شرح اللّمع في النحو

أبي الفتح عثمان بن جنّي

شرح اللّمع في النحو

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠

[فإن قلت] : فما موضع الظرف المحذوف من قوله : (السّمن منوان بدرهم) لأنه زعم أن التقدير : السمن منوان منه بدرهم وقد عرفنا أن قولهم : بدرهم ، هذا الظرف [٣١ / أ] مرفوع الموضع. أعني : بدرهم ، لأنه خبر المنوين. فما موضع منه؟! [قلت] : إن (منه) معمول الظرف ، منصوب به ، وإن تقدم عليه ، كقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(١) ، وكلّ يوم له ثوب ، وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ)(٢) ، وقوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ)(٣). فقوله : بدرهم ، متعلق بكائن في موضع الرفع ، خبر لمنوين. ومنه ، معمول كائن المتعلق به بدرهم. ويجوز أن يكون في موضع الحال على تقدير : السمن موزون بدرهم ، إذا كان في حال المنوين منه ، فيكون معمولا لما دل عليه منوان. أي : إذا وزن منوان منه. ولا يكون صفة لدرهم المجرور ، ولا حالا منه ، لاستحالته في المعنى.

[قال أبو الفتح] : واعلم أن الظرف ، قد يقع خبرا عن المبتدأ ، وهو على ضربين : ظرف زمان ، وظرف مكان. والمبتدأ على ضربين : جثة ، وحدث. فالجثة : ما كان عبارة عن شخص ، نحو : زيد وعمرو. والحدث : هو المصدر ، نحو : القيام ، والقعود. فإذا كان المبتدأ جثة ووقع الظرف خبرا عنه ، لم يكن ذلك الظرف إلا من ظروف المكان. تقول : زيد خلفك. فزيد مرفوع بالابتداء. والظرف بعده خبر عنه والتقدير : زيد مستقر خلفك. فحذف اسم الفاعل ، تخفيفا ، وللعلم به. وأقيم الظرف مقامه ، فانتقل الضمير الذي كان في اسم الفاعل إلى الظرف ، وارتفع ذلك الضمير بالظرف ، كما كان يرتفع باسم الفاعل. وموضع الظرف رفع بالابتداء. [قلت] : قسم خبر المبتدأ في الأولى إلى المفرد ، والجملة. ثم ذكر بعد ذلك حكم الظرف. والظرف ، إذا وقع خبرا عن المبتدأ. فإما أن يقدر تقدير : مستقر ، أو تقدير : استقر. وكلا التقديرين دخل في التقسيم فما باله أخرج الظرف منها؟! ولكن يقال : إن للظرف أحوالا مختلفة : فحالة يجري فيها مجرى المفرد ، وحالة يجري فيها مجرى الجملة ، وحالة لا يجرى فيها مجرى ذا ، ولا ذا. فالحالة الأولى : زيد خلفك ، والتقدير : زيد مستقر خلفك. فحذف (مستقر) ، وفيه ضمير يعود إلى زيد ، لأن (مستقرا) مشتق : بمنزلة : قائم [٣١ / ب] فلما كان كذلك ، وكان فيه ضمير يعود إليه ، وقد حذف : انتقل الضمير الذي فيه إلى الظرف ، وهو في الظرف مرفوع به ، غير محذوف مع اسم الفاعل. فقولنا : زيد خلفك ، انتصب : خلفك ، على الظرف ، ولا بد له من ناصب ، وليس بظاهر ، فلا بد من إضماره. وإذا كان مضمرا ، وكان مشتقا ، لأنه ناصب ، وجب أن يكون فيه ضمير ، ولا يجوز ادعاء حذف الضمير ، كحذف اسم الفاعل ، لأن هذا الضمير ، قد أبدل منه ، وأكّد ، وجاء عنه الحال ، وعطف عليه. فأما الإبدال منه فكقوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)(٤) فالوزن : مبتدأ.

ويومئذ متعلق بمضمر ، والتقدير : والوزن كائن يومئذ. وكان في (كائن) ضمير. فلما حذف (كائن) انتقل الضمير منه إلى (يومئذ) ، وهو مرفوع به. وإنما قلنا هو مرفوع به ، لأنه قام مقام

__________________

(١) ٥٥ : سورة الرحمن ٢٩.

(٢) ٢٥ : سورة الفرقان ٢٦.

(٣) ١٨ : سورة الكهف ٤٤.

(٤) ٧ : سورة الأعراف ٨.

١٢١

كائن. فكما أن (كائنا) يرفع الضمير ، فكذا ما قام مقامه. فيومئذ في موضع الخبر. والحق رفع ، لأنه بدل من ذلك الضمير الذي في الظرف. ولا أحمل الحق على أنه وصف للوزن ، للفصل بالخبر.

ولا أحمله على أنه خبر. ويومئذ : منصوب بالمصدر ، لأنه معرف بالألف ، واللام. والمصدر المعرف باللام إعماله قليل. ولا أحمله على أنه خبر بعد خبر ، كقولهم : هذا حلو حامض ، لأن الحق معرفة ، وكان تقديمه أولى. فلما لم يقدم ، علمت أنه محمول على البدل. وقال تعالى حكاية عن اليهود : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ)(١) فما بمعنى الذي ، ولهم ظرف متعلق بمضمر محذوف انتقل الضمير من المحذوف إلى هذا الظرف ، وارتفع به. فآلهة : بدل منه. فثبت أن الظرف فيه ضمير. [قال الشاعر] :

٦٨ ـ وإنّي لراجيكم على بطء سعيكم

كما في بطون الحاملات رجاء (٢)

ف (ما) : بمعنى الذي. والظرف صلته ، وفيه ضمير. ورجاء : بدل منه. فثبت أن فيه ضميرا.

وأما مجيء الحال عنه ، فقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها)(٣). وقال : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها)(٤). وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)(٥). فخالدين فيها ، وخالدين في هذه الآية ، حال. ولا بد [٢٣ / أ] لها من صاحب ، وصاحبها الضمير الذي في الظرف. فقوله : (ففي الجنّة) تقديره : فمستقرون في الجنة. فحذف وانتقل الضمير إلى الظرف ، فانتصب عنه الحال. وكذا : (أَنَّهُما فِي النَّارِ). أي : ثابتان في النار.

وكذا : (فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي : ثابتون فيها. فانتصب الحال عن الضمير. وكذلك قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ)(٦). فيمن نصب (٧). ف (أشداء) : حال من الضمير في (معه).

ولو كان محذوفا ، يا أبا سعيد ، كما ادعيت ، لم تجئ هذه الأحوال عنه. وأما العطف عليه ، [فكقول الشاعر] :

٦٩ ـ ألا يا نخلة ، من ذات عرق

عليك ، ورحمة الله ، السّلام (٨)

فالسلام : مبتدأ. وعليك : خبر مقدم. وفيه ضمير انتقل إليه مما تعلق به. والضمير مرفوع.

وقوله : ورحمة الله : عطف على ذلك الضمير. فثبت ما قلنا : ولا أحمله. [وليس منه قول الشاعر] :

__________________

(١) ٧ : سورة الأعراف ١٣٨.

(٢) البيت من الطويل ، لم أهتد إلى قائله.

(٣) ١١ : سورة هود ١٠٨.

(٤) ٥٩ : سورة الحشر ١٧.

(٥) ٩٨ : سورة البينة ٦.

(٦) ٤٨ : سورة الفتح ٢٩.

(٧) وهي قراءة : الحسن البصري. مختصر في شواذ القرآن ١٤٣ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٣ : ١٩٦ ، وتفسير القرطبي ١٦ : ٢٩٣ ، ومجمع البيان ٩ : ١٢٥.

(٨) البيت من الوافر ، للأحوص ، في الخزانة ١ : ٣٩٩.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣٨٦ ، والجمل ١ : ٢٤٥ ، ٢ : ٨٤ ، واللسان (شيع) ٨ : ١٩١ ، وعجزه فيه :

 ...

برود الظل شاعكم السّلام

أي : تبعكم السّلام ، وشيعكم. وعلى هذه الرواية ، لا شاهد فيه.

١٢٢

٧٠ ـ جمعت ، وفحشا : غيبة ، ونميمة

ثلاث خلال ، لست عنها بمرعوي (١)

لأن عن ذلك مندوحة. ألا ترى أن الحمل على هذا أحسن. وأما التأكيد ، فإنك تقول : الدراهم في الكيس جمع. فتحمله على الضمير الذي في الكيس. وإذا ثبت أن في هذا الظرف ضميرا قد انتقل إليه من اسم الفاعل ، فوجب أن يرتفع بهذا الظرف ، لقيامه مقامه. وأما الحالة التي جرى الظرف فيها مجرى الجملة ، ففي باب الصلة. كقولهم : جاءني الذي عندك. والتقدير جاءني الذي استقر عندك. فحذف استقر ، وانتقل الضمير إلى الظرف ، وهو في الصلة. ولا أحمله على : جاءني الذي مستقر عندك. لأن ذلك يقتضي وصل (الذي) بالمفرد. و (الذي) لا يوصل بالمفرد ، وإنما يوصل بالجملة. [فإن قلت] : فاحمله على (هو) ، أي : جاءني الذي هو عندك ، فحذف. فإن الحمل على غيره أولى ما وجد عنه مندوحة. [قلت] : فقد جاء : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ)(٢). فلا بد في الآية من إضمار هو. لأن قوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ). إله : رفع ، والذي ارتفع به ، لا يخلو : إما أن يكون هو المقدر الذي ادعيناه ، أو بالابتداء. و (فِي السَّماءِ) : الخبر ، على [٣٢ / ب] ، زعمكم ، أو بالظرف على زعم أبي الحسن (٣). وكلاهما غير سائغ ، إذ لا ضمير في قوله : (فِي السَّماءِ إِلهٌ) ، يعود إلى الموصول. فثبت على إضمار هو.

[واعلم] : أن حذف هو في الآية سائغ ، لطول الكلام. وطول الكلام يحتمل معه ما لا يحتمل مع غيره. ألا ترى أنهم ، قالوا : لو لا زيد لهلك عمرو ، فألزموا حذف خبر المبتدأ في هذا الباب ، لطول الكلام. وإن قلت : أحمل قوله : (إله) على الضمير الذي في الظرف ، أعني (فِي السَّماءِ) فهو وجه.

