة النجم ٦ ، ٧.
(٤) يعني : سيبويه. الكتاب ١ : ٣٠٢ ، ٣٠٣.
(٥) البيت من المتقارب ، لأسامة بن الحارث ، الهذلي ، في ديوان الهذليين ٢ : ١٩٥ ، والتحصيل ١٩٦ ، وابن يعيش ٢ : ٥٢ ، واللسان (عبر) ٤ : ٥٣٢.
المضمر المجرور. وذا عندنا باطل. وستراه إن شاء الله.
وقالوا : إنّك ما وخيرا ؛ أي : إنك مع خير. ف (ما) صلة ، والخبر مستغنى عنه ؛ لطول الكلام ، ولكون الواو بمعنى مع ، كقولهم : كلّ رجل وضيعته. على تقدير : كل رجل وضيعته مقرونان.
ويجوز أن يكون قوله (وضيعته) في موضوع الخبر. على تقدير كل رجل مع ضيعته. أي : كائن مع ضيعته. فأمّا قوله تعالى (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ف (المصدقين) : اسم (إنّ). ولا تكون (والمصدقات) عطفا عليه ؛ لأن قوله (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً)(١) : معطوف على ما في الصلة. والتقدير : إن الذين تصدقوا ، وأقرضوا الله. أو : إن الذين صدّقوا وأقرضوا الله.
وإذا كان على هذا التقدير ؛ لم يجز عطف (والمصدقات) على (المصدقين) لأنه يكون فصلا بين بعض الصلة ، وبعضها. وما كان معطوفا ، كان في الصلة ؛ فلا يعطف على الموصول ، وقد بقي من صلته شيء. ألا ترى أنّ قوله تعالى (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ)(٢). لا يكون منصوبا بالعطف على قوله : (ذَوِي الْقُرْبى) من قوله (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى)(٣) ؛ لأنه لو كان معطوفا عليه كان منصوبا ب (أتى) و (أتى) معطوفة على (من آمن) من قوله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) فلا يجوز حينئذ أن يكون قوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ :) معطوفا على (مَنْ آمَنَ بِاللهِ ؛) لأن المعطوف على الصلة في الصلة ؛ فلا يعطف على الموصول ، وقد بقي من صلته [٧٢ / ب] شيء. فكذا لا يكون : (أَقْرَضُوا اللهَ ،) في تقدير العطف على الصلة ، وقد عطفت (الْمُصَّدِّقاتِ) على الموصول.
فإذن ، الواو بمعنى : مع والتقدير : إنّ المصدقين مع المصدقات في نيل الثواب ، والجنة والغفران.
وإن زعمت أنّ (المصدقات) معطوف على (المصدقين) وقوله : (واقرضوا الله) : جملة ، ليست بمعطوفة على الصلة ؛ ولكن جملة ، اعتراض بين الخبر ، والمخبر عنه ؛ لأنه يسدده ، ويوضحه.
[قال الشاعر]
١٨١ ـ إن ترفقي ، يا هند فالرفق أيمن |
|
وإن تخرقي ، يا هند ، فالخرق أشام |
فأنت طلاق ، والطلاق عزيمة |
|
ثلاثا. ومن يخرق أعقّ ، وأظلم (٤) |
ألا ترى أنّ (ثلاثا) منصوبة ، بقوله : فأنت طلاق. على تقدير : طالق ثلاث مرات لقوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)(٥). أو على المصدر على تقدير : فأنت طلاق ثلاث طلقات. وعلى الوجهين ،
__________________
(١) ٥٧ سورة الحديد ١٨.
(٢) ٢ : سورة البقرة ١٧٧.
(٣) ٢ : سورة البقرة ١٧٧.
(٤) البيتان من الطويل ، بلا نسبة في : ابن يعيش ١ : ١٢ ، والخزانة ٣ : ٤٦٠ ، ٤٦١ ، ٤٦٨ ، ٤٥٩ ، ٩ : ٦٦ ، وفيها : إليه ، بدل : عزيمة
(٥) ٢ : سورة البقرة : ٢٢٩.
يكون قوله : والطلاق عزيمة ، اعتراضا بين الصلة ، والموصول. فإن هذا قول. والذي بدأنا به أشبه ؛ لأن الاعتراض كأنه ليس بالكثير. ثم إنّ الناس من بين مجوز للقياس على ما صنعت وأباك ، ومن بين مانع. فالمجوز يحتج بأنه نظير : مررت بزيد ، و : رغبت إلى عمرو. والمقتصر على السماع ، يزعم : أنه خارج من العادة ؛ إذ الواو تكون للعطف ، ولا تكون للتعدية. فإن جاء شيء وجب الاقتصار على ما جاء ، ولا يتعدى. والله أعلم.
باب الحال
[قال أبو الفتح] : الحال : وصف هيئة الفاعل ، أو المفعول. ولفظها نكرة ، تأتي بعد معرفة ، قد تم عليها الكلام. وتلك النكرة ، هي المعرفة في المعنى (١). وذلك قولك : جاءني زيد ، راكبا.
[قلت] : الناصب للحال ، كونه مشابها للمفعول به ؛ وذلك ؛ لأنه يأتي بعد تمام الفعل والفاعل ؛ كما إنّ المفعول كذلك. ولأنه فضلة ؛ كما أنّ المفعول فضلة ؛ والحال تشبه الظرف من وجه ، وتشبه التمييز من وجه. فمن حيث كونه مشابها للظرف ، هو أنه : متضمن لمعنى (في).
وذلك ؛ لأنك إذا قلت : جاءني زيد راكبا [٧٣ / أ] ، فمعناه : جاءني زيد في حالة الركوب. وتشبه التمييز ؛ لأنك ، إذا قلت : جاءني زيد ؛ فهو كلام مبهم ، لا يدري في أية حالة جاء. فلما قلت : راكبا ، بينت ذلك ، وأزلت الإبهام. كما أنك إذا قلت : عندي عشرون ، كان مبهما. فإذا قلت : درهما ؛ فقد بان ذلك المعنى.
وللحال ستّ شرائط :
الأول : أن يكون بعد تمام الكلام.
والثاني : أن يكون نكرة.
والثالث : أن يكون صاحبها معرفة.
والرابع : أن يكون مشتقا ، أو في معنى المشتق.
والخامس : أن يكون فيه ضمير ، أو ما يقوم مقام الضمير.
والسادس : أن يكون منتقلا. وذلك في أغلب الأحوال.
فإذا قلت جاءني زيد راكبا ؛ انتصب قولك : راكبا ، على الحال ؛ لأنه جاء بعد تمام الكلام.
ولو قلت : جاءني زيد ، ولم تذكر (راكبا) جاز. وهو نكرة ، وصاحبها زيد ، وهو معرفة. وراكب.
مشتق من (ركب) وفيه ضمير ، يعود إلى صاحب الحال ، وهو منتقل لأنه قد يصير غير راكب.
وقولي : أو في معنى المشتق ؛ مثال قوله عز وجل : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً)(٢) ف (آية) عند أبي علي : حال. ومعناه : مبيّنة. وقولي : أو ما يقوم مقام الضمير. أعني به ، أنّ الجملة إذا وقعت حالا ؛ نحو قولك : جاءني زيد وأبوه قائم ؛ ربما يكتفى فيه بالعائد ، وربما يكتفى فيه بالواو ، وربما
__________________
(١) اللمع في العربية ١٣٤.
(٢) ١١ : سورة هود ٦٤.
يجتمعان. قال الله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ)(١) ثم قال (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ،) من أجلها ؛ فاكتفى بالواو ، وليس في قوله : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ما يعود إلى ما قبله ، وما جاء مكتفى فيه بالضمير.
[قال الشاعر]
١٨٢ ـ نصف النهار ، الماء غامره |
|
ورفيقه بالغيب ما يدري (٢) |
ولم يقل : والماء غامره. فاكتفى بالضمير. فأما قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)(٣) فقوله : (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ :) لا يخلو إما إن يكون صفة [٧٣ / ب] لثلاثة ، أو يكون حالا ، أو يكون في تقدير العطف. كما تكون الجمل بعضها معطوفة على بعض. فلا يكون قوله (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) صفة لثلاثة لأن (رابِعُهُمْ) اسم الفاعل ، وهو بمعنى الماضي. وإذا كان كذلك ، لم يجز أن يرفع (كَلْبُهُمْ) وإنما يكون رافعا له إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال. ولا يجوز أن تكون الجملة حالا ؛ لأنه لا عامل فيه. فإن قيل : فقدّر : سيقولون هؤلاء ثلاثة ، وأعمل معنى هؤلاء في الحال.
