شرح اللّمع في النحو

أبي الفتح عثمان بن جنّي

شرح اللّمع في النحو

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠

١٥٥ ـ وكمّلت مئة فيها حمامتها

وأسرعت ، حسبة ، في ذلك العدد (١)

ولا يجوز الجمع بين الباء ، والهمزة ، ولا بين الباء ، والتشديد ، لا تقول : أذهبت بزيد.

[فإن قلت] : فقد جاء : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)(٢) وتنبت : مستقبل : أنبتت. وأنبت : منقول من : (نبت).

[قلت] : قد قال : إنّ أنبت يجيء لازما ، ومتعديا.

[قال الشاعر] :

١٥٦ ـ رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم

قطينا لهم ، حتى إذا أنبت البقل (٣)

وإذا كان كذلك استجاز التعدي بالباء. وقيل : الباء بمعنى (مع) أي : تنبت ما تنبت ومعه الدّهن. وقيل : الباء زائدة ، كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٤)(وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا)(٥)(جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها)(٦) و : بحسبك زيد ، و : كفى بنا فضلا.

[فإن قلت] : فقد قرئ (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)(٧).

[قلت] : كذلك. أي : يذهب الأبصار. وحذف الجار من نحو قولك : مررت بزيد ، وعجبت من عمرو ، محمول على الضرورة. وقد جاء منه شيء صالح. أعني حذف الجار في التنزيل ، وغيره.

قال الله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ)(٨) أي : لأولادكم. وقال : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ)(٩) أي : على عقدة النكاح ، فحذف الجار. [قال الشاعر] :

١٥٧ ـ آليت حبّ العراق ، الدّهر ، أطعمه

والحبّ يأكله في القرية السّوس (١٠)

قال : التقدير : آليت على حبّ العراق ، فحذف (على). ولا تحمله على : زيدا ضربته ، على تقدير : آليت ، لا أطعم حب العراق ، الدهر ، أطعمه ، لأنه يلزم [منه](١١) حذف (لا) مع الفعل ، وإن فسر الفعل ، كما قاله أبو العباس (١٢). وقد جاء من الأفعال ، أفعال تستعمل معها الحروف

__________________

(١) البيت من البسيط ، للنابغة الذبياني ، في : ديوانه ١٦.

(٢) ٢٣ : سورة المؤمنون ٢٠.

(٣) البيت من الطويل ، لزهير بن أبي سلمى ، في ديوانه : ٣٧ ، والمغني ١ : ١٠٢ ، والتاج (نبت) ٥ : ١١١.

(٤) ٢ : سورة البقرة ١٩٥.

(٥) ٤ : سورة النساء ٤٥.

(٦) ٤٢ : سورة الشورى ٤٠.

(٧) ٢٤ : سورة النور ٤٣ ، وهي قراءة : أبي جعفر ، والجحدري ، وابن القعقاع. إعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ٤٨٤ ، ومجمع البيان ٧ : ١٤٧ ، وتفسير القرطبي ١٢ : ٢٩٠ ، والنشر ٢ : ٣٣٢.

(٨) ٢ : سورة البقرة ٢٣٣.

(٩) ٢ : سورة البقرة ٢٣٥.

(١٠) البيت من البسيط ، للمتلمس ، في : ديوانه ٩٥ ، والكتاب ١ : ٣٨ ، والتحصيل ٦٨ ، الخزانة ٦ : ٣٥١ ، وبلا نسبة في : المغني ١ : ٩٩ ، ٢٤٥ ، ٢ : ٥٩٠ ، ٦٠٠ ، والأشموني ٢ : ٢٦٥ ، وشفاء العليل ١ : ٤٣٤.

(١١) في الأصل بياض.

(١٢) أي : المبرد.

١٨١

الجارة مرة ، وتحذف أخرى ، نحو قولك : نصحتك ، ونصحت لك ، وشكرتك ، وشكرت لك ، ووزنتك ، ووزنت لك ، وكلتك ، وكلت لك. وفي التنزيل : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) (١) ، أي كالوا لهم ، أو وزنوا لهم.

[قال أبو الفتح] : والمتعدي بنفسه على ثلاثة أضرب : متعد إلى مفعول واحد ، ومتعد إلى مفعولين ، ومتعد إلى ثلاثة مفعولين. فالمتعدي إلى مفعول واحد ، نحو : ضربت زيدا [٦١ / أ] وكلمت جعفرا.

[قلت] : هذا النوع ينقسم قسمين : أحدهما علاج ، والآخر غير علاج ، فالعلاج ، نحو قولك : الضرب ، والأكل. وغير العلاج : أفعال الحواس الخمس ، نحو السمع ، والبصر ، والشم ، والذّوق ، واللّمس. فأما قولهم : سمعت ، فإنه يتعدى مرة إلى مفعول واحد ، كقولك : سمعت صوته ، وسمعت نداءه. ولا بد أن يكون ذلك المفعول مما يصحّ أن يسمع ، ولا يصح في غيره. لا تقول : سمعت زيدا.

[فإن قلت] : فقد قال تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ)(٢).

[قلت] : التقدير في ذلك : هل يسمعون دعاءكم ، فحذف ، كما قال في موضع آخر ، فأظهر ما أضمر : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ)(٣). وزعم معمر (٤) أن التقدير : هل يسمعونكم تدعون ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. وربما يتعدى سمعت إلى مفعولين. تقول : سمعت زيدا يقول ، وسمعت زيدا ينادي.

[قال أبو الفتح] : والمتعدي إلى مفعولين على ضربين أيضا : متعد إلى مفعولين ، ولك الاقتصار على أحدهما ، نحو قولك : أعطيت زيدا درهما ، وكسوت محمدا ثوبا. لك أن تقول : أعطيت زيدا ، وكسوت محمدا.

[قلت] : هذا النوع ، أيضا ، ينقسم قسمين ، أحدهما : يتعدى إلى المفعولين بنفسه ، من غير واسطة جار. وذلك ، نحو : أعطيت ، وكسوت. والثاني : ما يتعدى إلى المفعول الثاني بواسطة جار.

تقول : اخترت زيدا الرجال ، أي : من الرجال. وأمرتك الخير ، أي : بالخير. واستغفرت الله ذنبا ، أي : من ذنب. قال الله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ)(٥) ، أي : من قومه. [قال الشاعر] :

١٥٨ ـ أمرتك الخير ، فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال ، وذا نشب (٦)

__________________

(١) ٨٣ : سورة المطففين ٣.

(٢) ٢٦ : سورة الشعراء ٧٢ ، وينظر : مجمع البيان ٧ : ١٩٣.

(٣) ٣٥ : سورة فاطر ١٤.

(٤) هو : أبو عبيدة ، معمر بن المثنى ، البصري ، النحوي ، اللغوي (ت ٢٠٨ ه‍ ، وقيل ٢٠٩ ه‍). كان أبو عبيدة من أعلم الناس بأنساب العرب ، وبأيامهم ، وله كتب كثيرة في أيام العرب ، وحروبها ، مثل : (كتاب مقاتل الفرسان). ينظر : أخبار النحويين البصريين ٥٢ ، وطبقات النحويين واللغويين ١٧٥ ، والبلغة ٢١٦.

(٥) ٧ : سورة الأعراف ١٥٥.

(٦) سبق ذكره رقم (٣٣).

١٨٢

فجمع بين الحذف ، والإثبات. ألا ترى أنه ، قال : أمرتك الخير ، ثم قال : أمرت به. ولم يقل : أمرته. فأما قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(١) وقوله : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)(٢) فلك في (ما) وجهان : أحدهما : أن تجعل (ما) مصدرية ، فيكون حرفا ، بمنزلة (أن) موصولة بالفعل ، في تقدير المصدر ، فلا يقتضي عائدا إليها من الصلة [٦١ / ب] وكأنه قال : اصدع بالمأمور ، وافعل المأمور.

كما أن الخلق بمعنى المخلوق. والوجه الثاني : أن تجعل (ما) بمعنى (الذي) ، فيقتضي حينئذ عائدا من الصلة إليه ، فيكون التقدير : فاصدع بما تؤمر به ، وافعل ما تؤمر به. ومعنى اصدع بما تؤمر به : اصدع ما تؤمر بالصدع به. لا بد من هذا التقدير ، ليصح المعنى. فحذف الباء ، فصار التقدير : فاصدع بما تؤمر الصدع به ، ثم حذف الباء الثاني ، فلم يمكن الجمع بين لام التعريف ، والهاء ، فحذف لام التعريف ، وأضيف المصدر إلى المفعول ، فصار : فاصدع بما تؤمر صدعه. فحذف المضاف ، فصار التقدير : فاصدع بما تؤمره ، ثم حذف الهاء ، فصار : فاصدع بما تؤمر. فهذا من لطائف العربية ، ذكره أبو الفتح.

ثم قال : الثاني منهما : أفعال الشك ، واليقين : مما كان داخلا على المبتدأ ، وخبره. فكما لا بد للمبتدأ من خبره ، فكذلك ، لا بد للمفعول الأول من المفعول الثاني. وتلك الأفعال : ظننت ، وحسبت ، وخلت ، وزعمت ، ووجدت ، وعلمت ، ورأيت بمعنى : علمت.

تقول : ظننت زيدا قائما ، وحسبت محمدا جالسا ، وخلت أباك كريما ، وزعمت أخاك عاقلا ، ووجدت الله غالبا ، وعلمت أبا الحسن عفيفا ، ورأيت محمدا ذا مال.