فيكون بمنزلة الحق في قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)(٤) إلا أن الوجه الأول ، أحسن ، لأن قوله : (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) في صلة الذي ، وهو داخل في الصلة ، فلا يبدل عن الضمير ، لأن البدل يجيء بعد تمام الموصول. وأما إحالة التي جرى فيها الظرف ، كأنه شيء على حياله من دون التفات إلى المفرد ، أو الجملة. فقولهم : إن في الدار زيدا وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً)(٥) و (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً)(٦) و (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ)(٧) [وقول الشاعر] :

٧١ ـ فلا تلحني فيها ، فإنّ بحبّها

أخاك ، مصاب القلب ، جمّ بلابله (٨)

ففصل بالظرف بين (إن) واسمه. والفصل ، بينهما بالمفرد لا يجوز ، فما ظنك بالجملة؟! لا يجوز : إنّ منطلق زيدا ، وإن أبوه قائم زيدا. واستجيز بالظرف. فلما كان للظرف هذه الأحوال لم

__________________

(١) البيت من الطويل ، ليزيد بن الحكم الثقفي ، في : أمالي القالي ١ : ٦٨ ، والأغاني ١٢ : ٢٩٦ ، والخزانة ٣ : ١٣٠ ، ١٣٤ ، ٩ : ١٤١.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣٨٣ ، وهمع الهوامع ٣ : ٢٤٠.

(٢) ٤٣ : سورة الزخرف ٨٤.

(٣) لم أجده في معانيه.

(٤) ٧ : سورة الأعراف ٨.

(٥) ٧٩ : سورة النازعات ٢٦.

(٦) ١٦ : سورة النحل ١١.

(٧) ٥ : سورة المائدة ٢٢.

(٨) البيت من الطويل. بلا نسبة ، في : الكتاب ٢ : ١٣٣ ، وابن عقيل ١ : ٣٤٩ ، والجمل ١ : ٤٤٠ ، والمغني ٢ : ٦٩٣ ، وشفاء العليل ١ : ٣٥٤ ، وهمع الهوامع ٢ : ١٦٠ ، والخزانة ٨ : ٤٥٢ ، ٤٥٣ ، ٤٥٥.

١٢٣

يعدّها (١) في جملة الجملة ، ولا في جملة المفرد ، بل [أفرده](٢) بالذكر ، فقال : واعلم أن الظرف قد يقع خبرا عن المبتدأ على ما نقلته لك من كلامه ، ثم أخذ يبين أن الظرف إذا كان ظرف مكان ، وقع خبرا عن الجثة ، والحدث جميعا. ولا يقع ظرف الزمان خبرا عن الجثة (٣). لا تقول : زيد يوم الجمعة ، أو نحو ذلك ، وإنما لم يجز ، لأن ظروف الزمان ، لا تكون أخبارا عن الجثث ، لأنه ، لا فائدة فيه ، وإنما لم تكن فيه فائدة ، لأنك إذا قلت : زيد يوم الجمعة ، فليس لتخصيص زيد بيوم الجمعة [مزية](٤) ليس في يوم الخميس ، لأن زيدا في يوم الجمعة بمنزلته يوم الخميس ، ويوم السبت.

[فإن قلت] : فما وجه قولهم : الليلة الهلال (٥)؟!.

فالهلال مبتدأ ، وهو شخص. والليلة ظرف زمان ، وهو في موضع خبره ، وقد زعمتم [٣٣ / أ] أنه لا يجوز : زيد يوم الجمعة ، وهذا بخلافه.

[قلت] : إن هذا الكلام ، محمول على محذوف. وتقديره : الليلة طلوع الهلال. فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. كما قال الله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٦) أي : أهل القرية. وفيه وجه ثان ، وهو : أن يكون التقدير : الليلة ليلة الهلال. فعلى هذا يكون الوجه الرفع ، فيقال : الليلة ، إذ لا عامل هناك يعمل في الظرف. وفيه وجه ثالث ، وهو : أن يكون الهلال بمعنى : الاستهلال.

والاستهلال : حدث ، فجاز لظرف الزمان أن يكون خبرا عنه [قال الشاعر] :

٧٢ ـ أكلّ عام نعم تحوونه

يلقحه قوم ، وتنتجونه

هيهات ، هيهات لما ترجونه

أربابه نوكى ، فلا يحمونه

ولا تلاقون طعانا دونه (٧)

فإنه مثل قولهم : الليلة الهلال ، لأن قوله : نعم ، جثة. وكلّ عام : ظرف زمان. فتقديره : أكلّ عام حدوث نعم ، فحذف ، كما قلنا.

وأما إذا كان المبتدأ حدثا ، فكلا الظرفين يجوز أن يكون خبرا عنه ، كما ذكره أبو الفتح. ثم اعلم ، بعد ، أن الظرف ، إذا تقدم على الاسم ، نحو قولك : خلفك زيد ، فهو عند سيبويه (٨) : في نية

__________________

(١) يعني : سيبويه.

(٢) الأصل غير واضح.

(٣) الكتاب ١ : ١٣٦ ، ونصه : (وجميع ظروف الزمان لا تكون ظروفا للجثث). وينظر : قول السيرافي ، في هامش الكتاب ١ : ٤١٨.

(٤) الأصل غير واضح.

(٥) الكتاب ١ : ٤١٨.

(٦) ١٢ : سورة يوسف ٨٢.

(٧) من الرجز ، لقيس بن حصين بن يزيد الحارثي ، في : الخزانة ١ : ٤٠٩ ، ٤١٢ ، وفيها : أيهات ، بدل : هيهات.

وروي الأول بلا نسبة في : الكتاب ١ : ١٢٩ ، والإنصاف ١ : ٦٢.

(٨) الكتاب ١ : ٤٠٤ ـ ٤٠٧.

١٢٤

التقديم ، والتأخير. والتقدير : زيد خلفك. وعند الأخفش (١) : يرتفع زيد بالظرف ، كما يرتفع بالفعل. وفائدة هذا الخلاف تظهر في قولهم : في داره زيد. يجوز هذا عند سيبويه ، لأن تقديره : زيد في داره. وعند الأخفش لا يجوز ، لأنه يصير هذا كناية عن غير مذكور ، لأن قولهم : في داره زيد : إذا رفع بالظرف على زعم الأخفش ، فهو بمنزلة الفعل ، والفاعل ، كقولك : ذهب زيد. وأنت إذا قلت : ذهب زيد ، فقد وقع (ذهب) موقعه. فلا ينوى به التأخير. فكذا : في داره زيد. وقد قالت العرب : (في أكفانه درج الميت) (٢). والتقدير : درج الميت في أكفانه. فكيف يرد أبو الحسن هذا؟! فأما إذا وقع الظرف خبرا عن المبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو حالا لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة الاستفهام ، أو على حرف النفي ، أو يكون الواقع بعده أن ، الذي في تقدير المصدر ، أو المصدر ، فقد اتفقا (٣) [٣٣ / ب] على أن الظرف رافع. قال الله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا)(٤) فأولئك : مبتدأ. ولهم : ظرف. وجزاء الضعف : رفع بالظرف ، لا خلاف بينهما ، لأن الظرف ، وما عمل فيه في موضع الرفع : خبر أولئك. وقال تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٥). فمن : موصول. وعنده : ظرف. وعلم الكتاب : مرفوع بالظرف ، لا خلاف بينهما ، لأن الظرف في صلة من. وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٦).

فقوله : شك : رفع بالظرف ، لأنه اعتمد على الهمزة ، لا خلاف بينهما. وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً)(٧) ف (أنّ) مع ما عمل فيه : رفع بالظرف ، لأن قبله : (ومن آياته).

[قال الشاعر] :

٧٣ ـ أحقّا ، بني أبناء سلمى بن جندل

تهدّدكم إيّاي ، وسط المجالس (٨)

فتهددكم : رفع بالظرف. أي : أفي حق تهددكم؟

كأنه قال : أفي ذا ، ذاك؟ قال سيبويه (٩) : وسألته ، أي : الخليل ، عن قولهم : غدا الرحيل. ما بالهم بنوا على (غدا)؟! فزعم : أن الرحيل بمنزلة (أنّ) ، لأن (أنّ) ، مع ما بعده بمنزلة شيء. ويكون مبنيا على ما قبله. فالمصدر ، و (أنّ) في ذلك سيان. وتقول : مررت برجل في الدار أبوه. فترفع (أباه) بالظرف ، لأنه جرى وصفا على النكرة. قال الله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ

__________________

(١) الإنصاف (مسألة ٦) ١ : ٥١.

(٢) التاج (درج) ٥ : ٥٦٣ ، وفيه : (أدرج الميت في الكفن ، والقبر : أدخله).

(٣) أي : سيبويه ، والأخفش.

(٤) ٣٤ : سورة سبأ ٣٧.

(٥) ١٣ : سورة الرعد ٤٣.

(٦) ١٤ : سورة إبراهيم ١٠.

(٧) ٤١ : سورة فصلت ٣٩.

(٨) البيت من الطويل ، للأسود بن يعفر ، في : ديوانه ٤٢ ، والكتاب ٣ : ١٣٥ ، والتحصيل ٤٣٠ ، والأغاني ١٣ : ٢٤ ، والخزانة ١ : ٤٠١ ، ٢ : ٩١ ، ١٠ : ٢٧٦ ـ ٢٨٢.

(٩) الكتاب ٣ : ١٣٩ ، وقد ذكر الشارح كلام سيبويه بالمعنى ، ونصه : (يقول الرجل : ما اليوم؟ فتقول : اليوم إنك مرتحل ، كأنه قال : في اليوم رحلتك).

١٢٥

مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ)(١) فمتاع : يرتفع بفيها ، لأنه صفة للنكرة. ولو قلت : مررت بزيد في الدار أبوه ، ارتفع أبوه أيضا بالظرف ، لأنه جرى حالا لزيد. قال الله تعالى (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ)(٢). مرفوعان بالظرف ، لأنه حال من الإنجيل. يدل على ذلك قوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)(٣) فعطف مصدقا على حال قبله ، وما ذلك إلا الظرف. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(٤) وقال : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٥).