[قلت] : ذلك لا يجوز ؛ لأن (هؤلاء) إشارة إلى من بحضرتك. وقوله : (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ :) بمعنى الماضي ؛ فلا تصح الإشارة إليه فلا يجوز إذن ، كونه حالا ، ولا وصفا. فإذن يكون التقدير : سيقولون ثلاثة ورابعهم كلبهم. فحذف العاطفة ، لظهورها في قوله : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فالواو للعطف ، وقد ظهرت هناك ، وأضمرت فيما قبل.
ومن قال : إنّ الواو (واو الثمانية) واحتج بقوله (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ)(٤) وقوله : (وَأَبْكاراً)(٥) وقوله (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها)(٦) : فليس للثمانية اختصاص بالواو ، وليس للسبعة ، ولا للستة. فالواو تظهر ، وتضمر ، كما أنّ الفعل يظهر ويضمر.
وقولي : أن يكون منتقلا في غالب الأحوال. هذا ؛ لأن الحال قد يجيء لازما ويكون للتأكيد. كقوله تعالى (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)(٧) ف (مصدقا) حال. وليس مما ينتقل ؛ إذ التصديق من لوازم الحق. وهذا بالقياس إلى المنتقل قليل. وقوله : ينبغي أن يكون صاحبها معرفة ؛ لأن الحال ؛ لا يجيء من النكرة ؛ إذ لا فائدة فيه ؛ إلّا في قليل من الكلام. وذلك إذا تقدّمت صفة النكرة على النكرة ، انتصب على الحال. كقولك : هذا رجل مقبل. ف (مقبل) : صفة رجل. ثم تقول : هذا ، مقبلا ، رجل [قال الشاعر]
١٨٣ ـ وفي الأرض ، مبثوثا ، شجاع ، |
|
وعقرب ... (٨) |
__________________
(١) ٣ سورة آل عمران ١٥٤
(٢) من مرفل الكامل ، نسب للأعشى ، وليس في ديوانه ، وهو بهذه النسبة في : الخزانة ٣ : ٢٣٣ ، ٢٣٥ ٢٣٦.
(٣) ١٨ : سورة الكهف ٢٢.
(٤) ٩ : سورة التوبة ١١٢.
(٥) ٦٦ : سورة التحريم ٥.
(٦) ٣٩ : سورة الزمر ٧٣.
(٧) ٢ : سورة البقرة ٩١.
(٨) عجز بيت من الطويل ، سبق ذكره رقم (٨٢)
[وقال الشاعر] :
١٨٤ ـ لمية ، موحشا ، طلل قديم |
|
... (١) |
[قال أبو الفتح] : والعامل في الحال على ضربين : متصرف وغير متصرف. فاذا كان العامل متصرفا ؛ جاز تقديم الحال. تقول : جاء [٧٤ / أ] زيد راكبا. و : راكبا جاء زيد. و : جاء ، راكبا زيد. كل ذلك جائز ؛ لأن (جاء) متصرف. تقول : جاء ، يجيء ، مجيئا ، فهو جاء.
والتصرف : هو التنقل في الأزمنة. وكذلك : أقبل محمد ، مسرعا ، وأقبل مسرعا ، محمد.
ومسرعا ، اقبل محمد. لأن (أقبل) متصرف (٢).
[قلت] : التصرف في المعمول على حسب التصرف في العامل. فإذا كان العامل قويا بالتصرف فيه ، كان التصرف في معموله أقوى منه ، إذا لم يكن العامل متصرفا. ألا ترى أنّ باب (كان) يتصرف في خبره بالتقديم على الاسم وعلى (كان) وباب (إنّ) لا يتصرف في خبره بالتقديم وما ذلك إلا ؛ لأن (كان) متصرف ، (وإنّ) غير متصرف. فكذا ، هاهنا : إذا كان العامل متصرفا ؛ جاز التصرف ؛ في الحال بالتقديم ، على صاحبها ، وعلى عاملها ؛ لا خلاف في ذلك فأما إذا لم يكن العامل متصرفا ؛ فإنه لا يجوز تقديم الحال على العامل فيها ؛ كقولك : هذا زيد قائما. لا يجوز :
قائما هذا زيد. ويجوز : هذا قائما زيد. وأبو الحسن ، يجيز في قوله تعالى : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا)(٣). فيمن قرأ بالنصب (٤) : أن تكون حالا من الضمير في الظروف ، وهو قوله" لذكورنا" على تقدير : ما في بطون هذه الأنعام ثابتا هي لذكورنا خالصة. فالعامل في الحال هو الظرف عنده (٥) وأجاز تقديم الحال عليه ، فيجيز : زيد ، قائما ، في الدار ، ويجيز مررت ، جالسا ، بزيد في تقدير : مررت بزيد جالسا. ونحن لا نجيز شيئا من ذلك ؛ لقلة تصرف العامل.
ونحمل نصب (خالصة) على الحال من الضمير ، مما في قوله : (فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) أي : وقالوا : ما ثبت في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا.
[فإن قلت] : فإنكم زعمتم أن الحال تشبه الظرف. والظرف يعمل فيه المعنى ، متقدما ، كقوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(٦). وقولهم : أكلّ يوم لك ثوب. فيعمل (في شأن) و (لك) في (كل يوم). فلم لا يجوز قول أبي الحسن؟. [٧٤ / ب].
[الجواب] : أنّ الحال ، وإن أشبه الظرف ، فإنه يشبه المفعول به. والمفعول به إذا تقدم على
__________________
(١) عجز بيت من الوافر ، سبق ذكره رقم (٨١)
(٢) اللمع في العربية ١٣٥ ، وفيه : تقديم الحال عليه.
(٣) : سورة الأنعام ١٣٩.
(٤) وهم : ابن عباس ، والزهري ، وقتادة ، والأعرج ، وابن جبير ، وسفيان بن حسين. إعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٨٥٤ ، مختصر في شواذ القرآن ٤١ ، والمحتسب ١ : ٢٣٢ ، والكشاف ٢ : ٥٥ ومجمع البيان ٤ : ٣٧٢ ، والتبيان ـ للعكبري ١ : ٢٦٢ ، وتفسير القرطبي ٧ : ٩٦ ، والبحر المحيط ١ : ٢٣١.
(٥) أي : عند أبي الحسن ، الأخفش. مجمع البيان ٤ : ٣٧٣.
(٦) ٥٥ : سورة الرحمن ٢٩.
الفعل ، يضعف عمل الفعل فيه ، مع قوة تصرف الفعل. وذلك ، نحو قوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)(١). فيمن رفع (وكلا) (٢) ، وهو ابن عامر.
وقال الشاعر :
١٨٥ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي |
|
عليّ ذنبا ، كلّه لم أصنع (٣) |
برفع (كل). وإذا كان هكذا ، وكان الحال يشبه المفعول به ، لم يعمل فيه المعنى ، متقدما ، كما ذكرنا في المفعول به. وقد وقع في بعض النسخ بيت جرير ، أنشده ، شاهدا لجواز قولهم : زيد في الدار ، قائما. [قال جرير] :
١٨٦ ـ هذا ابن عمّي في دمشق ، خليفة |
|
لو شئت ساقكم إليّ قطينا (٤) |
فنصب (خليفة) على الحال من الضمير في الظرف ، وهو قوله (في دمشق).
ومما ينتصب على الحال ، قولهم : ضربي زيدا ، قائما. وأكثر شربي السويق ، ملتوتا. وأخطب ما يكون الأمير ، قائما. وهذا بسرا ، أطيب منه ، تمرا. وقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٥). [وقول الشاعر] :
١٨٧ ـ الحرب أوّل ما تكون فتيّة |
|
تسعى ببزّتها لكل جهول (٦) |
فقولهم : ضربي زيدا قائما. فضربي : مبتدأ ، وهو مصدر مضاف إلى الفاعل. وزيدا : نصب ، مفعول ضربي. وقائما : نصب على الحال. ولا يخلو انتصابه على الحال ، من أن يكون حالا من الياء ، أو من زيد ، أو من شيء آخر. فلا يجوز أن يكون حالا من الياء ، ولا من زيد ، لأنه إذا كان حالا من واحد منهما ، كان في صلة المصدر. ولم تكن لتذكر خبر المبتدأ ، ولا ما يسد مسده.