[قلت] : يختص بهذه الأفعال أربعة أشياء ، لا يشاركهن فيها غيرها ، منها : أنها تدخل على المبتدأ ، والخبر ، فيصيران مفعوليها. ولا يجوز الاقتصار على أحدهما ، لأن الأول لا يستغني عن الثاني ، والثاني لا يستغني عن الأول. فإن لم تذكرهما ، فهو جائز. وقد جاء ذلك في التنزيل ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ)(٣) والتقدير : زعمتموهم إياهم. فلم يذكر المفعولين ، لأنه معلوم. فأما أن تذكر أحدهما ، فلا يجوز إلا في القليل النادر. [قال الشاعر] :

١٥٩ ـ بأيّ كتاب ، أو بأية سنّة

ترى [حبّهم (٤)]عارا عليك ، وتحسب (٥)

فلم يعدّه إلى المفعولين في اللفظ. فأما قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)(٦) فمن قرأ بالياء (٧) ، كان (الذين) هو الفاعل إلى

__________________

(١) ١٥ : سورة الحجر ٩٤.

(٢) ٣٧ : سورة الصافات ١٠٢.

(٣) ١٨ : سورة الكهف ٥٢.

(٤) في الأصل : حبها.

(٥) البيت من الطويل ، للكميت ، في : الهاشميات ٣٨ ، والجمل ١ : ٣١٠ ، والخزانة ٩ : ١٣٧ ، وبلا نسبة في : ابن عقيل ١ : ٤٤٣ ، وأوضح المسالك ٢٢٠ ، وهمع الهوامع ٢ : ٢٢٥.

(٦) ٣ : سورة آل عمران ١٨٨.

(٧) وهم : ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وابن محيصن ، واليزيدي ، ويعقوب ، وأبو جعفر ، والحسن.

التيسير ٩٢ ، وتفسير التبيان ٣ : ٧٥ ، وتفسير القرطبي ٤ : ٣٠٧ ، والبحر المحيط ٣ : ١٣٧ ، والنشر ٢ : ٢٤٦ ، وإتحاف الفضلاء ١٨٣ ، وغيث النفع ١٨٧.

١٨٣

قوله [٦٢ / أ] (بما لم يفعلوا) فلما طال الفاعل بالصلة ، أعاد الفعل ، فقال : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) فأعاد مع المفعولين ذكر الفعل ، والفاعل. فعلى هذه القراءة ، لا بد من ضم الباء في (تحسبنّهم) (١).

الثاني ، لأن الفاعل فيها مستكنّ. وأما من قرأ بالتاء (٢) ، فالذين يفرحون : المفعول الأول.

وقوله : (بمفازة) هو المفعول الثاني ، إلا أنه كرر الفعل لما طال المفعول الأول بالصلة. والفاء في كلا القراءتين زائدة ، إذ لا وجه للعطف ، ولا للشرط ، من حيث إنّ المفعول الثاني لا يعطف على الأول ، ولا يعطف المفعولان على الفاعل. وأما الشرط ، فلا إشكال فيه ، أنه ليس هناك ما يتضمن الشرط.

[والثاني] : من خواص هذا الباب : أنّ الفعل يلغى ، إذا توسط ، أو تأخر. كقولك : زيد ، أظن ، قائم. وزيد قائم ، أظن. والإعمال ، حالة التوسط ، أحسن ، والإلغاء ، حالة التأخر ، أحسن. فأما إذا تقدم الفعل ، نحو : أظن زيدا قائما ، فلا يجوز الإلغاء. وإنما جاز الإلغاء في هذا الباب ، لأن الكلام يصير مفيدا بعد الإلغاء ، كما كان مفيدا قبله. فأما إذا تقدم فقد قصدت إليه ، فلا بد من إعماله ، وإن لم يكن له تأثير ، وقد يجرى مجرى القسم. أعني هذه الأفعال. فتعامل معاملة القسم ، ولا يوهمنك ذلك ، أنه ملغى. فما جاء من قراءة من قرأ : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)(٣) بكسر الألف ، و (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ)(٤) بكسر الألف ، فإن هذا محمول على القسم ، فتلقّي بما يتلقّى به القسم من (إنّ) وغيره. ألا ترى أنه قد جاء : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٥) فيمن وصل ، ولم يقف. وهم : غير الأنباري ، وسهل ، وكذلك : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ)(٦)(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ)(٧). [وقال الشاعر] :

١٦٠ ـ ولقد علمت : لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا ، لا تطيش سهامها (٨)

فهذه الأشياء جارية مجرى القسم ، وما بعدهن أجوبة لها ، كما تكون أجوبة للقسم.

قال أبو الحسن (٩) : إذا لم تعدّ هذه الأفعال ، فقبيح أن لا تجرى مجرى القسم. ولهذا المعنى ، لم يحسن وقف الأنباري ، وسهل على قوله : (وظنّوا) لأنه لما وقف ، ولم يعدّ ، وجب أن يجاب بجواب القسم. وكأنه قال : وضل عنهم ما كانوا يدعون [٦٢ / ب] من قبل ، وظنوا ، وأيقنوا ، وعلموا ، حتى صار كأنهم أقسموا : (ما لهم من محيص).

__________________

(١) وهي قراءة : الضحاك ، وعيسى بن عمر. تفسير القرطبي ٤ : ٣٠٧ ، والبحر المحيط ٣ : ١٣٧.

(٢) وهم : عاصم ، وحمزة ، والكسائي. السبعة ٢٢٠ ، وحجة القراءات ١٨٦.

(٣) ٧ : سورة الأعراف ٣٠ ، لم أقف على من قرأ بكسر الألف.

(٤) ٣ : سورة آل عمران ١٧٨ ، وهو : يحيى بن وثاب. إعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٣٧٩ ، ٣٨٠ ، وتفسير القرطبي ٤ : ٢٨٨.

(٥) ٤١ : سورة فصلت ٤٨.

(٦) ٤١ : سورة فصلت ٤٧.

(٧) ٢ : سورة البقرة ١٠٢.

(٨) سبق ذكره (١١٩).

(٩) أي : الأخفش.

١٨٤

[والثالث] : من خواصّ هذا الباب ، هو : التعليق. ومعنى التعليق : هو أن تعلّق الفعل بين أن تعمله في المعنى ، ولم تعمله في اللفظ ، بخلاف الإلغاء ، لأن الإلغاء إبطاله لفظا ، ومعنى. فقولك : علمت : لعبد الله قائم. وعلمت : أزيد في الدار أم عمرو. فالفعل معمل في المعنى دون اللفظ ، لأن الجملة في المعنى ، سادة مسدّ المفعولين ، إلا أن اللام ، والهمزة منعتا الفعل من العمل ، لما تقتضيانه من صدر الكلام. قال تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى)(١). فلم يعمل لنعلم ، لأن (أيّا) لما كان استفهاما منع من ذلك.

[فإن قلت] : فلم زعمت أنّ التعليق يختص هذا الباب ، وقد قال الله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦٩) (٢). فلم يعمل (لننزعنّ) في (أيّهم) كما لم يعمل (لنعلم) في (أيّ الحزبين). وقد قال الله تعالى : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ)(٣). فعلّق (يدعو) حيث أدخل اللام على قوله : (من). فهذان فعلان خارجان عن الأفعال السبعة؟

[الجواب] : أنّ تعليق (ننزع) في الآية قول يونس (٤) ، وليس بقول سيبويه ، ولا الخليل. فلا يلزمنا ذلك. على أنا نقول : إن يونس استجاز تعليق (ننزع) ، لأن المراد بالنزع في الآية ، هو التمييز بين الصالح ، والطالح ، وليس المراد به نزع الشيء من الشيء ، كنزع المسامير من الخشب.

فلهذا جوز التعليق.

ثم قول سيبويه في الآية ، أنّ (أيهم) مبني ، لأنه بمعنى (الذي) (٥) وقد حذف منه ما يعود إليه ، وما يعود إليه موضح له مبيّن ، وهو بعضه. فلما حذف منه ذلك استحق البناء ، كقبل ، وبعد.

ونحن نقول في الآية : إنّ (من) زائدة. والمفعول قوله : (كلّ شيعة). وإن كان قد قال : هي لا تزاد في الواجب. وأما قوله (يدعوا لمن ضرّه) فليس (يدعو) معلّقا ، وإنما هو في موضع الحال ، مما قبله.

والتقدير : ذلك هو الضّلال البعيد مدعوّا.

وقوله : (لمن ضرّه) مبتدأ ، وليس بمفعول ، فلا يلزمنا ذلك. أو يكون (يدعو) بمعنى (يقول).

وما بعد القول [٦٣ / أ] مبتدأ ، وخبر. وقول الفراء تقديره : يدعو من لضرّه أقرب من نفعه ، وأنّ اللام مؤخر في النية [غير (٦)] جائز (٧) ، لأن ما في الصلة لا يتقدم على الموصول. وإذا احتمل هذا صح أنّ التعليق من خواص هذا الباب ، وأنّ قوله : علمت لزيد في الدار ، وعلمت : زيدا أبو من هو ، بالرفع ، أعني في زيد ، لما كان قوله : من هو : استفهاما عائدا إلى زيد ، وهو في المعنى هو ، لا يجوز هذا في غير هذه الأفعال ، قال : وتقول : علمت أيّ يوم الجمعة ، وأيّ يوم الجمعة ، بالنصب ،

__________________

(١) ١٨ : سورة الكهف ١٢.

(٢) ١٩ : سورة مريم ٦٩.

(٣) ٢٢ : سورة الحج ١٣.

(٤) الكتاب ٢ : ٤٠٠ ، وفيه : (وأمّا يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك : أشهد إنك لرسول الله).

(٥) الكتاب ٢ : ٣٩٩.

(٦) في الأصل : فغير ، ودخول الفاء لا مسوغ له ، فغير خبر إلى قول.

(٧) معاني القرآن ـ للفراء ٢ : ٢١٧.