فهذه الأشياء كلها محمولة على الظرف ، دون الابتداء ، وكون الظرف خبرا عنها ، يا أبا سعيد (٦). وقد كرر ذلك في الكتاب ، في غير موضع. ألا ترى أنه أنشد في ذلك.

[قول الشاعر] :

٧٤ ـ ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه (٧)

فالوحي رفع بالظرف ، لا خلاف فيه ، لأن [٣٤ / أ] الظرف الذي هو : عنده ، جرى صفة لنبي.

وكذلك : واضعه : صفة أخرى. وقد جاء ذلك في التنزيل ، في غير موضع ، وهذا مساغه. وإنما كان كذلك ، لأن الظرف في هذه الأوجه ، قويت مشابهته بالفعل ، فرفع ما بعده ، كما يرفع الفعل ، بخلاف ما إذا لم يكن الظرف واقعا موقع أحد هذه الأشياء ، لأنه إذ ذاك يجري مجرى سبب واحد. ألا ترى أن ما لا ينصرف إنما لا ينصرف باجتماع سببين دون سبب واحد. فقولنا : في الدار زيد.

للظرف شبهة مشابهته الفعل ، فلا يرفع ما بعده ، لأنه يجري مجرى سبب واحد. فأما إذا وقع هذه المواقع ، فقد قويت مشابهته بالفعل ، فصار بمنزلة سبب واحد ، في باب ما لا ينصرف.

[قال أبو الفتح] : ويجوز تقديم خبر المبتدأ عليه. تقول : قائم زيد. وخلفك بكر. والتقدير : زيد قائم. وبكر خلفك. فقدم الخبران اتساعا. وفيهما ضمير ، لأن النية فيهما التأخير. وقد ذكرنا هذا. أما الظرف فقد ذكرناه بالدلائل. وأما اسم الفاعل (٨) ، إذا جرى خبرا لمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو حالا لذي حال ، أو صلة لموصول ، أو معتمدا على همزة الاستفهام ، أو على حرف النفي ، فإنه يرفع ما بعده بمنزلة الظرف (٩) ، باتفاق بين سيبويه ، وأبي الحسن (١٠) ، لا خلاف بينهما ،

__________________

(١) ٢٤ : سورة النور ٢٩.

(٢) ٥ : سورة المائدة ٤٦.

(٣) ٥ : سورة المائدة ٤٦.

(٤) ٣ : سورة آل عمران ٤.

(٥) ٣ : سورة آل عمران ٩١.

(٦) يعني : السيرافي. هامش الكتاب ٢ : ٥١.

(٧) البيت من الطويل ، لحسان بن ثابت الأنصاري ، في : ديوانه ٢٧١ ، والكتاب ٢ : ٥١ ، والتحصيل ٢٥٣.

(٨) في الكتاب ١ : ١٦٤ : (باب من اسم الفاعل الذي جرى مجرى الفعل المضارع ، في المفعول في المعنى ، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت في : يفعل ، كان منونا. وذلك قولك : هذا ضارب زيدا غدا. فمعناه ، وعمله : هذا يضرب زيدا غدا).

(٩) يعني بمنزلة الظرف المتعلق بكائن ، أو مستقر.

(١٠) الكتاب ١ : ١٦٦ ، وفيه : (ويزيد هذا عندك بيانا قوله تعالى جده : (هديا بالغ الكعبة) ٥ : سورة المائدة ٩٥ ، و : (عارض مطرنا) ٤٦ : سورة الأحقاف ٢٤ ، فلو لم يكن هذا في معنى النكرة ، والتنوين لم توصف به النكرة).

١٢٦

نحو قولهم : زيد قائم أبوه. ومررت برجل قائم أبوه. ومررت بزيد قائما أبوه. وجاءني الذي قائم أبوه. وأقائم أخواك؟ وما قائم زيد قال الله تعالى : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ)(١). ف : (ما أصابهم) مبتدأ عند سيبويه. ومصيبها : خبره. وعند الأخفش : ما أصابهم : رفع ب (مصيبها). ومصيبها : مبتدأ ، وما ارتفع به يسد مسد الخبر. ويحتج لأبي الحسن ، بقوله تعالى : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ)(٢) [٣٤ / ب] فعاليهم : مبتدأ ، عنده. وثياب سندس : مرتفع به. ولو كان ثياب سندس ، مبتدأ ، وعاليهم خبره ، لم يجز ، لأن عاليهم مفرد ، فلا يكون خبرا للجمع وليس له حجة في الآية ، لأن (عاليهم) ليس بمبتدأ ، وإنما هو صفة لقوله : (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ)(٣) (عاليهم ثياب) أي : يعلوهم. واسم الفاعل ، إذا كان صفة ، رفع ما بعده. قال الله تعالى : (شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ)(٤).

قالوا : إنه رفع بمختلف ، ولا خلاف في ذلك. فثياب مرتفع بعاليهم ، لأنه وصف ، كما يرتفع به فيمن نصب (عاليهم) على الحال ، لأنه يرفع في الحالتين جميعا. وقد ذكر أبو علي (٥) : أن (عاليهم) : اسم فاعل ، فهو كقوله : (سامِراً تَهْجُرُونَ)(٦). فأفرد في موضع الجمع ، فيكون على هذا ثياب سندس : مبتدأ ، وعاليهم : خبرا له. وهو في معنى الجمع.

[قال أبو الفتح] : واعلم أن المبتدأ ، قد يحذف تارة ، ويحذف الخبر أخرى ، وذلك إذا كان في الكلام دليل على المحذوف ، إلى آخر الباب.

اعلم بهذا الكلام أن حذف المبتدأ جائز ، كما أن حذف الخبر ، كذلك. فمما جاء في التنزيل ، قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٧). تقديره : فصبري صبر جميل. أو فشأني صبر جميل. وإن شئت كان التقدير : فصبر جميل أمثل من غيره. وكذلك قوله : (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)(٨).

وقوله ، في الأخرى : (فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)(٩). ذانك على ذينك التقديرين.

إن شئت : أمرنا طاعة ، وقول معروف. وإن شئت : طاعة ، وقول معروف أمثل من غيرهما.

__________________

(١) ١١ : سورة هود ٨١.

لم أقف على هذه الآية في : الكتاب ، ومعاني القرآن ـ للأخفش ، وقد ذكرها الشارح من باب التمثيل للقاعدة.

(٢) ٧٦ : سورة الإنسان ٢١.

وهذا بناءا على قراءة : نافع ، وحمزة ، وعاصم ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، والحسن ، وابن عباس ، والأعرج ، وأبان ، والمفضل. معاني القرآن ـ للفراء ٣ : ٢١٩ ، وتفسير الطبري ٢٩ : ١٣٧ ، والسبعة ٦٦٤ ، والتيسير ٢١٨ ، وتفسير التبيان ١٠ : ٢١٦ ، ومجمع البيان ١٠ : ٤٠٨ ، وتفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٢ ، وتفسير القرطبي ١٩ : ١٤٥ ، والبحر المحيط ٨ : ٢٩٩ ، والنشر ٢ : ٣٩٦ ، وإتحاف الفضلاء ٤٢٩.

(٣) ٧٦ : سورة الإنسان ١٩.

(٤) ١٦ : سورة النحل ٦٩.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٩.

(٦) ٢٣ : سورة المؤمنون ٦٧.

(٧) ١٢ : سورة يوسف ١٨ ، ٨٣.

(٨) ٢٤ : سورة النور ٥٣.

(٩) ٤٧ : سورة محمد (عليه الصلاة والسّلام) ٢٠ ـ ٢١.

١٢٧

وليس في البيت الذي أنشده محذوف [٣٤ / ب] [وهو](١). [قول الشاعر] :

٧٥ ـ فقالت على اسم الله. أمرك طاعة

وإن كنت قد كلّفت ما لم أعوّد (٢)

ولكنه استشهد به ، ليريك أن (طاعة) صلح أن يكون خبرا للأمر. وقد جاء حذف المبتدأ ، مع الخبر بأسره. قال الله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)(٣). والتقدير : واللائي لم يحضن ، فعدتهم ثلاثة أشهر. فحذف المبتدأ ، والخبر ، لأن الكلام دليل عليه. أي الكلام الذي قبله. وإذا جاز حذفهما معا فما ظنك بحذف أحدهما؟.

باب الفاعل

اعلم أن الفاعل عند أهل العربية : كل اسم ذكرته بعد فعل ، وأسندت ذلك الفعل إليه. وهو مرفوع بفعله. وحقيقة رفعه بإسناد الفعل إليه. وذلك قولك : قام زيد ، وقعد عمرو.

[قلت] : الفاعل : ليس الذي فعل شيئا عند العرب. بخلاف ما هو عند المتكلمين (٤) ، لأن الفاعل عند العرب ، أي : أهل العربية : ما وجب له الرفع. وإنما يجب له الرفع ، بفعل مقدم عليه ، وهو يجري من الفعل ، مجرى أحد حروفه ، بدلائل عشرة ، منها : أنهم قالوا ضربت وضربت ، فأسكنوا لام الفعل ، لما اتصل به ضمير الفاعل. لأنهم ، لو لم يسكنوها ، وقالوا : ضربت : لتوالى في كلمة واحدة أربعة أحرف متحركات. وإنما يتصور ذلك ، إذا عدت التاء من الكلمة عد الضاد منها. وليس في كلامهم كلمة اجتمع فيها أربعة متحركات متواليات. فلما كان كذلك ، علمنا أن التاء أحد أجزاء الفعل. ألا ترى أنهم حين قالوا : ضربك لم يسكنوا الباء مع الكاف ، لأن الكاف في تقدير الانفصال ، من الفعل ، لما كان مفعولا منفصلا عن الفعل. فأما نحو : رسلهم ، وأكلهم ، فإن المضاف ، هاهنا ، كأنه لا يشتد اتصاله بالمضاف إليه اشتداد اتصال الفعل بالفاعل. ألا ترى أن الإضافة غير لازمة والفعل لازم للفاعل ، لا بد له منه ، مع أن أبا عمرو (٥) اسكن ، فقال : (رُسُلُهُمْ)(٦) ومن ذلك أنهم قالوا : يقومان ، ويقومون ، فأتوا بالنون ، وهي علامة الرفع ، بعد ذكر الفاعل. والرفع ، في نحو : يقوم زيد ، مقدم على الفاعل. فاستجازوا : يقومان ، ويقومون ، وتقومين ، لأن الفاعل كجزء من أجزاء الفعل ، متصل بالفعل ، غير منفصل. ومن ذلك أنهم قالوا في : فحصت ، وخبطت : فحصط ، وخبطط ، فقلبوا التاء طاءا ، والتاء فاعلة ، وقلبوها طاءا ليشاكلوا بها

__________________

(١) الأصل غير واضح.