فإذن ، هو حال من مقدر ، والتقدير : ضربي زيدا إذا كان قائما. فقائما. حال من ضمير مرفوع ، في فعل مجرور بإضافة ظرف منصوب باسم فاعل مرفوع ، هو خبر المبتدأ. والتقدير : ضربي زيدا كائن إذ كان قائما. ف (قائما) حال من الضمير في (كان). وكان : فعل في موضع الجر ، بإضافة (إذ) إليه. وإذ : ظرف منصوب ب (كائن) المضمر ، وهو خبر ضربي. وكان ، هاهنا ، [٧٥ / أ]
__________________
(١) ٤ : سورة النساء ٩٥.
(٢) البحر المحيط ٣ : ٣٣٣ ، وهمع الهوامع ٢ : ١٦.
(٣) من الرجز ، لأبي النجم العجلي ، في : الكتاب ١ : ٨٥ ، والتحصيل ٩٩ ، ٣١٣ ، ودلائل الإعجاز ١٥ ، والمغني ١ : ٢٠١.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٢٥٢ ، وابن يعيش ٢ : ٣٠ ، وشفاء العليل ١ : ٢٩٢.
(٤) البيت من الكامل. في : ديوانه ٥٧٩.
القطين : الرقيق.
(٥) ٣٩ : سورة الزمر ٦٧.
(٦) البيت من الكامل ، لعمرو بن معديكرب ، في : ديوانه ١٥٦ ، والكتاب ١ : ٤٠١ ، والتحصيل ٢٢٩ ، والعقد ١ : ٩٤.
وبلا نسبة في المقتضب ٣ : ٢٥٠.
تامة ، وليست بناقصة. لأن سيبويه قال : ولو قلت : عبد الله ، القئم ، على إضمار كان ، لم يجز (١) لأن (كان) الناقصة ، لا يجوز إضمارها. والتامة يجوز إضمارها ، لأنه كسائر الأفعال. فلما جاز : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ)(٢) على إضمار : ائتوا خيرا لكم. فكذا ، هاهنا. لأنه بمنزلته. وكذا : أكثر شربي السويق ، ملتوتا. أكثر : مبتدأ ، وهو مضاف إلى (شربي) ، وهو بعضه. والسويق : منصوب ب (شربي). وملتوتا : حال ، بمنزلة (قائم) في المسألة المتقدمة. وتقديره : أكثر شربي السويق ، كائن إذ كان ملتوتا.
وأخطب ما يكون الأمير ، قائما. تقديره : أخطب كون الأمير ، قائما. ف (أخطب) أفعل ، وهو : مبتدأ ، وما يكون في تقدير المصدر. والأمير : رفع ب (يكون) و (قائما) : حال ، على التقدير المتقدم. وتقديره : أخطب كون الأمير كائن ، إذ كان قائما. وحال الأمير ، لا يكون أخطبه قائما ، إلا على سبيل المجاز ، وإقامة العرض ، مقام العين. كما قالوا : شعر شاعر ، وموت مائت. وقالوا : نهاره صائم ، وليله قائم.
وقولهم : هذا ، بسرا ، أطيب منه ، تمرا. تقديره : هذا ، إذ كان بسرا ، أطيب منه ، إذ كان تمرا.
لا بد من هذا التقدير ، ليصح انتصاب الاسمين عن ضميرين في كل واحد ، من فعلين ، على التقدير المتقدم. والعامل في الظرف الثاني : أطيب. وفي الظرف الأول ، اضطرب فيه كلام أبي علي (٣).
والذي استقر عليه ، أخيرا ، هو : أن الظرف الأول ، هو شيء ، من جهة المعنى ، لا من جهة اللفظ ، فتعمل هذا في بسر ، لأنا لو أعملناه في الظرف ، احتجنا إلى شيء نعمله في بسر ، وليس معنا ذلك.
فأما قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ.) فالأرض : مبتدأ وقبضته : مبتدأ ثان .. وجميعا : في تقدير : إذا يكون جميعا سد مسد خبر قبضته. والجملة : خبر الأرض. ويجوز : أن يكون ، والأرض جميعا ذات قبضته. أي : والأرض ذات قبضته ، مجتمعة. فيعمل في الحال معنى الكلام ، كما جوّز ، البر أرخص ما يكون ، قفيزان. وقول الشاعر :
الحرب أوّل ما تكون [٧٥ / ب] فتيّة |
|
... (٤) |
فالحرب : مبتدأ. وأول ما تكون : مبتدأ ثان. وفتية : حال ، على التقدير المتقدم. أي : الحرب أول كونه ، كائن إذ كان فتية. ويجوز : الحرب أول ما تكون فتية. برفع (فتية) على خبر الحرب.
ونصب : أول ما ، على الظرف. على تقدير : الحرب فتية في أول أحواله ، وكونه. ويجوز نصبهما ، على تقدير : الحرب في أول أحواله كائن إذ كان فتية. فتنصب : أول : على الظرف. وفتية : حال ، سد مسد الخبر. ويجوز رفعهما ، على أن تكون : الحرب : مبتدأ. و : أول ما تكون : مبتدأ ثان.
__________________
(١) الكتاب ١ : ٢٤٦ ، وفيه : (ولا يجوز لك أن تقول : عبد الله المقتول ، وأنت تريد : كان عبد الله المقتول ، لأنه ليس فعلا يصل من شيء إلى شيء ، ولأنك لست تشير له إلى أحد).
(٢) ٤ : سورة النساء ١٧٠.
(٣) المقتصد ١ : ٦٨١.
(٤) صدر بيت من الكامل ، سبق ذكره برقم (١٨٧).
وفتية : رفع ، خبر : أول ما. والتقدير : الحرب أول أحواله فتية ، على قولهم : شعر شاعر ، وموت مائت.
باب التمييز
[قال أبو الفتح] : والتمييز : تخليص الأجناس ، بعضها من بعض. ولفظ التمييز : اسم نكرة ، يأتي بعد الكلام التام ، يراد به الجنس.
[قلت] : شرط التمييز : أن يكون مفسّرا لمبهم ، وأن يكون نكرة ، وأن يصلح فيه إظهار (من) معه. وهو على ضربين : أحدهما : أن يكون بعد تمام الكلام. والآخر : أن يكون بعد تمام الاسم. ومعنى قولي : بعد تمام الكلام : أن يكون الفعل أخذ فاعله. وهذا ، أيضا ، على ضربين : أحدهما : أن يكون الاسم المنصوب على التمييز يصلح أن يكون فاعلا في اللفظ ، والمعنى. كقولك : طاب زيد نفسا. ألا ترى أنك ، لو قلت : طابت نفس زيد ، جاز. وإنما نصب قولك : نفسا ، على التمييز ، تشبيها بالمفعول به ، لأنك ، لما نقلت الفعل ، وهو : طاب عن الفاعل ، وهو : النفس ، إلى ما هو بسبب منه ، وهو : زيد ، فقلت : طاب زيد ، لم يمكنك رفع نفس. لأن الفعل أخذ فاعله ، فنصب (نفس) على التمييز ، لما جاء بعد الفعل والفاعل ، مجيء المفعول بعدهما. والثاني : أن يكون المنصوب على التمييز فاعلا في المعنى دون اللفظ. كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً.) وامتلأ الحوض ماءا. ألا ترى أن الماء هو الشاغل للحوض ، والشيب [٧٦ / أ] هو المعمّم للرأس. ولو قيل : امتلأ الماء. واشتعل الشيب ، لم يصلح. فالتمييز : تفسير للمبهم. وهو : نكرة يصلح معه (من). وإذا كان كذلك ، فقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)(١) ، لا يجوز أن يكون انتصاب (نفسه) على التمييز ، لأنه معرفة. وقد ذكرنا أنه ينبغي أن يكون نكرة. فإذن ، انتصاب (نفسه) في الآية ، ليس على التمييز ، وإنما هو بنزع الخافض. والتقدير : إلا من سفه في نفسه ، فحذف (في). أو يكون (سفه) بمعنى : سفّه. أو يكون (سفه) محمولا على نظيره ، وهو : جهل. فالتمييز : نكرة يصلح معه (من).
فقولهم : أنت طالق ثلاثا ، لا يكون انتصابه على التمييز ، لأنك ، لو قلت : أنت طالق الثلاث ، جاز.
فالتمييز لا يكون معرفة. ولأنك ، لو قلت : أنت طالق من ثلاث ، لم يكن له معنى. فلما لم يحسن في ثلاث (من) وجاز تعريفه ، ثبت أن انتصابه لا على التمييز ولكن على الظرف ، على تقدير : أنت طالق ثلاث مرات. أو على المصدر ، على تقدير : أنت طالق ثلاث طلقات.
