أبي الفتح عثمان بن جنّي
المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠
قال الله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١) ، فأبدل : (يضاعف) من (يلق) أثاما ، لأن لقيّ الآثام منه مضاعفة العذاب. فأما قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ)(٢) : فقوله (أن تطؤوهم) : (أن) مع الفعل ، في تأويل المصدر. وهو بدل من (رجال). أي : ولا وطء رجال ، أي : وطؤكم رجالا. فليس هو بدل فعل من اسم ، وإنما هو بدل اسم من اسم ، كقول [١٠٤ / أ] [الشاعر] :
٢٦٥ ـ لقد كان في حول ثواء ثويته |
|
تقضّي لبانات ، ويسأم سائم (٣) |
أي : أن يسأم. ف (ثواء) مصدر أبدله من (حول). فكذا : أن تطؤوهم ، بمنزلة (الوطء). وقد وقع في بعض النسخ [قول الشاعر] :
٢٦٦ ـ فما كان قيس هلكه ، هلك واحد |
|
ولكنّه بنيان قوم تهدّما (٤) |
وكنا قديما ذكرنا [و](٥) أن من رفع قوله : هلك واحد ، رفع (هلكه) بالابتداء ، وجعل الجملة خبر كان. ومن نصب (هلك واحد) أبدل هلكه من (قيس) بدل الاشتمال.
باب عطف البيان
[قال أبو الفتح] : ومعنى عطف البيان : أن تقيم الأسماء الصريحة ، غير المأخوذة من الفعل ، مقام الأوصاف المأخوذة من الفعل. تقول : قام أخوك محمد ، كقولك : قام أخوك الظريف ، وكذلك : رأيت أخاك محمدا ، و : مررت بأخيك محمد.
[قلت] : عطف البيان يشبه الصفة ، في كونه تبعا للأول ، ومبينا له ، إلا أنه ليس بمشتق من الفعل ، بخلاف الصفة. ويشبه في اللفظ البدل ، لا أنه يفارقه من حيث إن البدل في تقدير تكرير العامل ، وهذا بخلافه. ويتبين ذلك في باب النداء ، إذا قلت : يا أخانا زيدا. إن جعلت (زيدا) عطف بيان ، نصبت. لأنك أقمته مقام (أخانا). وإن جعلت بدلا ، قدرت تكرير (يا) فقلت : يا أخانا زيد ، كأنك قلت : يا زيد. [قال الشاعر] :
٢٦٧ ـ إنّي ، وأسطار سطرن سطرا |
|
لقائل : يا نصر ، نصرا ، نصرا (٦) |
إن جعلت (نصرا) الثاني ، عطف بيان ، جاز فيه : الرفع بالتنوين ، والنصب. وإن جعلته بدلا ،
__________________
(١) ٢٥ : سورة الفرقان ٦٨ ، ٦٩.
(٢) ٤٨ : سورة الفتح ٢٥.
(٣) البيت من الطويل ، للأعشى ، في ديوانه ٧٧ ، والكتاب ٣ : ٨٣ ، والتحصيل ٣٩١ ، والمقتضب ١ : ٢٧ ، وابن يعيش ٣ : ٦٥.
(٤) سبق ذكره رقم (١٠٣).
(٥) أراها زائدة.
(٦) من الرجز ، لرؤية. في : ملحق ديوانه ١٧٤ ، والكتاب ٢ : ١٨٥ ، ١٨٦ ، والتحصيل ٣٠٢ ، والخصائص ١ : ٣٤٠.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٢٠٩.
لم يجز فيه إلا الضم. ويجوز فيه ، أيضا ، الصفة. ويجوز في (نصر) الأخير ، أن يكون مصدرا ، أي : يا نصر ، انصر نصرا. وعطف البيان ، لم يذكره أكثر النحويين.
باب عطف النسق
وحروفه عشرة ، وهي : الواو ، والفاء ، وثم ، وأو ، ولا ، وبل ، ولكن الخفيفة ، وأم ، وإما ، مكسورة مكررة ، وحتى ، وقد مضى ذكرها. فهذه الحروف تجتمع كلها في إدخال الثاني في إعراب الأول. ومعانيها مختلفة.
فمعنى (الواو) الاجتماع. تقول : قام زيد ، وعمرو ، أي : اجتمع لهما القيام ، ولا يدرى ترتيب حالهما فيه. هذا ما ذكر. والدليل على ذلك قوله تعالى (وَادْخُلُوا الْبابَ) [١٠٤ / ب](سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)(١). ثم ذكر في سورة الأعراف : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)(٢) ، والقصة قصة واحدة ، فلم يبال بتقديم أحدهما على الآخر ، لما لم يكن الواو يوجب الترتيب. وقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) (٣). والعبادة بعد الاستعانة عليها ، لكن الواو لا يوجب الترتيب. وقال : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٧٤) (٤). والإمطار قبل جعل الأعالي أسافل. [قال الشاعر] :
٢٦٨ ـ أغلي السباء بكلّ أدكن عاتق |
|
أو جونة قدحت ، وفضّ ختامها (٥) |
وفضّ الختام قبل القدح ، لكن الواو يجوز فيه هذا. وتقول : المال بين يدي زيد ، وعمرو ، لا يجوز : فعمرو. واختصم زيد ، وعمرو ، ولا يجوز : فعمرو. ولو كانت الواو توجب الترتيب ، صلحت الفاء في ذينك الموضعين ، فإنما المقصود هناك إضافة بين إلى اسمين ، كما يضاف إلى القوم في قولك : المال بين القوم. فمدلول القوم آحاد ، غير مترتب بعض منها على بعض ، فإنما المقصود الجمعية. فقوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(٦) : ليس في ظاهر ما يوجب الترتيب ، لأن الواو لمجرد الإشراك ، والجمع ، فلهذا وضع. ومن قال فيه بخلاف هذا ، فعليه بالدليل. فعلى [هذا لو](٧) قال لغير المدخول بها : إن دخلت الدار ، فأنت طالق وطالق وطالق ، فإنه جعل الواو للجمع. وكأنه قال : فأنت طالق ثلاثا. وهو ، رحمه الله ، أوقع واحدة ، لا ، لأن الواو خرج من الجمعية ، لكن ، لأنها ، أعني : المرأة ، بانت بقوله : فأنت طالق قبل ذكره : وطالق ثانيا. فالواو للإشراك ، حيث ما أمكن الإشراك. فإذا لم يمكن الإشراك ، فذاك لمعنى راجع ، إلى المحل ، لا إلى الحرف ، واللفظ. وقد ذكرنا هذا مستقصى في (الخلاف).
[قال أبو الفتح] : ومعنى (الفاء) التفرق على مواصلة. أي : الثاني عقيب الأول ، بلا مهلة.
تقول : قام زيد فعمرو. أي : يليه ، لم يتأخر عنه.
__________________
(١) ٢ : سورة البقرة ٥٨.
(٢) ٧ : سورة الأعراف ١٦١.
(٣) ١ : سورة الفاتحة ٥.
(٤) ١٥ : سورة الحجر ٧٤.
(٥) البيت من الكامل ، للبيد ، في : ديوانه ٢٢٩ ، والمعلقات السبع ٢٢٦ ، والخزانة ٣ : ١٠٥ ، ١١ : ٣.
(٦) ٥ : سورة المائدة ٦.
(٧) الأصل غير واضح.
اعلم أن الفاء ، في كلامهم على ثلاثة أقسام :
الأول : أن تكون للتعقيب ، والعطف.
والثاني : أن تكون جواب الشرط.
والثالث : أن تكون زائدة.
فالتعقيب ، مثل [١٠٥ / أ] ما ذكرها. والشرط ، والجزاء ، كقولك : إن تأتني فزيد يقوم. فالفاء ربطت الجملة الاسمية بالفعلية ، لأنها كانت أجنبية منها ، فالفاء صارت رابطة. فكل موضع يوجد فيه الفاء ، فمعنى التبعية فيه موجود ، سواء كان في باب العطف ، أو في باب الجزاء ، إلا أن تكون زائدة. [قال الشاعر] :
٢٦٩ ـ لا تجزعي ، إن منفسا أهلكته |
|
وإذا هلكت ، فعند ذلك فأجزعي (١) |
فالفاء ، في قوله : فعند ذلك ، زائدة ، لأن جواب (إذا) قوله : فاجزعي. ومما جاء من ذلك في التنزيل ، قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ)(٢). أي : لا تحسبنهم بمفازة. وحكي عن العرب : أخوك فوجد ، أي أخوك وجد فالفاء زائدة.
