شرح اللّمع في النحو

أبي الفتح عثمان بن جنّي

شرح اللّمع في النحو

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠

وقال الثمانيني : فأما (كيف) فالذي يدل على كونها اسما أن (قطربا) حكى عن بعض العرب أنه أدخل حرف الجر عليها ، فقال : (أنظر إلى كيف يصنع) ، وحكى (الأخفش) : أن قوما من العرب يقولون : (على كيف تبيع الأحمرين) (١)؟ فيدخلون عليها حرف الجر ، وهذا دليل من طريق السماع ، فأما طريق القياس ، فالذي يدل على أنها اسم أنها تجاب بالاسم ، إذا قيل : كيف زيد؟ قيل (صالح ، أو مريض) : والاسم لا يكون إلا جوابا لاسم ، وانك تبدل منها الاسم ، تقول : (كيف زيد : أخارج أم مقيم)؟ والاسم لا يبدل إلا من الاسم ، وإنها سؤال عن حال ، والحال لا تكون إلا اسما ؛ فإذا وجدت الجمل ، في مواضع الحال ؛ فذلك مجاز وليس بحقيقة.

والذي يدل على أن (كيف) اسم أنك تقول : (كيف زيد)؟ فيكون كلاما مستقلا.

ولا تخلو أن تكون حرفا أو اسما أو فعلا ، فلا يجوز أن تكون حرفا ؛ لأن الحرف مع الاسم لا يفيد إلا في النداء ، وهذا ليس بنداء ، ولا يجوز أن تكون فعلا ، لأنها ليست مشتقة من مصدر ، ولا تدل على زمان مخصوص ، وأيضا فإنه ليس في الأفعال الثلاثية ما يسكن وسطه سكونا لازما (٢). وبهذا نستطيع أن نقول : إن الثمانيني يستند إلى دليل السماع بقوة ، ثم يلجأ إلى القياس ، وهو الدليل الثاني عند أهل هذه الصناعة ، فالثمانيني باحث مؤصل يعتمد على الدليل القولي ، والحجة اللغوية ، ولا يخلي بعد ذلك كلامه من العلة.

أما ابن برهان ، فباحث منطقي معلل.

والثاني : صعب معقد ، يلفه الغموض ، لما فيه من الافتراضات ، وأنقل مثالا على ذلك ، قوله في النسب إلى الممدود ، قال (٣) : ((ولما استوى في الحذف في التاء الجمع والنسب ، استويا في القلب ، فقالوا : حمراوات وحمراوي ، ولأن الاسم كان ينصرف في حال إفراده فتدخله الحركات الثلاث ثم لزم حركة واحدة بعد دخول علامتي التثنية والنسب ، فإن قال : وما الفرق بينهما وبين التاء حتى حذفت في النسب؟ قيل له : إن التاء تشبه ياءي النسب في : زنج وزنجي ، وتمرة ، وتمر ، فكان اجتماعهما لذلك كاجتماع حرفي معنى ، وأيضا فالذي اقتضى حذفهما في (مسلمات) يقتضي حذفهما هنا ، والذي اقتضى (حمراوات) اقتضى (حمراوي).

فإن قال : هلا أبدلت التاء؟

قيل له : لم يستمر بدلها في شيء وصلا كما استمر ذلك في الهمزة.

فإن قيل : وما الفرق بينهما وبين الألف في : حبارى وقرقرى؟

قيل له : قال سيبويه : لا تحذف ؛ لأنه لما تحرك آخر الاسم ، وكان حيا يدخله الرفع والنصب

__________________

(١) الأحمران : قيل : اللحم والخمر ، أو : الذهب والزعفران ، التاج (حمر) ١١ : ٧٤ ، ٧٥.

(٢) الفوائد والقواعد ٦.

(٣) شرح اللمع لابن برهان ٢ : ٦٢٧ ، ٦٢٨.

٢١

والجر ، صار بمنزلة آخر (مرمى) ، وإنما جسروا على حذف الألف ؛ لأنها ميتة ، لا يدخلها جر ولا نصب ولا رفع فحذفوها كما حذفوا ياء (ربيعة وحنيفة).

ولو كان آخر (مرامى وحبارى) متحركا لم يحذف لقوة المتحرك ، فأراك أن اعتلالها بالسكون طرق عليها الحذف ، كما يطرق المرض الموت)).

ج ـ الشاهد : استشهد ابن برهان في شرحه بالقرآن الكريم كثيرا ، فكل قاعدة يمكن أن يكون لها شاهد من القرآن ، فقد أتى بذلك الشاهد القرآني.

وأما الشعر ، فقد أكثر منه ، إذ كان راوية إخباريا (١) ، وتعود كثرة الشعر في شرحه لسببين :

الأول : استشهاده للقاعدة الواحدة ، بعدد من الأبيات ، حتى يبدو الاستشهاد مملا ، ومن أمثلة ذلك استشهاده على جواز صرف ما لا ينصرف في الشعر ، إذ استشهد لهذا الجواز بعشرة أبيات منها ، بيت النابغة :

فلتأتينك قصائد وليدفعن

ألف إليك قوادم الأكوار (٢)

وقول الأخطل :

طلب الأزارق بالكتائب إذ هوت

بشبيب غائلة النفوس غدور (٣)

الثاني : إيراده الأبيات السوابق ، واللواحق للبيت الذي فيه الشاهد النحوي ومن أمثلة ذلك استشهاده على وصل (من) عند ما تكون سؤالا لجمع المخاطبين المذكر ، مرفوعا ، فجميع النحويين يستشهدون بالبيت الذي يضم الشاهد وحده ـ وهو قول شمير بن الحارث الضبي :

أتوا ناري ، فقلت : منون؟ قالوا :

سراة الجن قلت : عموا ظلاما

أما ابن برهان فقد ذكر مع هذا البيت ثلاثة أبيات أخر ، لا علاقة لها بالقاعدة (٤). بل إنه ذكر قصيدة عبيد بن الأبرص البالغة ثمانية عشر بيتا برمتها ، وكان يكفيه لتمثيل القاعدة بيت أو بيتان ، ولكن لأنه اتفق لعبيد أن تكون (أل) التي حذفت همزة القطع فيها لكثرة الاستعمال ، في قصيدته في عروض القصيدة ، وما دخلت عليه في أول العجز ، فقد ذكرها كلها (٥) ، ومطلعها :

يا خليلي ، قفا واستخبر ال

منزل الدارس عن أهل الحلال

وأما استشهاده بالحديث النبوي الشريف ، فقد جرى على سنن النحويين قبله في قلة الاستشهاد منه ، إذ لم يتجاوز استشهاده بالحديث أكثر من تسعة أحاديث كما أحصاها محقق الكتاب ، الدكتور فائز فارس.

ولم يغفل ابن برهان عن أقوال العرب وأمثالهم ، إذ استشهد في شرحه ببعض أقوالهم وأمثالهم.

__________________

(١) شرح اللمع لابن برهان (المقدمة) ٧٨.

(٢) نفسه ٤٧٦.

(٣) نفسه ٤٧٧.

(٤) شرح اللمع لابن برهان ٤٩٨.

(٥) نفسه ٣٠٥ ، ٣٠٦.

٢٢

د ـ التعليل : لا يكاد ابن برهان يخرج عن العلل البصرية المعروفة لدى النحويين ؛ إذ كان يؤمن بأن (الأصل) لا وجه لتعليله ، وإنما يعلل الاستحسان (١) ؛ معللا ذلك بأن الأصول لا يتسلط على وضع ما جاءت عليه سؤال ، إذ ذلك ـ كما قال هو نفسه ـ بمنزلة من قال : كيف كانت صلاة الفجر ركعتين ، والمغرب ثلاثا ، والعشاء أربعا؟! (٢).

فعلله إذن هي العلل التعليمية ، ولا يخرج عنها إلا نادرا ، فيأتي بعلل طريفة كتعليله المقصور ، لم سمي مقصورا ، قال : لأنه حبس عن الإعراب.

ثم أخذ يفسر لنا (القصر) فقال : والقصر : الحبس ، قال الله تعالى (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (٧٣) (٣). أي : محبوسات غير متبذلات ، قال كثير :

وأنت التي حببت كل قصيرة إلي

وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ، ولم أرد

قصار الخطا ، شرّ النساء البحاتر (٤)

٣ ـ شرح اللمع المسمى (البيان في شرح اللمع) لأبي البركات عمر بن إبراهيم الحسيني العلوي الكوفي المتوفى سنة (٥٣٩ ه‍) :

إن شرح أبي البركات العلوي ما يزال مخطوطا ، وهو شرح كبير يقع في (٥٦٠) صفحة ، ويتسم بالمنهج الآتي :

أـ طريقة الشرح : شرح العلوي لمع ابن جني شرحا بالقول ، من أوله إلى آخره ، إذ افتتح كتابه بقوله : (قال أبو الفتح عثمان بن جني ، رحمه الله تعالى : الكلام ثلاثة أضرب ..) ثم أجتزأ هذه العبارة إلى لفظة (قال) فقط ، في مفتتح كل باب ، أو فصل ، أو فقرة ، وقليلا ما يعود فيقول (قال ابن جني) ، وجعل بدء شرحه ، بعد نقل كلام ابن جني ، لفظة (اعلم) ، فهو إذن شرح بالقول من أوله إلى آخره.