فالتمييز : نكرة بمنزلة الحال. فكما أن الحال تكون نكرة ، فكذا التمييز. وقولهم : القوم فيهم الجمّاء الغفير. وأرسلها العراك. ومررت به وحده. يكون الألف واللام فيه زيادة ، ليست للتعريف ، كما زادوها في (الآن) و (الذي). وأرسلها العراك : مصدر ، في تقدير : أرسلها تعترك العراك. ف (تعترك) هو الحال ، لا (العراك) وإنما (العراك) مصدر. والمصدر يجوز أن يكون معرفة ، ونكرة.
__________________
(١) الكتاب : ١ / ٣٧٥.
ألا ترى قول [الشاعر] :
١٨٨ ـ بواد من قسى ، ذفر الخزامى |
|
تحنّ الجريباء به الحنينا (١) |
فنصب الحنين على المصدر ، وهو معرفة.
[قال أبو الفتح] : وأكثر ما يأتي بعد الأعداد ، والمقادير. فالأعداد من أحد عشر إلى تسعة وتسعين. نحو قولك : عندي أحد عشر رجلا ، واثنا عشر غلاما ، وثلاثون جارية ، وخمسون درهما. قد ذكرنا أن انتصاب التمييز ، إنما هو التشبيه بالمفعول. وذلك ظاهر في قولك : طاب زيد نفسا ، وامتلأ [٧٦ / ب] الحوض ماءا ، وهو الضرب الأول. وهذا الذي ذكره هو الضرب الثاني ، ينتصب الاسم على التمييز ، والتفسير بعد تمام المفسّر. وذلك ضروب منها : العدد من أحد عشر إلى تسعة وتسعين. يكون الاسم بعد هذه الأعداد اسما نكرة ، مفردا ، منصوبا ، نحو قولك : عشرون رجلا عندي ، وثلاثون درهما. تنصبه على التمييز ، لأن النون في (عشرين) تشبه النون في قولك : الضاربون. فكما تقول : هؤلاء الضاربون زيدا ، بنصب (زيد) بعد النون ، لأنه مفعول. فكذلك قولك : عشرون رجلا ، منصوب على التمييز ، لوقوعه بعد النون.
فأما ما لا نون فيه ، وهو : أحد عشر إلى تسعة عشر ، فإن الاسم أيضا منصوب. لأن قولك : أحد عشر ، في تقدير : أحد ، وعشرة ، فهو في تقدير التنوين ، فكما تنصب : هذا ضارب زيدا ، لأنه مفعول بعد التنوين ، فكذا ، هاهنا ، لما كان الاسم ، في تقدير التنوين ، نصب على التشبيه بالمفعول به بعد التنوين. وهذا الاسم المنصوب ، بعد هذه الأعداد ، يكون مفردا ، ولا يكون جمعا. تقول : عشرون درهما ، ولا تقول : عشرون دراهم. لأن قولك : عشرون ، قد بيّن لك ما أردت من الجمع.
فجاز أن يكون المفرد بعده دالّا ، على الجمع. فالمنصوب على التمييز ، هاهنا ، مفرد ، لا يجوز فيه الجمع.
فأما قولهم : هو خير منك عملا ، وأفره منك عبدا ، فإن انتصاب الاسم ، هناك ، على التمييز أيضا. ويجوز فيه المفرد ، والمجموع. تقول : هو خير منك عملا وأعمالا.
وهو أفره منك عبدا ، وعبيدا. قال الله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (١٠٢) ، فجمع.
والفرق بين هذا وبين العدد ، هو أنك إذا قلت : هو أفره منك ، لا يفهم من هذا اللفظ إلا المفرد.
بخلاف (عشرين). فإن (عشرين) دال على الجمع. فلما كان كذلك ، قلت : هو أفره منك عبيدا ، إذا كان له عبيد ، إذ لا يفهم من (أفره) إلا مفرد. وإذا قلت : هو أفره منك عبدا ، دل على المفرد حقيقة ، وعلى الجمع ، لوضع المفرد موضع الجمع ، مجازا ، لا حقيقة. كما تقول : هو أول [٧٧ / أ] رجل. وقال الله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ،) يعني : الكافرين. فهذا مجاز هذا الكلام.
ومن المنصوب على التمييز : المقادير. نحو : ما في السماء قدر راحة سحابا ، وقفيزان برا ، ورطلان سمنا. فالمنصوب على التمييز ، هناك لوقوعه بعد النون ، كما كان في (عشرين). وإذا أضفت الاسم إلى اسم ، ثم جئت بعده باسم آخر ، نصبته على التمييز. كقولك : على التمرة مثلها
__________________
(١) البيت من الوافر ، لابن أحمر ، في ديوانه : ١٥٩ ، واللسان (قسا) ١٥ / ١٨٢ ، والتاج (قسا) ١ / ٣٧٤.
زبدا. لما أضفت المثل إلى الهاء ، لم يمكنك أضافته ثانيا ، فنصبته على التمييز ، لأن المضاف إليه قائم مقام التنوين. فكما كان في : ضارب زيدا ، وعشرين رجلا ، كان الاسم منصوبا ، فكذا ها هنا.
ومن المنصوب على التمييز ، قولهم : مررت برجل حسن وجها ، لما كان في (حسن) ضمير يعود إلى رجل. وكان (حسن) مبهما ، نصبته على التمييز ، لأنه يفسره. فإذا قلت : مررت برجل حسن الوجه ، لم يكن تمييزا ، بل كان على التشبيه بالمفعول به ، لأن المعرفة لا يكون تمييزا.
ومن المنصوب على التمييز : هو أحسن منك أبا ، وأكثر الناس مالا ، وأنظف منك ثوبا.
فتنصب هذا كلّه على التمييز ، للفصل بين الاسم الأول ، والثاني ب (منك) ، و (بالمضاف إليه).
ويجوز : هو أحسن أبا منك ، فتؤخر الفصل. والنية به التقديم. كما أنك إذا قلت : ضرب غلامه زيد ، كان في اللفظ مقدما وفي المعنى مؤخرا وإذا قلت : هو أفره عبد ، وأنظف ثوب لم يكن معناه معنى قولك : هو أنظف منك ثوبا ، وأفره منك عبدا. لأنه في الأول بعض ما أضيف إليه ، لأن (أفعل) أبدا ، إذا كان مضافا ، كان بعض المضاف إليه ، بخلاف الثاني. لأن الثاني فيه المنصوب غير الأول ، وليس هو ببعض منه. ألا ترى أنك إذا قلت : هو أنظف منك ثوبا ، ففي (أنظف) ضمير يعود إلى ما يعود إليه هو ، وهو الرجل. فكأنك قلت : الرجل أنظف منك. ثم بينت أن النظافة فيه من جهة الثوب. وذلك ، لأن هذه الأشياء ، في الأصل ، كانت لهذه المنصوبات ، فنقلت عنها إلى من كانوا بأسباب منها ، كما تقدم في قولنا : طاب زيد نفسا. وقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً.) فإذن : أنظف [٧٧ / ب] منك ثوبا ، وأفره منك عبدا ، بخلاف قولنا في المعنى : أفره عبد ، وأنظف ثوب.
إذ قولك : ثوبك أنظف ثوب ، وعبدك أفره عبد ، المضاف بعض المضاف إليه. وهذا لا إشكال فيه. ولهذا قالوا ، يجوز : زيد أفضل الإخوة. ولا يجوز : زيد أفضل إخوته. لأنك ، إذا قلت : زيد أفضل الإخوة ، فإنه بعضهم ، فيجوز أن تضيف إليهم. ولا يجوز : زيد أفضل إخوته ، لأنه خارج منهم. ويوضح هذا أنك ، إذا قلت : من الإخوة؟. قلت : زيد ، وعمرو ، وبكر ، فتعده منهم. وإذا قلت : من إخوة زيد؟. قلت : بكر ، وخالد ، وعمرو ، ولا تذكر زيدا. فعلمت أنه خارج منهم.
واعلم ، أنك ، إذا قلت : طاب زيد نفسا ، وامتلأ الحوض ماءا [ف](١) لا يجوز أن تقول : نفسا طاب زيد. ولا : ماءا امتلأ الحوض ، عندنا. ويجيزه : المازني ، والمبرد. ويحتجان [بقول الشاعر] :
١٨٩ ـ أتهجر ليلى بالفراق ، حبيبها |
|
وما كان (نفسا) بالفراق تطيب (٢) |
فقدم المنصوب. والتقدير : وما كان تطيب نفسا. ونحن نرويه :
__________________
(١) إضافة يتطلبها السياق.