[قال أبو الفتح] : ومعنى (ثم) المهلة ، والتراخي. تقول : قام زيد ثم عمرو. أي : بينهما مهلة.
هذا كما قال ، لكن السائل يسأل ويقول : إذا كان (ثم) للمهلة ، والتراخي ، وأن الثاني بعد الأول ، فكيف قال تعالى (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)(٣) ، فعطف إعطاء موسى الكتاب ، على إعطائه محمدا ، وقال : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)(٤) إلى قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ،) فذكر هاهنا ، أنه خلق الأرض أولا ، (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(٥) ، وقال في موضع آخر (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ)(٦) ، ثم قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) (٧). فهذا يوجب خلق السماء قبل خلق الأرض ، وفي الآية الأولى يوجب (ثم) خلق السماء بعد خلق الأرض ، وهذا كثير في القرآن ، والشعر ، فلم زعمتم أن (ثم) توجب المهلة ، والترتيب؟!.
[قلت] : فإن شيئا من هذا لا يخرج عما ذكرنا. و (ثم) في هذه الأشياء لترتيب الخبر على الخبر ، لا لترتيب الفعل على الفعل. فقوله (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) إنما هو على تقدير : قل تعالوا ، ثم قل ، وأخبر هذا. وكذا (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : ثم أخبركم بهذا. وقد قيل : إنه خلق الأرض ، ولم يدحها ، إلا بعد خلق السماء. فإنه لما خلقها دحا الأرض فقوله : (بعد ذلك) ، أي :
__________________
(١) البيت من الكامل ، للنمر بن تولب ، في : ديوانه ٧٢ ، والكتاب ١ : ١٣٤ ، والتحصيل ١١٩ ، والخزانة ١ : ٣١٤ ، ٣٢١ ، ٣ : ٣٢ ، ٩ : ٤١ ، ٤٣ ، ٤٤ ، ١١ : ٣٦. وبلا نسبه في : المقتضب ٢ : ٧٦ ، وابن يعيش ٢ : ٣٨.
(٢) ٣ : سورة آل عمران ١٨٨.
(٣) ٦ : سورة الأنعام ١٥٤.
(٤) ٤١ : سورة فصلت ٩.
(٥) ٤١ : سورة فصلت ١١.
(٦) ٧٩ : سورة النازعات ٢٧.
(٧) ٧٩ : سورة النازعات ٣٠.
بعد خلق [١٠٥ / ب] السماء ، دحا الأرض ، وكانت مخلوقة قبل. ولم يقل : بعد ذلك خلقها ، إنما قال : دحاها.
ومعنى (أو) الشك. تقول : قام زيد ، أو عمرو. ويكون تخييرا ، تقول : اضرب زيدا ، أو عمرا ، أي : أحدهما ، أو إباحة ، تقول : جالس الحسن ، أو ابن سيرين ، أي : أبحتك مجالسة هذا الضرب من الناس. وأين وقعت (أو) فهي لأحد الشيئين.
[قلت] : قسم (أو) ثلاثة أقسام. وله قسم رابع. وهو أن يكون للإبهام ، على المخاطب ، كقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١٤٧) (١) ، أي : قد بلغت عدتهم ، إلى أن يقول حازرهم ، حين يحزرهم : مائة ألف أو يزيدون. وقول من قال : إنّ (أو) تأتي بمعنى الواو ، فليس بشيء ، وإنما هذا ، كما ذكرت لك. نعم ، لما كان يسمع السامع (أو) التي للإباحة ، فيجوز معها الإتيان بفعل ذلك الضرب ، استعمل (أو) في غير الإباحة ، بمنزلة التي للإباحة. فمن ذلك قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما)(٢) ، ولم يقل : فالله أولى به ، على ما يقتضيه أصل (أو) من أنه لأحدهما ، كما جاءت في الأخرى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً)(٣) ألا ترى أن التقدير : ومن يكسب أحد هذين ثم يرم به بريئا. ولم يقل : فالله أولى به لأنه قد جاءت : جالس الحسن أو ابن سيرين ، فيجوز له مجالستهما جميعا ، [وهذا](٤) مجازه. [قال الشاعر] :
٢٧٠ ـ وكان سيان ألا يسرحوا نعما |
|
أو يسرحوه بها ، واغبرت السوح (٥) |
وحق الكلام : سيان زيد وعمرو. ولا يقال : سيان زيد أو عمرو ، لكنه ، كما ذكرنا ف (أو) بمعنى الواو ، ليس بالسهل. والفرق بين التخيير ، والإباحة : أنه في التخيير ، لا يجوز الأتيان بالمأمور كله ، بخلاف الإباحة ، إذا قال : اضرب زيدا أو عمرا ، وخيره ، فيضربهما ، يكون عاصيا.
[فإن قلت] : فقد قال الله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)(٦) ، ولا يجوز له أن يطيع أحدهما ، بل المحرّم عليه طاعتهما جميعا. ف (أو) بمعنى الواو؟!.
[قلت] : ليس الأمر كذلك ، إنما قوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، على تقدير : لا تطع أحد هذين ، فإن (أو) لأحد الشيئين ، أو الأشياء. ولو صرح بهذا الكلام ، وقال : ولا تطع أحد هذين [١٠٦ / أ] ، حرم عليه طاعتهما ، لأنه في النهي ضد ما في الأمر ، وفي الأمر له طاعة أحدهما.
__________________
(١) ٣٧ : سورة الصافات ١٤٧.
(٢) ٤ : سورة النساء ١٣٥.
(٣) ٤ : سورة النساء ١١٢.
(٤) الأصل غير واضح
(٥) البيت من البسيط ، لأبى ذؤيب الهذلي ، في : ديوان الهزليين ١ : ١٠٧ ، وفيه : وقال ما تغيهم : سيان سيركم وإن تقيموا به ، واغبرت السوح وابن يعيش ٢ : ٨٦ ، ٨ : ٩١ ، والخزانة ٤ : ٨٩ ، ٥ : ١٣٤ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، ١١ : ٧٠. وبلا نسبة في : الخصائص ١ : ٣٤٨.
(٦) ٧٦ : سورة الإنسان ٢٤.
ففي النهي يكون بضده (١). قال سيبويه (٢) : ولو قال : ولا تطع منهم آثما ، أو لا تطع منهم كفورا ، انقلب هذا المعنى وجاز له طاعة أحدهما. وذلك ، لأنه يجعل (أو) في مثل هذا الموضع ، بمعنى (بل). فكأنه يصير التقدير ، حينئذ : ولا تطع منهم آثما ، بل لا تطع منهم كفورا. وهذا ضد المعنى.
وإنما صار هكذا ، لأنه لا يكون لعوامل معمول واحد. ألا ترى أنه لو لم يكن (أو) بمعنى (بل) لاقتضى : ولا (تطع) الأولى ، ما يقتضيه : ولا (تطع) الثانية ، وليس في الكلام إلا معمول واحد.
وإذا ثبت أنّ (أو) لأحد الشيئين ، فمن قال هذه ، أو هذه ، وهذه طالق ، طلقت الثالثة ، وثبت الخيار في الأوليين ، لأن التقدير : إحدى هاتين ، وهذه طالق. وإحدى هاتين مبهم ، فإليه التعيين. ومن قال : إن القدير : هذه ، أو هما طالق ، فإنه قد أثبت التعيين في الأولى ، وأوقع الشبهة في الأخريين.
فكان حق الكلام عنده : هذه ، أو هما طالقان ، فلما لم يقل كذلك ، ثبت أن الأمر بخلاف ما قال.
وكذلك إذا قال : أنت طالق أو غير طالق ، فمعناه : أنت إحدى هاتين ، لأنها غير مطلّقة. وكذلك ، إذا قال : أنت طالق ، واحدة ، أو لا شى. الأظهر أنه كقولك : أنت طالق أو غير طالق. والرواية الأخرى : من أنه تقع واحدة ، لأنه قيده به ، فلا يصح الرجوع عنه فله وجه. فحيث جاءت (أو) فاعتبره بلفظ أحدهما ، إلا أن يمنع مانع.