اعتمد أبو البركات العلوي في مادته العلمية على النتاج النحوي للعلماء الذين سبقوه في هذا المضمار ، فكان كتاب سيبويه وآراؤه ، وكتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي ، وآراء الخليل والأخفش والفراء وأبي سعيد السيرافي ، وغيرهم ، وكذلك آراء الفقهاء كالشافعي ، كان كل أولئك مصادر مادة شرحه ، فينقلها لنا في كتابه ، ومن أمثلة ذلك قوله ناقلا عن سيبويه : (الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وبنيت لما مضى ، ولما يكون ولم يقع ، ولما هو كائن لم ينقطع) (٥).

وكما قلت ، كان يعتني بآراء الفقهاء ، فقد أخذ عن الشافعي قوله في معنى (الباء) و (الواو) ، فقال : ((وعند الشافعي ، رضي الله عنه ، ومن وافقه من الفقهاء ، أنها ؛ أي (الباء) للتبعيض ، ويجب

__________________

(١) نفسه ٢٧٣.

(٢) شرح اللمع لابن برهان ٧٣٧.

(٣) ٥٥ : سورة الرحمن ٧٢.

(٤) شرح اللمع لابن برهان ١٦ ، ١٧.

(٥) الكتاب ١ : ١٢ ، وشرح اللمع للعلوي ٦.

٢٣

أن يكون استفاده بدليل شرعي)) (١).

وقوله : وحكى أصحاب الشافعي ، رحمه الله ، عن الفراء ، وثعلب أنها أي (الواو) للترتيب (٢) ، وبه يقول الشافعي في آية الوضوء (٣).

ب ـ أسلوبه : لقد اتسم أسلوب العلوي باليسر ، والسهولة ، فقد جاء مراده مفهوما ، من خلال إيراد الأمثلة ، والإحاطة بالمطلب الذي يتولى شرحه ، وكان يشكل على نفسه بعبارات مختلفة ويجيب على ما افترض من إشكال محتمل ، وهذه السمة تنبسط على جميع كتابه ، فكان يقول : إن سأل سائل ، أو إن قال قائل ، ثم يجيب على تلك الأسئلة المفترضة ، بقوله : قيل له ، أو : والجواب على ذلك (٤). ثم إنه ، إن وجد صعوبة في بعض ألفاظ ابن جني ، عقد فصلا آخر في تفسير ذلك الغريب ، وشرح كل لفظة فيه (٥). وفوق كل هذا قد يعقد فصلا آخر في نهاية الباب بعنوان : (مسائل من هذا الباب) يذكر فيه ما يراه جديرا بالذكر من مسائل اللغة والنحو ، ومن أمثلة ذلك قوله في باب (الترخيم) ، وتحت هذا العنوان قال : إن سأل سائل : كيف ترخم (طيلسانا)؟ قيل له : قد اختلف في ذلك ؛ فعند الأخفش لا يجوز ترخيم (طيلسان) وحجته أن (طيلس) على وزن (فيعل) و (فيعل) لا يوجد اسما في الصحيح ؛ وإنما في المعتل ، نحو (سيد ، وميت) (٦).

ج ـ العلة : لقد اعتنى العلوي بالعلة النحوية ، فعلل كل ظاهرة إعرابية ، أو صرفية ، أو مسميات أحيانا ، ومثال ذلك قوله في تعليل تسمية الحركات الثلاث : النصب ، والرفع ، والجر ، بهذه التسميات ، فيقول : (فأما النصب ، فسمي نصبا ؛ لأنه وجد بعد الرفع ، فكأنك نصبته عليه وجعلته زيادة بيان للأصل ، وقال بعضهم سمي نصبا ؛ لأنه من الألف ، والألف من أقصى الحلق ، فأما الجر ، فسمي جرا لأنه ضد النصب ؛ لأن النصب قصدوا به الإعلاء ، والجر قصدوا به النزول فكأنك جررت الاسم بعد نصبك له.

وعلل العلوي ، هي العلل التعليمية المتداولة عند النحويين قبله ، وأحيانا يضيف إلى تلك العلل عللا أخرى ، ومن أمثلة ذلك ، قال أبو الفتح ، في باب النسب : (فإن كانت في الاسم تاء التأنيث ، حذفتها لياء النسب ؛ لأن علامة التأنيث لأتكون حشوا ، تقول في طلحة : طلحي ، وفي حمزة : حمزي).

قال العلوي : (إنه قد أشار إلى العلة ، ونذكر علة أخرى ، وهو أن (ياء) النسب تجري مجرى

__________________

(١) شرح اللمع للعلوي ٩٨.

(٢) وقال مع الفراء ، وثعلب والشافعي في إفادتها الترتيب : قطرب والربعي وأبو عمرو الزاهد وهشام ، ينظر : مغني اللبيب ١ : ٣٥٤ ، وتفسير القرطبي ٦ : ٩٨ ، إذ نقل المرويات واختلاف الناس في ذلك.

(٣) ٥ : سورة المائدة ٦ ، قال تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.)

(٤) شرح اللمع للعلوي ١٨٣

(٥) نفسه ٢١٦ ـ ٢١٨

(٦) نفسه ١٤٩ ـ ١٥٣.

٢٤

(هاء) التأنيث ، فلا يجوز الجمع بينهما) (١).

د ـ الشاهد النحوي : كان الشاهد القرآني هو المقدم عنده ، ثم يردفه بالشاهد الشعري ، وندر جدا استشهاده بالحديث النبوي ، وأمثال العرب ، وشاهد القرآن والشعر دارا في شرحه كثيرا ، فهو والثمانيني على سنن واحد في الإكثار من هذين الشاهدين.

٤ ـ شرح اللمع ، المسمى ب (الغرة) لأبي محمد سعيد بن المبارك الدهان المتوفى سنة (٥٦٩ ه‍).

وهو شرح كبير ، ما يزال مخطوطا ، اتبع فيه ابن الدهان المنهج الآتي :

أـ طريقة الشرح : هذا هو الشرح الوحيد ، من بين الشروح التي اطلعت عليها ، كان الشارح فيه قد شرحه بالقول فقد ألزم نفسه بذلك ، ولم يخرج عليه قط. إذ كان ابن الدهان يأخذ قول ابن جني ، كله ، أو جزءا منه ، وأحيانا عنوان الباب فقط ، وكل ذلك يضعه تحت عبارة : (قال أبو الفتح ، رحمه الله) ، وبعد انتهاء عبارة أبي الفتح ، يفتتح شرحه بقوله : (قال سعيد).

ومن أمثلة ذلك : (قال أبو الفتح رحمه الله) : ((والأسماء المضمرة على ضربين : منفصل ومتصل ، فالمنفصل على ضربين : مرفوع ومنصوب)).

قال سعيد : الحاجة الداعية إلى المضمر الاختصار وعدم اللبس ، وهو كما ذكر منفصل ومتصل ، وإنما يبنى عند قوم لأنه لا يلزم مسماه .. إلى آخر الفصل (٢).

وهو مع التزامه (بالقولية) هذه ، فقد وجدته يخرج كثيرا على نص ابن جني لفظا ، مع الحفاظ عليه روحا ، ومن أمثلة ذلك ، ما ورد في باب النداء ، إذ كان نص ابن جني هو : (الأسماء المناداة على ثلاثة أضرب : مفرد ، ومضاف ، ومشابه للمضاف من أجل طوله) (٣).

نقله ابن الدهان هكذا : (والأسماء المناداة على ثلاثة أضرب : مفرد ، ومضاف ، ومشابه للمضاف) (٤) ، فلم ينقل لنا عبارة (من أجل طوله). غير أن هذه العبارة لا تغيب عن ذهنه ، بل تبقى تلجلج في صدره ، فيشرحها بقوله : (والاسم الطويل كناية عن العامل رفعا ظاهرا أو موضعا ..) (٥).

وتتسم عبارة ابن الدهان بالوضوح ، فليس في كلامه معاظلة أو تعقيد ، أو إبهام ، مع مراعاة التمثيل لكل حالة أو قاعدة ، أو رأي.