(٢) البيت من الطويل للمخبل السعدي في : (المخبل السعدي : حياته وما تبقى من شعره) ـ ضمن (مجلة المورد / المجلد الثاني / العدد (١) ص ١٢٤ لسنة ١٣٩٣ ه ـ ١٩٧٣ م) ، والخصائص ٢ : ٣٨٤ ، واللسان (حبب) ١ : ٣٩٠ ، كما نسب لأعشى همدان ، ولمجنون ليلى ، وهو بهذه النسب المختلفة وبلا نسبة في المقتضب ٣ : ٣٧ ، والإنصاف ٢ : ٨٢٨.
... |
|
وما كان نفسي ... |
وإن قاس التمييز على الحال ، كان قياسه فاسدا (١). لأن الحال ، الاسم الثاني ، فيه الأول.
والتمييز قد يكون الأول ، وغير الأول. ألا ترى أن قولك : هو أحسن منك ثوبا. فالثوب غير الأول. وإن كان طاب زيد نفسا ، النفس هو الأول. فلما كان كذلك ، كان أضعف من [الأول] ولا يجوز فيه ، ما جاز في الحال ، لضعف هذا ، وقوة ذاك.
قال سيبويه (٢) : قولهم : امتلأ الحوض ماءا ، وتصبّب زيد عرقا ، وتفقّأ الفرس شحما ، الفعل في هذه الأشياء لازم غير متعد. فالمنصوب بعده ليس بمفعول حقيقة ، إنما هو مشبّه بالمفعول. فلا يجوز فيه ، ما يجوز في المفعول من التقديم. لأن المشبه بالشيء ، لا يجري مجرى المشبه به.
نظيره (ما) مع ليس. ألا ترى جواز : ليس قائما زيد ، وامتناع : ما قائما زيد.
ومن المنصوب على التشبيه بالمفعول ، بمنزلة الوجه ، في قولهم : مررت برجل حسن الوجه ، [قول الشاعر] :
١٩٠ ـ أهوى لها أسفع الخدّين ، مطّرق |
|
ريش القوادم ، لم ينصب له الشّرك (٣) |
يصف صقرا. ونوّن : مطّرقا [٧٨ / أ] كتنوين : حسن. ونصب. ريش القوادم ، على التشبيه بالمفعول. ومثله [قول الشاعر] :
١٩١ ـ كم قد حسرنا من علاة عنس |
|
درفسة ، أو بازل درفس |
كبداء كالقوس ، وأخرى حلس |
|
محتنك ، ضخم شؤون الرأس (٤) |
فنون (ضخما) ونصب (شؤون) ك (حسن) الوجه. فأما قوله تعالى (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)(٥) ، فقد حمله المبرد (٦) ، على الحال ، دون التمييز. لأن (من) لا يصلح فيه. وجاز (طفل) في موضع أطفال ، كما جاز : (سامِراً تَهْجُرُونَ)(٧) بعد قوله : (مستكبرين به) في موضع : سمّار. وقد [قال الشاعر] :
١٩٢ ـ ... |
|
سادوك عن كابر (٨) |
__________________
(١) وهذا هو رأي المازني ، والمبرد. المقتضب ٣٣ : ٣٦ ، ٣٧.
(٢) الكتاب ١ : ٢٠٤ ، ٢٠٥.
(٣) البيت من البسيط ، لزهير بن أبي سلمى ، في : ديوانه ٧٩ ، والكتاب ١ : ١٩٥ ، والتحصيل ١٥٦ ، واللسان (هوا) ١٥ : ٣٧٠ ، وفي جميع الروايات : الشبك ، بدل : الشرك.
(٤) من الرجز ، للعجاج ، في : ديوانه ٤٧٢ ، ٤٧٣ ، والكتاب ١ : ١٩٦ ، والتحصيل ١٥٧ ، وفيهما عجز البيت الثاني ، وروايته : محتنك ، بدل : محتبك.
(٥) ٢٢ : سورة الحج ٥.
(٦) المقتضب ٢ : ١٧٣.
(٧) ٢٣ : سورة المؤمنون ٦٧.
(٨) البيت من السريع ، للأعشى. وهذه قطعة منه ، وتمامه :
ساد ، وألفى قومه سادة |
|
وكابرا سادوك عن كابر |
في : ديوانه ١٤١.
فوضع المفرد ، موضع الجمع ، كالجامل والباقر. ومعنى : عن كابر : أي بعد كابر ، وهو متعلق بسادوك ، وليس متعلقا باسم الفاعل ، لأنك إذا علقته به كان هجوا. ألا ترى أنه إذا قيل : أكبر هذا ، عن ذاك ، أي صار هذا فوقه ، وذاك دونه ، فيصير كأنك قلت : سادوك من كبروا عن كابر ، أي صاروا فوقهم ، وهم دونهم ، كما جاء : (كبر عمرو عن الطّوق) (١). ففي تعليق (عن) باسم الفاعل ، هجو وقلب للمعنى. وفي تعليقه ب (سادوك) مدح. وهو المقصود. و (عن) في هذه المسألة ، بمعنى (بعد) ، كما قيل في قوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) (٢) أي : حالا ، بعد حال.
ومن هذا الباب ، على قول الأخفش : كلّمته فاه إلى فيّ. هو عنده على تقدير (من). أي كلّمته من فيه إلى في. فحذف (من). وعند الفراء (٣) ، تقديره كلمت [ه](٤) ، جاعلا فاه إلى فيّ.
فهو منصوب ب (جاعل) مضمر. وعند الخليل وسيبويه (٥) : فاه : في موضع الحال. وتقديره : كلمته مشافها. فوضع قولهم : فاه ، موضع مشافه. وهذا هو الصواب. لأنه جاء : كلمته فوه إلى في.
وتقديره : كلمته وفوه إلى في. فالجملة في موضع الحال. ألا ترى أن قولهم : جاءني زيد وأبوه راكب ، كقولهم : جاءني زيد راكبا أبوه. فكذا ، هاهنا ، قولهم : كلمته فاه إلى في ، كقولهم : كلمته وفوه إلى في. وإذا كان كذلك ، فلا حاجة إلى إضمار الفعل ، ولا إلى إضمار الجار ، للاستغناء عنهما ، إذا قلت : كلمته وفوه إلى في.
[فإن قلت] : فالحال لا تكون معرفة ، فكيف جاز في هذا؟.
[الجواب] : قد ذكرنا ، أنه قد جاء [٧٨ / ب] من الأحوال : الجمّاء الغفير ، ومررت به وحده.
فكذا هاهنا. وهذا شاذ ، كما أنّ ذاك شاذ.
ويونس (٦) يحمل قولهم : مررت به وحده ، على الظرف. فيلزمه أن يجيز : زيد وحده ، كما يجيزونه : زيد عنده ، فيقدر : مررت به وحده. أي : مررت به على حياله. وهذا لا يصح من يونس. أعني حمله وحده ، على الظرف. لأنهم قالوا : هو نسيج وحده ، وعيير وحده (٧) ، فأضافوا إليه. والإضافة إلى الظرف ، لا يجوز ، لا تقول : غلام عنده وجاز : نسيج وحده ، لأنه اسم ليس بظرف.
__________________
وفي الأصل : سادوك كابرا عن كابر ، وهو وهم.
(١) مجمع الأمثال ٢ : ١٣٧ (رقم ٣٠١٧).
(٢) ٨٤ : وسورة الانشقاق ١٩.
(٣) وكذلك الرماني. الكتاب ١ : ٣٧٧ هامش (٢) (هارون).
(٤) زيادة يقتضيها السياق.
(٥) الكتاب ١ : ٣٩١.
(٦) الكتاب ١ : ٣٧٧ ، وفيه : (زعم يونس : أن وحده بمنزلة عنده).
(٧) عيير وحده : كلمة في الذم لمن يأكل وحده ، ولا يخالط الناس ويعجب برأيه. اللسان (عير) ٤ : ٦٢٤ ، والتاج (عير) ١٣ : ١٧٦.
[قال الشاعر] :
١٩٣ ـ سفواء تخدي بنسيج وحده (١)
فإذن ، ليس بظرف ، وإنما هو حال. ويحتمل أن يكون من المجرور ، أي : مررت به ، منفردا ، في مكانه. ويحتمل أن يكون من الفاعل ، أي : قصدته ، لا يشاركني فيه أحد. فأما قولهم : بعته يدا بيد ، فلم يحمله على التمييز. وإنما حمله سيبويه (٢) على الحال. وتقديره : بعته عاجلا ، غير نسيئة.