[قال أبو الفتح] : ومعنى (لا) التحقيق للأول ، والنفي عن الثاني. تقول : قام زيد لا عمرو.
وهذا كما قال : إن (لا) إنما يعطف بها بعد الإثبات ، دون النفي. لو قلت : ما قام زيد لا عمرو ، لم يصح ، إذ ليس فيه تحقيق الأول ، وإخراج الثاني عن الأول ، فلا يجوز. فإذا كان كذلك ، فقوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ)(٣) : لا يكون في تقدير : هي تثير الأرض. لأن هذا التقدير ، يوجب إسقاط الواو ، إذ يصير المعنى : هي تثير الأرض لا تسقي الحرث. ألا ترى أنه يقال : يقوم زيد لا يقعد ، لأنه يعطف بها بعد الإثبات ، دون النفي ، إذ [١٠٦ / ب] هو تحقيق للأول ، وإخراج للثاني عنه.
[قال أبو الفتح] : ومعنى (بل) للإضراب عن الأول ، والإثبات للثاني. تقول : قام زيد بل عمرو. ولا خلاف في أن ما بعد (بل) محقق ثابت. وإنما الخلاف فيما قبله : هل هو محقق ، أو منفي؟. إذا قلت : قام زيد بل عمرو ، فهل قيام زيد منفي ، أو مثبت؟. فجماعة يقولون بنفيه ، وجماعة لا يقولون فيه بشيء. ويقولون : (بل) لترك قصة ، إلى قصة أخرى. كقوله تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ)(٤). (بل) هاهنا ، ترك القصة الأولى ، وأخذ
__________________
(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١٢ ، ٤١٣ ، إذ نقل عن الشارح قوله : قال البصير النحوي : (أو) هذه للتخيير. إذا قلت : اضرب زيدا أو عمرا ، فمعناه : اضرب أحدهما ، فإذا قلت : لا تضرب زيدا أو عمرا ، فمعناه : لا تضرب أحدهما ، فيحرم عليه ضربهما".
(٢) الكتاب ٣ : ١٨٤ ، ١٨٨.
(٣) ٢ : سورة البقرة ٧١.
(٤) ١٨ : سورة الكهف ٤٨.
في الثانية. ومثله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) (١). وصفهم بالكل من هذه الخصال ، على سبيل ترك الأولى إلى الثانية ، وترك الثانية إلى الثالثة. فإذا قال لامرأته : أنت طالق ، واحدة ، لا بل ثنتين ، طلقت ثلاث طلقات. لأن قوله : أنت طالق ، واحدة ، إيقاع. وقوله : بل ثنتين ، رجوع عما أوقع ، فلا يثبت ، لأنه لا يمكن تدارك الطلقات بعد ما أوقعت ، فيقع ثلاث. ولو قال : لفلان عليّ ألف ، لا بل ألفان ، يلزمه ثلاثة آلاف ، في القياس ، لأنه تدارك بعد ما ثبت ، ورفع لما لا يرتفع كالطلاق. وقال في الاستحسان (٢) : إنه يلزمه ألفان. كقوله : له عليّ درهم ، بل ديناران ، وحججت حجة ، بل حجتين. قال : فالعرف في هذا جار بإثبات الأخيرة. لكن بهذا اللفظ. فهذا حكم (بل).
[قال أبو الفتح] : ومعنى (لكن) الاستدراك بعد النفي. تقول : ما قام زيد لكن عمرو. وما رأيت أحدا لكن عمرا. إلا أنها لا تستعمل في العطف إلا بعد النفي. ولو قلت : قام زيد لكن عمرو ، لم يجز. فإن جاءت بعد الواجب ، وجب أن يكون بعدها الجملة. تقول : قام زيد لكن عمرو لم يقم. ومررت بمحمد لكن جعفر لم أمرر به.
[قلت] : هذا من لطائف العربية. وذلك ، لأن (لكن) إذا كانت مشددة ، نصبت الاسم ، ورفعت الخبر. كقولك : لكنّ عمرا قائم. وإذا خففت كانت من حروف العطف بعد النفي ، كما ذكر ، وكان حرفا من حروف الابتداء بعد الإثبات. فأما قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)(٣) ، فإن هذا ليس (لكنّ) المشددة ، وإنما هو (لكن) [١٠٧ / أ] مخففة. وأصله : لكن أنا هو الله ربي. فأنا : مبتدأ ، وهو : مبتدأ ثان ، وخبره : الله. وقوله : ربي : صفة لله ، والعائد من الجملة إلى المبتدأ الذي هو (أنا) الياء في ربي. وجاز ذلك ، لأن الصفة كالجزء من الموصوف. فكان العائد من الصفة إلى المبتدأ ، كالعائد من الموصوف. ألا ترى أنه قال في [الكتاب] :
٢٧١ ـ ... |
|
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا (٤) |
إن (أشنعا) منصوب على الحال ، وليس بخبر ، لأن قوله : (يوم) لما وصف ، بقوله : (ذو كواكب) دل على ما في (أشنع) من المعنى. ففي جعل (أشنع) خبرا ، ليست فائدة ، لم تكن في الاسم. فكما أنّ ذكر الوصف ، هاهنا ، حيث صار كالجزء من الموصوف ، أخرج (أشنع) عن الخبر. فهكذا العائد من الصفة ، جوّز للجملة أن تكون خبرا للمبتدأ الذي هو (أنا). فأصل : (لكِنَّا
__________________
(١) ٢٧ : سورة النمل ٦٦.
(٢) أحد كتب محمد بن الحسن الشيباني ، نقل منه السرخسي في كتابه الأصول.
ينظر : تاريخ التراث العربي ـ فؤاد سزكين ٢ : ٧٢.
(٣) ١٨ : سورة الكهف ٣٧ ، ٣٨.
(٤) البيت من الطويل ، لعمرو بن شأس الأسدي ، وصدره :
بني أسد ، هل تعلمون بلاءنا |
|
... |
وهو ، في : شعره ٣٦ ، والكتاب ١ : ٤٧ ، والتحصيل ٧١ ، والخزانة ٨ : ٥٢١.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٩٦ ، وابن يعيش ٧ : ٩٨.
هُوَ اللهُ رَبِّي) لكن أنا ، فحذفت الهمزة ، وأدغمت النون في النون ، فصار : لكنّ. وحكى سيبويه ، عن يونس (١) : أنه كان لا يرى (لكن) من حروف العطف. ووجه ذلك : أن (لكن) المخففة ، بمنزلة المشددة التي ليست من حروف العطف. فتخفيفها لا يخرجها عن معنى المشددة. كما أن (إن) في قوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا)(٢) جرت مجرى المشددة. وكذلك (كأن) و (أن) في قوله :
٢٧٢ ـ ... |
|
كأن ظبية ... (٣) |
فيمن رواه بالنصب. وليس لما أنكره وجه. لأن الحروف ، تختلف أحوالها. ألا ترى أن (حتى) مرة : تجر ، ومرة : تعطف ، ومرة : لا تعمل شيئا. فكذلك (لكن) إذا شددت ، كانت بمنزلة (إنّ) وإذا خففت ، ووقعت بعد الجحد ، كانت عاطفة. وإذا لم تكن بعد الجحد ، وقعت بعدها جملة وكانت من حروف الابتداء.
وأما (أم) فتكون متصلة ، ومنقطعة. فأما إذا كانت متصلة ، وقعت قبلها همزة الاستفهام ، خاصة. وكانت معنى (أم) أيّهما. وكان ما بعدها منفردا. تقول : أزيد عندك أم عمرو؟. ف (أم) هاهنا ، متصلة ، لأن قبلها همزة الاستفهام ، ومعناه : أيّهما. وما بعدها مفرد ، فلا جرم أنه ينبغي أن يعيّن جوابه ، لأن السؤال ، ب (أم) هذه ، مرتب على السؤال ب (أو) والسؤال ب (أو) يجاب ب (نعم) أو (لا) فإذا قيل لك : أعندك زيد أو عمرو ، فجوابه (نعم) أو (لا). لأنه كأنه قال : أأحدهما عندك؟ فإذا قيل له (نعم) [١٠٧ / ب] ، أراد أن يعلم : من الحاضر ، فيقول : أعندك زيد أم عمرو؟ فجوابه : زيد ، إن كان الحاضر ، أو عمرو ، إن كان.