١٨٥

والرفع. فالنصب على الظرف ، والعامل فيه الجمعة ، دون علمت ، لأن (أيّا) استفهام. وعلمت :

معلق. والجملة مفعول. والتقدير : قد علمت : الجمعة في أيّ يوم هو. الرفع بالابتداء ، والخبر ، وعلمت معلّق. وهذا يجوز في [يومي](١) الجمعة ، والسبت ، لأنهما في الأصل مصدران. فتقول ، على هذا : اليوم الجمعة ، واليوم السبت. واليوم الجمعة ، واليوم السبت.

ولا يجوز : اليوم الأحد ، واليوم الاثنين ، إلى الخميس ، إذ ذلك غير مصادر. [قال الشاعر] :

١٦١ ـ أأنت ، يا بسيطة الّتي الّتي

هيّبنيك في المقيل صحبتي

لقد علمت أيّ يوم عقبتي

هي الّتي عند الهجير والتّي

إذا النّجوم في السّماء ولّت (٢)

فرحم الله يوسف (٣) ، كيف تتبع قوله :

لقد علمت أيّ يوم عقبتي

لأنّ كلّهم حسبوا أن هذا ليس بالشعر ، لأنه قال (٤) : وتقول : لقد علمت أيّ يوم عقبتي ، فخلطه بالكلام ، فأشكل عليهم ، فحكوه عنه هكذا. وهو قد فعل مثل ذلك في الكتاب ، في مواضع. وجوّز : أيّ يوم عقبتي ، وأيّ يوم عقبتي ، كما تقدم.

[والرابع] : من خواص هذا الباب ، تعدية المضمر إلى المضمر. تقول : ظننتني قائما ، وحسبتك منطلقا ، وزيد ظنّه قائما. فيتعدى ضمير الفاعل المرفوع إلى ضميره المنصوب. قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) (٥) ففي (رآه) ضمير الإنسان ، وهو الفاعل. والهاء يعود إليه ، أيضا. أي : أن رأى نفسه. وهذا لا يجوز في سائر الأفعال. لا تقول : ضربتني ، ولا : ضربتك ، ولا : زيد ضربه. وتقول : أخواك ظناهما منطلقين. فأخواك : مبتدأ. وظنّا : خبره. وهما : المفعول الأول. ومنطلقين : [المفعول](٦) الثاني. ولو قلت : أخويك ظنّا [٦٣ / ب] منطلقين ، لم

__________________

(١) الأصل بياض.

(٢) من الرجز ، بلا نسبة في الكتاب ١ : ٢٤٠ ، وقد رواه سيبويه ممزوجا بكلامه ، إذ قال : وبعض العرب يقول :

(لقد علمت أي حين عقبتي) ، والخزانة ٩ : ١٦٢ ، ١٦٣ ، وفيها : أي حين ، بدل : أي يوم ، و : في الهجير قالت ، بدل : والتي ، وفي المخصص ٧ : ١١٩ ، واللسان (بسط) ٧ : ٢٦١ ، والتاج (بسط) ١٩ : ١٤٦ ، روي مرة :

ما أنت يا بسيط التي التي

أنذرنيك في المقيل صحبتي

وأخرى :

أنك يا بسيطة التي التي

أنذرنيك في الطريق إخوتي

بسيطة : اسم موضع.

(٣) أي : السيرافي.

(٤) أي : سيبويه. الكتاب ١ : ٢٤١.

(٥) ٩٦ : سورة العلق ٦ ، ٧.

(٦) زيادة يقتضيها السياق.

١٨٦

يجز ، لأنك عديت المضمر إلى الظاهر. وأجمعوا على أنه لا يجوز : زيدا ضرب. أي : ضرب هو نفسه ، لأنك عديت المضمر إلى الظاهر. وهذا الظاهر فضلة في الكلام ، لأنه مفعول فيصير المفعول الذي هو الفضلة ، بما يعود إليه من الضمير ، بمنزلة ما لا بد منه من عود الضمير إليه ، إذ لا بد للضمير من عوده إلى مذكور. وهذا خلاف موضوع الفعل ، فلم يجز : أخويك ظنا منطلقين. وجاز أخواك ظناهما منطلقين. وجاز : ظنّهما أخواك منطلقين. وهذا كله مستفاد من قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ)(١) ، وقوله : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). وأما قولهم : زيدا لم يضربه إلا هو ، فإنه يجوز بالنصب ، ولا يجوز بالرفع ، لأن النصب محمول على الهاء. وكأنك قلت : لم يضرب زيدا إلا هو. ويجوز : ما ضربني إلا أنا ، وما ضربك إلا أنت. ولو رفعت زيدا حملته على (هو).

وكأنك قلت : زيد لم يضربه. فيكون في (يضربه) ضمير يعود إلى زيد ، هو الفاعل. وقد ذكرنا أنّ هذا من خواص هذا الباب ، وأنه لا يجوز : زيد ضربه ، ولا : زيدا ضرب. وجاز : زيد ظنّه منطلقا ، لقوله تعالى : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). هكذا ذكره الأخفش ، بعد كلامه في أول الباب. ثم قال [فإن قلت] : فأنت تقول : الخوان أكل عليه اللّحم ، وأنت لو قلت : الخوان أكل اللّحم ، لم يجز.

[قلت] : هذا جائز ، لأنه قد يكون من الأفعال ما لا يتعدى بحرف الجر ، فيجوز أن يقدّر فعل لا يقتضي الجار. ألا ترى أنك ، إذا قلت : زيدا مررت به ، قدرت : لقيت زيدا ، أو جزت زيدا. فكذا هاهنا : الخوان ألزمه اللّحم. وليس كذلك : زيد لم يضربه إلا هو ، بالرفع. ليس له وجه إلا الحمل على (هو) الذي بعد (إلا). وليس إلى ذلك طريق إلا بعد إسقاطه من الكلام ، على ما قدمنا فهذه ما تختص بهذا الباب ، ولا يشاركه فيه غيره ، وإنما جاز : ظننتني ذاهبا ، ولم يجز : ضربتني ، لأن هذه الأفعال ، ليس لها تأثير في المفعول [٦٤ / أ] الأول ، وإنما المقصود : المفعول الثاني ، أعني : المقصود بالفائدة. فلم يبالوا في المفعول الأول ، أيّ شيء كان : ضمير الفاعل ، أم غيره.

وفي سائر الأبواب ، لا بد أن يكون المفعول غير الفاعل ، ليتبين تأثيره فيه. ومع ذلك ، فقد جاز : ضربت نفسي ، لأنك ، لما أظهرت نفسه ، صار كالأجنبي ، لأنه ظاهر مخالف للمضمر ، فيتصوّر فيه ذلك ، بخلاف : ظننتني ، لأن كليهما مضمر لا يتصور فيه ذلك المعنى ، فافترق الحال.

وزعم قوم أن هذا الباب ، لما أشبهت (إنّ) (لمّا) كان داخلا على المبتدأ ، والخبر ، جاز : ظننتني ذاهبا ، وظننتك منطلقا. كما جاز : (إنني) و (إنك) (٢). والأول أقيس ، وإن كان الفارس (٣) ، قد اعتمد على الثاني في التذكرة (٤). وتقول : ظننته زيدا قائما ، وظننت ذاك زيدا منطلقا ، وظننت الظنّ زيدا قائما ، ف (الهاء) و (ذاك) جميعا كناية عن المصدر الذي هو الظن. ويجوز أن تقول :

__________________

(١) ٣ : سورة آل عمران ١٨٨.

(٢) يعني : إنني منطلق ، وإنك منطلق.

(٣) أي : أبو علي الفارسي.

(٤) التذكرة : من كتب أبي علي الفارسي. ذكره القفطي في إنباه الرواة ١ : ٢٧٤.

١٨٧

ظننته زيد قائم. فيكون الهاء : للشأن ، والحديث. و (زيد قائم) : مبتدأ ، وخبر ، تفسير لذلك المضمر. فإن قلت : زيدا ظننت الظن قائما ، فلا يجوز الإلغاء ، وإن توسط ، لأنك أكدت (ظننت) بالمصدر. فإن قلت : زيد ، ظننته ، قائم. أو : زيد ، ظننت ، ذاك قائم ، فالإلغاء أحسن قليلا ، إذ ليس في لفظ (ذاك) ، ولا في لفظ الهاء دليل على المصدر. ولهذا لم يجيزوا : مروري بزيد ، حسن وهو بعمرو ، قبيح ، لأنه ، ليس في (هو) دليل على لفظ المصدر ، فلا يتعلق به الجار.

واعلم أن (علمت) ، إنما يتعدى إلى مفعولين ، إذا كان من العلم الحقيقي ، نحو : علمت زيدا قائما. فأما إذا كان معنى (علمت) : عرفت [فقد](١) تعدى إلى مفعول واحد ، نحو قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ)(٢). أي : لا تعرفونهم ، أي : لا تعرفون نفاقهم. وقال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)(٣) أي : عرفتم.

وأما (رأيت) ، فإنه ، إذا كان من رؤية البصر ، [فقد](٤) تعدى إلى مفعول واحد ، كقولك : رأيت زيدا ، أي : أبصرته. وقال عليه السّلام : (سترون ربكم) (٥). يعني : ببصركم. ومن [٦٤ / ب] قال : إنه من رؤية القلب ، فقد ارتكب إضمار المفعول الثاني. وهذا مما لا يجوز ، فاعرفه.

وأما إذا كان من رؤية القلب [فقد](٦) تعدى إلى مفعولين ، كقولك : رأيت الله غالبا. وإذا كان من قولهم : فلان يرى رأي أبي حنيفة ، فإنه يتعدى إلى مفعول واحد.