(٢) البيت من الطويل ، لعمر بن أبي ربيعة ، في : ديوانه ٤٩٠ ، والأغاني ١ : ١٩٢ ، والخزانة ٤ : ١٨١.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣٦٢ ، والمغني ٢ : ٦٣١.

(٣) ٦٥ : سورة الطلاق ٤.

(٤) الفاعل عند المتكلمين هو : (المختار الذي يصح أن يصدر عنه الفعل ، مع قصد وإرادة). وعند النحويين (ما أسند إليه الفعل ، أو شبهه وقدم عليه على جهة قيام الفعل بالفاعل ، ليخرج عنه مفعول ما لم يسم فاعله).

ينظر : التعريفات ٩٩.

(٥) أي : أبو عمرو بن العلاء.

(٦) ٧ : سورة الأعراف ١٠١ ، وقرأها بإسكان الثاني ، كذلك : اليزيدي ، والحسن. إتحاف الفضلاء ١٤٢ ، ٢٢٧.

١٢٨

الصاد ، والطاء اللذين هما لاما الفعل. وإنما يكون ذلك في كلمة ، نحو : الصراط ، والصويق ، فعلمت ما قلنا. ومن ذلك : أنهم قالوا : قامت هند ، فأنثوا الفعل ، لما كان الفاعل مؤنثا ، لأنه أحد أجزاء الفعل. ومن ذلك : ما ذهب إليه أبو عثمان المازني ، في قوله تعالى : [٣٥ / ب] : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ)(١) وفي قول [امرئ القيس] :

٧٦ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

 ... (٢)

من أن المعنى : ألق ألق (٣) ، وقف قف. فاستغنى بتثنية الفاعل ، عن تكرار الفعل ، لأن الفاعل جزء من أجزاء الفعل ، فإذا ثني الفاعل ، فكأنه كرر الفعل ، ومن ذلك ، أنهم [قالوا] :

٧٧ ـ فأصبحت كنتيّا ، وأصبحت عاجنا

وشرّ خصال المرء : كنت ، وعاجن (٤)

فنسبوا إلى الفعل ، والفاعل جميعا. وحقهم ، إذا نسبوا إلى الجمل أن يحذفوا جزءا منها ، فيقولوا في : تأبط شرا : تأبطيا ، فلما قالوا : كنتيا ، ولم يحذفوا الفاعل ، علم أن الفاعل كأحد أجزاء الفعل. ومن ذلك : أنهم ، قالوا : حبذا زيد. فحبذا : مبتدأ ، فيما زعموا. وزيد : في موضع خبره.

والفعل لا يكون مبتدأ ، ولكن لما صيّر مع ذا كالشيء الواحد ، لما كان ذا : هو الفاعل ، جاز أن يكون مبتدأ تبعا للفاعل. فعلم أن الفاعل أحد أجزاء الفعل ، والفعل أحد أجزاء الفاعل. ومن ذلك : أنهم قالوا : لا أحبّذه ، فاشتقوا من (حبذا) ، من غير إطراح الفاعل. فعلم أن الفاعل كأحد أجزاء الفعل. ومن ذلك : أنهم قالوا : زيد ، ظننت ، قائم. فألغوا ظننت. والمقصود إلغاء الفعل ، ثم ألغي الفاعل تبعا للفعل. فعلم أنه كأحد أجزائه ، حيث لم يفصل منه. ومن ذلك : أنهم استقبحوا : قمت وزيد ، فيعطفون زيدا على التاء ، لما كان كأحد أجزاء الفعل وكأنهم لو عطفوا على الفاء كانوا عطفوا على الفعل فلم يعطفوا ، حتى أكدوا فقالوا : قمت أنا وزيد. فهذه عشرة أدلة ، فافهمها.

فتبين بهذه الأدلة أن الفاعل بمنزلة جزء من الفعل ، فينبغي أن لا يقدّم عليه. وإذا قلت : زيد قام.

فزيد : مبتدأ ، وليس بفاعل لامتناع تقديمه عليه. وإذا قلت : ما قام زيد. فزيد فاعل ، ولم يحدث شيئا ، لأن الفعل مقدم عليه مسند إليه.

[قال أبو الفتح] : واعلم أن الفعل إذا خلا من الضمير ، لم تأت فيه بعلامة تثنية ، ولا جمع.

تقول : قام أخوك ، وقام أخواك ، وقام إخوتك. كله بلفظ واحد ، في (قام) لأنه لا ضمير فيه ، وإنما

__________________

(١) ٥٠ : سورة ق ٢٤.

(٢) البيت من الطويل ، وعجزه :

 ...

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

وهو في : ديوانه ١٤٣ ، والكتاب ٢ : ٢٠٥ ، والتحصيل ٥٦١.

(٣) تفسير القرطبي ١٧ : ١٦.

(٤) البيت من الطويل ، بلا نسبة ، في : شرح شافية ابن الحاجب ٢ : ٧٧ ، وفيها :

وما أنا كنتي ، وما أنا عاجن

وشر الرجال : الكنتي ، وعاجن

وابن يعيش ١ : ١٤ ، ٦ : ٧ (بروايتيه) ، واللسان (عجن) ١٣ : ٢٧٧ ، و (كون) ١٣ : ٢٦٩ (بروايتين مختلفتين).

١٢٩

لم يكن فيه ضمير لارتفاع الظاهر به. [فيقال له] : فقد قال الله تعالى : (فَعَمُوا) [٣٦ / أ](وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)(١) وقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما)(٢) وقال : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٣).

[وقال الشاعر] :

٧٨ ـ ولكن ديافيّ ، أبوه ، وأمه

بحوران يعصرن السّليط أقاربه (٤)

وقالوا : أكلوني البراغيث. فألحق هذه الأفعال ألف التثنية ، وواو الجمع ، وأنت منعت من ذلك [وإنّ](٥) في هذه كلها أوجها : الأول : أن هذه الأسماء الظاهرة ، بعد المضمرات ، جاءت على سبيل البدل منها ، لأن المظهر يبدل من المضمر ، لا إشكال في ذلك. [قال الشاعر] :

٧٩ ـ وكأنه لهق السراة كأنه

ما حاجبيه معيّن بسواد (٦)

فحاجبيه : ظاهر ، وهو بدل من الهاء المنصوب ب (كأن). و (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) : بدل من الواو ، في (عموا). و (أحدهما) : بدل من الألف في (يبلغان). و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من الواو في (أسروا).

و (أقاربه) : بدل من النون في (يعصرن). و (البراغيث) : بدل من الواو في (أكلوني).

الثاني : أن (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) : مبتدأ ، وما قبله الخبر. وكذلك : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) و (أقاربه) ، و (البراغيث).

الثالث : أن الألف ، والواو في هذه كلها ، حرفا تثنية ، وجمع ، مجردتان من الاسم. والاسم هو الظاهر المرفوع به. وقيل : إن قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) كلام تام. وقوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) مبتدأ ، وما بعده خبره. أي : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) قالوا : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(٧). وقيل : لما قيل : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) ، قيل : من؟ فقيل : (الَّذِينَ ظَلَمُوا). أي هم الذين ظلموا ، كما قيل في قولهم : نعم الرجل

__________________

(١) ٥ : سورة المائدة ٧١.

(٢) ١٧ : سورة الإسراء ٢٣ ، وقرأ على التثنية : حمزة ، والكسائي ، وخلف. والباقون على الواحد : (يبلغن) السبعة ٣٧٩ ، وحجة القراءات ٣٩٩ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ٢٣٧ ، والنشر ٢ : ٣٠٦.

(٣) ٢١ : سورة الأنبياء ٣.

(٤) البيت من الطويل ، للفرزدق ، في : ديوانه ٨٢ ، والكتاب ٢ : ٤٠ ، والتحصيل ٢٤٧ ، وابن يعيش ٣ : ٩٨ ، ٧ : ٧ واللسان (سلط) ٧ : ٣٢١ ، والخزانة ٥ : ١٦٣ ، ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٧ ، ٢٣٩ ، ٧ : ٣٤٦ ، ٤٤٦ ، ١١ : ٣٧٣.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ١٩٤ ، وهمع الهوامع ٢ : ٢٥٧.

ديافي : منسوب إلى دياف (وهي : قرية بالشام). السليط : الزيت. حوران : من مدن الشام.

(٥) الأصل بياض.

(٦) البيت من الكامل. نسب في نسخة ابن طلحة لكتاب سيبويه ، منقولة من خط الزمخشري إلى الأعشى ، ولم أجده في ديوانه. ونص في الخزانة : أنه من الأبيات الخمسين التي لا يعرف لها قائل. وهو في : الكتاب ١ : ١٦١ ، والتحصيل ١٢٦ ، وابن يعيش ٣ : ٦٧ ، واللسان (عين) ١٣ : ٣٠٢ ، والخزانة ٥ : ١٩٧ ، ١٩٨ ، والانتخاب ٢٠٣ (ضمن مجلة المورد / عدد (٣) سنة ١٩٨٣ م).

لهق السراة : ابيض أعلى الظهر ، وسراة الظهر : أعلاه. ثور معين : بين عينيه سواد.

(٧) ٢١ : سورة الأنبياء ٣.