فكأنه في التقدير : بعته ذا يد بذي يد. ومعنى ذا يد بذي يد : نقد. ومعنى نقد : عاجل. ألا ترى أنه قد جاء عنه ، صلّى الله عليه وسلّم : (الفضّة بالفضّة يدا بيد ، ها وها) (٣) ، فقوله : (ها ، وها) : ينبئ عن المناولة. فيكون هذا مقوّيا لمعنى النقد ، وأنه عاجل ، ليس بنسيئة. فهذا حكم التمييز ، والحال.
وإنما زدنا في شرح هذين البابين ، لأنهما يشتبه أحدهما بصاحبه ، وإذا تأملت انفصل ، وتبيّن كل واحد منهما عن الآخر ، بعون الله ، جلت قدرته.
باب الاستثناء
[قال أبو الفتح] : ومعنى الاستثناء : أن تخرج شيئا ، مما أدخلت فيه غيره ، أو تدخله فيما أخرجت منه غيره.
[قلت] : الاستثناء : مشتق من : ثنيت فلانا عن الأمر. وثانيته : إذا صرفته عنه. [قال الشاعر] :
١٩٤ ـ لأيا ، يثانيه عن الحؤور |
|
جذب الصّراريين بالكرور (٤) |
فسمي الاستثناء استثناءا ، لأن الاسم المستثنى مصروف عن خبر المستثنى منه.
ووجه ثان ، وهو : أنه مشتق من : ثنيت الشيء ، إذا ضاعفته. فسمي [٧٩ / أ] استثناءا ، لأنه ضوعف به الخبر. إن كان الأول مثبتا ، ضوعف بالنّفي. وإن كان الأول نفيا ، ضوعف بالإثبات.
والأصل في الاستثناء : (إلا).
والاستثناء على ضربين : موجب ، ومنفي. فالموجب قولك : قام القوم إلا زيدا. فزيد : مستثنى من موجب. وهو منصوب وناصبه : الفعل قبله ، بتقوية (إلّا). ف (إلّا) عدّت (قام) إلى
__________________
(١) من الرجز ، لدكين بن رجاء ، الفقيمي ، وقبله : جاءت به ، معتجرا ، ببرده اللسان (سفا) ١٤ : ٣٨٨ ، وفيه : تردي ، بدل : تخدي.
سفواء : خفيفة الناصية ، تخدي : تسرع.
(٢) الكتاب ١ : ٣٩١ ، وفيه : (وبايعته يدا بيد ... كأنه قال : بايعته نقدا ... بايعته بالتعجيل).
(٣) لم أقف على رواية هذا الحديث بهذا اللفظ. وإنما هو في : أـ زاد المسلم مما اتفق عليه البخاري ومسلم ١ : ١٩٩ ، بلفظ : (الذهب بالذهب إلا هاء وهاء). ب ـ سنن أبي داود ٣ : ٣٣٨ ، بلفظ : (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء). ج ـ شواهد التوضيح ٢٥٩ ، بلفظ : (ولا الذهب بالذهب إلا هاء وهاء). د ـ موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث الشريف ٣٠٣ ، بلفظ : (ولا الذهب بالذهب إلا ها وها).
(٤) من الرجز ، للعجاج ، في : ديوانه ٢٢٨ ، والخزانة ١ : ١٦٦ ، ١٦٨ ، ٢٠٤.
الحؤور : مصدر حار ، إذا جار عن القصد. الصراريون : الملاحون. الكرور : حبال الشراع.
زيد ، كما تعدّيه الباء ، في (مررت بزيد).
وقال المبرد (١) : إنّ زيدا منصوب ب (إلا) ، لأن (إلا) يدل على (أستثني) فأعمل (استثني) الذي دل عليه (إلا). وهذا غلط منه. لأنه لو كان يصح هذا ، لوجب أن يقال : ما زيدا قائما ، فينصب زيد ، لأن (ما) ، يدل على (أنفي). وهل زيدا قائما ، لأن (هل) يدل على (أستفهم) فهذه الحروف غير معملة بتة.
[فإن قلت] : فإنّا قد وجدنا من هذه الحروف ، ما أعملت ، وذلك [كقول الشاعر] :
١٩٥ ـ كأنه ، خارجا ، من جنب صفحته |
|
سفود نشوى نسوه عند مفتأد (٢) |
فأعمل (كأن) في (خارج) ، فكذا يجوز أن يعمل (إلا) فيما بعده.
[الجواب] : (إلا) لا يشبه ب (كأن) ، لأن (كأن) ، لما كان على لفظ الفعل ، وكان دالّا على التشبيه ، اجتمع فيه وجهان من مشابهة الفعل ، فجاز أن يعمل. وليس في (إلا) إلا وجه واحد.
ويجوز أن يقوى الشيء بجهتين ، ولا يقوى بجهة واحدة ، كباب ما لا ينصرف. [فإن قلت] : فقد حكى (٣) : ألا ماءا باردا فأشربه ، بنصب ماء. وأعمل فيه معنى (ألا من) معنى التمنّي.
[الجواب] : هذا محمول على فعل مضمر. وليس (ألا) عاملا فيه. والذي يبعد قول المبرد قولهم : جاء القوم غير زيد ، بنصب (غير) وليس هناك إلا الفعل ، فثبت أنه مع (إلا) يعمل الفعل كما يعمل مع غيره.
والضرب الثاني : الاستثناء من النفي ، وهو على ضربين : أحدهما : أن يكون بعد تمام الكلام.
والآخر : أن يكون قبل تمام الكلام. فإن كان بعد تمام الكلام ، فهو على ضربين : أحدهما : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.
والآخر : أن يكون من غير جنسه. فإن كان من جنسه ، فالاختيار : أن يكون المستثنى بدلا من المستثنى منه. [٧٩ / ب] تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد. و : ما جاءني القوم إلا زيد ، تجر (زيدا) وترفع ، لأنه بدل مما قبله. ويجوز فيه النصب ، وإن لم يكن مختارا. تقول : ما قام القوم إلا زيدا. قال الله تعالى : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)(٤) ، بالرفع (٥) ، والنصب. فالرفع : على أن يكون بدلا من أحد. والنصب : على أصل الباب. أو يكون استثناءا من موجب ، وهو قوله : (فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك).
__________________
(١) المقتضب ٤ : ٣٩٠.
(٢) البيت من البسيط ، للنابغة الذبياني ، في : ديوانه ١١ ، والخصائص ٢ : ٢٧٥ ، ومقاييس اللغة (سفد) ٣ : ٨٢ ، والمشكل ١ : ٤٨٠ ، واللسان (فاد) ٣ : ٣٢٨ (عجزه) ، والخزانة ٣ : ١٨٥ ، ١٨٧.
وبلا نسبة في : المقتصد ١ : ٤٥٢.
(٣) أي : المبرد.
(٤) ١١ : سورة هود ٨١.
(٥) وبها قرأ : ابن كثير ، وأبو عمرو. إعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ١٠٥ ، ومجمع البيان ٥ : ١٨١ ، وتفسير القرطبي ٩ : ٨٠ ، وتفسير الرازي ١٨ : ٣٧.
وإن كان من جنسه ، فالاختيار : النصب. والبدل جائز. تقول : ما بالدار أحد إلا وتدا ، بالنصب ، لأنه من غير جنسه. ويجوز البدل ، وليس بالمختار. وقول النابغة :
١٩٦ ـ إلّا الأواريّ ، لأيا ، ما أبيّنها |
|
... (١) |
نصب ، لأنه ليس من جنس أحد. ويجوز فيه الرفع ، بدلا من موضع الجار والمجرور ، لأن قوله :
١٩٧ ـ ... |
|
وما بالرّبع من أحد (٢) |
الجار والمجرور ، في موضع الرفع. والتقدير : ما بالربع أحد إلا الأواريّ. فهذا ما بعد تمام الكلام. فأما ما قبل تمام الكلام ، فليس ل (إلا) عمل فيه ، وإنما العمل لما قبله. تقول : ما جاءني إلا زيد. و : ما مررت إلا بزيد. فترفع زيدا ب (جاء) ، لأنه يحتاج إلى الفاعل ، وليس ل (إلا) عمل.
والاستثناء من الموجب نفي ، ومن النفي موجب. فقولك : قام القوم إلا زيدا. قيام زيد منفي. وقولك : ما قام القوم إلا زيد. قيام زيد مثبت. فعلى هذا مسائل جمة ، منها : أن الرجل إذا قال : لفلان علي ألف إلا مئة ، إلا ثلاثين دينارا ، يلزمه تسع مئة وثلاثون ، لأن قوله : على ألف :
موجب. وقوله : إلا مئة : نفي. وقوله : إلا ثلاثين : إثبات. لأن المستثنى من النفي : مثبت.