وإذا قال لك : الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية؟ فجوابه : أحدهما بهذا اللفظ. لأنه كأنه قال : أحدهما أفضل أم ابن الحنفية؟. ولو قال ذلك ، كان جوابه ، أحدهما ، بهذا اللفظ. فكذا إذا قال : (أو). وأمّا (أم) المنقطعة ، فإنه يتضمن معنى (بل) مع الهمزة ، لا بد من ذلك. ويكون ما بعده جملة. وقد يقع قبله الهمزة ، وغيرها من حروف الاستفهام. تقول : هل عندك زيد أم عندك عمرو. ومعناه : بل أعندك عمرو؟ ولا بد من ذلك ، لأنه إعراض عن الأول ، وسؤال عن الثاني.
والدليل على أنه بمعنى (بل) مع الهمزة ، قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ)(٤) ، ومعناه : بل اتخذ مما يخلق بنات. فهي متضمنة لمعناهما. ولو كانت متضمنة ل (بل) وحدها ، لم يجز ، لأنه يصير
__________________
(١) الكتاب ١ : ٤٣٥ ، وينظر هامش ٢٩.
(٢) ١١ : سورة هود ١١١ ، وينظر : ص ١٢٤ ، هامش ٢٨.
(٣) هذه قطعة بيت من الطويل ، وتمامه :
ويوما توافينا بوجه مقسم |
|
كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم |
وقد نسب إلى ستة شعراء كلهم من يشكر ، هم : باعث بن صريم ، وأرقم بن علباء ، وكعب بن أرقم ، وزيد بن أرقم ، وراشد بن أرقم ، وراشد بن شهاب ، وهو في هذه النسب المختلفة ، في : الكتاب ٢ : ١٣٤ ، ٣ : ١٦٥ ، والتحصيل ٢٨٠ ، والإنصاف ١ : ٢٠٢ ، وشرح شذور الذهب ٢٨٤ ، وابن يعيش ٨ : ٨٣ ، واللسان (قسم) ١٢ : ٤٨٢ ، والخزانة ١٠ : ٤١١.
(٤) ٤٣ : سورة الزخرف ١٦.
التقدير : بل اتخذ مما يخلق بنات. فيكون خبرا ، لا جحدا وتفريعا ، فيؤدي إلى الكفر. وقول العرب : إنها لأبل أم شاء. معناه : بل أهي شاء. فالمبتدأ مضمر. وشاء : الخبر. و (أم) في البيت الذي أنشده منقطع ، لأن قبلها (هل) وبعدها الجملة ، قال علقمة بن عبدة :
٢٧٣ ـ هل ما علمت وما استودعت مكتوم |
|
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم |
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته |
|
إثر الأحبة ، يوم البين مشكوم (١) |
ومعناه : بل هل كبير بكى. فاعرفه.
وإما (إمّا) مكسورة مكررة ، فقد قيل : هي ليست من حروف العطف ، لأن حروف العطف تأتي بعد المعطوف عليه ، كقولك : قام زيد ، وعمرو. وأنت تقول : قام إما زيد ، وإما عمرو. ولأنك ، لا تدخل حرف العطف على مثله ، وقد أدخلت الواو على (إما) فليست من حروف العطف. وفي الجملة أنّ (إما) للشك ، ك (أو) إلا أن (أو) يدركك الشك فيه ، في آخر الكلام ، إذا قلت : قام زيد أو عمرو. لو لم تذكر : (أو) عمرو ، كان الكلام يقينا. وفي (إما) تبتدئ شاكا ، لأنك تقول : قام إما زيد ، وإما عمرو.
وأمّا (حتى) فقد تقدم في بابه.
وزعم قوم أنّ (ليس) يعطف بها ، [قال الشاعر] :
٢٧٤ ـ وإذا جوزيت قرضا ، فاجزه |
|
إنّما يجزي الفتى ، ليس الجمل (٢) |
ف (الجمل) رفع ، عطف على (الفتى). وهذا من هذا القائل خطأ. لأن (ليس) في هذا على بابه. والخبر مضمر. أي : ليس الجمل الذي يجزيه ، [١٠٨ / أ] فحذف الخبر. فاعرفه.
وبعد ، فإن القائل ، إذا قال : جاءني زيد ، وعمرو ، فالمعطوف عندنا ، لا يعمل فيه عامل مقدر ، وإنما يكون إعرابه على سبيل التبعية ، لما قبله. ويخالفنا في ذلك بعض البصريين. ويقول : إنا إذا قلنا : جاءني زيد ، وعمرو ، ورأيت زيدا ، وعمرا ، ومررت بزيد ، وعمرو ، لم يخل التقدير فيه من أن يكون : جاءني زيد ، وجاءني عمرو. ورأيت زيدا ، ورأيت عمرا. أو يكون التقدير فيه أن (الواو) هي العاملة. فلا تكون (الواو) عاملة ، لأن (الواو) لا ترفع مرة ، وتنصب أخرى ، وتجر ثالثة. فثبت أن التقدير : جاءني زيد ، وجاءني عمرو ، إلا أنه استغني عن ذكر جاءني ، ثانيا ، لدلالة الأولى عليه. فإنما يجيزون العطف على الأول ، إذا أمكن إظهار العامل ، لأنه هو العامل ، لا شيء آخر ، فلا يجيزون : ما زيد قائما ، ولا عمرو ذاهبا ، لأنه لا يجوز : ما زيد قائما ، ولا ما عمرو ذاهبا. وكذلك لا يجيزون : ليس زيد ، ولا عمرو ذاهبا ، لأنه لا يجوز : ليس زيد قائما ، ولا ليس عمرو ذاهبا.
__________________
(١) البيتان من البسيط ، لعلقمة الفحل ، في : ديوانه ٥٠ ، والمفضليات ٣٩٧ ، والخزانة ١١ : ٢٨٦ ، ٢٨٨ ، ٢٨٩ ، ٢٩٠ ، ٢٩٣ ، ٢٩٤.
(٢) البيت من الرمل ، للبيد بن ربيعة ، العامري ، في : ديوانه ١٤١ ، والكتاب ٢ : ٣٣٣ ، والخزانة ٩ : ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، ٣٠٠ ، ١١ : ١٩٠ ، ١٩١.
[قلت] : إنّ العامل في الأول هو العامل في الثاني ، ولا يقدر تكريره. وإنما الثاني تبع ، لأن العرب قد قالت : ربّ رجل ، وأخيه. وبالإجماع ، لا يجوز : ورب أخيه. وقالوا : كلّ شاة ، وسخلتها بدرهم ، ولا يقولون : وكل سخلتها. ويقولون : يا زيد ، والحارث ، ولا يجوز : ويا الحارث. فثبت صحة ما قلنا. ولأنك تقول : أقام زيد أم عمرو. ولو كان التقدير : أم قام عمرو لكانت (أم) منقطعة. وفي إجماع الناس ، قاطبة ، أن (أم) هاهنا ، متصلة ، وأنه بمعنى (أيّهما) دليل قاطع على أن الثاني تبع ، وأنّ العامل غير منويّ معه. وقولهم : ما زيد قائما ، ولا عمرو ذاهبا ، دليل قاطع على أن العامل غير منوي ، يدل على صحته أنهم يجيزون : ليس زيد ، ولا أخوه ذاهبين ، و : ما زيد ، ولا عمرو قائمين. ولا فرق بين المسألتين. فاعرفه. ولا تظنن أن مثل هذا الخلاف عار عن الفوائد ، بل تأمل في ذلك.
[قال أبو الفتح] : والاسم يعطف على الاسم ، إذا كان موافقا له في حاله. والفعل يعطف على الفعل ، إذا اتفقا في الزمان. تقول : قام زيد وعمرو ، ولا تقول : [١٠٨ / ب] مات زيد ، والشمس ، لأن الشمس لا يصح موتها. وتقول : جلس زيد ، وقام ، لأنهما متفقان في الزمان ، ولا تقول : قام زيد ، ويجلس ، لأنهما مختلفان في الزمان.