ويتعدى إلى الثاني بهمزة النقل ، كقوله تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ)(٧) ف (أراك) ها هنا ، يتعدى إلى مفعولين. والتقدير : بما أراكه الله. فالكاف : المفعول الأول. والعائد إلى الموصول : المفعول الثاني. وهو منقول من (رأيت) الذي هو من الرأي. وليس بمنقول من (رأيت) بمعنى : أبصرت ، إذا لا معنى له ، هاهنا. وليس بمنقول من (رأيت) الذي هو من رؤية القلب ، لأنه تعدى إلى مفعولين. ولو كان منقولا منه تعدى إلى ثلاثة مفعولين.

وتقول العرب : أرأيتك زيدا ما صنع؟. قال الله تعالى حكاية عن اللعين (٨) : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ)(٩). وقال : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)(١٠) فالكاف للخطاب ، لا محل لها من الإعراب. وزيدا : المفعول الأول. وما صنع : في موضع المفعول الثاني. وإن قلت : الكاف : المفعول الأول. وزيدا : المفعول الثاني ، فهو كلام فاسد ، لا طائل عند الاشتغال بإفساده ، لظهوره ، على أنه لو كان الكاف المفعول الأول ، وزيدا : المفعول الثاني ، لكان (زيد) هو (الكاف) في : المعنى ، لأن المفعول الثاني ، في هذا الباب ، خبر المبتدأ. وخبر المبتدأ إذا كان مفردا ، كان

__________________

(١) زيادة تقتضيها (أما) الشرطية.

(٢) ٨ : سورة الأنفال ٦٠.

(٣) ٢ : سورة البقرة ٦٥.

(٤) زيادة تقتضيها (إذا) الشرطية.

(٥) المعجم الكبير ـ للطبراني ٢ : ٢٩٤ ، ٢٩٥ ، ٢٩٦.

(٦) زيادة تقتضيها (أما) ، و (إذا) الشرطيتان.

(٧) ٤ : سورة النساء ١٠٥.

(٨) اللعين : هو إبليس.

(٩) ١٧ : سورة الإسراء ٦٢.

(١٠) ٦ : سورة الأنعام ٤٧.

١٨٨

المبتدأ في المعنى ، ولأن الكاف ، لو كان مفعولا ، لافترق الحال بين قولك : أرأيتك زيدا ، وبين قولك : أرأيت زيدا. وفي مجيء التنزيل بالوجهين : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ)(١)(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ)(٢). والمعنى واحد ، دليل قاطع على أن الكاف للخطاب ، زيدت لتأكيد التاء ، ولأنك تقول : أرأيتك هندا ما صنعت بفتح التاء [٦٥ / أ] والكاف. ولو كانت الكاف هندا ، لكانت مكسورة. فإذن : أرأيتك زيدا ما صنع ، وأ رأيت زيدا ما صنع سيان. وهذه الكاف تثنى ، وتجمع.

فيقال : يا زيد ، أرأيتك عمرا ما صنع؟ ويا زيدان ، أرأيتكما ، ويا زيدون أرأيتكم. ويا هند ، أرأيتك ، فتستغني بتثنية الكاف ، وجمعه ، وتأنيثه عن تثنية التاء ، وجمعه ، وتأنيثه. وإذا قلت : أرأيتك زيدا ما صنع ، فمعناه : أخبرني. وجاز أن يكون أرأيتك في معنى أخبرني ، وإن كان لفظه لفظ الخبر ، كما جاء : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ)(٣). أي : فليتربّصن. ولا يخرجه كونه بمعنى (أخبرني) من أن يقتضي ما يقتضيه في الأصل ، من تعديه إلى مفعوليه. ألا ترى أنهم قالوا : نبّئت زيدا قائما.

فعدّوه إلى ثلاثة مفعولين ، حملا على الإعلام (٤).

ولا يخرجه ذلك عن تعديه ، بحرف الجر ، في نحو قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١) (٥).

وأما (زعمت) ، فهو قول يقترن به اعتقاد ، ومذهب قد يصح ، وقد لا يصح. فإذا أردت به القول المحض من غير اقتران اعتقاد به ، [فقد](٦) عومل معاملة القول ، في وقوع ما بعده من حكاية الجمل. كما يكون بعد القول. [قال الشاعر] :

١٦٢ ـ فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل (٧)

وأما ما أنشده أبو الفتح ، من قوله :

١٦٣ ـ ...

وفي الأراجيز ، خلت ، اللّوم ، والخور (٨)

فاللوم : مبتدأ. والخور : عطف عليه. وفي الأراجيز : خبر مقدم. وخلت : ملغى. والتقدير :

__________________

(١) ٦ : سورة الأنعام ٤٠.

(٢) ٦ : سورة الأنعام ٤٦.

(٣) ٢ : سورة البقرة ٢٢٨.

(٤) أي : أعلمني زيدا قائما.

(٥) ١٥ : سورة الحجر ٥١.

(٦) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) البيت من الطويل ، لأبي ذؤيب ، الهذلي ، في : ديوان الهذليين ١ : ٣٦ ، والكتاب ١ : ١٢١ ، والتحصيل ١١٥ ، والمغني ٢ : ٤١٦ ، واللسان (زعم) ١٢ : ٢٦٤.

وبلا نسبة في : المقتصد ١ : ٤٩٣ ، وابن عقيل ١ : ٤٢٣ ، وشفاء العليل ١ : ٣٩١.

(٨) البيت من البسيط ، نسب إلى اللعين المنقري ، واسمه منازل بن زمعة ، وصدره :

أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني

 ...

وهو بهذه النسبة في : الكتاب ١ : ١٢٠ ، والتحصيل ١١٥ ، وابن يعيش ٧ : ٨٤ ، ٨٥ ، والتاج (رجز) ١٥ : ١٥٠ ، وفيه :

 ...

وفي الأراجيز راس النوك ، والفشل

والخزانة ١ : ٢٥٧ ، ولجرير في اللسان (خيل) ١١ : ٢٢٦ ، وليس هو في ديوانه.

وبلا نسبة في : أمالي المرتضى ٢ : ١٨٤.

١٨٩

اللّوم ، والخور في الأراجيز ، فألغى خلت. [قال الشاعر] :

١٦٤ ـ وما خلت أبقى بيننا من مودّة

عراض المذاكي المسنفات القلائصا (١)

ألا ترى أن (خلت) ملغى ، لأن بعده فعلا ، وفاعلا ، فلا يسهل دخولها عليها.

وأما (وجدت) ، فإذا كان من الوجدان [فقد](٢) تعدى إلى مفعول واحد ، وإذا كان بمعنى العلم [فقد](٣) تعدى إلى مفعولين. قال الله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً)(٤) وقال : (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٥). وقال : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ)(٦). [٦٥ / ب]

واعلم أن من العرب من يجري : أتقول في الاستفهام ، مجرى : أتظنّ ، فيعامله معاملته.

فيقول : أتقول زيدا قائما. أي : أتظن زيدا قائما. [قال الشاعر] :

١٦٥ ـ أجهّالا تقول بني لؤيّ

لعمرو أبيك أم متجاهلينا (٧)

[وقال الشاعر] :

١٦٦ ـ أمّا الرّحيل ، فدون ، بعد غد

فمتى تقول الدّار ، تجمعنا (٨)

وقد روي بالنصب ، [قال الشاعر] :

١٦٧ ـ علام تقول الرّمح يثقل ساعدي

 ... (٩)

أي : علام تظن؟.

[قال أبو الفتح] : والمفعول الثاني في (ظننت) وأخواتها ، كأخبار المبتدأ ، والمفرد ، والجملة ، والظرف. والأمر ، كما قال. كل ما شرطناه هناك ، من عود : الضمير ، والظرف ، والجار ، فهاهنا جائز ، لا شك فيه. ولهذا إذا قلت : ظننت زيدا إنّ أباه قائم ، وجب كسر إنّ ، ولا يجوز الفتح ، في الأغلب الأشيع ، لأنه يجوز أن تقول : ظننت زيدا أبوه قائم. ويجوز : ظننت يقوم أبوه. وقد قدمنا أنّ الموضع إذا احتمل الجملتين ، وجب فيه كسر (إنّ).

__________________

(١) سبق ذكره رقم (٦٤).

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) ٣٨ : سورة ص ٤٤.

(٥) ٤ : سورة النساء ٦٤.

(٦) ٢٤ : سورة النور ٣٩.

(٧) البيت من الوافر ، للكميت ، في : ديوانه ٣ : ٣٩ ، والكتاب ١ : ١٢٣ ، والتحصيل ١١٦. وبلا نسبة في : المقتضب ٢ : ٣٤٩ ، وأمالي المرتضى ١ : ٣٦٣ ، وابن يعيش ٧ : ٧٨ ، وشرح شذور الذهب ٣٣٨ ، وابن عقيل ١ : ٤٤٨ ، والأشموني ٢ : ٢١٨ ، وشفاء العليل ١ : ٤٠٥ ، وهمع الهوامع ٢ : ٢٤٧.

(٨) البيت من مرفل الكامل ، لعمر بن أبي ربيعة ، في : ديوانه ٤٠٢ ، والكتاب ١ : ١٢٤ ، والتحصيل ١٧٧.

وبلا نسبة في : المقتضب ٢ : ٣٤٩ ، والجمل ١ : ٤٦٢ ، ٤٦٤ ، واللسان (قول) ١١ : ٥٧٥ ، و (رحل) ٢٧٩ ، و (زعم) ١٢ : ٢٦٦.

(٩) البيت من الطويل ، لعمرو بن معديكرب ، وعجزه :

 ...

إذا أنا لم أطعن ، إذا الخيل كرت

وهو في : ديوانه ٤٤ ، وديوان الحماسة ١ : ٤٤ ، واللسان (قول) ١١ : ٥٧٥.

وجاءت روايته : عاتقي ، بدل : ساعدي.

١٩٠

فإذا قلت : ظننت زيدا أنّ أباه يقوم ، وفتحت (أنّ) ، كما فتح حمزة (١) : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ)(٢). ف (أنّ) مع الاسم ، والخبر : بدل من الاسم الذي قبله.