ب ـ مصادره : لا ننس أن وفاة ابن الدهان كانت سنة (٥٦٩ ه‍) ؛ فكانت كل جهود أساطين النحو ، وجهابذة هذه الصناعة الذين سبقوه ، وآراؤهم ، مادته الأساسية في شرحه الكبير ، لذلك نجد أسماءهم تتردد في جملة الشرح ، حتى لا تكاد صفحة من صفحاته ، تخلو من اسم أحدهم ، أو من رأيه ، بل إنه ذو عناية بالآراء الفقهية المبنية على التعليلات النحوية ، فنجد

__________________

(١) شرح اللمع للعلوي ٢٥٢.

(٢) الغرة لابن الدهان ٤.

(٣) اللمع في العربية ١٩٥.

(٤) الغرة لابن الدهان ٢٥.

(٥) الغرة لابن الدهان ٢٩.

٢٥

اسم : أبي حنيفة ، والشافعي ، والمعتزلة ، والاشاعرة ، يذكرها بكثرة في هذا الشرح ، ومن أمثلة ذلك ، صيغة الأمر الصادر عن الله عز وجل ، في (افعل ولا تفعل) جاء قوله : (إن الأمر (١) له صيغة (افعل) عند النحاة والمعتزلة ، وقالت الأشاعرة : لا صيغة له ، ويقتضي الوجوب عند أصحاب أبي حنيفة ، رحمة الله عليه ، وقال الشافعي : يقتضي الإباحة) (٢).

وأورد مثلا آخر ، دليلا على ازدحام النحويين السابقين في شرحه ، قال : (وأبو عمرو ويونس وعيسى بن عمر والمبرد والجرمي ينصبونه (٣). فحجة سيبويه أنه أشبه المعمول المعرب غير المنصرف .. فإن ناديت منقوصا ، فيونس يقول : يا قاض ؛ وحجته أنه باب حذف .. وسيبويه يختار قول يونس) (٤).

٤ ـ التعليل : اعتنى ابن الدهان العناية كلها ، بتعليل كل ما يشرحه ، أو يضع له هو نفسه أسئلة ، فيجيب عليها موضحا ومعللا ، على طريقة (الفنقلة) (٥) من نحو ما جاء في الشرح : (فإن قيل على قول من قال : إن (يا) يحدث تعريفا ، فكيف جمعت (يا) مع المضاف ؛ وهما للتعريف؟.

فالجواب : أن الإضافة لم تلابس (يا) ، فصار ذلك بمنزلة وجود (أن واللام) إذا فصل بينهما (٦). والثاني : أن المضاف إليه واقع موقع التنوين ، وأنت لا تمنع من اجتماع (يا) مع التنوين ..) (٧).

د ـ الشاهد : حظي الشاهد القرآني ، عند ابن الدهان ، حظوة كبيرة ، فاستشهد بالقرآن الكريم ، حيث وجد إلى ذلك سبيلا ، سواء لتأييد قاعدة ، أو نصرة رأي ، أو إبطال حجة ، ونحن قد أسلفنا أن أسماء النحويين وآراءهم قد وردت كثيرا ، ترفدهم أسماء الفقهاء ، والمذاهب الفقهية ، وما يستتبع ذلك ، من إبطال لرأي ، أو تأييد لحجة.

ومن أمثلة ذلك ، أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن الأعداد من الثلاثة إلى العشرة (٨) ، يعود ضمير الغائبة عليها بالنون (٩) ، كأن تقول : زرت عليا لخمس ليال خلون من رمضان ، ويعود لما فوق ذلك ، بالتاء ، كأن تقول : رجعت من المدينة لثلاث عشرة ليلة خلت ، وقد نصر ابن الدهان هذا الرأي بقوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً

__________________

(١) أي الأمر الشرعي.

(٢) الغرة لابن الدهان ٢٩.

(٣) أي ينصبون (عديا) في قول الشاعر :

ضربت صدرها إلي وقالت

يا عديا لقد وقتك الأواقي

(٤) الغرة لابن الدهان ٢٨.

(٥) الفنقلة : اسم منحوت من قولهم : (فإن قلت ، فقد قلت).

(٦) يعني : أن (إن واللام) للتوكيد ، فيفصل بينهما ، فيقال ، مثلا : إن محمدا لحاضر.

(٧) الغرة لابن الدهان ٣٨.

(٨) نفسه ١٢.

(٩) كشف المشكل ٢ : ٧٩ ، ٨٠.

٢٦

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦) (١).

فقال (منها) لما عاد إلى الاثني عشر ، وقال (فيهن) ، لما عاد إلى الأربعة الأشهر (٢).

وأما الشاهد الشعري ، فكان احتفاله به كبيرا أيضا ، إذ استشهد بشعر وفير ، ويعود ذلك إلى إيراده كثيرا من الشواهد في المسألة الواحدة ، إذا كان لها في كلام العرب محمل أو شاهد (٣) ، ويلي استشهاده بالقرآن والشعر ، استشهاده بكلام العرب (٤) ، وأما الحديث الشريف ، فيبدو أنه على رأي المتقدمين من النحويين الواضعين لعلم النحو المستقرين لأحكامه من لسان العرب ، كأبي عمرو بن العلاء ، وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من أئمة البصريين ، والكسائي والفراء وعلي بن المبارك وهشام الضرير من أئمة الكوفيين (٥) ، الذين لم يجروا الحديث الشريف مجرى القرآن الكريم والشعر في إثبات القواعد الكلية ؛ لما جوزه الرواة من النقل بالمعنى ، ولوقوع بعض أولئك الرواة في اللحن لأنهم أعاجم (٦) ؛ فلم أقف لابن الدهان على شاهد من حديث (٧).

٥ ـ شرح اللمع لأبي نصر الواسطي الضرير المتوفى سنة (٦٢٦ ه‍) (٨).

نستطيع أن نتلمس منهج الواسطي في شرح اللمع بما يأتي :

أـ تناول المادة : لا نجد ، عند ما نقرأ شرح الواسطي ، الشراكة المطلوبة بين صاحب الأصل ، ابن جني ، والشارح ، الواسطي ؛ إذ لم يذكر الواسطي ابن جني غير مرتين ، الأولى في مفتتح كلامه ؛ إذ قال بعد البسملة : (قال أبو الفتح عثمان بن جني ، رحمه الله (٩) ، والثانية بعد باب المعرب والمبني ، إذ جاء قوله : (قال أبو الفتح) (١٠) ، ثم بعد هذا لم نجد ذكرا لابن جني ، أو تلميحا ؛ بل وضع الواسطي أبواب اللمع في ذهنه ، وأخذ يشرحها بلا قيد.

وقد جاء هذا الشرح ، موجزا ، بحيث كانت شروح بعض أبوابه بقدر نص اللمع ، أو تزيد قليلا ، كباب جمع التكسير ، والأفعال ، وظرف الزمان ، والمفعول له (١١).

وهو مع إيجازه ، كان واضح العبارة ، مفهوم المراد ، يناسب المتعلمين.

ب ـ مصادره : يعد كتاب سيبويه أول مصادره النحوية كسابقيه من الشراح ؛ فقد أخذ من فكره النحوي ، نقلا بالقول ، أحيانا وأحيانا نقلا بالمعنى (١٢) ، كما دارت في كتابه آراء الخليل ويونس وسيبويه والأخفش ، والمبرد ، وأبي عمر الجرمي ، والفراء ، وابن خالويه ، وأبي علي

__________________

(١) ٩ : سورة التوبة ٣٦.

(٢) الغرة لابن الدهان : ١٣.

(٣) نفسه ١٩ ، ٢٨ ، ٦٣ ، ٦٤.

(٤) نفسه ٩.

(٥) الاقتراح ٤١ ، ٤٢.

(٦) الخزانة ١ : ١١ ، ومواقف النحاة من الاستشهاد بالحديث ١٦ ، ١٧.

(٧) لدي جزء من المخطوطة يقع في مئتي صفحة ، لم أجد في هذا الجزء استشهادا بالحديث الشريف.

(٨) شرح اللمع للواسطي / تحقيق السيد حسن الشرع ـ القاهرة.

(٩) نفسه ٢.

(١٠) نفسه ٤.

(١١) ينظر : اللمع في العربية : ٧٦ ، ٧٧ ، ١٢٦ ، ١٣٠ ، وشرح اللمع للواسطي : ٢٨ ، ٢٩ ، ٧٧ ، ٧٩.

(١٢) ينظر : شرح اللمع للواسطي ٢٧ ، ٢٠ ، ٨٧.

٢٧

الفارسي ، والرماني (١) ، وغيرهم ممن سبقوه.

ويعد ابن السراج النحوي الثاني بعد سيبويه ، الذي نقل الواسطي أفكاره فتردد ذكره في كتابه كثيرا (٢).