١٣٠

زيد ، لما قيل : نعم الرجل ، قيل : من هو؟ فقيل : زيد ، أي هو زيد. واعلم أن للفاعل أحكاما ، منها : أن يذكر بعد الفعل ، ويذكر بعد الفاعل المفعول. تقول : ضرب زيد عمرا ، فتذكر (ضرب) أولا ، ثم تذكر الفاعل بعده ، ثم تذكر المفعول بعد الفاعل. هذا هو حقيقة الكلام. ثم يجوز تقديم المفعول على الفاعل ، لنظم شعر ، أو لأنهم يهمهم ذكر المفعول ، كما يهمهم ذكر الفاعل. وذلك قولهم : قتل اللّص الأمير ، فذكر اللص مهم ، كما أن ذكر الأمير كذلك. ويجوز أيضا تقديم المفعول على الفعل ، وذلك أيضا لما يهمهم من البداية بذكره. وكل ذلك في نية التأخير ، وإن تقدم لفظا.

ألا ترى أنه يجوز : ضرب غلامه [٣٦ / ب] زيد وغلامه ضرب زيد ، فتنصب غلامه ، لأنه مفعول ، وهو مقدم على الفاعل في اللفظ. والنية به التأخير. ولو لا ذلك ، لما صح الكناية قبل الذكر. وإنما جاز : ضرب غلامه زيد ، [و](١)(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) (٢).

لأن النية به التأخير. والتقدير : أوجس موسى في نفسه خيفة ، وضرب زيد غلامه. وإذا كان كذلك ، فقول من قال في قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(٣) ، أن الضمير ، أعني : هما يعودان إلى الملكين. وقوله (فَيَتَعَلَّمُونَ) معطوف على قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) قول صحيح (٤). ولا وجه لرد أبي إسحاق (٥) عليه ، حين قال : إن هذا الكلام يوجب تقديم الإضمار على الظاهر ، لأنه يقدر : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) بجنب قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما). قال وهذا لا يجوز. وهذا الذي ذكره أبو إسحاق ، لو لزم هذا القائل ، للزم في قوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) لأن هذا أيضا إضمار قبل الذكر ، ومع هذا جاز ، لأن النية به التأخير ، وللفظ حق ، وإن كان للمعنى حق ، فكلا الحقين مرعي.

وأجمعوا على جواز : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ)(٦) و (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها)(٧) فقدموا المفعول هاهنا ، ومرتبته بعد الفاعل ، [وعلى](٨) هذا وجب تقديمه على الفاعل. ومن أحكام الفاعل ، أيضا ، ما قال أبو الفتح : فإن كان الفاعل مؤنثا ، جئت بعلامة التأنيث في الفعل. تقول قامت هند ، وقعدت جمل.

اعلم أن المؤنث على ثلاثة أضرب : مؤنث حقيقي ، ومؤنث بعلامة ، ومؤنث من حيث السماع بغير علامة. فالمؤنث الحقيقي : كل ما كان بإزائه ذكر ، نحو : المرأة ، والأتان ، وما أشبههما. ألا ترى أن بإزائهما الذكر ، وهو : الرجل ، والحمار. فإذا كان هكذا ، ولم يفصل بين

__________________

(١) زيادة يقتضيها سياق العطف.

(٢) ٢٠ : سورة طه ٦٧.

(٣) ٢ : سورة البقرة ١٠٢.

(٤) وهو قول الفراء. معاني القرآن ـ للفراء ١ : ٦٤.

(٥) وإنما أنكر ذلك أبو إسحاق الزجاج ، لأن قوله : (منهما) دليل على التعلم من الملكين ، ولذلك قال : (الأجود عندي أن يكون : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) للملكين ، لأنهما أولى بأن يعلموا. وقال : (علموا) كما يقال : الزيدان قاموا). ينظر : مجمع البيان ١ : ١٧٢ ، وتفسير القرطبي ١ : ٥٦.

(٦) ٢ : سورة البقرة ١٢٤.

(٧) ٦ : سورة الأنعام ١٥٨.

(٨) الأصل غير واضح.

١٣١

الفعل ، والفاعل ، بفاصل ، ولم يكن في لفظ الاسم ، ما يدل على التأنيث ، وجب تأنيث الفعل.

تقول : قامت هند. ولا يجوز عند سيبويه (١) : قام هند ، خلافا لبعضهم ، إلا في الشاذ ، لأن هذا يؤدي إلى الاشتباه ، والالتباس. فأما إذا كان في اللفظ ما يدل على التأنيث ، فإن تذكير الفعل جائز [٣٧ / أ]. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ)(٢) ولم يقل : جاءتك ، لأن التاء والألف في (مؤمنات) : أغنياك عن التاء في (جاءك).

وكذلك إذا فصل بين الفعل ، والفاعل فاصل ، جاز تذكير الفعل. تقول : قام اليوم ، هند.

وحكى سيبويه (٣) : حضر القاضي ، اليوم ، امرأة. قال : فطول الكلام ، صار كالعوض من لحاق تاء التأنيث في (حضرت). كما صار طول الكلام ، عوضا عن العائد من الصلة إلى الموصول ، في نحو قوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)(٤). ولم يقل : بعثه الله ، لأن الصلة قد طالت بالفعل ، والفاعل.

وكما صار طول الكلام ، عوضا عن الجار في نحو قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا)(٥). ولم يقل : في (أَنْ تَبَرُّوا) ، لأن طول صلة (أن) أغنى عن ذلك. ولو كان مكان (أن) نفس المصدر ، لم يجز حذف الجار ، إذ لم يطل.

وأما المؤنث بعلامة ، فقد تكون علامته التاء ، مثل : الموعظة ، والرحمة. وقد تكون الألف المقصورة ، نحو : الدعوى ، والدنيا. وقد تكون الألف الممدودة. نحو : الصحراء ، والطرفاء ، وقد جاء في ذلك كله : التذكير ، والتأنيث. قال الله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)(٦) وقال : (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)(٧). وقال : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)(٨) وقال : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٩).

وقال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(١٠). فحملوا ذلك ، مرة على اللفظ ، فأنثوا ، ومرة على المعنى ، فذكروا ، إذ الوعظ ، والموعظة واحد. والرحمة ، والغفران واحد. وباب الحمل على المعنى واسع ، وقد ذكرنا بعضه.

والمؤنث بغير علامة ، نحو : الشمس ، والقدر. جاء فيهما الأمران أيضا. قال الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً)(١١) فأنث ، ثم قال (هذا رَبِّي) فذكر. قال سيبويه : وهذا كله ، لأن أصل الأشياء : شيء. وهو يعبر به عن جميع الموجودات ، وهو مذكر (١٢). فأما ما أنشده أبو الفتح من [قول الشاعر] :

__________________

(١) الكتاب ٢ : ٣٧ ـ ٣٩ ، وليس فيه : (قام هند) ، وإنما ذكرها الشارح تمثيلا للقاعدة.

(٢) ٦٠ : سورة الممتحنة ١٢.

(٣) الكتاب ٢ : ٣٨.

(٤) ٢٥ : سورة الفرقان ٤١.

(٥) ٢ : سورة البقرة ٢٢٤.

(٦) ٢ : سورة البقرة ٢٧٥.

(٧) ١٠ : سورة يونس ٥٧.

(٨) ١٨ : سورة الكهف ٩٨.

(٩) ٧ : سورة الأعراف ٥٦.

(١٠) ٧ : سورة الأعراف ١٥٦.

(١١) ٦ : سورة الأنعام ٧٨.

(١٢) الكتاب ٢ : ٤٠ ، وفيه : (جاء جواريك ... إذا كان في معنى الجمع).

١٣٢

٨٠ ـ إنّ امرءا غرّه منكنّ واحدة

بعدي ، وبعدك في الدنيا ، لمغرور (١)

ف (امرءا) : اسم (إنّ) وقوله : غره ، جملة في موضع النصب ، صفة للنكرة ، على تقدير : غره واحدة كائنة منكن ، فلما تقدم على الموصوف ، انتصب [٣٧ / ب] على الحال. [ومنه] :

٨١ ـ لميّة ، موحشا ، طلل قديم

 ... (٢)

[وكذلك] :

٨٢ ـ ...

وفي الأرض ، مبثوثا ، شجاع وعقرب (٣)

لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف. والحال تتقدم على صاحبها. وقوله : بعدي ، وبعدك ، من صلة (غره).

وقوله : لمغرور : خبر (إنّ).

[قال أبو الفتح] : ولك في كل جماعة : تذكير الفعل ، وتأنيثه. تقول : قامت الرجال ، وقام الرجال. هذا لفظ عام ، أعني قوله : في كل جماعة. والمراد به : الخاص. ألا ترى أنه لا يجوز : قامت الزيدون ، فإنما هذا في جمع التكسير ، دون السلامة ، لأن جمع السلامة ، عاد فيه لفظ الواحد سالما.

وكما لا يجوز : قامت زيد ، لم يجز : قامت الزيدون. وإذا كان كذلك ، فقول من قال : إن قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ)(٤) فيمن قرأ بالتاء (٥) ، أن التاء محمول على تأنيث (الذين) ، لأن (الَّذِينَ كَفَرُوا) جمع. و (الَّذِينَ كَفَرُوا) : هم الفاعلون ، لم يجز ، لأن (الذين) ، وإن كان مبنيا ، فقد جاء فيه : (اللذون) ، فلا يحمله على تأنيث الجمع. ولكن يحمل الآية على أن يكون

__________________

(١) البيت من البسيط ، بلا نسبة في : معاني القرآن ـ للفراء ٢ : ٣٠٨ والخصائص ٤١٤ ، والإنصاف ١ : ١٧٤ ، وشرح شذور الذهب ١٧٤ ، وشفاء العليل ١ : ٤١٤.

(٢) البيت من الوافر ، لكثير عزة ، وعجزه :

 ...

عفاه كل أسحم مستديم

وأشهر رواياته :

لمية ، موحشا ، طلل

يلوح كأنه خلل

وهو في : ديوانه ٥٠٦ ، ٥٣٦ ، والكتاب ٢ : ١٢٣ ، وابن يعيش ٢ : ٦٤ ، والخزانة ٣ : ٢١١ ، ٦ : ٤٣ ، واللسان (وحش) ٦ : ٣٦٨.