وكأنك قلت : ظننت أنّ أبا زيد قائم. وكأن حمزة قرأ : ولا تحسبنّ أنّ ما نملي للكافرين خير لأنفسهم. وخصومة الفارس (٣) قد قدمنا الانفصال عنها. وأنت ، إذا قلت : حسبت أنّ زيدا قائم ، ف (أنّ) مع الاسم ، والخبر ، لطول الكلام : يغني عن المفعول الثاني ، عند سيبويه (٤).

وعند الأخفش (٥) ، يحمل الكلام على إضمار مفعول آخر. وكأنه يقدر : ظننت قيامه في الوجود ، أو حاصلا. والقول قول سيبويه ، لأن طول الكلام ، في كثير من المواضع ، يغني عن أشياء يجب ذكرها ، لو لم يطل الكلام. منه باب : (لو لا) ، ومنه باب حضر اليوم القاضي امرأة. ومنه : عسى أن يقوم زيد.

[قال أبو الفتح] : والمتعدي إلى ثلاثة مفعولين ، نحو قولك : أعلم الله زيدا عمرا عاقلا. وأنبأ الله بشرا بكرا ضاحكا. وأرى الله أباك [٦٦ / أ] أخاك ذا مال. ومعنى الكلام : أعلم الله زيدا أنّ عمرا عاقل.

[قلت] : اعلم أنّ قولهم : أعلم ، وأرى : منقولان من (علم) المتعدي إلى مفعولين. وكذلك : أرى : منقول من (رأى) المتعدي إلى مفعولين. فلما جئت بالهمزة تعدى إلى ثلاثة مفاعيل. لأن شأن الهمزة الزيادة في المفعول. وذلك ، لأن الفعل ، إذا كان لازما ، وجئت بالهمزة ، تعدى إلى مفعول ك (جلس) وأجلست زيدا. وإذا كان متعديا إلى مفعول واحد ، ازداد بالهمزة مفعولا ثانيا.

وإذا كان متعديا إلى مفعولين ، ازداد بالهمزة مفعولا ثالثا.

فالهمزة نقيض الفعل الذي لم يسمّ فاعله. لأن ذلك الفعل ، ينقص من المفعول. والهمزة تزيد فيه. تقول : أعطيت زيدا درهما. ثم تقول : أعطي زيد درهما ، فينقص المفعولان ، ويصير مفعولا واحدا ، بخلاف الهمزة ، وليس وراء المفعول الثالث غاية. لا يوجد فعل يتعدى إلى أربعة مفاعيل ، بتة.

فأما (نبّأت) و (أنّبأت) : فإنه ، عند سيبويه (٦) ، من باب : أمرتك الخير. فإذا قلت : نبأتك زيدا ، فالتقدير : نبأتك عن زيد. وقد اختلفت تعديته في التنزيل. قال الله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ

__________________

(١) والمطوعي كذلك : ينظر : ص ٩٣ ، هامش (٣).

(٢) ٣ : سورة آل عمران ١٧٨.

(٣) يعني : أبا علي الفارسي ، ويقصد بالانفصال عن الخصومة ، قوله :

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

 ...

(٤) الكتاب ١ : ١٢٥ ، وفيه : (فأما ظننت أنه منطلق ، فاستغني بخبر أن).

(٥) الجمل ١ : ٣١١ ، وفيه : (فأما الأخفش فحجته أن هذه الأفعال قد تجري مجرى القسم ، ومفعولاتها مجرى جواب القسم).

(٦) الكتاب ١ : ٢٨ ، وفيه : (نبئت زيدا يقول ذاك ، أي : عن زيد).

١٩١

إِبْراهِيمَ) (٥١) (١). وقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ)(٢). وقال : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)(٣). وقال : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ)(٤). فهو محمول في قوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤٩) (٥) ، على حذف الجار. وإنما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، لأنه خبر أجري مجرى الإعلام. فكما أن (أعلم) يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، فكذلك عدّي (نبّأ) حملا عليه. لأن العرب ، تحمل الشيء على الشيء ، إذا كان بمعناه. وقد أريناك نظيره في هذا الباب ، في موضعين : أحدهما : أرأيتك زيدا ما صنع ، حملوه على : أخبرني ، لما كان بمعناه. وكذلك قالوا : علمت زيد أبو من هو ، برفع زيد ، لمّا كان ما في حيّز الاستفهام ، بمعناه.

قال سيبويه (٦) : وتقول : أعلم الله زيدا عمرا ، خير الناس ، العلم اليقين إعلاما. فتنصب إعلاما ، بأعلم ، وتنصب العلم اليقين ، بمضمر. أي : فعلم العلم اليقين. ولا تنصبه بأعلم ، لأن الفعل الواحد لا ينصب مصدرين ولا ظرفين متفقين. فافهمه.

باب المفعول به وهو : الظرف

[قال أبو الفتح] : اعلم أنّ الظرف : كلّ اسم ، من أسماء الزمان ، والمكان ، يراد به معنى : (في) وليست في لفظه. كقولك : قمت اليوم ، و : جلست مكانك. لأن معناه : قمت في اليوم ، وجلست في مكانك. فإن ظهرت (في) إلى اللفظ ، كان ما بعدها اسما صريحا. وصار التضمن ل (في).

تقول : سرت في يوم الجمعة ، وجلست في البصرة.

[قلت] : اعلم أن الظروف ، إنما تكون ظروفا ، إذا دلت على : (في). لأنّ (في) حرف الظرف. فإذا تضمن الاسم معناه ، كان ظرفا. تقول : صمت يوما. ف (يوما) نصب على الظرف لأن معناه : صمت في يوم. فإن ظهرت (في) إلى اللفظ ، خرج عن الظرفية. وكانت المعاملة مع (في) دون الاسم وحده. يعني أنّ (في) ، مع الاسم كان ظرفا ، بمنزلة الاسم إذا لم يكن فيه معنى (في).

وقد يجوز أن تتسع في الظروف ، فلا تقدّر فيه معنى (في) فتنصبه ، نصب المفعول به. وهذا يظهر في موضعين : أحدهما : أنك إذا اتسعت فيه ، وتنصبه نصب المفعول به ، جازت الإضافة إليه.

تقول :

يا سارق اللّيلة أهل الدّار (٧)

قال : فتقول ، على هذا : يا مكتوب أيام معدودات. يعني أنك إذا نصبت (أياما معدودات)

__________________

(١) ١٥ : سورة الحجر ٥١.

(٢) ٢ : سورة البقرة ٣١.

(٣) ٢ : سورة البقرة ٣٣.

(٤) ٩ : سورة التوبة ٩٤.

(٥) ١٥ : سورة الحجر ٤٩.

(٦) الكتاب ١ : ٤١ ، وعبارته : (أعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين إعلاما).

(٧) من الرجز ، في : الكتاب ١ : ١٧٥ ، ١٧٧ ، ١٩٣ ، وابن يعيش ٢ : ٤٥ ، ٤٦ ، والخزانة ٣ : ١٠٨ ، ٤ : ٢١٥ ، ٢٣٣ ، ٢٣٥ ، ٦ : ٥٣٤.

١٩٢

بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) ، لا على الظرف ، ولكن بعد الاتساع فيه ، جازت الإضافة إليه.

وإذا كان ظرفا ، لم يجز أن تضيف إليه شيئا. لأنه إذا كان ظرفا ، كان فيه تقدير (في). و (في) يمنع من الإضافة. فوجب أن يكون (الليلة) من قولك :

يا سارق اللّيلة أهل الدار

خارجا من الظرف ، لتصح الإضافة إليه. فعلى هذا تقول : سرقت الليلة أهل الدار ثوبا.

فتنصب الليلة ، نصب المفعول به.

والموضع الثاني : باب الكناية : وذلك ، أنك إذا قلت : صمت اليوم. وقدّرت اليوم : مفعولا به ، بعد الاتساع [٦٧ / أ] ، ولم تقدر فيه : (في) ، ثم قدمت ، وكنيت عنه ، قلت : اليوم صمته. ولا تقول : اليوم صمت فيه ، إلا إذا كان باقيا على الظرفية. فمن ذلك قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(٢). فاستعمله استعمال المفعول به ، ولم يقل : فليصم فيه.

[فإن قلت] : فإنكم زعمتم أن الشهر في الآية : نصب على الظرف ، وأنّ مفعول (شهد) مضمر. وتقديره : فمن شهد منكم المصر في الشهر. فكيف جاء : فليصمه؟. [قلت] : ذلك جائز.

استعمل ظرفا ، ثم اتّسع فيه ، فاستعمل استعمال المفعول به. ومنه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٣). ليس انتصاب يوم في الآية على الظرف ، وإنما هو مفعول به. والتقدير : واتقوا عقاب يوم. فحذف المضاف والجملة التي هي : لا تجزي نفس عن نفس شيئا ، في موضع الصفة لليوم. والتقدير : يوما لا تجزيه. فحذف العائد من الصفة إلى الموصوف. [قال الشاعر] :

١٦٨ ـ أبحت حمى تهامة ، بعد نجد

وما شيء حميت ، بمستباح (٤)

أي : حميته. [وقال الآخر] :

١٦٩ ـ فيوم علينا ، ويوم لنا

ويوم نساء ، ويوم نسرّ (٥)

أي : نساؤه ، ونسرّه. فحذف العائد من الصفة ، إلى الموصوف ، كما يحذف العائد من الصلة إلى الموصول في قوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)(٦). أي : بعثه الله. لكن حذفها من الصلة أحسن من حذفها من الصفة. ثم حذفها من الصفة أحسن من حذفها من الخبر. فقوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أحسن من قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٧) ، في الحذف. وقوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ، أحسن في الحذف من قوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٨) ،

__________________

(١) ٢ : سورة البقرة ١٨٣.