ج ـ التعليل : ولأن كتاب الواسطي ، كتاب تعليمي ، فقد شاعت فيه العلة التعليمية ؛ لتقريب المسائل النحوية من أذهان المتلقين ، ورافقت ذلك المحاورات التي قامت على (الفنقلة) (٣).

ومن أمثلة ذلك ، قوله في باب المبتدأ : " ولا يبتدأ ، إلا باسم معرفة ؛ لأنك إذا أخبرت عن معرفة ، ذهبت النفس إلى معرفة خبره ، فإن قلت : رجل قائم ؛ لم يستقم ؛ لأنه لا تخلو الدنيا من رجل قائم ، فلذلك كان لا فائدة فيه) (٤).

وقوله في باب الاسم الواحد : (وكل اسم لا ينصرف ، فلحدوث علتين ، أو علة تجري مجرى علتين ، و (إبراهيم) لا ينصرف للتعريف والعجمة ، فإن نكرته انصرف ، وإن أضفت جميع ما لا ينصرف ، أو أدخلت عليه ألفا ولاما ، امتنع منه التنوين ، ودخله الجر ، في موضع الجر ؛ لأنه قد زال شبه الفعل منه ؛ لأن الألف واللام ، والإضافة من خواص الأسماء.

فإن قيل : فحرف الجر من خواص الأسماء فألا صرفته بدخول (الباء) عليه؟.

الجواب : ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه لو فعل ذلك ؛ لم يبق في الأسماء ما لا ينصرف.

والثاني : أن الألف واللام ، والإضافة يعاقبان التنوين ، وحروف الجر ليس كذلك ..) (٥).

د ـ الشاهد : استشهد الواسطي بالقرآن الكريم كثيرا ؛ إذ كان حجته الأولى فيما يذهب إليه من مسائل نحوية (٦).

أما الشعر فلم يحظ عنده ، بما حظي به القرآن الكريم ، فكان استشهاده به قليلا جدا ؛ إذ كان ما في نص اللمع من الشعر ، يزيد على ما في شرحه.

وتحرج الواسطي ـ فيما يبدو لي ـ من الاستشهاد بالحديث الشريف ؛ لأنه منقول عن المحدثين بالمعنى ، أو اتّسى بالنحويين السابقين من المصريين الذين لم يحتجوا بشيء منه (٧).

وبعد هذه الجولة ، مع هذه الشروح الخمسة ، ودراسة خصائصها ، أستطيع أن أضع شرح جامع العلوم في الصدارة من تلك الشروح ؛ لما اتسم به من العمق والشمول ، والرصانة ، وبعد الغور ، في استجلاء القاعدة النحوية ، إذ عبر من خلال المنهج الذي وصفناه قبل ، عن إحاطته الفائقة بعلوم العربية ؛ ولا سيما النحو وما يتصل بالقرآن ، إعرابا وقراءات ثم اشتمال شرح اللمع

__________________

(١) ينظر : شرح اللمع للواسطي ٢٣.

(٢) ينظر : شرح اللمع للواسطي ٣ ، ٢٠٥ ، ١٠٤.

(٣) شرح اللمع للواسطي ١٣٥.

(٤) نفسه ٣١.

(٥) شرح اللمع للواسطي ١٤.

(٦) نفسه ٢٤ ، ٩٠ ، ١٢٣.

(٧) الخزانة ١ : ٩.

٢٨

على جل أسرار ذلك ولطائفه.

المبحث الرابع

المذهب النحوي لجامع العلوم وآراؤه

على الرغم من أن جامع العلوم من سكان أصبهان ، أحد أقاليم إيران (١) ، وأنه قد توفي سنة (٥٤٣ ه‍) إذ مضى على اكتمال مدرستي الكوفة والبصرة فكرا وقواعد ، أكثر من قرنين من الزمان من تاريخ وفاته نزولا (٢) ، فقد كان جامع العلوم بصري المذهب وكان يعلن انتسابه إليه بألفاظ شتى ، منه قوله.

١ ـ عندنا :

إذ ترددت هذه اللفظة في شرح اللمع كثيرا عند ذكره رأيا بصريا من ذلك ، على سبيل المثال ، قوله في إعراب الأسماء الستة ، قال : ((ثم اختلفوا (٣) في هذه الحروف هل هي حروف إعراب ، أم أنفس الإعراب؟ فعندنا : الواو في موضع الرفع ..)) (٤).

ومسألة إعراب الأسماء الستة مسألة خلافية بين الكوفيين والبصريين ، ذهب فيها الكوفيون إلى أن الأسماء الستة معربة من مكانين ، فالضمة والواو : علامة للرفع ، والفتحة والألف : علامة للنصب ، والكسرة والياء : علامة للجر.

وذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد ، فالواو : علامة للرفع والألف : علامة للنصب ، والياء : علامة للجر (٥) ، وقد رد جامع العلوم رأي الكوفيين من خلال رده على الفراء في هذه المسألة (٦).

ومنه قوله في خبر المبتدأ إذا كان اسما محضا (أي جامدا) أيتضمن الضمير أم لا؟ قال : ((.. فالذي هو هو : زيد أخوك ، فالأخ زيد ، وزيد الأخ ، فهذا لا ضمير فيه عندنا ؛ لأنه ليس بمشتق)) (٧).

وهذه مسألة خلافية أيضا ، ذهب فيها الكوفيون إلى أن خبر المبتدأ إذا كان اسما محضا ؛ فقد تضمن ضميرا ، يرجع إلى المبتدأ ، نحو : زيد أخوك ، والى ذلك ذهب من البصريين علي بن عيسى

__________________

(١) معجم البلدان ١ : ٢٠٦ ـ ٢١٠.

(٢) إذ انتهت طبقات النحويين البصريين بابن السراج المتوفى سنة (٣١٦ ه‍) وانتهت طبقات النحويين الكوفيين بثعلب المتوفى سنة (٢٩١ ه‍).

ينظر : أخبار النحويين البصريين ٨٠ ، ٨١ ، وطبقات النحويين واللغويين ١١٢ ، ١٤١ ـ ١٥٠.

(٣) أي : النحويون.

(٤) شرح اللمع لجامع العلوم ٣٩.

(٥) ينظر : الكتاب ١ : ١٧ ، ١٨ ، والمقتصد ١ : ١٠٣ ، وثمار الصناعة ٦٨ ، والإنصاف ١ : ١٧ ، والجمل ١ : ١١٩ ـ ١٢٢ ، وابن يعيش ٥١ ـ ٥٤.

(٦) شرح اللمع لجامع العلوم ٣٩.

(٧) نفسه ٧٢.

٢٩

الرماني (١).

٢ ـ الكوفي :

قال جامع العلوم : (أمر المخاطب عندنا موقوف ؛ لأنه فعل .. وزعم الكوفي أنه مجزوم بلام مقدرة) (٢).

وهذه مسألة خلافية بين الكوفيين والبصريين في فعل الأمر ، أمعرب هو أم مبني (٣)؟

ذهب فيها الكوفيون إلى أن فعل الأمر معرب مجزوم.

وذهب البصريون إلى أنه مبني على السكون ، ف (أل) (الكوفي) هي (أل) الجنسية (٤) ؛ إذ لا يريد جامع العلوم بهذه اللفظة كوفيا بعينه ؛ إنما يقصد بها جميع النحويين الكوفيين ، وقد ترددت في شرحه كثيرا أيضا.

٣ ـ الكوفيون :

ومنه قوله : (وأما رب ، فهو حرف عندنا ، وقال الكوفيون : بل هو اسم ..) (٥).

وحرفية (رب) واسميتها ، مسألة خلافية بين الكوفيين والبصريين (٦).

وفيما مر قدر كاف للقطع بأن جامع العلوم ممن تابع البصريين ؛ بل هو أحد رجالات المدرسة النحوية البصرية المتأخرة (٧) الذين عنوا بآثار أبي علي الفارسي ، وأبي الفتح بن جني.

وأما سعة اطلاعه في هذا العلم ، وآراؤه ؛ فنستطيع أن نتلمسها من خلال تمكنه من بناء قواعده الكلية وتفريعاته ، وبيان دقائقه ، وتناول أقوال سابقيه من النحويين ، واتساقها في التعبير عما يريد ، وكأنها حاضرة في قلبه ، تجري على خاطره ، قريبة من عقله بيسر ووضوح.

وإذ بين يدي من كتبه ، الجواهر والكشف وشرح اللمع وقد وقفت عليها ، فقد وجدته يتعامل مع مادته ؛ ومع سابقيه من النحويين على ثلاث مراتب :

الأولى : نقل الآراء ، والثانية : مناقشتها واختيار اعلاها ؛ معززا بما يدلي هو من حجة لتعزيز ذلك الرأي أو الاختيار ، والثالثة : رده على سابقيه وانفراده بالرأي ، وفيما يأتي أذكر لمعا من كل ذلك.