وبلا نسبة في الخصائص ٢ : ٤٩٢ ، وشرح شذور الذهب ٢٥٣ ، وقطر الندى ٢٣٦ ، والمغني ١ : ٨٥ ، ٢ : ٤٣٦ ، ٦٥٩ ، وأوضح المسالك ٣٢٣.

(٣) البيت من الطويل ، لبعض بني فقعس ، وصدره :

وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا

 ...

ورد ضمن أبيات خمسة ، رواها أبو تمام في حماسته ١ : ٧٠ ، وفيها : مبثوث ، بدل : مبثوثا ، وعلى هذا فلا شاهد فيه ، وورد في الخزانة ٣ : ٣٠ ، ٢٠٩ ، في تينك الروايتين.

(٤) ٣ : سورة آل عمران ١٧٨.

(٥) هما : حمزة ، والمطوعي. معاني القرآن وإعرابه ـ للزجاج ١ : ٥٠٧ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٣٧٩ ، وإتحاف الفضلاء ١٨٢.

١٣٣

(الَّذِينَ كَفَرُوا) : هم [المفعولين](١). ويكون (أنّ) مع اسمه ، وخبره ، بدلا منه ، فكأنه قال : لا تحسبن أنما نملي للكافرين ، خير لأنفسهم ، فتحمل (أنّ) مع اسمه ، وخبره ، فلا يلزم ما ألزمه أبو علي (٢) ، من أن (أنّ) ، لو كان بدلا ، لوجب نصب خير. قال : لأنه يصير التقدير : لا تحسبن إملاءنا خيرا. فمن أين لك هذا الإلزام ، وقد ذكرت في قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٣٥) (٣) رادا على من زعم أن : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) : بدل ، من (أنّ) الأولى.

وزعمت أن (أنّ) الأولى ، لم تتم بخبرها ، فكيف يبدل عنها؟ فلم تجز إبدال (أنّ) الثانية ، من (أنّ) الأولى ، لأنها لم تتم ، فكيف ألزمت أبا إسحاق هاهنا أن يجعل (أنّ) مع اسمه البدل ، دون خبرها ، أو يتم (أنّ) باسمها اسما تاما. وأين قولهم جميعا : إن (أنّ) مع الاسم ، والخبر ، في تقدير المصدر ، ولم يقولوا : إن (أنّ) مع ، اسمه في تقدير المصدر. فما هذا الازدحام منك ، ومن غيرك على مثل ذلك الشيخ (٤). وحين قيل لك (٥) : إن (أنّ) الثانية ، في قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [٣٨ / أ] بدل من الأولى ، هو قول سيبويه (٦). فقلت : فإذن يكون الكلام على حذف خبر (إنّ) الأولى ، لأن حذف خبر (إنّ) و (أنّ) جاء. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ)(٧) ولم يذكر : معذبون. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(٨) ولم يذكر : في النار [قال الشاعر] :

٨٣ ـ إنّ محلا ، وانّ مرتحلا

وإنّ في السّفر ، إذ مضوا ، مهلا (٩)

فحذف الخبر. وليس هذا كقوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ)(١٠) لأن هناك الواو بمعنى : مع. أي : إن المصدقين مع المصدقات ، كقولهم : كل رجل وضيعته. وهذا شيء قد عرض. ولنعد

__________________

(١) في الأصل : (المفعولون) ، وإنما هي خبر كان ، و (هم) : ضمير فصل ، ولم يرد في القرآن الكريم غير هذا الأسلوب.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٥٤٣.

(٣) ٢٣ : سورة المؤمنون ٣٥. وقد انحصرت آراء النحويين في إعراب (أن) الثانية في أربعة أقوال هي :

الأول : قول سيبويه ، وهو أن تكون (أن) الثانية : بدلا.

الثاني : قول الفراء ، والجرمي ، والمبرد ، وهو أن تكون : مكررة للتوكيد.

الثالث : قول أبي الحسن الأخفش ، واختاره أبو علي الفارسي ، وهو أن تكون : مرتفعة بالظرف المقدر.

الرابع : قول الزجاج ، وهو : أن يحمل (يعد) على (يقول) فتكسر الهمزة ، وينحسر الإشكال. ينظر : الكتاب ٣ : ١٢٣ ، ومعاني القرآن ـ للفراء ٢ : ٢٣٤ ، ومجمع البيان ٧ : ١٠٥ ، ١٠٦ ، وتفسير القرطبي ١٢ : ١٢٢.

(٤) عنى به : أبا إسحاق.

(٥) المخاطب : أبو علي الفارسي.

(٦) الكتاب ٣ : ١٣٢.

(٧) ٤١ : سورة فصلت : ٤١.

(٨) ٢٢ : سورة الحج ٢٥.

(٩) البيت من المنسرح ، للأعشى ، في : ديوانه ٢٣٣ ، والكتاب ٢ : ١٤١ ، والتحصيل ٢٨٤ ، والمقتضب ٤ : ١٣٠ ، والخصائص ٢ : ٣٧٣ ، وابن يعيش ١ : ١٠٣ ، والمغني ١ : ٨٢ ، ٢٣٩ ، ٢ : ٦٠٩ ـ ٦٣١ ، والخزانة ٩ : ٢٢٧ ، ١٠ : ٤٥٢ ـ ٤٥٩.

وبلا نسبة في : شفاء العليل ١ : ٣٥٥.

(١٠) ٥٧ : سورة الحديد ١٨.

١٣٤

إلى ما كنا فيه ، فنقول : جمع التكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث. فالتذكير ، حملا على لفظ الجمع.

والتأنيث ، حملا على لفظ الجماعة. قال الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ)(١) ، أي جماعة الإعراب.

وقال تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ)(٢). أي : جمع نسوة.

باب المفعول الذي جعل الفعل حديثا عنه ،

وهو المفعول الذي لم يسم فاعله

والمفعول في هذا الباب ، يرتفع ، كما يرتفع الفاعل ، لأن الفعل الذي قبله حديث عنه ، ومسند إليه ، ومقدم عليه. فقولك : ضرب زيد ، بمنزلة : قام زيد. لأن الفعل قبل كل واحد منهما ، بمنزلته قبل صاحبه ، في ارتفاع ما بعده به ، وفي كون كل واحد منهما محدّثا عنه.

والأصل في هذا الباب أن يضم فاء الفعل ، ويكسر عينه ، في الثلاثي ، ويحذف الفاعل ، ويرفع المفعول. فيقال في : ضرب زيد عمرا : ضرب عمرو. هذا في الماضي. وفي المستقبل : يضم أول المستقبل ، ويفتح عينه ، فيقال في : يضرب زيد عمرا : يضرب عمرو. وعلى هذا تقول في الرباعي ، نحو : دحرج ، دحرج ، فتضم الأول ، وتكسر الثالث. وفي أكرم : أكرم ، وفي اقتطع : اقتطع ، بضم الهمزة ، تبعا لضم التاء. وإذا كان كذلك ، قلت في اختار : أختير ، بضم الهمزة ، لأن أصله : أختير.

فتراعي في هذا الباب ، الأصل. ألا ترى أنهم قالوا في قولهم : أغزي ، بضم الهمزة ، لأن أصله : أغزوي.

وقالوا : إرموا ، لأن أصله : أرميوا. فكذا في اختار : أختير ، بضم الهمزة ، لأن التاء مضمومة في الأصل.

واعلم أنه إذا كان الفعل متعديا إلى مفعول واحد ، رفعته [٣٨ / ب] وأقمته مقام الفاعل ، كما تقدم. فإن كان متعديا إلى مفعولين ، رفعت الأول منهما ، وبقّيت الثاني منصوبا ، كما كان ، لأنك إنما ترفع الأول ، لإقامتك إياه مقام الفاعل ، فيكفي رفعه. وكذلك إن كان متعديا إلى ثلاثة مفعولين ، يرفع الأول منهم ، ويبقي الباقي كما كان. تقول في : أعطيت زيدا درهما : أعطي زيد درهما. وفي : أعلمت زيدا عمرا خير الناس : أعلم زيد عمرا خير الناس. فإن كان الفعل لازما ، لم تصغ منه (فعل). وهو معنى قوله : لم يجز إلا أن تذكر الفاعل ، ف (أنّ) مع ما بعده ، في تقدير المصدر ، مرفوع بفعله ، وهو قوله : لم يجز. وتقديره : لم يجز ترك ذكر الفاعل. لا تقول في : جلس زيد : جلس. ولا في : قام زيد : قيم. إلا إذا كان مع هذا الفعل مصدر ، أو حرف جر. تقول في : جلس زيد جلوسا حسنا : جلس جلوس حسن. وفي : قام زيد في هذا المكان : قيم في هذا المكان. ولا يجوز : جلس جلوس ، لأنه لا فائدة في ذكر جلوس ، لأن (جلس) ، يدل على (جلوس). والكلام مبني على الفائدة. فإن قلت : جلس الجلوس الذي تعلم ، أو : جلس جلوس حسن ، جاز ، لأنك ، لما وصفته ، فقد أفدت بذكر الوصف ما لم يكن الفعل دليلا عليه. [فإن قلت] : فقد قال الله تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)(٣) قراءة أهل مكة (٤) (نزل) على صيغة : (ضرب). وارتفع الملائكة ب (نزل) ، وقد

__________________

(١) ٤٩ : سورة الحجرات ١٤.

(٢) ١٢ : سورة يوسف ٣٠.

(٣) ٢٥ : سورة الفرقان ٢٥.

(٤) بل قرأها : (الخفاف ، وعبد الوهاب) كلاهما عن أبي عمرو. المحتسب ٢ : ١٢١ ، وتفسير القرطبي ١٣ : ٢٤ ،

١٣٥

زعمت أنه لا يجوز : جلس زيد. [قلت] : هذا محمول على حذف مضاف. وتقديره : ونزل نزول الملائكة ، فحذف ، كما قال الله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١). [وكما قال الأعشى].

٨٤ ـ ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا (٢)

فانتصاب قوله : ليلة أرمدا ، على تقدير : ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة ، فحذف (اغتماضا) ، كحذف نزول. وأقام ليلة مقامه. فليس انتصاب (ليلة) على الظرف ، ب (تغتمض) ، وإنما هو على ما قلنا.