[فإن قلت] : فقد قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(١) ، فقوله : (ويصدّون) ، مضارع ، وقبله ماض. فلم جاز ذلك؟!
[الجواب] : أنّ هذا على حكاية الحال ، ومعناه : إن الذين كفروا ، وحالهم هذا. ثم إنا نقول : إن الزمان الذي ذكره أبو الفتح ، هو الأصل ، ولكنه يجوز وضع الماضي موضع المستقبل ووضع المستقبل موضع الماضي. قال الله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ)(٢). وقال : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ)(٣) ، ومعناه : قتلتم ، وقال : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(٤) ، فيمن رفع. أي : حتى قال الرسول.
واعلم أن هذه الأشياء المرفوعة ، والمنصوبة ، والمجرورة ، في العطف ، على ما قبلها ، مختلفة.
فعطف المرفوع على المضمر المرفوع ، لا يستحسن [ما](٥) لم يؤكد. كقولك : قمت وزيد ، و : قم وزيد. حتى تقول : قم أنت ، وزيد ، و : قمت أنت ، وزيد. هذا مذهبهم.
ثم إنه (٦) جوّز ، في قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)(٧) فيمن قرأ : (والعين) ،
__________________
(١) ٢٢ : سورة الحج ٢٥.
(٢) ٧ : سورة الأعراف ٤٤.
(٣) ٢ : سورة البقرة ٩١.
(٤) ٢ : سورة البقرة ٢١٤. وقراءة الرفع ، قرأ بها : أهل الحرمين. أعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٢٥٥.
(٥) في الأصل : مهما.
(٦) أي : أبو علي ، إذ جوّز للرفع ثلاثة أوجه ، أحدها : ما ذكره الشارح ، والثاني : أن تكون الواو قد عطفت جملة على جملة ، والثالث : حمل الكلام على المعنى ، على موضع (إنّ النفس) ، لأن المعنى : قلنا لهم : النفس بالنفس. ينظر : مجمع البيان ٣ : ١٩٨ ، ١٩٩ ، وتفسير القرطبي ٦ : ١٩٣.
(٧) ٥ : سورة المائدة ٤٥.
بالرفع (١) على أن يكون عطفا على الضمير الذي في الظرف ، وأنّ التقدير : النفس مأخوذة بالنفس ، [هي](٢) فعطف على الضمير ، ولم يؤكد. قال : وهذا مستحسن جدا. قال الله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)(٣) ، فعطف (آباؤنا) على الضمير في (أشركنا) ولم يؤكد ، كما أكد في قوله : (ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا)(٤).
[فإن قلت] : إن رفع قوله : (والعين بالعين) ، ليس كقوله : (ولا آباؤنا) ، لأنه قد طال الكلام ب (لا) فحسن ، كما حسن في قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ)(٥) ، فرفع (شركاؤكم (٦)) بالعطف على الضمير في (فأجمعوا) ، وليس كذلك (والعين بالعين).
[الجواب] : أن قوله : (ولا آباؤنا) ، إنما كان يكون مثل قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أن لو كانت (لا) قبل واو العطف ، كما أن المفعول في : (فأجمعوا أمركم) ، إنما قام مقام التأكيد ، لما [١٠٩ / أ] كان قبل واو العطف. فلما لم تكن (لا) ، قبل الواو ، جاز : قمنا وزيد ، بدلالة الآية.
فأما قول محمد (٧) ، رحمة الله عليه ، في قول من قال : أنت طالق ، إن دخلت الدار ، بل هذه : إنّ (هذه) تنعطف على (أنت) ، وإنّ التقدير : أنت طالق ، بل هذه ، إن دخلت الدار. ودخول المخاطبة الدار ، شرط لوقوع الطلاق عليهما. فإنه ، إنما استحسن هذا دون أن تكون (هذه) معطوفة ، على التاء المرفوعة ب (دخل) ، لأن قوله ، أنت : مبتدأ ، وهي عمدة الكلام ، ومقصود بالإخبار عنه.
وكان عطف (هذه) على (أنت) أولى من العطف ، على التاء ، لأن التاء متصل بفعل الشرط.
والشروط في الكلام ، جارية مجرى الظروف. فقوله : أنت طالق ، إن دخلت الدار ، تقديره : أنت طالق ، وقت دخول الدار. والظروف فضلة في الكلام ، فلم ير العطف على التاء المتصل ، بالفضلة.
وقول من قال : إنه ، إنما لم يعطف على التاء ، لأنه لا يستحسن : قمت وزيد ، فإنّ هذا القائل لم يعلم أنه يستحسن : قمت في الدار وزيد. فقوله : إن دخلت الدار ، بل هذه ، في قيام المفعول مقام الضمير ، في التأكيد ، كقوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) لا فرق بينهما. وكقوله : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(٨). وكقوله : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ)(٩).
وأما المعطوف على المضمر المجرور ، في نحو : مررت به وزيد ، فعندنا لا يجوز إلا بإعادة
__________________
(١) وهما : الكسائي ، وأنس. السبعة ٢٤٤ ، وحجة القراءات ٢٢٦ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٤٩٩.
(٢) الأصل غير واضح.
(٣) ٦ : سورة الأنعام ١٤٨.
(٤) ١٦ : سورة النحل ٣٥.
(٥) ١٠ : سورة يونس ٧١.
(٦) وهي قراءة : أبي عمرو ، ويعقوب ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وسلام. مختصر في شواذ القرآن ٥٧ ، وأعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ٦٦ ، والمحتسب ١ : ٣١٤ ، ومجمع البيان ٥ : ١٢٢ ، وتفسير القرطبي ٨ : ٣٦٢ ، والنشر ٢ : ٢٨٦.
(٧) هو : محمد بن الحسن ، فرقد بن أبى عبد الله ، الشيباني (ت ١٧٨ ه). صحب الإمام أبا حنيفة ، وأخذ العلم ، والفقه عنه ، ثم عن : أبي يوسف. صنف الكتب ، ونشر علم أبي حنيفة ، وروى الحديث. ومن روى عنه : الإمام الشافعي. ينظر : الجواهر المضيئة ٤٢ ـ ٤٤.
(٨) ٢ : سورة البقرة ٣٥.
(٩) ٥ : سورة المائدة ٢٤.
الجار. والفراء يجيز ذلك ، ويحتج بقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)(١) ... الآية. إلى قوله : (والمسجد الحرام). فقوله : (والمسجد الحرام) : مجرور بالعطف على الهاء ، من قوله : (وكفر به).
ولم يقل : وبالمسجد. قال : فقتال فيه : مبتدأ. وصد : عطف عليه. وكفر : عطف عليه. والتقدير : وصد عن سبيل الله كبير ، وكفر به ، وبالمسجد الحرام كبير ، فأضمر. وروي عنه ، أن قوله : قتال فيه : مبتدأ ، وخبره : كبير. وصد عن سبيل الله : عطف على كبير. وكفر به كذلك. والتقدير عنده : قتال فيه كبير ، وصد ، وكفر. أي : القتال في المسجد الحرام ، قد جمع هذه الأشياء (٢).
فأما العطف على الهاء المجرور ، فغير جائز ، لوجوه ، منها : أن [١٠٩ / ب] المضمر المجرور ، لا يعطف على المظهر المجرور ، إلا بإعادة الجار. لا تقول : مررت بزيد ، و (ك) حتى تقول : وبك.
وكذلك ، لا تقول : مررت بك ، وزيد ، حتى تقول : وبزيد. وقال أبو علي ، قولهم : مررت به ، وبك ، هذه المجرورات تشبه التنوين ، من حيث إنها لا تنفصل عن الجار ، كما أن التنوين لا ينفصل عن الاسم ، ومن حيث إنك تقول : يا غلام ، فتحذف الياء ، كما تحذف التنوين. فلما أشبهها ، وجب أن لا يعطف على التنوين ، من حيث إن العطف ، يقتضي المشاكلة ، والمطابقة ، وإن الثاني واقع موقع الأول الذي هو معطوف عليه. فلما جرى المضمر في هذا مجرى التنوين ، لم يستجز ، عطف الاسم عليه ، لأن الاسم لا يعطف على الحرف ، فكذا لا يعطف على ما يشاكل الحرف.
وإذا استقبح : قمت وزيد ، حتى يؤكد ، كراهة عطف الاسم ، على الفعل ، فكذا هاهنا.