وكذلك ، إذا قال : ماله علي ألف إلا مئة إلا ثلاثين. يلزمه سبعون ، لأن قوله : ما له عليّ ألف : نفي. وقوله : إلا مئة : إثبات. وقوله : إلا ثلاثين : نفي من مئة ، فيبقى سبعون.
وعلى هذا ، إذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين ، إلا واحدة : تطلق ثنتين على هذا القياس. وعلى هذا ، إذا كان استثناءا بعد استثناء ، ولو بلغ مئة وأكثر.
وأخذوا [٨٠ / أ] هذا من قوله تعالى : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ)(٣). استثنى (آل لوط) من : (قوم مجرمين) ، فلم يدخلوا تحت العذاب.
واستثنى (امرأته) من (آل لوط) فدخلت في العذاب. وقد ذكرت هذا في (الكشف) (٤) ، بأتمّ من هذا.
__________________
(١) البيت من البسيط ، وعجزه :
... |
|
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد |
وهو في : ديوانه ٣ ، وفيه : إلا أواري. والكتاب ٢ : ٣٢١ ، والتحصيل ٣٥٣ ، والمقتضب ٤ : ٤١٤ ، واللسان (أصل) ١١ : ١٧.
وبلا نسبة في : المقتصد ٢ : ٧١٩ (قطعة منه) ، والإنصاف ١ : ١٧٠.
الأواري : جمع أرى ، وهو : محبس الدابة.
(٢) البيت من البسيط ، في : ديوانه ١. وتمامه :
وقفت فيها أصيلالا أسائلها |
|
عيت جوابا. وما بالربع من أحد |
(٣) ١٥ : سورة الحجر ٥٨ ـ ٦٠.
(٤) الكشف ٥٠٢.
واعلم أن المستثنى ، في الحقيقة ، منصوب بالفعل قبله ، أو بمعنى الفعل ، إذا كان قبله غير الفعل. فقولك : قام القوم إلا زيدا ، (زيدا) منصوب ب (قام). وقولك : القوم إخوتك إلا زيدا ، (زيدا) منصوب بمدلول الجملة. لأن مدلوله : تواخى القوم إلا زيدا. ويجوز أن يكون مدلول الكلام عاملا بتوسط الحرف ، لأنهم أجمعوا ، على أنه لا يجوز : هذا ضارب زيدا أمس ، بإعمال اسم الفاعل ، إذا كان ماضيا. ثم أجازوا إعماله بتوسط الحرف. فكذا هاهنا ، كقولهم : هذا مارّ بزيد أمس ، فيعدّى بالباء. وإذا كان المستثنى مفعولا ، في الحقيقة ، لا يعمل فيه إلا فعل واحد ، وعامل واحد. لأنه لا يجوز أن يعمل في معمول واحد ، لأن كل واحد منها يقتضي معموله ، فلا يكون معمول واحد ، موزّعا على عوامل شتى. وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا)(١) : لا يكون منصوبا إلا بناصب واحد ، ولا يتسلط عليه نواصب ، لأن ذلك يؤدي إلى الاستحالة ، فيكون العامل فيه : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٢) ، حسب : لأنه أقرب إليه. وقد عرف من قواعد العربية ، أن العوامل ، إذا كانت شتى ، وتعقّبها معمول واحد ، حمل على الأقرب إليه.
وذلك ، نحو قولهم : ضربني وضربت زيدا. ينصب زيد بضربت ، ولا يرفع بضربني ، لأنه أقرب إليه. وهو مذهب صاحب الكتاب (٣). ومذهب الكسائي : أنه يرفع حملا على الأول. فقال له سيبويه : لو حمل على الأول ، لقيل : ضربني وضربته زيد. فاحتج الكسائي (٤) لإعمال الأول بقول [امرئ القيس] :
١٩٨ ـ فلو أنما أسعى لأدنى معيشة |
|
كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال (٥) |
فرفع (قليل) ب (كفاني) ولو نصبه ب (أطلب) لم ينكسر البيت. فقال له سيبويه : لو نصب ب (لم اطلب) فسد المعنى ، لأنه كان يطلب الملك ، دون (قليل من المال) فقال : لو لم أطلب الملك ، وكنت أسعى لأدنى معيشة ، كفاني [٨٠ / ب] قليل من المال. ألا ترى بعده :
١٩٩ ـ ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل |
|
وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي (٦) |
فأما [قول الشاعر] :
٢٠٠ ـ قضى كلّ ذي دين ، فوفّى غريمه |
|
وعزّة ممطول ، معنّى غريمها (٧) |
فإنّ الكسائي ، ربما ، يزعم : أن قوله : غريمها : مرفوع ب (ممطول) دون معنّى ، والتقدير :
__________________
(١) ٢٤ : سورة النور ٥.
(٢) ٢٤ : سورة النور ٤.
(٣) الكتاب ١ : ٧٣.
(٤) بل والكوفيون جميعا. ينظر : الإنصاف (مسألة ١٣) ١ : ٨٣ ، ٨٤.
(٥) البيت من الطويل ، في : ديوانه ٣٩ ، والكتاب ١ : ٧٩ ، والإنصاف ١ : ٨٤ ، وابن يعيش ١ : ٧٩.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٧٦ ، والخصائص ٢ : ٣٨٧.
(٦) البيت من الطويل ، في : ديوانه ١٦٧.
وبلا نسبة في : همع الهوامع ٢ : ١٩٠.
(٧) البيت من الطويل ، لكثير عزة ، في : ديوانه ١٤٣ ، وابن يعيش ١ : ٨ ، واللسان (غرم) ١٢ : ٤٣٦.
وبلا نسبة في : المقتصد ١ : ٣٤٠ ، والإنصاف ١ : ٩٠.
وعزة ممطول غريمها ، معنّى. فأعمل الأول دون الثاني ، فلا يكون (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١) ، محمولا على الأقرب إليه. قال : ولو كان غريمها مرفوعا ب (معنّى) دون (ممطول) لكان في (ممطول) ضمير ، هو ل (غريمها) وقد جرى (ممطول) على (عزة) وهو ل (غريمها) فوجب أن يبرز الضمير. لأن اسم الفاعل ، أو المفعول ، إذا جرى على غير من هو له ، وجب إبراز الضمير الذي فيه ، كقولك : هند زيد ضاربته هي. لا بد من ذكر هي : لأنّ (ضاربته) خبر لزيد ، وهو فعل لهند.
فقد جرى على غير من هو له. فكذا ، هاهنا ، عزة : مبتدأ. وممطول : يرتفع ، لأنه خبره ، وهو لغريمها. فوجب أن لا يجوز إلا بإظهار الضمير. وإذا لم يظهر الضمير ، علم أنّ غريمها : مرتفع به ، وليس فيه ضمير. فإعمال الأول أولى ، لأنه أسبق ، ولا يؤدي هذا إلى هذا الذي ذكرناه عنه. فإنما [قلنا] في جواب ذلك : إنّ هذا الكلام لا يصح من الكسائي ، لأنه لا يقول بإبراز الضمير ، في [مثل هذا] وإن ألزمناه غير الكسائي ، [بقوله] : إنّ عزة : مبتدأ. وغريمها : مبتدأ ثان. وممطول معنّى : خبران مقدمان. والتقدير : وعزة غريمها ممطول معنّى. وإذا احتمل هذا ، لم يكن معارضا ، لما ذكرنا. ويجوز أن يحتج بالمصراع الأول ، في هذا البيت على إعمال الأقرب ، فيقال : إنه نصب غريمه ب (وفّى) ، ولو نصبه ب (قضى) لقال : فوفاه غريمه. ومثل هذا ، قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)(٢) فنصب (قطرا) ب (أفرغ) ولم ينصبه ب (أتوني) ولو نصبه ب (آتوني) لقاء : أفرغه.