[فإن قلت] : فما وجه قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦) (٣) ف (يُسَبِّحُ) : فعل ما لم يسم فاعله. فما الذي قام مقام الفاعل هاهنا ، وبماذا يرتفع رجال؟.

[قلت] : قوله : يسبّح ، لما ذكر دل على (يسبّحه) [٣٩ / أ] فكأنه لما قال : يسبّح له فيها بالغدو ، والآصال ، قيل : من يسبّحه؟ فقيل : رجال. فاضمر ، لجري ذكره ، أعني ذكر التسبيح. [قال الشاعر] :

٨٥ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (٤)

كأنه ، لما قال : ليبك يزيد ، قيل : من يبكيه؟ فقال : ضارع لخصومة. أي : يبكيه ضارع لخصومة ، لأنه كان يدفع في الخصومات ، ويحمي أصحابها ، فأمر هذا الشاعر بموته أن يبكيه الخصوم ، إذ لا أحد يحميهم. ثم قال : ومختبط. أي : وليبكه مختبط. أي : سائل للعطايا. وقوله : مما تطيح الطوائح ، أي : مما تطيح المطيحات كقوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ)(٥) أي : الملقحات. فجاء هذا بحذف الزوائد ، كما جاء (مسعود) ، ويراد به : مسعد ، فهو من : أسعد. ولا يكون : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا)(٦) دليلا على أن سعد : متعد ، لأنه يجوز أن يكون (سعدوا) : أسعدوا ، فجاء على حذف الزيادة.

__________________

والبحر المحيط ٦ : ٤٩٤.

(١) ١٢ : سورة يوسف ٨٢.

(٢) البيت من الطويل ، في ديوانه ١٣٥ ، وعجزه فيه :

 ...

وعادك ما عاد السليم المسهدا

والخصائص ٣ : ٣٢٢ ، وسيرة ابن هشام ٢ : ٢٦ ، وابن يعيش ١٠ : ١٠٢ ، والخزانة ٦ : ١٦٣.

(٣) ٢٤ : سورة النور ٣٦.

(٤) البيت من الطويل ، للبيد ، في ديوانه ٢٢٣ ، وللحارث بن نهيك ، في الكتاب ١ : ٢٢٨ ، ٣٦٦ ، ٣٩٨ ، والتحصيل ٢٢١ ، والخصائص ٢ : ٢ : ٣٥٣ ، وابن يعيش ١ : ٨٠ ، ولنهشل بن حري في الخزانة ١ : ٣٠٣ ، ٣٠٤ ، ٣١٠ ، كما نسب لمزرد أخي الشماخ ، وللحارث بن ضرار النهشلي ، وهو بهذه النسب المختلفة ، وبلا نسبة في : المقتضب ٣ : ٢٨٢ ، والجمل ١ : ٥٣٧ ، والمغني ٢ : ٦٢٠ ، وشفاء العليل ١ : ٤١٥ ، والتاج (طوح) ٦ : ٥٩١.

(٥) ١٥ : سورة الحجر ٢٢.

(٦) ١١ : سورة هود ١٠٨.

١٣٦

[قال أبو الفتح] : فإن اتصل به حرف جر ، أو ظرف ، أو مصدر ، جاز أن تقيم كل واحد منها على انفراده ، مقام الفاعل. تقول : سرت بزيد فرسخين يومين سيرا شديدا. إنما قال ذلك ، لأن الفعل يدل على ثلاثة أشياء : يدل على المصدر ، من جهة اللفظ ، ويدل على الزمان ، من جهة الصيغة ، ويدل على المكان من جهة المعنى. ولما كان كذلك اشترك المصدر ، وظرفا الزمان ، والمكان في قيام كل واحد منهما مقام الفاعل. والجار ، والمجرور بمنزلة الظرف ، لأن الظرف أيضا في الحقيقة ، جار ومجرور. وإنما قال : سيرا شديدا ، ولم يقل : سيرا ، لأنه ، لو قيل : سير سير ، لم يكن في ذكر سير فائدة لم تحصل بقولك : سير. قال الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) (١) فقيده بواحدة ، لما ذكرنا ، وهم مما يبنون الكلام على الفائدة. ولهذا المعنى ، لم يجيزوا : إن الذاهبة جاريته صاحبها ، لأنه لم تكن في ذكرك (صاحبها) مفيدا لشيء لم تكن تفيده بقولك : إن الذاهبة جاريته. فأما قوله : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ)(٢) فإنما جاء قوله : (اثنتين) ليفيد العدد ، مجردا ، من الصّغر ، والكبر ، لأنه ، لو قال : فإن كانتا ، احتمل أن يكون من أحد القبيلين ، فجاء (اثنتين) ، دفعا ، للمحتمل : وزعم [٣٩ / ب] الأخفش أن التقدير : فإن كان من ترث اثنتين ، فأضمر (من) ، على معناه ، دون لفظه. كما قال : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً)(٣) فجاء (تعمل) على المعنى.

[قال أبو الفتح] : فإن كان هناك مفعول به صحيح ، لم يقم مقام الفاعل غيره. تقول : ضربت زيدا يوم الجمعة ضربا شديدا. لا يجوز أن تقيم مقام الفاعل ، غير زيد ، لأنه المفعول الصحيح.

قال الله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)(٤). فرفع (رزقه) ، لأنه مفعول صحيح. ولم يقرأ بالنصب فيما علمناه.

[قال أبو الفتح] : المشبّه بالفاعل في اللفظ ، على ضربين : اسم كان ، وخبر إن. [قلت] : وإنما كان مشبها بالفاعل ، لأن (كان) و (أخواتها) أسندت إلى هذه الأسماء ، نحو : كان زيد قائما ، وأصبح زيد مسرورا ، وليس محمد خارجا. فهذه الكلمات ، وإن خالفن سائر الأفعال ، فإنهن أفعال. فجاز أن يكون ما بعدهن فاعلا لها ، على خلاف فاعل سائر الأفعال. فقولك : كان زيد قائما ، يشبه قولك : ضرب زيد عمرا ، من حيث اللفظ ، وإن اختلفا من جهة المعنى. وأما خبر (إنّ) فسيأتي ذكره.

باب كان وأخواتها (٥)

وهي : كان ، وصار ، وأمسى ، وأصبح ، وظل ، وبات ، وما دام ، وما زال ، وما انفك ، وما

__________________

(١) ٦٩ : سورة الحاقة ١٣.

(٢) ٤ : سورة النساء ١٧٦.

(٣) ٣٣ : سورة الأحزاب ٣١.

(٤) ٦٥ : سورة الطلاق ٧.

(٥) عنوان هذا الباب في الكتاب ١ : ٤٥ : (هذا باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى المفعول ، واسم الفاعل ، والمفعول ، فيه لشيء واحد). ويعني بالفاعل ، والمفعول : الاسم ، والخبر. وينظر : الكتاب هامش (٢ / هارون) ١ : ٤٥.

١٣٧

فتئ ، وما برح ، وليس ، وما تصرف منهن.

[قلت] : اختلف الناس ، في هذه الكلمات. هل هي أفعال ، أم حروف؟. ولا خلاف ، عند البصريين ، في أحد عشر منها ، أنها أفعال. وإنما اختلفوا في (ليس) (١). أعني البصريين. فأما غيرهم ، فقد خالفهم. فزعم أن هذه الكلمات لسن بأفعال على الحقيقة (٢) ، لأن الفعل ما دل على الحدث ، والزمان [كليهما]. و (كان) الناقصة ، إنما تدل على الزمان المجرد ، فحسب. فلا يكون فعلا. قال : ولا يلزم تصرفه ، لأنه مشبه بالفعل. ونحن نقول : هذه أفعال كلها على الحقيقة. والدليل على ذلك : أنها يتصل بها الضمير ، كما يتصل بسائر الأفعال. تقول : كنت ، وكنت ، وكنت ، كما تقول : ضربت ، وضربت ، وضربت. قال [٤٠ / أ] سيبويه (٣) : وتقول : كنته ، وكناهم ، وكانني ، وكانونا.

كما تقول : ضربني ، وضربته ، وضربتهم ، وضربناهم ، وضربونا ، وأنشد [قول الشاعر] :

٨٦ ـ فإن لا يكنها ، أو تكنه ، فإنّه

أخوها غذته أمّه بلبانها (٤)

فهذا دليل على أنها أفعال ، والتصرف أيضا كذلك ، يدل على كونها أفعالا. فأما دلالتها على الزمان المجرد ، فإن الخبر صار كالعوض عن الحدث المسلوب عنها : فقولك كان زيد قائما ، إنما ذكر قائما ، هاهنا ، لأنه ، لما قيل : كان زيد ، لم يكن الكلام تاما ، لأنك ذكرت اسما مع كلمة دلت على الزمان المجرد ، فذكرت (قائما) ، ليصير عوضا عن ذلك. أعني عن الحدث. هذا هو مذهب صاحب اللمع ، وأبي علي ، وكان غيرهما يزعم أنك إذا قلت : كان زيد قائما ، دل (كان) على استحقاق زيد بالإخبار عنه بالقيام ، فيما مضى ، فدل (كان) على الاستحقاق ، والزمان ، فصار كسائر الأفعال. وقول أبي الفتح ، أظهر في هذا ، لما ذكرنا. وزعم الفراء (٥) إنك إذا قلت : كان زيد قائما ، انتصب (قائما) على الحال ، وهو غلط منه ، لأنا نقول : كان زيد القائم ، فتنصبه على الحال.

والحال ، لا يكون معرفة. فثبت بطلان ما قال. وتقول : زيد كان عمرو إياه ، فتنصب (إياه) ، لأنه

__________________

(١) المغني ١ : ٢٩٣ ، وفيه : (وزعم ابن السراج أنه حرف بمنزلة (ما) ، وتابعه الفارسي في الحلبيات ، وابن شقير ، وجماعة). غير أني وجدت في : أصول ابن السراج ١ : ٩٣ ، ما نصه : (فأما ليس فالدليل على أنها فعل ، قولك : لست ، ولستما ، ولسنا ....) ، وفي : جمل الزجاجي ١ : ٣٧٨ : (فإن فيها (أي : في ليس) خلافا ، فمذهب الفارسي ، ومن أخذ بمذهبه ، أنها : حرف).