[فإن قلت] : فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز : مررت بزيد وعمرو ، فتعطف المظهر على المظهر ، لأن المظهر المجرور ، هاهنا ، بمنزلة المضمر المجرور.
[الجواب] : المظهر يخالف المضمر ، من حيث إنه اسم يمكن انفصاله عن الجار ، في نحو [قوله] :
٢٧٥ ـ ... |
|
... قرع القسيّ ، الكنائن (٣) |
و :
٢٧٦ ـ ... |
|
زجّ القلوص ، أبي مزادة (٤) |
و : (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٥) و : (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ)(٦).
وإذا كان كذلك ، فقوله : (والمسجد الحرام) : مجرور ، بالعطف على : سبيل الله ، أي : وصدّ
__________________
(١) ٢ : سورة البقرة ٢١٧.
(٢) معاني القرآن ـ للفراء ١ : ١٤١.
(٣) البيت من الطويل ، للطرماح ، وتمامه :
يطفن بحوزيّ المراتع لم ترع |
|
بواديه من قرع القسيّ ، الكنائن |
وهو ، في : ديوانه ٤٨٦ ، واللسان (جوز) ٥ : ٣٤١.
وبلا نسبة ، في : الخصائص ٢ : ٤٠٦ ، والإنصاف ٢ : ٤٢٩.
(٤) عجز بيت من مجزوء الكامل ، سبق ذكره رقم (١٧)
(٥) ٦ : سورة الأنعام ١٣٧. ينظر : ص ٢٢٤ ، هامش (٣)
(٦) ١٤ : سورة إبراهيم ٤٧.
عن سبيل الله ، والمسجد الحرام. كما قال : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١) ، فهو معطوف على المجرور ب (عن). وصد : مبتدأ. وكفر به : عطف عليه. وكذا : (إخراج أهله).
والخبر الأكبر عند الله.
والوجهان اللذان ذكرهما أبو زكريا (٢) ، لا يصح واحد منها ، لأنه إذا قال : وصد عن سبيل الله كبير ، وكفر به كبير ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فقد زعم أن بعض خلال الكفر أكبر من الكفر نفسه ، والأمر بخلاف هذا. وإذا قال : قتال فيه كبير ، وصد ، وكفر ، ثم قال : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ ،) فقد زعم أن هذا أكبر [١١٠ / أ] من القتال ، الذي هو كفر. والقتال عينه ، ليس بكفر. فإذن صح قولنا.
[أما قوله] :
٢٧٧ ـ ... |
|
فما بك ، والأيّام ، من عجب (٣) |
فضرورة. وهو على إضمار الجار ، أي : وبالأيام. [قال الشاعر] :
٢٧٨ ـ أكل امرئ تحسبين امرءا |
|
ونار توقد ، بالليل ، نارا (٤) |
أي : وكلّ نار ، فأضمر. فليس في البيت لهم حجة. وحمله (٥) قول عمر بن أبي ربيعة :
٢٧٩ ـ قلت ، إذ أقبلت ، وزهر |
|
... (٦) |
على الضرورة ، وأنه كان حقه أن يقول : إذ أقبلت هي وزهر ، فإن كان هذا ضرورة ، فقوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)(٧) ، ليس بضرورة. و (لا) لا تعمل شيئا ، لمجيئه بعد الواو. وزهر : جمع زهراء ، كحمراء ، وحمر.
باب النكرة والمعرفة
[قال أبو الفتح] : فالنكرة : ما لم تخصّ الواحد ، من جنسه ، نحو : رجل ، وغلام. وتعرّف النكرة ب (اللام) ، و (ربّ) نحو : الرجل ، و : رب رجل ، ورب غلام. يعني أن قولك : رجل ، نكرة ، لأنك تقول : الرجل ، فتقبل اللام. وزيد : ليس بنكرة ، لأنك لا تقول : الزيد. وكذلك أنواع المعارف. ولأنك تقول : رجل ، فتحكم بتنكيره ، لأنك لو قلت : ربّ رجل ، صلح ، وجاز. وقوله :
__________________
(١) ٤٨ : سورة الفتح ٢٥.
(٢) يعني : الفراء.
(٣) البيت من البسيط ، وتمامه :
فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا |
|
فاذهب فما بك ، والأيام من عجب |
وهو بلا نسبة في : الكتاب ٢ : ٣٨٣ ، والتحصيل ٣٣٧ ، والجمل ١ : ٢٤٤ ، والإنصاف ٢ : ٤٦٤ ، وابن يعيش ٣ : ٧٨ ، والخزانة ٥ : ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٢٦ ، ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣١.
(٤) سبق ذكره رقم (٢٢٧).
(٥) أي : أبو الفتح.
(٦) البيت من الخفيف ، وتمامه :
قلت ، إذ أقبلت ، وزهر تهادى |
|
كنعاج الملا تعسفن رملا |
وهو ، في : ديوانه ٤٩٨ ، واللمع في العربية ١٨٣.
(٧) ٦ : سورة الأنعام ١٤٨.
تعرّف النكرة باللام ، كقوله في نسخة أخرى ، وعبرة النكرة باللام.
ثم [قال] : واعلم أن النكرة أصل المعرفة ، وبعضها أعم ، وأشيع من بعض. فأعم الأشياء ، وأبهما قولنا : شيء ، لأنه يقع على الموجود ، والمعدوم. قال الله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(١) ، فسماها شيئا ، وإن كانت معدومة.
هذا الكلام منه ، مراده به : الألفاظ الموضوعة المستعملة ، عند العرب ، ولا يمكن في هذا تحقيق ، إذ تسمية المعدوم بلفظ (شيء) حقيقة ، هو كتسمية الموجود ، فلا يمكن أن يجعل المعدوم كالموجود ، لأنهما ضدان. والمراد أن العرب تطلق لفظة (شيء) على معدوم ، لا بد من إتيانه ، ووقوعه تنزيلا له منزلة الموجود. لهذا قال ، عز من قائل : (شيء عظيم) ، لأن خبره صادق مصدوق ، لا يدخله ريب ، أي : القيامة ، وإن لم تشاهدوها الآن ، فحكمها [١١٠ / ب] حكم المشاهد. فهذا مساغ هذا الكلام. وإذا راجعت الحقيقة ، فالموجود أعم النكرات ، كما ذكر ، وهو حقيقة ، لأنه يطلق على القديم ، جل جلاله ، وعلى غيره ، ثم يليه المحدث ، لأنه يقع على العرض ، والجوهر ، ثم يليه الحيوان ، ثم الإنسان. وهذا في الحقيقة ، ليس من علم الصناعة في شيء. أعني صناعة العربية.
[قال أبو الفتح] : وأما المعرفة : فما خص الواحد من جنسه ، وهي خمسة أضرب .. إلى آخر الفصل.
بدأ بذكر المضمر ، لأنه أعرف المعارف ، من حيث إنه لا يوصف ، ولا يضاف ، كما يضاف غيره. وإذا كانوا قد حكموا في نحو قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)(٢)(ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(٣)(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(٤) ، على أن يكون (أن) هو الاسم ، دون المضاف ، والمعرّف باللام ، لأن (أن) لا يوصف. فهو أدخل في باب التعريف من غيره. فعلمت أن المضمر أعرف المعارف.
ثم قسم المضمر قسمين : منفصلا ، ومتصلا. فالمنفصل قسمان : مرفوع ، ومنصوب.
فالمرفوع للمتكلم (أنا) سواء كان ذكرا ، أو أنثى. وإنما استويا ، لأن الفرق إنما يحتاج إليه ، إذا لم يعرف أحد الاسمين من صاحبه. والمتكلم يعرف بكلامه : أذكر هو أم أنثى. وفي (أنا) لغتان في الوقف : أنه ، وأنا. وأنا أكثر ، أعني تبيين الحركة بالألف. وعلى هذا قراءة من قرأ : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)(٥)(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)(٦). أصله : أنا ، فحذف الهمزة ، وأدغم النون في النون ، وأثبت الألف
__________________
(١) ٢٢ : سورة الحج ١.
(٢) ٢ : سورة البقرة ١٧٧.
(٣) ٤٥ : سورة الجاثية ٢٥.
(٤) ٣ : سورة آل عمران ١٤٧.