__________________

(١) الإنصاف (مسألة ٧) ١ : ٥٥ ، ٥٦.

(٢) شرح اللمع لجامع العلوم ٢١.

(٣) الإنصاف (مسألة ٧٢) ٢ : ٥٢٤ ، والأشموني ١ : ٣٢.

(٤) (ال) الجنسية تخلفها (كل) حقيقة ، نحو : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨ : سورة النساء ٤) ؛ أي : خلق كل إنسان ضعيفا ، المغني ١ : ٥٠.

(٥) شرح اللمع لجامع العلوم ٢١٣.

(٦) الإنصاف (مسألة ١٢١) ٢ : ٨٣٢ ، والمغني ١ : ١٣٤.

(٧) من أعلامها : أبو طالب العبدي (ت ٤٠٦ ه‍) ، وأبو الحسين السمسمي (ت ٤١٥ ه‍) وأبو القاسم الدقيقي (ت ٤١٥ ه‍) وعلي بن عيسى الربعي (ت ٤٢٠ ه‍) وأبو الحسين الفارسي (ت ٤٢١ ه‍) وأبو علي المرزوقي (ت ٤٢١ ه‍) وابن سيده (ت ٤٥٨ ه‍) وعبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ ه‍) وابن الشجري (ت ٥٤٢ ه‍) وغيرهم.

٣٠

١ ـ نقل الآراء :

من ذلك نقله لرأي سيبويه في (عرفات) أنها اسم معرفة ؛ بدليل قولهم هذه عرفات مباركا فيها ، فتنصب (مباركا) على الحال ، والحال تكون من المعرفة دون النكرة (١).

ومنه قوله في الوقف على المنقوص المحلى ب (أل) ، أنه بالياء ، وبه وردت القراءة عن ابن كثير : الكبير المتعالي (٢).

قال : وهو الاختيار عند سيبويه ؛ ولا يلزمه (٣) قراءة الجمهور (الكبير المتعال) لأن ذلك كقوله : والّليل إذا يسر. وما كنّا نبغ.

ومنه قوله في باب (ظرف المكان) (٤) ، لو قلت ، في نحو قولك : داري من خلف دارك فرسخين أو فرسخان ، لجاز ، إذ نقل عن أبي عمر الجرمي رأيه حيث قال : وأبو عمر يأبى النصب إذا أدخلت (من) ولا يجيز إلا الرفع ، فيقول : داري من خلف دارك ؛ وإنما يتم إذا قلت : فرسخان ، فهو خبر (٥).

ومنه ما نقله في باب الاستثناء ، عن الكسائي والفراء في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(٦) ، قالا : التقدير أنعمت عليهم ، لا مغضوبا عليهم ولا الضالين ، فإنما جاء (لا) في قوله ولا الضّالّين لأن في (غير) معنى النفي (٧). وإذا كان كذلك كان حكمه حكم النفي (٨).

٢ ـ مناقشة آراء سابقيه واختياره :

ومن أمثلة ذلك العامل في الخبر ، إذ ذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر ، والخبر يرفع المبتدأ ، فهما يترافعان.

وذهب البصريون إلى أن المبتدأ يرتفع بالابتداء واختلفوا في رافع الخبر (٩).

قال جامع العلوم بشأن ذلك : ((الخبر مرفوع عندنا بالابتداء)) وذهب المبرد ، وابن السري (١٠) إلى أن الابتداء قد عمل في المبتدأ.

والابتداء ، والمبتدأ جميعا رفعا الخبر ، قالا : وذلك بمنزلة النار والقدر جميعا تحميان الماء (١١).

ألا ترى أن النار تحمي القدر والنار والقدر جميعا تحميان الماء ونظيره من كلامهم (لم يضرب زيد) (لم) عملت في (يضرب) فجزمته ، ثم (لم) مع (يضرب) : رفعا الفاعل. والقول قول سيبويه : من

__________________

(١) شرح اللمع لجامع العلوم ٢٤ ، وينظر : الكتاب ٣ : ٢٣٣.

(٢) ١٣ : سورة الرعد ٩.

(٣) أي : لا يلزم سيبويه ، الكتاب ٤ : ١٨٤.

(٤) شرح اللمع لجامع العلوم ١٧٣.

(٥) نفسه ١٧٥.

(٦) ١ : سورة الفاتحة ٧.

(٧) معاني القرآن ـ للفراء ١ : ٨.

(٨) شرح اللمع لجامع العلوم ٢٠٢.

(٩) الإنصاف (مسألة ٥) ١ : ٤٤.

(١٠) هما من البصريين.

ينظر : المقتضب ٤ : ١٢٦ ، والأصول ١ : ٦٣.

(١١) الإنصاف ١ : ٤٦.

٣١

أن الابتداء كما عمل في الاسم ، عمل في الخبر (١) ؛ لأن كل ما كان عاملا في الأول من هذا النحو ، عمل في الثاني ، ألا ترى أن قولك : ظننت زيدا قائما ؛ لما نصب (ظننت) الأول نصب الثاني.

وكذلك : إن زيدا قائم ؛ لما عمل (إن) في الأول عمل في الثاني ، وكذلك : كان زيد قائما ؛ لما عمل (كان) في الأول ، عمل في الثاني.

فكذا هاهنا.

فأما قولهم : لم يضرب زيد ؛ ف (لم) ليست من عوامل الأسماء ؛ وإنما هي من عوامل الأفعال ، وكان قبل دخولها (يضرب زيد) ؛ فعل وفاعل ، عمل الأول في الثاني ، فدخلت (لم) في الفعل ، وأدى ما اقتضاه فليس هو مما نحن فيه بشيء.

قال المبرد : لو كان العامل الابتداء ، لم يجز أن يدخل عليه عامل آخر ألا ترى أن (ظننت) لما كان عاملا ، لم يدخل عليه عامل آخر.

قلت : هذا لا يصح من أبي العباس ؛ لأنه سلم أن الابتداء عامل ، ولا يصح من غيره أيضا ؛ لأنا ذكرنا أن الابتداء عامل معنوي. فاذا جاء عامل لفظي تسلط عليه وكانت الغلبة له فاعرفه (٢).

وكتاب (الجواهر) لجامع العلوم ، وقد بناه على قواعد كلية في تسعين بابا ، كما يقول هو : ((أخرجتها من التنزيل بعد فكر وتأمل ، وطول الإقامة على درسه)) (٣) ، تزدحم فيه أقوال النحويين وآراؤهم ، وتعظم عنده الفائدة ؛ إذ لا أظنك وقد سرحت نظرك في هذا الكتاب إلا أتممته ؛ لما يأخذك به من سحر نقاشه وجمال عبارته ، وطريف أسراره.

وها أنا أنقل من الباب الحادي والعشرين ، طرفا من ذلك (٤).

قال جامع العلوم : ((هذا باب ما جاء في التنزيل من الظروف التي يرتفع ما بعدهن بهن على الخلاف د ، وما يرتفع ما بعدهن بهن على الاتفاق (٥) ، وهو باب يغفل عنه كثير من الناس)).

فأما الذي اختلفوا فيه ، فكقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٦) ، : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ)(٧).

ف (عذاب) في هذا ونحوه ، يرتفع بالابتداء عند سيبويه.

والظرف قبله خبر عنه ، وهو (لهم).

وعند أبي الحسن والكسائي : يرتفع (عذاب) بقوله : (لهم) لأن (لهم) ناب عن الفعل.

ألا ترى أن التقدير : وثبت لهم. فحذف (ثبت) وقام (لهم) مقامه ، والعمل للظرف لا للفعل.

ومثله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)(٨). وهو على هذا الخلاف ، وغلط أبو إسحاق في هذا ، فقال :

__________________

(١) الكتاب ٢ : ١٢٦ ، ١٢٧ ، وقد ذكر جامع العلوم كلام سيبويه بالمعنى ، ينظر : شرح اللمع لجامع العلوم ٧٠.

(٢) شرح اللمع لجامع العلوم ٧٠.

(٣) الجواهر ٣ : ١٠٩٢.

(٤) نفسه ٢ : ٥١١.

(٥) يعني : الخلاف والاتفاق بين النحويين.

(٦) ٢ : سورة البقرة ٧.

(٧) ٢ : سورة البقرة ٨.

(٨) ٢ : سورة البقرة ٧٨.

٣٢

ارتفع (أميون) بفعل (١) ، كأن المعنى : واستقر منهم أميون.

قال أبو علي : ليس يرتفع (أميون) عند الأخفش بفعل ؛ إنما يرتفع بالظرف الذي هو (منهم) (٢).

ومذهب سيبويه أنه يرتفع بالابتداء ، ففي (منهم) عنده ضمير ، لقوله (أميون) وموضع (منهم) على مذهبه : رفع لوقوعه موقع خبر الابتداء.