وإن ادّعى أنّ الهاء مضمر في أفرغ ، فالحمل على الظاهر أوجه. وذلك ، لانه إذا نصب (قطرا) ب (آتوني) وحذف الهاء من (أفرغ) فقد صار إلى شيئين يخالفان الحقيقة : [٨١ / أ] أحدهما : الحذف. والآخر : الفصل بين العامل والمعمول. ونحن إذا حملنا (قطرا) على (أفرغ) نضمر ل (آتوني) على شريطة التفسير ، ولم نصر إلى شيئين ، كما صار هو إليه. فقولنا : إنه يحمل على الأقرب إليه ، أولى. فقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) :) محمول على قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، أي : فسّقوهم. لأنه جملة مركبة من مبتدأ وخبر. والواو فيه : واو الاستئناف ، وليس بواو الحال. فهو كالواو في قوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ)(٣). ألا ترى أن قوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) ليس بمعطوف على قوله : (يَخْتِمْ)(٤) ، لقوله : (وَيُحِقُّ الْحَقَّ). ولو كان محمولا على قوله : (يَخْتِمْ) لقال : (ويحقّ) بالكسر. فعلم بطلان ذا. وإن المستثنى في الآية ، بمنزلته في قولهم : القوم إخوتك إلا زيدا.
[فإن قلت] : فإنّ قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) :) جملة في موضع الحال من المتقدم.
والتقدير : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، فاسقين. وإذا كان هكذا لم يكن الاستثناء منه ، لأنه ليس بكلام مقصود ، وإنما حال من المتقدم ، يجري مجرى الفضلة في الكلام وإنما المقصود ، في الآية
__________________
(١) ٣ : سورة آل عمران ٨٩.
(٢) ١٨ : سورة الكهف ٩٦.
(٣) ٤٢ : سورة الشورى ٢٤.
(٤) ٤٢ : سورة الشورى ٢٤.
قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(١). فالاستثناء من هذا ، لأنه فعل واحد. ولا يجيء عليه ما ذكرتموه من أنه يكون معمولا لعوامل شتى. وتقديرنا الجملة ، تقدير المفرد ، هو الذي ذكرتموه ، في أول هذا الكتاب ، من أنّ الأصل في الكلام : المفرد. والجمل ثان له. ولهذا المعنى ، قلتم : الفاعل : لا يكون جملة ، لأن الفعل ، والفاعل نظير المبتدأ ، والخبر. والمبتدأ ، والخبر جزءان. والفعل ، والفاعل ، ينبغي أن يكونا جزءين. وإذا كان الفاعل جملة ، يكون ثلاثة أجزاء. وزعمتم : أن الجمل في خبر المبتدأ ، في تقدير المفرد ، فأبدا ، تقدرون الجمل في تقدير المفرد ، ولا تجعلون الجمل أصلا ، في الكلام. فما بالكم جعلتم : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، جملة ، واستثنيتم منه (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)؟) وهلا جعلتموه في تقدير المفرد ، كما ذكرنا؟ وقولكم في قوله (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ) إنه مستأنف ، لارتفاع (يحق). ف (يحقّ) يجوز أن يكون : مجزوما ، ويكون كقوله (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)(٢) فضمّ ، وهو [٨١ / ب] مجزوم ، جواب (إن). ويكون معنى الآية : أم يقولون افترى على الله كذبا ، فإن يشأ الله يختم على قلبك ، وينزل على لسان نبي آخر ، أفتراك لو افتريت؟! ويمحو الله الباطل على لسانه ويحقّ الحق بما يوحيه إليه. وهو داخل في الشرط ، والجزاء ، وليس بخارج منه. فاحتجاجكم به باطل!.
[الجواب] : أنّ الغرض من الآية ، هو : النهي ، عن قبول الشهادة. والأمر بتفسيقهم. وليس الغرض : أن لا تقبل شهادتهم ، فاسقين ، وإنما الغرض : أن يفسّقوا ما داموا مصرّين ، على القذف.
فقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) :) جملة خبرية ، يراد بها : الأمر ، وأن يعتقد فيهم الفسق. فإنما يقدّر الجملة تقدير المفرد ، إذا أمكن وضع المفرد موضعها. وهاهنا ، لو وضع المفرد موضعها ، على ما ذكر بطل الغرض ، وانقلب المعنى. فإذن قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) محمول على الجملة التي هي أقرب إليه ، وهو العامل فيه ، لا غير.
ومثله في قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(٣). فالجر متعلق ب (يفتيكم). ومثله : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ)(٤). فالمعنى : إنّي أشهد الله أني بريء ، واشهدوا أني بريء. فأعمل الثاني ، لأنه أقرب إليه. [قال الشاعر] :
٢٠١ ـ ولقد أرى ، تغنى بها سيفانة |
|
تصبي الحليم ، ومثله أصباه (٥) |
فأعمل (تغنى) دون (أرى). [وقال الآخر] :
__________________
(١) ٢٤ : سورة النور ٤.
(٢) ٣ : سورة آل عمران ١٢٠.
(٣) ٤ : سورة النساء ١٧٦.
(٤) ١١ : سورة هود ٥٤.
(٥) البيت من الكامل ، لرجل من باهلة. في : الكتاب ١ : ٧٧ ، والتحصيل ٩٥ ، والإنصاف ١ : ٨٩.
وبلا نسبة في المقتضب ٤ : ٧٥.
السيفانة : المرأة الممشوقة اللحم ، المهفهفة ، شبهت بالسيف لإرهافه ، ولطافته.
٢٠٢ ـ ولكنّ نصفا ، لو سببت ، وسبّني |
|
بنو عبد شمس من مناف وهاشم (١) |
فأعمل : سبني. [وقال الآخر] :
٢٠٣ ـ وكمتا مدمّاة ، كانّ متونها |
|
جرى فوقها ، واستشعرت لون ومذهب (٢) |
فنصب (لون) ب (استشعرت) ولم يرفعه ب (جرى) وفيه ضميره ، على شريطة التفسير.
كما أنه أعمل (سبني) ولم يعمل (سببت) ولو أعمله ، لكان : سببت وسبوني بني عبد شمس. فهذا شأن الأقرب إلى المعمول. فافهمه.
[قال أبو الفتح] : فإن تقدّم المستثنى ، لم يكن فيه إلا النصب. تقول : ما قام إلا زيدا أحد.
وما مررت إلا زيدا بأحد. [قال الكميت] :
٢٠٤ ـ ومالي ، إلا آل أحمد ، شيعة |
|
ومالي ، إلّا مشعب الحقّ ، مشعب (٣) |
[قلت] : إنما لم يجز فيه إلا النصب ، لأن البدل [٨٢ / أ] كان فيه جائزا ، لأنه كان قبله المبدل منه ، فلما تقدم لم يكن البدل جائزا ، لاستحالة تقدّم المبدل ، على المبدل منه. فقول الكميت :
٢٠٥ ـ مالي إلّا آل أحمد ، شيعة |
|
... |
التقدير : مالي شيعة إلا آل أحمد. فكان يجوز ، لو جاء كذا : الرفع ، والنصب. فلما تقدّم استحال الرفع ، وبقي النصب.
[قال الشاعر] :
٢٠٦ ـ وكان ألبا علينا القوم ، ليس لنا |
|
إلّا السّيوف ، وأطراف القنا وزر (٤) |
أي : ليس لنا وزر إلا السيوف. فلما تقدم ، بطل الرفع ، وبقي النصب. ومما جاء من ذلك في التنزيل ، قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ)(٥). والتقدير : ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. فقوله : (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) :) مستثنى من أحد. واللام زيادة. فقدّم
__________________
(١) البيت من الطويل ، للفرزدق ، في : ديوانه ٢ : ٥٣٢ ، والكتاب ١ : ٧٧ ، والتحصيل ٩٤ ، والمقتضب ٤ : ٧٤ ، والإنصاف ١ : ٨٧.
(٢) البيت من الطويل ، لطفيل الغنوي ، في : ديوانه ٢٣ ، والكتاب ١ : ٧٧ ، والتحصيل ٩٥ ، والإنصاف ١ : ٨٨ ، وابن يعيش ١ : ٧٨.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٧٥ ، والأشموني ٢ : ٣٢٤.
(٣) البيت من الطويل ، للكميت ، في : الهاشميات ٣٣ ، والإنصاف ١ : ٢٧٥ ، والخزانة ٤ : ٣١٣ ، ٣١٩ ، ٩ : ١٣٨.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٣٩٨.
(٤) البيت من البسيط ، لكعب بن مالك ، في : ديوانه ٢٠٩ ، والكتاب ٢ : ٣٣٦ ، والتحصيل ٣٦٤ ، وابن يعيش ٢ : ٧٩.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٣٩٧ ، والإنصاف ١ : ٢٦٧ ، وقد روى الجميع صدره :
الناس ألب علينا فيك ليس لنا |
|
... |
الألب : المجتمعون على عداوة إنسان. اللسان (ألب) ١ : ٢١٥.
(٥) ٣ : سورة آل عمران ٧٣.