(٥) ٢ : سورة البقرة ٢٥٨. وهو نافع ، يثبت الألف بعد النون في الوصل إذا دخلت على الهمزة في جميع القرآن ، إلا في قوله تعالى في سورة الشعراء ، آية ١١٥ : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١١٥). فإنه : حذفها ، وقالون : أثبتها وصلا في آية الشعراء. السبعة ١٨٨ ، وأعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٢٨٤ ، ومجمع البيان ٢ : ٣٦٦ ، والنشر ٢ : ٢٣١ ، وإتحاف الفضلاء ٣٣٣ ، وغيث النفع ٢٤٥.
(٦) ١٨ : سورة الكهف ٣٨.
في الوصل ، إجراءا للوصل مجرى الوقف. [قال الراجز] :
٢٨٠ ـ ببازل وجناء ، أو عيهلّ |
|
كأنّ مهواها على الكلكلّ (١) |
[وقال الآخر] :
٢٨١ ـ أنا أبو النّجم ، وشعري شعري (٢)
وللاثنين ، والجماعة : نحن : ذكورا كانوا أم إناثا. واستوى الاثنان والجمع ، في ذلك ، لأن الاثنين جماعة. ألا ترى أنه [قال] :
٢٨٢ ـ ... |
|
ظهراهما مثل ظهور التّرسين (٣) |
فقال : ظهور ، وهو يريد اثنين. وقال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)(٤).
والإجماع منعقد على أنّ الاثنين منهم ، يحجبان الأم من الثلث ، إلى السدس. وجاءت (نحن) مبنية ، لأنها اسم مضمر. والمضمر [١١١ / أ] يشبه الحرف ، حيث لا يلزم معناه في الأحوال كلها. وحرك لالتقاء الساكنين. واختير الضم ، لمّا كان موضوعا للجمع ، وقد تعورف الضم ، والواو في باب الجمع ، نحو : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ)(٥)(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)(٦).
وللمخاطب (أنت). و (أن) هو الاسم ، لأنه هو : أنا للمتكلم. والتاء : حرف خطاب ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما الحكم ل (أن) إلا أنه سكنت النون مع التاء استخفافا ، لتوالي متحركات.
فإذا خاطبت الاثنين ، قلت : أنتما. والتاء ، والميم للخطاب ، وليست (أنتما) تثنية (أنت) إذ لو كانت تثنيته ، لقلت : أنتان. وإذا خاطبت الجماعة ، قلت : أنتم. والأصل (أنتمو) بالميم ، والواو.
والواو أصل ، بدلالة أنه بإزاء (أنتنّ) للنّسوة. والواو كالنون الثانية ، إلا أنها حذفت استخفافا. وجاز حذفها ، لأن الميم ، وحدها ، دلت على الجماعة ، لما كان الاثنان مع ميمهما ألف. ولو كان (أنتم) جمعا ل (أنت) لكان : أنتون ، في الرفع. و : أنتين ، في النصب ، والجر.
وللغائب المذكر (هو) ، وللمؤنث (هي). والواو ، والياء ، هاهنا ، أصلان من الكلمة ، وليسا زائدين ، بخلافهما في : هذا له ، ومررت به لأن الواو ، والياء هاهنا ، زائدان ، لسقوطهما في الوقف ،
__________________
(١) من الرجز ، سبق ذكره (٢٣).
(٢) من الرجز ، لأبي النجم العجلي ، وبعده :
لله درّي ما أجنّ صدري
وهو في : الخصائص ٣ : ٣٣٧ ، وابن يعيش ١ : ٩٨ ، ٩ : ٨٣ ، والخزانة ١ : ٤٣٩ ، ٨ : ٣٠٧ ، ٩ : ٤١٢.
(٣) البيت من السريع ، لخطام المجاشعي ، وصدره :
ومهمهين قذفين مرتين |
|
... |
في : الكتاب ٢ : ٨٤ ، والتحصيل ٦٤ ، والخزانة ٢ : ٤٨ ، ٤ : ٣٠٢ ، ٧ : ٥٣٩ ، ٥٤٤ ، ٥٤٧ ، ٥٤٨ ، ٥٧٢ ، ولهميان بن قحافة في الكتاب ٣ : ٦٢٢.
وبلا نسبة في : ابن يعيش ٤ : ١٥٥ ، ١٥٦ ، والأشموني ٤ : ٣٥٣ ، وشفاء العليل ١ : ١٦٣.
(٤) ٤ : سورة النساء ١١.
(٥) ٢ : سورة البقرة ١٦.
(٦) ٢ : سورة البقرة ٢٣٧.
إذا قلت : هذا له ، ومررت به. وحذفهما الشاعر ، [في قوله] :
٢٨٣ ـ فظلت لدى البيت العتيق ، أجيله |
|
ومطواي مشتاقان له أرقان (١) |
أي : له. ولا يفعل ب (هو) و (هي) هذا. إنما يسكنان في ضرورة الشعر. [قال الشاعر] :
٢٨٤ ـ غفلت ثمّ أتت ترقبه |
|
فإذا هي بعظام ، ودما (٢) |
[وقال الآخر] :
٢٨٥ ـ دار لسعدى إذه من هواكا (٣)
يريد : إذ هي.
[وقال الشاعر] :
٢٨٦ ـ فبيناه يشري رحله ، قال قائل : |
|
لمن جمل ، رخو الملاط ، نجيب (٤) |
يريد : بينا هو. فإنما حذف الواو ، والياء ، كما يحذف الأصول ، في نحو : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ)(٥). يريد : حاشا لله ، لأنه (فاعل). ونحو قوله : ولو تر : ما أهل (٦) مكة (٧) ، أي : ترى.
[أ](٨) فلا يدل هذان البيتان ، على أن الواو ، والياء في (هو) و (هي) زائدتان؟
وللتثنية (هما) وللجماعة (هم) والأصل (همو) لأنه بازاء (هنّ).
[قال أبو الفتح] : وأما الضمير المنصوب المنفصل [١١١ / ب] ف (إياي) للمتكلم. وللتثنية ، والجمع ، جميعا (إيانا). واختلف الناس في : إياي ، وإياك ، وإياه. فذهب أبو الحسن (٩) إلى أن الكاف ، والياء ، والهاء : حروف لا محل لها من الإعراب. وأنّ (إيا) اسم مضمر. وحكى سيبويه عن
__________________
(١) البيت من الطويل ، ليعلى بن الأحول الأزدي ، في : اللسان (مطا) ١٥ : ٢٨٧ ، والخزانة ٤ : ٤٣٥ ، ٤٣٦ ، ٥ : ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، ٢٧١ ، ٢٧٥.
وبلا نسبة في : المقتضب ١ : ٣٩ ، والخصائص ١ : ١٢٨.
(٢) البيت من الرمل.
بلا نسبة في : ابن يعيش ٥ : ٨٤ ، واللسان (أطم) ١٢ : ٢٠ ، والخزانة ٧ : ٤٩١ ، ٤٩٣.
(٣) من الرجز ، وقبله :
هل تعرف الدار على تبراكا
وهو بلا نسبة في : الكتاب ١ : ٢٧ ، والتحصيل ٦٥ ، والخصائص ١ : ٨٩ ، والإنصاف ٢ : ٦٨٠ ، والعقد ٤ : ١٨٥ ، وشافية ابن الحاجب ٢ : ٣٤٧ ، وابن يعيش ٣ : ٩٧ ، والخزانة ٢ : ٥ ، ٥ : ٢٦٤.
(٤) البيت من الطويل ، للعجير السلولي ، أو المخلب الهلالي ، في : الخزانة ١ : ١٥٠ ، ٥ : ٢٥٧ ، ٢٦٠ ، ٢٦٥ ، ٩ : ٤٧٣. وبلا نسبة في : الخصائص ١ : ٦٩ ، والإنصاف ٢ : ٥١٢ ، وابن يعيش ١ : ٦٨.
(٥) ١٢ : سورة يوسف ٣١.
(٦) ضبط الشارح لفظة : (أهل) بالفتحة ، والضمة ، فالنصب على زيادة (ما) ، والرفع على موصوليتها. والتقدير : ولو ترى الذين هم أهل مكة.
(٧) اللسان (رأى) ١٤ : ٢٩٤.