وأما على مذهب الأخفش ، فلا ضمير لقوله (أميون) في (منهم) ولا موضع له عنده ، كما أنه لا موضع ل (ذهب) من قولك : ذهب فلان.

وإنما رفع الأخفش الاسم بالظرف في نحو هذا ؛ لأنه نظر إلى هذه الظروف فوجدها تجري مجرى الفعل في مواضع وهي أنها تحتمل الضمير ، كما يحتمله الفعل ، وما قام مقامه من أسماء الفاعلين ، وما شبه به.

ويؤيد جامع العلوم قول الأخفش هذا ، فيقول : ((والدليل على أن قولهم زيد في الدار ، في الظرف ضمير ، والظرف هو العامل في ذلك الضمير امتناع تقديم الحال عليه ، في قولك زيد قائما في الدار لأن العامل غير متصرف ، وهو الظرف دون الفعل ، ولا عبرة بالفعل ؛ لأنه يجوز : قائما في الدار زيد كما يجوز : قائما استقر زيد ، فعلم أنه لا عبرة بالفعل ؛ ولأنه قال : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ)(٣) و : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً)(٤) و : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى)(٥). فأدخل (إنّ) على الظرف وهي لا تلي الفعل فثبت أنه لا عبرة بالفعل ، وهذه الآي دليل سيبويه (٦) من أنه لا يرتفع الاسم بالظرف حيث يقول الأخفش لأن الظرف دخل عليه (إن) فلو كان يرتفع كما يرتفع الفعل ، لم يدخل عليه (إن) كما لا يدخل على الفعل (٧).

وأقطف من باب ما جاء في التنزيل من المضاعف وقد أبدلت من لامه حرف لين (٨) ، من نحو قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ)(٩) و : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣) (١٠) و : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ)(١١).

قال جامع العلوم : ((قال سيبويه : وكل هذا التضعيف فيه عربي جيد)) (١٢).

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٤٤. والذي فيه :((قال الزجاج : يرتفع (أميون) بالابتداء ، و (منهم) الخبر)). وينظر : شرح اللمع لجامع العلوم ١٢١.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٤٤.

(٣) ٥ : سورة المائدة ٢٢.

(٤) ٢٤ : سورة النور ٤٤.

(٥) ١٦ : سورة النحل ٦٢.

(٦) الكتاب ١ : ٥٥. ولم تكن هذه الآي في كتاب سيبويه ، وإنما عنى جامع العلوم ، ما عبر عنه سيبويه في هذا المورد ، حيث قال : (وتقول .. ليس أحد فيها خير منك ، إذا جعلت (فيها) مستقرا ، ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم).

(٧) شرح اللمع لجامع العلوم ١٤١

(٨) الجواهر ٢ : ٥١٦.

(٩) نفسه ٣ : ٨٠. ٢ : سورة البقرة : ٢٥٩.

(١٠) ٧٥ : سورة القيامة ٣٣.

(١١) ٢ : سورة البقرة : ٢٨٢.

(١٢) الكتاب ٤ : ٤٢٤.

٣٣

إذا قلت : تسنيت ، وأمللت ، وتسريت ، ((وقد جعل سيبويه الياء في (تسريت) بدلا من الراء ، وأصله : تسررت ، وهو من السرور ، فيما قاله الأخفش ؛ لأن السرية يسر بها صاحبها)).

وقال ابن السراج : ((هو عندي من (السر) ، لأن الإنسان يسر بها ويسترها عن حزبه كثيرا.

والأولى عندي أن يكون من (السر) الذي هو النكاح)) (١).

٣ ـ رد جامع العلوم على سابقيه آراءهم :

لقد كان جامع العلوم ، واسع الاطلاع في علوم شتى من علوم العربية ولا سيما علم النحو ، وقد أسلفنا وصف الشيخ الطبرسي ، معاصره إياه بأنه (واحد زماننا في هذا الفن) ، لذا كانت له جولات مع جميع النحويين الذين سبقوه ، وكان كثيرا ما يصف آراءهم بعدم الصحة ، والفساد ، والسهو ، والغلط ، إذ لم يسلم أحد منهم من هذه الأوصاف ، عدا سيبويه ، فقد كان ، فيما يبدو لي يجله ويكبره أيما إجلال.

وأنا إذ أورد بعض جولاته ، مع بعض النحويين ؛ فإنما أسوقها من باب ضرب المثل ؛ ذلك أن كتبه التي اطلعت عليها (٢) ، تحوي الكثير من تلك الردود والجولات ؛ أنتخب لك من كل ذلك هذه الشذرات.

أـ رده على أبي الفتح

عرف أبو الفتح (المفعول المطلق ، وهو المصدر) فقال : ((كل اسم دل على حدث ، وزمان مجهول)) (٣).

قال جامع العلوم : هذا كلام يخالف فيه كلام سائر البصريين (٤) ، وذلك ؛ لأنهم زعموا أن مدلول المصدر ؛ إنما هو الحدث ، فحسب ، والفعل ؛ إنما صيغ ليدل على الحدث والزمان جميعا ، فلو كان المصدر يدل عليهما لم يحتج إلى صيغ الأفعال.

وربما يقول أبو الفتح ، في جواب ذلك أن الفعل يدل على الحدث ، والزمان المخصوص ، والمصدر يدل على الحدث ، والزمان المجهول ؛ فيقال له : إن هذا الزمان المجهول ، لا ينفك عنه

__________________

(١) وإلى رأي جامع العلوم أذهب فقد ذكر جمع من المفسرين أن (سرا) في قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) (٢ : سورة البقرة ٢٣٥) يعني النكاح. قال الزمخشري : والسر : وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء ؛ لأنه مما يسر.

وقال امرؤ القيس :

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت

وأن لا يحسن السر أمثالي

وقال الأعشى :

ولا تقربنّ جارة ، إن سرها

عليك حرام ، فانكحن أو تأبدا

ينظر : تفسير الزمخشري ١ : ٣٧٣ ، ومجمع البيان ٢ : ٣٣٨ ، وتفسير القرطبي ٣ : ١٩٠ ، ١٩٢ وديوان أمرئ القيس ١٥٩ ، وديوان الأعشى ١٣٧.

(٢) وهي : الجواهر ، والكشف ، وشرح اللمع.

(٣) شرح اللمع لجامع العلوم ١٤١.

(٤) الإنصاف (مسألة ٢٨) ١ : ٢٣٥ ، ٢٣٧ ، والأشموني ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٦.

٣٤

مخلوق ، إذ عليه أجرى الله العادة في خلق هذه الأشياء في هذه الأزمنة ؛ فليس للمصادر به اختصاص.

فلو قلت : ((إن قولك (ضرب) يدل على الحدث ، والزمان المجهول ، قيل لك : زيد ، يدل على الحدث والزمان المجهول / إذ في الزمان خلق ، كما أن الضرب في الزمان حدث ، ولو لزمت ذلك ، لزمك أن تقول : إن الضرب يدل على الحدث ، والزمان المجهول ، والمكان الواقع فيه ؛ لأنه لا يقع إلا في مكان.

وفي المسألة إشكال ، ولم يقولوا فيه أكثر ، مما قلته لك)) (١).

ومن رده على أبي الفتح ، ما ذهب إليه أبو الفتح من إعمال (إن) التي للتحقيق ب (ما) التي للنفي ، على التشبيه ، فنصب (عبادا) في قراءة ابن جبير (٢) : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ)(٣) ، حيث قال أبو الفتح ، هو كما تقول : ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم (٤).

قال جامع العلوم : ((هذا كلامه ، ولو كانت صحبته مع الشيخ (٥) ، كما يدعيه ، وأنه لم يفهم أحد كلام الشيخ فهمه وأنه أقام معه أربعين سنة (٦) ، فإن تأثير الصحبة في هذه الآية لم يظهر ، لأن الشيخ ، رحمه الله ، ورضي عنه ذكر في الآية وجهين (٧). فأين منهما أبو الفتح ولم يفهمها ، وأين قوله : أقمت معه أربعين سنة)) (٨).

ب ـ رده على أبي علي الفارسي :

كان جامع العلوم عظيم الإجلال لأبي علي ، مولعا بآثاره ، بصيرا بدقائق كلامه ، وإخراج نفائسه ، ويلقبه : بفارس الصناعة (٩) ، والفارس ، وفارسهم (١٠). وأكبر دليل على احتفاله بأبي علي ، كتابه الموسوم ((الإستدراك على أبي علي)) الذي ما يزال مفقودا.