(٢) ٢ : سورة البقرة ١٨٥.

(٣) ٢ : سورة البقرة ٤٨.

(٤) البيت من الوافر ، لجرير ، في : ديوانه ٩٩ ، والكتاب ١ : ٨٧ ، ١٣٠ ، والتحصيل ١٠١.

(٥) البيت من المتقارب ، للنمر بن تولب ، في : ديوانه ٥٧ ، والكتاب ١ : ٨٦ ، والتحصيل ١٠٠ ، وحماسة البحتري ١٨٤ ، وشفاء العليل ١ : ٢٩٠ ، ٢ : ٧٥٢.

(٦) ٢٥ : سورة الفرقان ٤١.

(٧) ٢ : سورة البقرة ٤٨.

(٨) ١٨ : سورة الكهف ٣٠.

١٩٣

بعد قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)(١) ، فيمن قدّر : أجر من أحسن عملا منهم ، دون من قدّر وضع الظاهر موضع المضمر ، نحو : [قول الشاعر] :

١٧٠ ـ لعمرك ، ما معن بتارك حقّه

ولا منسئ معن ، ولا متيسّر (٢)

لم يستحسن سيبويه (٣) : ولا منسئ ، عطفا على تارك. ولا يرى وضع معن ثانيا موضع الضمير ، ليحسن العطف عليه ، خلافا لأبي الحسن (٤).

باب ظرف الزمان

[قال أبو الفتح] : اعلم أن الزمان : مرور [٦٧ / ب] الليل. والنهار ، نحو اليوم ، والليلة ، والساعة ، والشهر ، والسنة ، والدهر. [قال الشاعر] :

١٧١ ـ هل الدّهر إلّا ليلة ، ونهارها

وإلّا طلوع الشّمس ، ثمّ غيارها (٥)

وجميع أسماء الزمان ، من المبهم ، والمختص : يجوز أن يكون ظرفا. تقول في المبهم : صمت يوما ، وسرت شهرا ، وأقمت عندك حولا. وفي المختص : صمت الشهر الذي تعرف ، وزرتك صفرا ، ولقيتك يوم الجمعة. فإن قلت : يوم الجمعة مبارك ، رفعته. لأنه ، ليس فيه معنى (في). فقس عليه.

[قلت] : ذكرنا أنّ الظرف ، إنما يكون ظرفا ، إذا كان متضمنا لمعنى (في). وينقسم قسمين : أحدهما : أن يكون العمل في بعضه. والآخر : أن يكون العمل في كله. فالأول ، قولك : كلّمتك يوم الجمعة. وزرتك يوم السبت. فالعمل ، هاهنا ، في بعض النهار ، لا في كله. والثاني ، قولك : صمت اليوم. فالصيام ، إنما هو في جميع النهار ، لا في جزء دون جزء. ومما يكون العمل في بعضه ، دون كله ، قول الرجل لامرأته : أنت طالق في غد ، ونوى آخر النهار ، كانت طالقا في آخر النهار ، دون أوله. لأنه أراد بقوله ما هو ملائم له ، وموافق ، ولا سيما قد جاء ب (في).

وظاهر (في) [تحقيق](٦) العمل في البعض دون الكل ، وإن كان يحتمل الكل.

ألا ترى أنك تقول : زيد في الدار ، والماء في الإناء ، وليس زيد شاغلا لجميع الدار ، ولا الماء شاغلا لجميع الإناء ، فالظاهر هذا. ومن ادعى خلاف ذلك ، فهو مخالف للظاهر. فأما إذا لم يذكر (في) وقال : أنت طالق غدا ، فإنه يكون العمل في كله. لأنه ، لما لم يستعمل لفظة (في) ، كان

__________________

(١) ١٨ : سورة الكهف ٣٠.

(٢) البيت من الطويل ، للفرزدق ، في : ديوانه ١ : ٢٤٥ ، والكتاب ١ : ٦٣ ، والتحصيل ٨٢ ، وذيل الأمالي ٧٣ ، وشفاء العليل ١ : ٣٣٦ ، والخزانة ١ : ٣٧٥ ، ٣٧٩ ، ٤ : ١٤٢.

وبلا نسبة في همع الهوامع ٢ : ١٣٠.

(٣) الكتاب ١ : ٦٢ ، إذ يقول : (ألا ترى أنك لو قلت : ما زيد منطلقا أبو زيد ، لم يكن كقولك : ما زيد منطلقا أبوه ... لأنك قد استغنيت عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تضمره).

(٤) الكتاب ١ : ٦٥ هامش (٣).

(٥) البيت من الطويل ، لأبي ذؤيب الهذلي ، في : ديوان الهذليين ١ : ٧٠ ، ومقاييس اللغة (غور) ٤ : ٤٠١ ، واللسان (غور) ٥ : ٣٥ ، والتاج (غور) ١٣ : ٢٧٢.

(٦) الأصل غير واضح.

١٩٤

(غدا) محمولا على أنه مفعول به ، على السعة. فصار كقولك : صمت اليوم.

واعلم أنّ ظروف الزمان على خمسة أقسام :

[الأول] : أن يكون منصرفا متصرفا ، وذلك ، نحو : اليوم ، والليلة ، والساعة ، والشهر. ألا ترى أنه منصرف لدخول الجر ، والتنوين عليه ، وأنه متصرف ، لأنه يدخله : الرفع ، والجر. تقول : اليوم يوم الجمعة. فترفعه ، وتخبر عنه. ومررت بك في يوم الجمعة [٦٨ / أ] فتجره ب (في).

[الثاني] : أن يكون الظرف غير متصرف ، ولا منصرف وذلك ، نحو قولك : جئتك سحر. إذا أردت سحر يومك. لا ينصرف للتعريف ، والعدل. لأنه معدول من السّحر ، لأنه معرفة ، وليس بمضمر ، ولا مبهم ، ولا علم ، ولا في لفظه لام التعريف ، ولا مضاف إلى أحد هذه الأربعة. فعلمت أنه معدول عن الألف ، واللام. وهو غير متصرف ، لأنه ما دام مرادا به (سحر يومك) بعينه. لم يدخل الرفع ، ولا الجر ، وهو ظرف. فإن أخرجته عن الظرفية ، فقلت : أول الليل خير من السحر. وجئتك بأعلى السّحر ، كان منصرفا متصرفا. وكذلك لو قلت : جئتك ذات مرة ، وبعيدات بين ، وضحوة ، وغدوة ، وذات صباح ، بهذه المنزلة : لا يتصرف ، ولا ينصرف.

[الثالث] : أن يكون منصرفا ، غير متصرف. وذلك : سحر ، إذا صغرته ، فقلت : جئتك سحيرا ، تنون. لأنه زال جهة العدل. ولا يتصرف ، لأنه لا يكون فاعلا ، ولا يدخل عليه الجار.

[الرابع] : أن يكون متصرفا ، ولا يكون منصرفا. وذلك : غدوة ، وبكرة. تقول : طابت بكرة ، فتخبر عنها ، ولا تصرفها ، للتعريف ، والتأنيث.

[الخامس] : أن يكون مبنيا. وذلك قولك : جئتك من قبل ، ومن بعد. قال الله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(١).

فهو مبني ، لأنه قطع عن المضاف إليه ، وهو منويّ فيه. فلما كان كذلك ، كان كبعض الاسم. وبعض الاسم ، لا يستحق الإعراب. وبني على الحركة ، دون السكون ، لالتقاء الساكنين.

واختير الضم ، لأن النصب ، والجر يدخلانه حالة الإعراب. فلما صار إلى البناء ، بني على حركة ، لم تكن تدخله ، حالة الإعراب. وذلك هو الضّمّ.

ومنه : جئتك صباح مساء ، أي : صباحا ، ومساءا ، فضمّ أحد الاسمين إلى صاحبه ، فبني لتضمنه معنى واو العطف. وسترى ذلك ، إن شاء الله.

والظروف على ضربين ، أعني : ظروف الزمان. فقسم يكون جواب : متى. وقسم يكون جواب : كم.

فإذا قيل : متى يسار عليه؟. قلت : يوم الجمعة. لأن (متى) ظرف. وقوله : يسار عليه : الجار قائم مقام الفاعل. أو يكون في (يسار) ضمير السير. فكأنه قال : أيّ وقت يسار [٦٨ / ب] عليه؟. فينبغي أن يقال : يوم الجمعة. فتاتي باسم معرّف موقّت. ولو قال في جوابه : يومان ، لم يجز. لأنه نكرة ، وليس فيه إعلام ما استعمله. فإذا قيل : كم سير عليه؟ فقلت : يومان ، صح. لأنه

__________________

(١) ٣٠ : سورة الروم ٤.

١٩٥

سأل عن العدد ، فجاء يومان ، على ذلك. وكذلك ، لو قيل : كم سير عليه؟. فقلت : الليل ، أو النهار ، أو الدهر ، أو الأبد ، صح. وكذلك لو قلت في جواب : كم سير عليه؟ : المحرم إلى ذي الحجّة ، صح كذلك. قال سيبويه (١) : لأنك ، إذا قلت في جوابه : المحرم ، كأنك قلت : ثلاثون يوما ، فصح. قال : ولو قلت في جواب : كم سير عليه؟. فتقول : شهر المحرم ، أو شهر رمضان ، لم يجز.

وإنما ذلك إذا قال : متى يسار عليه؟. فتقول : شهر المحرم. ففرّق بين إدخال شهر ، وبين إسقاطه.

وهذا من أشكل كتاب سيبويه. فقال قوم : هذه رواية عن العرب ، ولا فرق بين قولك : المحرم ، وبين قولك : شهر المحرم ، في المعنى. فإنما هذا مسموع عن العرب. قالوا في جواب : متى يسار عليه : شهر المحرم. وقالوا في جواب : كم سير عليه : المحرم. فننقل عنهم ، ونقول كما قالوا ، ولا نعقل معنى في ذلك.