(٢) الأصول ١ : ٩٢ ، وفيه : (فأما مفارقتها للفعل الحقيقي فإن الفعل الحقيقي يدل على معنى ، وزمان .... وهي تدل على : الزمان فقط). وفي المسائل المشكلة ١١٦ ما نصه : (وإنما حكم لهذه الحروف بأنها أفعال مع تعريها من الدلالة على الحدث لغلبة خواص الأفعال عليها ، فجعل الحكم فيها للأغلب ، ولو لا ذلك لم يحكم لها بالفعلية).

(٣) الكتاب ١ : ٤٦.

(٤) البيت من الطويل ، لأبي الأسود الدؤلي ، في ديوانه ١٢٨ ، والكتاب ١ : ٤٦ ، والتحصيل ٧٠ ، وابن يعيش ٣ : ١٠٧ ، واللسان (لبن) ١٣ : ٣٤٧ ، والخزانة ٣٢٧ ، ٣٣١.

وبلا نسبة في : المقتضب ٣ : ٩٨ ، والإنصاف ٢ : ٨٢٣ ، والجمل ١ : ٤٠٧ ، وشواهد التوضيح ٨٠.

(٥) الإنصاف (مسألة ١١٩) ٢ : ٨٢١ ، وهذا هو مذهب الكوفيين في إعراب المنصوب بعد (كان) ، وثاني مفعولي (ظن).

١٣٨

خبر كان. والمضمر ، لا يكون حالا. فثبت أن قولك : كان زيد قائما ، إنما هو بمنزلة قولك : ضرب زيد عمرا. فالاسم مشبه بالفاعل ، والخبر مشبه بالمفعول ، لمّا جاء بعد الفعل ، والفاعل ، كمجيء المفعول بعدهما.

وأما (ليس) : فإن سيبويه (١) ، وأصحابه ، زعموا أنه فعل. وأبو علي ، خالفهم ، فزعم : أنه حرف (٢). وقال : لأنه لا يتصرف ، وليس في الأفعال ، ما هو على صيغته ، وأنه لا يدل على ما يدل عليه الأفعال. وإنما (ليس) : لنفي الحال ، بمنزلة (ما) لا فرق بينهما. قال : ولا يدل قولك : لست ، ولسنا ، ولست ، على أنه فعل ، لأنه مشبه بالفعل (٣).

نقول : إن (ليس) : فعل ، وأصله : ليس ، على وزن : علم ، وصيد ، من حيث إن آخره مفتوح ، ولكنه ، لما لم يتصرف ألزم عينه الإسكان ، ليدل [٤٠ / ب] : ذلك على جموده ، وكونه غير متصرف. ولو كان متصرفا ، لقيل : لاس ، كما قيل في : هيب : هاب. ولأنك ، تقول : لست ، ولستم ، وليسوا. ولو كانت بمنزلة ما لم يتصل بها هذه المضمرات على حد ما يتصل بالأفعال.

ولأن : ليس ، بمنزلة : كان ، في جواز تقديم الخبر عليه. كما لا تقول : قائما ما زيد. فثبت بهذا أنه فعل. وإن منعت من تقدم الخبر عليه ، حاججناك (٤) ، بمثل ما حاججت به غيرك ، فنقول لك : الدليل على جواز تقديم خبر ليس ، قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ)(٥). ففي ليس ضمير العذاب ، مرتفعا ، بكونه اسما له. وقوله : (مصروفا) ، خبر. ويوم يأتيهم : منصوب بمصروف ، وقدمه على ليس : فجاز تقديم الخبر عليه ، لما جاز تقديم معموله عليه ، لأن معمول الخبر ، يقع حيث يجوز وقوع الخبر. ألا ترى أنك حاججت غيرك ، بجواز تقديم خبر المبتدأ بقول [الشاعر] وهو مطلع القصيدة :

٨٧ ـ كلا يومي طوالة ، وصل أروى

ظنون ، آن مطّرح الظّنون (٦)

ف (وصل أروى) : مبتدأ. و (ظنون) : خبره. و (كلا يومي) : ظرف ل (ظنون) وقدمه على (وصل أروى). كما أن (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ظرف معمول لمصروف ، مقدم على (ليس). فليس لك أن تقول : إن (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ظرف ، فتكتفي بالمعنى ، كقولهم : أكل يوم لك ثوب [لأن] : كلا ظرف أيضا ، ومع ذلك حاججت به غيرك ، فنحن أيضا نحاجك بهذا ، على أنك قد كررت هذه المسألة.

__________________

(١) الكتاب ١ : ٤٦ ، وفيه : (فأما ليس فإنه لا يكون فيها ذلك (أي : التصرف) ، لأنها وضعت موضعا واحدا ، ومن ثم لم تصرف تصرف الفعل الآخر).

(٢) ابن عقيل ١ : ٢٦٢.

(٣) المقتصد ١ : ٤٠٧ ـ ٤٠٩ ، ففيه نقل عبد القاهر الجرجاني مجمل رأي أبي علي في : (ليس).

(٤) الخطاب لأبي علي.

(٥) ١١ : سورة هود ٨.

(٦) البيت من الوافر ، للشماخ ، في : ديوانه ٣١٩ ، والمقتصد ١ : ٣٠٢ ، والإنصاف ١ : ٦٧ ، وشرح اللمع ـ لابن برهان ١ : ٥٧ ، واللسان (طول) ١١ : ٤١٥.

طوالة : اسم بئر. ظنون : القليلة الماء. كنى بطوالة ، ومائها القليل عن : وصل أروى الضعيف.

١٣٩

أعني : إعمال المعنى في الظرف ، تقدم الظرف ، أو تأخر ، في غير موضع من كتبك ، حتى بلغ الأمر منك ، رحمك الله ، إلى أنك قلت في قوله تعالى : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ)(١) : أن ما قبل (إلا) وهو : اتبعك ، يعمل في : (بادي الرأي) ، لأنه ظرف ، ولو كان غير ذلك ، من سائر الأسماء ، لم يجز ، ثم ناقضت هذا ، فوصلت إلى موضع آخر ، ولم تجز إعمال ما قبل (إلا) فيما بعده ، وإن كان ظرفا. والحرب قد تكون سجالا (٢) ، فلا كلّ ذاك على أبي إسحاق ، فربما يكون عليك. وإذا حاججت غيرك [٤٤ / أ] ب (كلا يومي طوالة) حاجك من بعدك ، غيرك ، بقوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ). فكيف تزعم أن : (ليس) : حرف ، وحين كان يقرأ عليك الكتاب ، أو كنت تقرؤه ، فبلغت إلى قوله : (وتقول : زيدا لست مثله). أمرت غيرك إلحاق قولك بالحاشية : هذا يدل على أنّ (ليس) : فعل (٣) ، لأنه صار كقولك : زيدا ضربت أخاه! فثبت أنّ (ليس) : فعل يدل على نفي الحال ، وألزم عينه الإسكان.

[فإن قلت] : فإذا كان لنفي الحال ، فالحال ، إنما يدل عليه قولك : يفعل ، فلم عبر عن الحال ، بلفظ الماضي؟. [قلت] : إن لفظ الماضي ، أخف من (يفعل). وهذا فعل لا تجيء منه إلا هذه الصيغة ، لأنه لا يدل إلا على الحال. فاختاروا من الأفعال أخف الصيغ ، لأنه لا يشتبه ، ولا يلتبس بشيء. فقولنا ، ليس : فعل. ولا يكون حرفا. وإن لم يكن متصرفا ، فهو بمنزلة : عسى ، لأن عسى : فعل ، ولا يتصرف ، فكذا هذا. ومعنى قوله : مما يكون فيه دلالة ، على الزمان ، يعني به : عسى ، وكاد ، وكرب ، وأوشك ، ونعم ، وبئس. لأن هذه أفعال تدل على الزمان ، وتدخل على المبتدأ ، والخبر ، سوى : نعم ، وبئس ، إلا أنها تلزم طريقة واحدة. ولعسى ، وكاد ، وأخواته ، باب سيذكر فيه. ثم ذكر من بعد ذلك ، أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة ، فالمعرفة اسم كان ، والنكرة خبره.

كقولك : كان زيد قائما. وإذا اجتمع معرفتان ، قال : فأنت مخير ، إن شئت قلت : كان زيد أخاك ، وإن شئت قلت : كان أخوك زيدا. والحقيقة في هذا ، أن اسم كان في الأصل ، مبتدأ ، وإنما يبتدأ باسم ، كان المتكلم في معرفته ، والمخاطب سيين ، وإنما يذكر المبتدأ ، ليبنى عليه الخبر الذي يستفيده المخاطب من المتكلم. فالإخبار عن المبتدأ ، إنما يكون بشيء لم يعرفه المخاطب ، والمتكلم يعرفه. فأنت إذا قلت : زيد أخوك. إن ذكرته لمن يعرف زيدا ، ولا يعرف أنه أخوه ، فلا بد ، وأن تقول : زيد أخوك. وإن عرف الأخ ، ولم يعرف أن اسمه زيد ، قلت : أخوك زيد. فالكلام يعقد للفائدة. [٤١ / ب] : فذكر الخبر ، إنما يكون ليستفيد المخاطب. فإذا لم يستفد المخاطب ، لم يجز. ولهذا المعنى ، قالوا ، لو قلت : أحق الناس بمال أبيه ابنه ، أو أحق الناس بمال ابنه أبوه ، لم يجز هاتان المسألتان ، لأنك ، بذكرك ابنه في الأولى ، وبذكرك أباه في الثانية ، لم تفد شيئا ، لم يتضمنه

__________________

(١) ١١ : سورة هود ٢٧.

(٢) السجل : الدلو. والمساجلة أن يستقي ساقيان ، فيخرج كل واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر ، فأيهما نكل فقد غلب. فضربته العرب مثلا للمفاخرة ، ومنه : (الحرب سجال) اللسان (سجل) ١١ : ٣٢٦.

(٣) المقتصد ١ : ٤٠٧ ، ٤٠٨.

١٤٠