فمما رد وحاور واستدرك على أبي علي ، ما جاء في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(١١) ، فإن أبا علي قال : ((لا أعلق قوله (أو من وراء حجاب) ب (يكلم) المنصوب ؛ لأن في ذلك إعمال ما قبل (إلا) فيما بعده ؛ وذلك ممتنع ، ولكني أعلقه ب (يكلم)

__________________

(١) شرح اللمع لجامع العلوم ١٤١.

(٢) نفسه ١٢٤.

(٣) ٧ : سورة الأعراف ١٩٤.

(٤) شرح اللمع لجامع العلوم ١٢٥.

(٥) يعني : أبا علي الفارسي.

(٦) جواب (لو) محذوف ، وتقديره : لما وقع في هذا الخطأ ؛ إذ قال جامع العلوم قبل هذا الكلام : إن قول أبي الفتح لا يصح ، ينظر : شرح اللمع لجامع العلوم ١٢٥.

(٧) في نصب (عباد) هما : النصب على البدل ، والنصب على الحال.

(٨) شرح اللمع لجامع العلوم ١٢٥ ، ١٢٧.

(٩) أي : صناعة النحو ، ينظر : الجواهر : ٢ : ٥٥٧.

(١٠) أي : فارس النحويين ، ينظر : الجواهر : ٣ : ٧٩٠ ، ٧٩١ ، وشرح اللمع لجامع العلوم : ١٦٣ ، ١٧٥.

(١١) ٤٢ : سورة الشورى ٥١.

٣٥

آخر ، مضمر لجري ذكره)) (١).

وقد تناول أبو علي هذه الآية في (التذكرة) (٢) و (الحجة). ويبدو أنه قد أصاب في (التذكرة) ، لأن جامع العلوم قال بعد محاورته بشأن هذه الآية : ((هذا كلامه الصحيح في التذكرة ، وقد خلط في الحجة ، وإذا عرض لك كلامه في موضع قد خلط فيه ، فلا تقفن عند ذلك الكلام ؛ بل تتبع كلامه ، فإنه لا يقتصر على دفعه في حل المشكلات ، بل يكررها في كتبه ، مرة بعد أخرى ، وأنت إذا وقفت ، واقتصرت على كلامه في موضع لم تحل بطائل (٣). ولم يجد عليك ولم يعبق بك من فوائده شيء وينبغي أن تعرف حقي عليك ، وتشكرني على ما أمنحكه من فوائده ، وتدعو لي آناء ليلك ونهارك ، فربما يمتعك الله بذلك ، والا لم يكن فيما استفدت تمتع)) (٤).

ثم يستمر جامع العلوم ، في الرد والمناقشة ، موردا آيات أخر ، كان أبو علي قد تكلم عليها في كتبه ، فيخلص إلى القول ، مخاطبا أبا علي : ((فهبك استقر كلامك على ما ذكرته في (التذكرة) ففهمنا بذلك أن الذي وقع في الحجة تخليط ؛ فلم ناقضت في هذا؟! فذكرت في (عسق) (٥).

خلاف ما ذكرت في (هود) (٦))).

وعلى الجملة ، فقد عفا الله عنك ؛ إذ لولاك لما فهم كتاب سيبويه ، ولا مشكلاته ، وإذا كان كذلك ، فبك نأخذ عليك (٧).

ج ـ رده على المبرد :

قال جامع العلوم : ((الاستثناء على ضربين : موجب ، ومنفيّ ، فالموجب قولك : قام القوم إلا زيدا. ف (زيد) مستثنى من موجب ، وهو منصوب ، وناصبه : الفعل قبله ؛ بتقوية (إلا) ف (إلا) عدت (قام) إلى زيد ، كما تعديه الباء في (مررت بزيد) (٨))).

وقال المبرد (٩) : إن زيدا منصوب ب (إلا) لأن (إلا) يدل على (أستثني) فأعمل (أستثني) الذي دل عليه (إلا).

قال جامع العلوم : ((وهذا غلط منه ، لأنه لو كان يصح هذا ؛ لوجب أن يقال : ما زيدا قائما ؛ فينصب (زيد) لأن (ما))) يدل على (أنفي). و : هل زيد قائما ؛ لأن (هل) يدل على (أستفهم). فهذه الحروف غير معملة بتة.

__________________

(١) شرح اللمع لجامع العلوم ٢٠٢.

(٢) التذكرة : من كتب أبي على التي ما تزال مفقودة.

(٣) لم تحل بطائل : لم تظفر ، ولم تستفد كبير فائدة.

(٤) شرح اللمع لجامع العلوم ٢٠٣.

(٥) ٤٢ : سورة الشورى ، ويعني به الآية ٥١.

(٦) في الآية ٢٧ ؛ إذ ذكر أبو علي أن انتصاب (بادي الرأي) إنما هو بقوله (اتبعك) وإن كان قبل (إلا) : ينظر : مجمع البيان ٥ : ١٥٣.

(٧) شرح اللمع لجامع العلوم ٢٠٤.

(٨) نفسه ١٩٤.

(٩) المقتضب ٤ : ٣٩٠.

٣٦

فإن قلت : فإنا قد وجدنا من هذه الحروف ، ما أعملت ، وذلك كقول الشاعر :

كأنه ، خارجا ، من جنب صفحته

سفّود نشوى نسوه عند مفتاد (١)

فأعمل (كأن) في (خارج) فكذا يجوز أن يعمل إلا فيما بعده.

الجواب : (إلا) لا يشبه ب (كأن) ؛ لأن (كأنّ) لما كان على لفظ الفعل ، وكان دالا على التشبيه ، اجتمع فيه وجهان من مشابهة الفعل ، فجاز أن يعمل وليس في (إلا) إلا وجه واحد.

ويجوز أن يقوى الشيء بجهتين ، ولا يقوى بجهة واحدة كباب (ما لا ينصرف).

فإن قلت : فقد حكى المبرد (٢) : ألا ماءا باردا فأشربه ، بنصب (ماء) وأعمل فيه معنى (ألا) من معنى التمني.

الجواب : هذا محمول على فعل مضمر ، وليس (ألا) عاملا فيه. والذي يبعد قول المبرد قولهم :

جاء القوم غير زيد ، بنصب (غير) ، وليس هناك إلا الفعل ؛ فثبت أنه مع (ألا) يعمل الفعل ، كما يعمل مع غيره.

ونحن إذ أوردنا هذه الردود ، من خلال هذه النصوص لجامع العلوم ، فلا بد لنا من وقفة نضع فيها بعض ما يأتي به في ميزان النقد والفحص ، لنتعرف حقه وتقدمه فيما يدعيه ويدلي به ، فنزن ونقوم ما يذهب إليه ، من خلال إيراد الأمثلة الآتية :

١ ـ مع أبي عمر الجرمي :

ذهب أبو عمر الجرمي إلى أن (المفعول له) لا يكون إلا نكرة (٣).

فرده جامع العلوم ؛ بأنه يكون نكرة ومعرفة.

واحتج على أبي عمر ، ونقض قوله بالشواهد الآتية :

أـ قال الله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)(٤). ف (حذر الموت) معرفة لأضافته.

ب ـ قال حاتم الطائي :

وأغفر عوراء الكريم ، ادخاره

وأعرض عن شتم اللّيم تكرّما

ف (ادخاره) مفعول له ، وهو معرفة لأضافته.

ج ـ ثم إن جامع العلوم ، لم يكتف بذلك ؛ بل أشكل على نفسه في أن يكون المصدر مضافا إضافة غير محضة. فهو مضاف ، ولكن في تقدير الانفصال ، كما هو في اسم الفاعل العامل ، نحو قوله تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)(٥). ف (ممطر) مضاف ولكنه ليس بمعرفة ، لأن إضافته في تقدير الانفصال ، والتقدير : هذا عارض ممطر إيانا. ف (نا) مفعول به ل (ممطر).

ودفع جامع العلوم هذا الإشكال ، بأن هذا في اسم الفاعل جائز ؛ لأن اسم الفاعل ، دالا على

__________________

(١) شرح اللمع لجامع العلوم ١٩٤.

(٢) نفسه ١٩٥.

(٣) شرح اللمع لجامع العلوم ١٧٦.

(٤) ٢ : سورة البقرة ١٩.

(٥) ٤٦ : سورة الأحقاف ٢٤.

٣٧

الحال والاستقبال ، مجار للفعل المضارع في حركاته وسكناته ، نحو ضارب ويضرب ، ومنطلق وينطلق (١) ؛ فإضافته تكون في تقدير الانفصال.

وأما المصدر فلا يجوز ذلك فيه ، وإن كان يعمل بالشبهية الفعلية ، لأنه غير مجار للفعل ، لا في حركاته ، ولا في سكناته ، ف (ادخار) غير مجار ل (يدخر).

د ـ وراح جامع العلوم يزيد من أدلته ، على مجيء المصدر معرفة ، فأورد شاهدا آخر تعرف فيه المصدر بالألف واللام ، لا الإضافة ، إذ قال : ((ثم هذا الكلام)) (٢) لا يصح من أبي عمر.