وزعم قوم : أنّ هذا معنى معقول. وذلك ، لأن المحرم ، إنما صلح في جواب كم ، لأنه مشتمل على قولك : ثلاثون يوما. ولو لا ذلك لم يجز فيه أن يكون جواب (كم) ، لأنه موقت معلوم ابتداؤه وانتهاؤه ، بمنزلة يوم الجمعة. فلما أدخلت عليه الشهر ، وقلت : شهر المحرم ، اجتمع تعريفان : التعريف الذي كان له من التوقيت. وتعريف آخر حصل له بالإضافة. فتوجّه إلى (متى) بهذه الضميمة التي انضمت إليه بالإضافة. زعمه ابن عيسى (٢).

ومنه ما يصلح جوابا ل (متى) ويصلح جوابا ل (كم). وذلك ، نحو : الشتاء ، والصيف.

تقول : متى يسار عليه؟ فيقال : الشتاء ، أو الصيف ، لأنهما موقتان. ويجوز أن تقول في جواب : كم سير عليه؟ : الشتاء ، لأنه مشتمل على عدد. وكذلك : الصيف. وكذلك : أيام الصّرام (٣).

وتقول : اليوم يومك. فيومك : مبتدأ. واليوم : منصوب على الظرف. ولا يجوز أن يكون اليوم مستقرا ليومك ، لأنه محال في المعنى. ولكنه [٦٩ / أ] محمول على المعنى. وتقديره : اليوم فعلك ، واليوم شأنك ، وحديثك. فتوسعوا ، وأقاموا اليوم مقام الفعل. لأن المصدر ، كما يقوم مقام الزمان ، في نحو قولك : جئت مقدم الحاجّ ، وخفوق النجم (٤). وأتت الناقة على مضربها (٥). فقد يقوم هو ، أيضا ، مقام المصدر. فقوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) (٩) (٦).

قدّره أبو علي (٧) ، في أحد الوجوه فذلك اليوم يومئذ قال : ولا يكون اليوم وضح النهار ، وإنما

__________________

(١) الكتاب ١ : ٢١٧.

(٢) هو : أبو الحسن ، علي بن عيسى ، الرماني ، النحوي ، المعتزلي (ت ٣٨٤ ه‍). أخذ عن : الزجاج ، وابن دريد ، وطائفة ، وعنه : أبو القاسم ، التنوخي ، وهلال بن المحسن ، صنف في : التفسير ، واللغة ، والنحو ، والكلام ، وشرح (كتاب سيبويه) ، و (كتاب الجمل) ، وأصله من سامراء. ينظر : إنباه الرواة ٢٩٤ ، وسير إعلام النبلاء ١٦ : ٥٣٣ ـ ٥٣٥.

(٣) أيام جذاذ النخل ، أي : قطع الثمرة ، واجتناؤها. اللسان (صرم) ١٢ : ٣٣٦.

(٤) خفق النجم : انحط في المغرب ، أي : غاب. اللسان (خفق) ١٠ : ٨٠ ، ٨١.

(٥) أي : على زمن ضرابها ، وهو : الوقت الذي يضربها الفحل فيه. اللسان (ضرب) ١ : ٥٤٦.

(٦) ٧٤ : سورة المدثر ٨ ، ٩.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٣٨٤ ، وفيه ، قال أبو علي : (لا يجوز أن ينتصب (يومئذ) بقوله (عسير) ، لأن الصفة لا

١٩٦

يكون على ما ذكرنا. أي : فذلك النقر يومئذ. فيكون ذلك عبارة عن المصدر ، على طريق أن يكون اليوم يومك. وإن قدرت في (ذلك) أنه إشارة إلى النقر ، لا بطريق المجاز الذي ذكرنا من أجل أنّ خبره : يوم عسير ، ولكن لأنّ قوله : (نقر) يدل على النقر. فيكون التقدير : فذلك النقر يومئذ نقر يوم عسير.

فهو وجه حسن. [قال الشاعر] :

١٧٢ ـ وما هي إلّا في إزار ، وعلقة

مغار ابن همّام ، على حيّ خثعما (١)

فإنه كقولهم : مقدم الحاج ، أي : وقت قدوم الحاج ، ووقت إغارة ابن همام (٢). فحذف الوقت ، وأقام (مغارا) مقامه. وليس كما ظنه أبو إسحق (٣) ، فرد عليه (٤) ، وقال : إنّ مغارا ، لو كان زمانا ، لم يتعلق به (على حي خثعما) لأن مفعلا ، إذا كان زمانا أو مكانا ، لم يتعلق به شيء من الظروف ، ولا شيء من المنصوبات ، فظنّ به (٥) أنه يزعم أنّ مغارا نفس الزمان. وليس الأمر كذا ، إنما المضاف محذوف عنده (٦). والمغار : الإغارة.

هذا ، وقد زعم أبو إسحق ، في قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ)(٧).

قال : فنصب (خالدين) على الحال. والعامل فيه (مثوى). بعد أن ذكر أن (مثوى) : هو المكان.

فقد قال في الآية ما رد عليه (٨) ، ظنا. ولم يعلم أن الحال ، هاهنا ، إنما هو من المضاف إليه ، كقوله تعالى : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(٩). ف (مصبحين) حال من (هؤلاء). كما أن (خالدين) حال من الكاف والميم. والعامل معنى الكلام من الإضافة ، وامتزاج بعض الكلام ببعض. أو يكون (خالدين) : حالا ، ويكون المثوى المصدر دون المكان. ويكون التقدير : قال النار مثواكم ، أي :

__________________

تعمل فيما قبل الموصوف ... إنما ينتصب (يومئذ) على أنه صلة قوله (فذلك) ، لأن (ذلك) كناية عن المصدر ... فيكون التقدير : فذلك النقر في ذلك الوقت نقر يوم عسير).

(١) البيت من الطويل ، لحميد بن ثور ، في الكتاب ١ : ٢٣٥ ، وللطماح بن عامر ، العقيلي ، في التاج (علق) ٢٦ : ١٩٤.

وبلا نسبة في : المقتضب ٢ : ١٢١ ، والخصائص ٢ : ٢٠٨ ، والمخصص ٤ : ٣٥ ، واللسان (لخص) ٦ : ٢٠٥ ، و (علق) ١٠ : ٢٦٢.

العلقة : قميص غير مخيط تلبسه الجارية ، للتبذل يصل إلى حجزتها. التاج (علق) ٢٦ : ١٩٤.

(٢) هو : الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان ، شاعر جاهلي ، وصاحب غارات. ينظر : ديوان الحماسة ١ : ٣٨ هامش (٣) ، ٣٩ ، والخزانة ١ : ٤٧٣ ، ٢ : ٤٠٦ ، ٥ : ١٠٧ ، ١١٠ ـ ١١٢ ، ٨ : ٣٦٩ ، ٣٧١ ، ٩ : ٥٩١ ، ١١ : ٥.

(٣) أي : الزجاج.

(٤) أي : على سيبويه.

(٥) أي : بسيبويه.

(٦) الكتاب ١ : ٢٣٤ ، وفيه : إذ التقدير : كزمان إغارة ابن همام.

(٧) ٦ : سورة الأنعام ١٢٨.

(٨) أي : ما رد الزجاج على نفسه فناقضها ، لأنه قال : إنّ مفعلا ، زمانا ، أو مكانا ، لا يتعلق به شيء من المنصوبات.

(٩) ١٥ : سورة الحجر ٦٦.

١٩٧

ذات [٦٩ / ب] ثوائكم (١). وإذا تتبعت ، فليكن هكذا.

باب ظرف المكان

[قال أبو الفتح] : المكان : ما استقرّ فيه ، أو تصرّف عليه. وإنما الظرف منه : ما كان مبهما غير مختص ، مما في الفعل ، دلالة عليه. والمبهم : ما لم يكن له أقطار تحصره ، ولا نهايات تحيط به.

نحو : خلفك ، وأمامك ، وقدامك ، ووراءك ، وتلقاءك ، وتجاهك ، وقربك ، وقريبا منك ، وصددك ، وصقبك.

[قلت] : إنما يتعدى الفعل إلى ظرف المكان المبهم ، دون المختص ، بلا واسطة جار ، لأنه يقتضيه ، كما يقتضي الزمان من جهة الصيغة ، يقتضي المكان من جهة المعنى.

والمبهم : هي الأقطار الستة : خلفك ، وقدامك ، وتحتك ، وفوقك ، ويمينك ، وشمالك.

وما ذكر (٢) من سوى هذه الألفاظ الستة ، فإنها في الحقيقة ، ليست بمبهمة إبهام هذه الستة ، ولكنها مشبّهة بهذه الستة في وجه من الوجوه. أو فيها بعض الإبهام. فإذا قلت : أنا قريبا منك ، بالنصب ، فمعناه : أنا مكانا قريبا منك. ف (قريب) صفة لمكان. وإذا قلت : أنا قريب منك ، بالرفع ، ف (قريب) هو الأول ، وهو اسم الفاعل. وكذلك قوله تعالى : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ)(٣) هو منصوب على الظرف ، وإن كان خارجا من هذه الستة ، لكنه مبهم بعض الإبهام.

والجملة في هذا كله ، أنّ اسم المكان ، إذا كان مبهما ، كان ظرفا. وإذا لم يكن مبهما ، لم يكن منصوبا بالفعل الواقع قبله. وإنما يتعدى إليه الفعل بحرف الجر. فقولك : قعدت في المسجد ، لا يجوز فيه : قعدت المسجد ، ولا قعدت السوق. لا بد من الجار ، لأن هذه الأسماء المخصوصة ، أعني : أسماء الأمكنة ، عندهم ، بمنزلة الآدميين ، من حيث إنّ لها أشباحا ، وصورا.