وقد قال قريط بن أنيف العنبري :

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا

شدّوا الإغارة ، فرسانا ، وركبانا

ف (الإغارة) مفعول له ، وهو معرفة ، وليس مفعولا به ، لأن (شدّوا) فعل لازم ، بدليل قول الآخر :

وأنذر إن لقيت بأن أشدّا

 ... (٣)

٢ ـ مع أبي إسحاق الزجاج :

ذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن (مفعلا) و (مفعلا) نحو (مغار) و (مثوى) إذا كان زمانا أو مكانا لم يتعلق به شيء من الظروف ، ولا شيء من المنصوبات.

غير أن الزجاج قال في قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ)(٤) ، قال : إن (خالدين) منصوب على الحال ، والعامل فيه (مثوى) بعد أن ذكر أنّ (مثوى) هو المكان (٥).

تتبع جامع العلوم ذلك في شرح اللمع (٦) ، وأبطله بقوله :

أـ إن الزجاج قد ناقض نفسه ؛ لأنه قال : ((إن (مفعلا) إذا كان زمانا أو مكانا لم يتعلق به شيء من الظروف ، ولا شيء من المنصوبات)) (٧).

ب ـ إن (خالدين) حال من المضاف إليه ، وهو الكاف والميم في (مثواكم) ، فهو كقوله تعالى : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(٨).

ج ـ إن العامل في الحال معنى الإضافة ، وامتزاج بعض الكلام ببعض ؛ ف (مصبحين) حال من (هؤلاء).

د ـ أو يكون (خالدين) حالا من المصدر دون المكان. والتقدير : قال النار ذات ثوائكم خالدين فيها.

__________________

(١) المغني ٢ : ٤٥٨.

(٢) أي كلام أبي عمر في وجوب تنكير المفعول له.

(٣) شرح اللمع لجامع العلوم ١٧٧.

(٤) ٦ : سورة الأنعام ١٢٨.

(٥) مجمع البيان ٤ : ٣٦٥.

(٦) شرح اللمع لجامع العلوم ١٧٢.

(٧) شرح اللمع لجامع العلوم ١٧١ ، وينظر : مجمع البيان ٤ : ٣٦٥.

(٨) ١٥ : سورة الحجر ٦٦.

٣٨

وبعد هذا الرد المبني على المسلمات في هذا الفن ، عند الزجاج وغيره ، قال جامع العلوم ، واثقا مما قال : ((وإذا تتبعت فليكن هكذا)) (١).

٣ ـ مع أبي علي :

ذهب أبو علي إلى أن (عاليهم) بإسكان الياء ، من قوله تعالى : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ)(٢) ، مبتدأ ، و (ثياب سندس) خبره (٣).

وصح (عاليهم) أن يكون مبتدأ ، وهو مفرد ، وخبره جماعة ؛ لأنه اسم فاعل في موضع الجماعة.

وذهب جامع العلوم إلى أن (عاليهم) وصف ل (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) ويرتفع (ثِيابُ سُندُسٍ) به.

ولا يجوز أن يرتفع (عاليهم) بالابتداء ، و (ثِيابُ سُندُسٍ) خبره ، كما قاله أبو علي في الحجة ؛ لكونه جاريا وصفا على (ولدان) وإن قال هو (٤) كقوله (سامِراً تَهْجُرُونَ) لم يصح ذلك (٥).

وذهب أيضا إلى أن (عالِيَهُمْ) بالنصب حال من (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أو من الهاء والميم في (عليهم).

أقول : إن جامع العلوم لم يتأمل في سياق هذه الآية ، وما أكتنفها من الآي ، فوقع في أوهام شتى ، وجلاء ذلك :

١ ـ إن (عالِيَهُمْ) بالنصب حال ، ولكن ليس من (عليهم) في : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) وإنما من الضمير العائد إلى المؤمنين الذين وصف الله نعمته عليهم في الآيات السابقة.

٢ ـ إن (عاليهم) بإسكان الياء لا يقع وصفا ل (ولدان مخلدون) كما قال به جامع العلوم ؛ بل هو ظرف بمعنى (فوق) ؛ ولذا بطل قوله : ((وهو لا يتعرف بالإضافة)) (٦) إذ عنده هو اسم فاعل معتمد ، على تقدير الانفصال.

٣ ـ إن مجيء اسم الفاعل المفرد بمعنى الجماعة ، قد ورد في أفصح الكلام ، قال الله تعالى : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) (٦٧) ، وقال : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٧).

فجاء (سامر) بمعنى (سمّر) (٨) و (دابر) بمعنى (جميع) (٩).

وجاء في الشعر :

ألا إنّ جيراني العشيّة رائح

دعتهم دواع من هوى ومنادح (١٠)

__________________

(١) شرح اللمع لجامع العلوم ١٧٢.

(٢) ٧٦ : سورة الإنسان ٢١.

(٣) شرح اللمع لجامع العلوم ٨ ، والجواهر ٢ : ٥٣٢.

(٤) أي : أبو علي.

(٥) الجواهر ١ : ٥٣٢.

(٦) نفسه ٢ : ٥٣٢.

(٧) ٢٣ : سورة المؤمنون ٦٧.

(٨) ٦ : سورة الأنعام ٤٥.

(٩) التاج (سمر) ١٢ : ٧٢ ، ٧٣.

(١٠) نفسه (دبر) ١١ : ٢٦١.

٣٩

وقال ذو الرمة :

وكم عرّست بعد السّرى من معرّس

به من عزيف الجنّ أصوات سامر

فجاء سامر بمعنى الجمع فإذا ثبت ذلك فقد بطل قول جامع العلوم : ((ولو كان (ثِيابُ سُندُسٍ) مبتدأ ، و (عالِيَهُمْ) خبره ، لم يجز ؛ لأن (عالِيَهُمْ) مفرد فلا يكون خبرا للجمع)).

٤ ـ إن (عالِيَهُمْ) بالإسكان لا يقع وصفا ل (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) لأن (الولدان المخلدين) هم من جملة ما أخدم الله به المؤمنين ، فهم من نعم الله على المؤمنين ، فبقي أن يكون ظرفا بمعنى (فوق) والهاء فيه تعود على المؤمنين المذكورين في الآيات قبل.

٥ ـ وعند ما يكون (عاليهم) بالإسكان ظرفا ، فيكون ، إعرابه عند ذاك خبرا مقدما ، و (ثِيابُ سُندُسٍ) مبتدأ مؤخرا.

والتقدير : ويطوف عليهم ولدان مخلدون فوقهم ثياب سندس.

٦ ـ أوّل جامع العلوم (عالِيَهُمْ) بالإسكان ب (يعلوهم) (١) فبقي على سهوه في إرادة الصفة ، و (يعلوهم) عندي يبقى حالا ، صاحبه الأبرار المثابون الذين سبق مدحهم والثناء عليهم هذه الآية ، واستمر بعدها ، دون الولدان المخلدين.

المبحث الخامس

موقف جامع العلوم من النحوييّن السابقين

أـ مع النحويين البصريين

١ ـ مع الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت ١٧٠ ه‍):

جامع العلوم يجل الخليل أيما إجلال ، إذ لم ينل منه في المسائل التي ذهب فيها مع غيره.

وقد ورد ذكر الخليل في شرح اللمع خمس عشرة مرة ، ورأيت ذلك في كل أمر يقول به الخليل وسيبويه ، ويقول غيرهما بخلافه ، أو في كل مسألة يختلفان فيها ، أو يورد رأي الخليل وكفى.

ومن أمثلة ذلك : ما جاء من إثبات الياء في الاسم المنقوص المنادى ، نحو يا قاضي ، فسيبويه والخليل يثبتان الياء فيه ، ويونس يحذفها منه فيقول : يا قاض.

قال جامع العلوم : ((فسيبويه والخليل يثبتان الياء ، وحكى سيبويه عن يونس أنه كان يحذف الياء. قال : لأن المنادى موضع حذف وتخفيف)) (٢).

ومنه أيضا : اختلف سيبويه والخليل في (الألف واللام) أيهما للتعريف؟ فقال سيبويه : اللام للتعريف ، وحدها ، والألف وصل ، وقال الخليل : الألف واللام جميعا للتعريف. وكان يقول (٣) : إن (أل) للتعريف ، كما أن (قد) للتوقع ، و (هل) للاستفهام.

وذهب جامع العلوم مذهب سيبويه ، وقال : اللام وحدها ، للتعريف دون الهمزة ، والدليل

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٩.

(٢) الكتاب ٤ : ١٨٤ ، والأصول ٢ : ٣٩٧.

(٣) أي : الخليل ، ينظر الكتاب ٣ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٤٠