فكما لا تقول : مررت زيدا. وتعدّي (مررت) إلى زيد ، حتى تجيء بالباء ، إذ ليس في لفظ (قعدت) ما يدل على المسجد ، دون غيره ، حتى تقول : في المسجد ، كما قلت : بزيد هناك. وإذا [٧٠ / أ] ثبت هذا ، فما جاء من غير المبهمة منصوبة على الظرف ، فإنه عند سيبويه (٤) بإضمار الجار. فقولهم : أنت مني مناط الثريا. وأنت مني معقد الإزار ، ومزجر الكلب. [وقول الشاعر] :

١٧٣ ـ فوردن ، والعيّوق مقعد رابئ (م) الضّرباء ، فوق النّجم ، لا يتتلّع (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣٦٥ ، إذ نقل الطبرسي في تفسيره فحوى كلام جامع العلوم.

(٢) أي : أبو الفتح.

(٣) ٢٠ : سورة طه ٨٠.

(٤) الكتاب ١ : ٤١٢ ، ٤١٣ ، ٤١٤.

(٥) البيت من الكامل ، لأبي ذؤيب الهذلي ، في : ديوان الهذليين ١ : ١٩ ، والمفضليات ٤٢٤ ، وفيها : فوق النظم ، بدل : فوق النجم ، والكتاب ١ : ٤١٣ ، وابن يعيش ١ : ٤١ ، واللسان (ضرب) ١ : ٥٤٨ ، وفيه : خلف النجم ، والخزانة ١ : ٤١٨ ، ٤٢١ ، والتاج (ضرب) ٣ : ٢٤٦.

وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٣٤٤.

الضرباء : جمع ضريب : الذي يضرب بالقداح. التاج (ضرب) ٣ : ٢٤٦.

١٩٨

وقولهم : ذهبت الشام. [وقول الشاعر] :

١٧٤ ـ ...

 .... كما عسل الطريق ، الثّعلب (١)

كل هذا محمول على حذف الجار عنده. أي : بمناط الثريا ، وبمزجر الكلب ، وبمقعد رابئ الضّرباء من الضّرباء.

واعلم أن ظروف المكان ، منها ما هو متمكّن متصرّف ، يخبر عنه ، ويرفع بالابتداء. تقول : خلفك واسع. بالابتداء ، والخبر ، لأنه متمكن. وأبو عمر (٢) لا يجيزه. أعني رفع خلفك. وقول لبيد حجّة عليه. [قال] :

١٧٥ ـ فغدت كلا الفرجين ، تحسب أنّه

مولى المخافة ، خلفها ، وأمامها (٣)

فرفع قوله : خلفها ، وأمامها ، على أنه بدل من مولى المخافة ، فصح ما قلنا.

وتقول : داري خلف دارك فرسخين ، وفرسخان ؛ بالنصب والرفع. فالنصب على التمييز عندنا ، وعلى الحال : عند المبرد. والتمييز أشبه ؛ لأن الكلام مبهم. والرفع على تقدير : داري خلف دارك مسافة فرسخين أو بعد فرسخين. فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه. ولو قلت :

داري من خلف دارك فرسخين ، وفرسخان جاز ، فكان التقدير على الأول.

وأبو عمر يأبى النصب إذا أدخلت (من) ولا يجيز إلا الرفع. فيقول : داري من خلف دارك فرسخان. قال : لأن الكلام ليس بتام عند قولك : داري من خلف دارك ؛ وإنما يتم إذا قلت : فرسخان ؛ فهو خبر.

وأجمعوا على أنك لو قلت : أنت مني فرسخين ، لم يجز ألا النصب ولا يجوز : أنت مني فرسخان. فقولهم : داري من خلف دارك عنده (٤) ، بمنزلة : داري خلف دارك. ولا يفيد دخول (من) معنى لم يكن قبل دخوله ، فلم منع النصب ، والمعنى معنى واحد؟.

وأما : أنت مني فرسخين ؛ فقدّره سيبويه (٥) : أنت مني ما دمنا نسير فرسخين. وفسر هذا الكلام فارسهم (٦) ، وقال أنت مني معناه : أنت تلابسني ، وتخالطني ، كقوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ

__________________

(١) البيت من الكامل ، لساعدة بن جؤية ، الهذلي ، وتمامه :

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه ...

في : ديوان الهذليين ١ : ١٩٠ ، وفيه : لذ بهز ، والكتاب ١ : ٣٦ ، ٢١٤ ، والتحصيل ٦٦ ، والمغني ١ : ١١ ، ٢ : ٥٢٥ ، ٥٧٦ ، والخزانة ٣ : ٨٣ ، ٨٦.

(٢) وكذلك : الكوفيون ، ويجيزه المبرد على ضعف. ينظر : المقتضب ٤ : ٣٤١ ، والخزانة ١ : ٤١٤ ، ٤١٥.

(٣) البيت من الكامل ، للبيد ، في : ديوانه ١٧٣ ، والمعلقات السبع ٢٢٢ ، والكتاب ١ : ٤٠٧ ، والتحصيل ٢٣١ ، ومقاييس اللغة (أم) ١ : ٢٩ ، واللسان (أمم) ١٢ : ٢٦ ، و (كلا) ١٥ : ٢٢٨ ، و (ولي) ١٥ : ٤١٠.

وبلا نسبة في : المقتضب ٣ : ١٠٢ ، والإيضاح ١ : ٦٥٣ ، وشرح شذور الذهب ١٦١ ، وابن يعيش ٢ : ٤٤ ، ١٢٩.

(٤) أي : عند سيبويه. الكتاب ١ : ٤١٧.

(٥) الكتاب ١ : ٤١٧.

(٦) أي : أبو علي ، الفارسي.

١٩٩

أَهْلِكَ)(١) وقوله عليه السّلام [٧٠ / ب] : " سلمان منا" (٢). أي مخالطنا ، وملابسنا. وإذا قلت :

أنت مني ، ومعناه : أنت ملابس لي ؛ كان دليل على ما دمنا نسير. لأنه إذا كان ملابسا له ؛ كان يسير معه مادام معه. فإذا لم يكن يلابسه ؛ لم يسر معه. فأنت : مبتدأ. ومني : خبره. وفرسخين ، قائم مقام مضاف في الحقيقة. وتقديره : أنت مني ملابس لي مسير فرسخين. فهذا حقيقة هذا الكلام.

وتقول : عهدي به قريبا ، وحديثا ، وقديما ؛ بالرفع ، والنصب. فالنصب على الظرف ، أي : زمانا قريبا ، وحديثا. والرفع على أن يكون الثاني هو الأول.

وقولك : زيد خلفك. تقديره : زيد مستقرّ خلفك. لا بد من هذا الإضمار ؛ لأن المنصوب لا بد له من ناصب. وقد فسرت هذا في باب خبر المبتدأ تفسيرا مقنعا لا يحتاج إلى الإعادة.

باب المفعول له

[قال أبو الفتح] : اعلم أنّ المفعول له ، لا يكون إلا مصدرا. ويكون العامل فيه فعل من غير لفظه. وإنما يذكر المفعول له ؛ لأنه عذر ، وعلة ؛ لوقوع الفعل قبله تقول : زرتك طمعا في برك.

وقصدتك ابتغاء لمعروفك. أي : زرتك للطمع ، وقصدتك لابتغاء المعروف. قال الله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)(٣). أي : لحذر الموت. [قال الشاعر] :

١٧٦ ـ وأغفر عوراء الكريم ، ادخاره

وأعرض عن شتم اللئيم ، تكرّما (٤)

أي : لادخاره ، وللتكرم فلما حذف اللام منه ، نصبه بالفعل الذي قبله.

[قلت] : المفعول له : مصدر لعلة وقوع الفعل قبله ، وسبب في إيجاده. وهو في الحقيقة جواب (لم). وذلك ؛ لأن القائل إذا قال : جئتك ؛ كأنه قيل : لم جئت؟. فقال : لطمع في برك.

فحذفت اللام (٥) ، فأفضى الفعل إلى ما بعده ، فنصبه. وقد يكون هذا المصدر معرفة ، ونكرة ؛ خلافا لأبي عمر (٦) ؛ فإنه لم يجز فيه إلا النكرة. وقوله تعالى : (حَذَرَ الْمَوْتِ.) حجة عليه ،

__________________

(١) ١١ : سورة هود ٤٦.

(٢) المعجم الكبير ـ للطبراني ٦ : ١١٣ ، ونزهة الألباء ٢٨٢ ، وسلمان : هو أبو عبد الله ، سلمان الفارسي ، ويعرف بسليمان الخير (ت ٣٥ ه‍). مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ سئل عن نسبه فقال : أنا سلمان بن الإسلام ، أصله من فارس ، أول مشاهده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ الخندق ، آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين أبي الدرداء. ينظر : أسد الغابة في معرفة الصحابة ٢ : ٤١٧ ـ ٤٢١.

(٣) ٢ : سورة البقرة ١٩.

(٤) البيت من الطويل ، لحاتم الطائي ، في : ديوانه ٧٢ ، والكتاب ١ : ٣٨٦ و ٣ : ١٢٦ ، وفيه : وأصفح عن ، والتحصيل ٢٢٢ ، وشرح اللمع ـ لابن برهان ١ : ١٢٦ ، والمشكل ١ : ٤٤٤ ، وابن يعيش ٢ : ٥٤ ، والخزانة ٣ : ١١٥ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، وفيها : اصطناعه ، بدل ادخاره ، واللسان (عور) ٤ : ٦١٥.

وبلا نسبة في : المقتضب ٢ : ٣٤٨ ، ومعاني القرآن ـ للأخفش ١ : ١٦٧.

(٥) الكتاب ٣ : ١٢٦.

(٦) أي : الجرمي

٢٠٠