(٨) زيادة يقتضيها السياق.
(٩) هو : أبو الحسن بن كيسان. الإنصاف (مسألة ٩٨) ٢ : ٦٩٥.
الخليل (١) : أنّ الياء ، والكاف ، والهاء : مجرورة بالإضافة ، وأنّ (إيا) اسم مضمر. وذهب الزجاج (٢) إلى مثل هذا ، غير أنه ادعى : أنّ (إيا) اسم ظاهر. وذهب الفراء إلى أنّ (إياك) بكمالها : اسم. وقد كفانا الزجاج قول الفراء ، حيث قال : لم نر اسما تغير آخره ، لاختلاف المسمّين. ألا ترى أنه لا يقال : إنّ (عصاك) بكمالها ، اسم. فكيف جاز هذا في (إياك). والصحيح من هذه الأقاويل ، قول أبي الحسن (٣) : إنّ (إيا) اسم مضمر. فإذا كان مضمرا ، لم يضف إلى هذه الحروف ، لأن إضافة المضمر غير مشاهد ، وما جاء عنهم في ذلك شيء.
وأما قول العرب : " إذا بلغ الرجل الستين ، فإياه ، وإيا الشوابّ" (٤) ، فقد جعلوه في عداد الشواذ ، والنوادر. ومن قال : إنه اسم ظاهر ، قيل : لم نر اسما ظاهرا ، لزم طريقة واحدة ، إلا الظروف ، نحو : الآن ، وغيره. و (إيا) ليس بظرف ، فكيف لزم النصب في جميع الأحوال؟. وكفى ضعفا خروج القائل عن كلامهم. فالكاف ، والياء ، والهاء : حروف ، وليس مثلها في : عصاي ، وعصاك ، وعصاه. لأن ذلك مضاف ، لمّا كان مظهرا ، وهذا مضمر ، لا يجوز إضافته.
وأبو سعيد يزعم : أن (إيا) وصلة إلى التكلم بهذه الحروف. وذلك أن هذه الحروف كانت مفعولات ، نحو : رأيتك ، ورأيته ، ورأيتني. فلما قدموها على الفعل استقبحوا أن يقولوا (كرأيت) (وهو رأيت) و (إني رأيت). فجاؤوا ب (إيا) وصلة إلى هذه الحروف ، فهو من (أيّ) التي هي وصلة إلى نداء ما فيه اللام ، نحو : يا أيها الرجل. ف (إيا) عنده مشتق من (أيّ). وليس كما قال ، لأن المضمرات بمنزلة الحروف. والحروف لا يحكم باشتقاقها ، لجمودها ، وقلة تصرفها تصرف الأسماء ، والأفعال. ف (إياك) أبدا ، منصوب بفعل بعده [١١٢ / أ] ولا ينتصب بما قبله. وكذلك : إياي ، وإياه. فأما قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٥) ، فمنصوب بفعل مضمر مقدر بعده. والتقدير : وإياي فارهبوا. وقوله : (فارهبون) : تفسير له. ولو قدرت المضمر قبله ، قلت : فارهبوني. ولا يجوز : فارهبوا إياي.
واعلم أنّ قولهم : أنا ، وأنت ، وهو : يقعن فصلا بين المبتدأ ، والخبر ، إذا قلت : زيد قائم.
وتقول : زيد هو قائم. ف (هو) فصل. ومعنى الفصل : أنه يفصل بين الوصف ، والخبر. لو قلت : زيد القائم ، احتمل أن يكون القائم وصفا ، وخبرا ، فلما جئت ب (هو) علمت أنه خبر ، وليس بوصف. وهكذا يقع في باب العوامل الداخلة على المبتدأ ، والخبر ، نحو : كان ، وإنّ ، وظننت. قال الله تعالى : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)(٦). وقال (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ)(٧).
__________________
(١) الكتاب ١ : ٢٧٩ ، ونصه : " قال الخليل : لو أن رجلا قال : إياك نفسك ، لم أعنفه ، لأن هذه الكاف مجرورة".
(٢) الإنصاف (مسألة ٩٨) ٢ : ٦٩٥.
(٣) وقد حكى السراج عن المبرد ، وعن أبي الحسن الأخفش مثل ذلك. ينظر : مجمع البيان ١ : ٢٥.
(٤) الكتاب ١ : ٢٧٩.
(٥) ٢ : سورة البقرة ٤٠.
(٦) ٨ : سورة الأنفال ٣٢.
(٧) ٣٤ : سورة سبأ ٦.
فالذين أوتوا العلم : الفاعل ، والذي أنزل إليك من ربك : المفعول الأول ، والحقّ : المفعول الثاني ، وهو : فصل. وقال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً)(١). ف (أنا) فصل ، وأقلّ : المفعول الثاني.
وشرط هذا الفصل أن يقع بين المبتدأ ، والخبر ، إذا كانا معرفتين ، أو قارب المعرفة. قال الله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً)(٢). فوقع (هو) هاهنا ، فصلا ، لأن قوله (خيرا) في تقدير : خيرا من كذا ، فقد قارب المعرفة. وقد جاء هذا بين المبتدأ ، وخبره ، إذا كان مضارعا ، وذلك نحو قوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)(٣). فأجازوا : زيد هو يقوم ، ولم يجيزوا : زيد هو قائم ، لأن (قام) لا يشبه الأسماء ، بخلاف (يقوم). فأما قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)(٤) ، فلا يكون (هنّ) فصلا ، هاهنا ، إلا على أن تقرر : هنّ أطهر من غيرهنّ ، وهم الذكور. فهؤلاء : مبتدأ ، وبناتي : وصف لهنّ ، وهنّ : مبتدأ ثان. وأطهر : خبر ، بمعنى : الطاهرات.
والجملة : خبر. أو يكون (هن) فصلا. وأطهر : الخبر. وقد روي بالنصب (٥). أعني : أطهر لكم ، وقد لحّن قارئه. وقيل : وجهه ، أنه نصب [١١٢ / ب] على الحال ، لأنه جعل هؤلاء : مبتدأ ، وبناتي : ابتداءا ثانيا ، وهن : الخبر. فنصب (أطهر) على الحال. والعامل فيه معنى هؤلاء ، من الإشارة ، أي : بناتي هنّ.
ويحكى عن أبي عمر (٦) ، أن هذا القارئ ، وهو ابن مروان (٧) ، احتبى في لحنه (٨) ، وهو ما ذكرناه. قال : وأما الضمير المتصل ، فثلاثة أقسام : مرفوع ، ومنصوب ، ومجرور.
فالمرفوع : التاء ، في (قمت) ، والنون ، والألف ، في (قلنا) والتاء ، في (قمت) و (قمتما) و (قمتم) و (قمت) و (قمتما) و (قمتن). والضمير في : زيد قام ، والزيدان قاما ، والزيدون قاموا.
والضمير في الفاعل ، نحو : زيد قائم. وفي المفعول : زيد مضروب.
[أقول] : إنما كان في هذا ضمير ، لأن (قائما) مشتق من (قام) وقام فعل. ولا بد له من فاعل ، وفاعله بعده ، فكذلك المشتق منه. وكذلك مضروب ، في التقدير : ضرب. إلا أنّ الضمير ، في هذين الاسمين ، ليس كالضمير ، في الأفعال. لأن الفعل يصلح أن يكون صلة للموصول بضميره ،
__________________
(١) ١٨ : سورة الكهف ٣٩.
(٢) ٧٣ : سورة المزمل ٢٠.
(٣) ٣٥ : سورة فاطر ١٠.
(٤) ١١ : سورة هود ٧٨.
(٥) الذين رويت عنهم قراءة (اطهر) بالنصب ، هم : الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، والثقفي ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن مروان بن الحكم ، وعبد الله بن أبي إسحاق ، وعبد الملك بن مروان. تفسير الطبري ١٢ : ٥٢ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ١٠٤ ، والمحتسب ١ : ٣٢٥ ، والكشاف ٢ : ٢٨٣ ، ومجمع البيان ٥ : ١٨١ ، وتفسير الرازي ١٨ : ٣٤ ، وتفسير القرطبي ٩ : ٧٦ ، والبحر المحيط ٥ : ٢٤٧.
(٦) الكتاب ٢ : ٣٩٦ ، ٣٩٧ ، وفي الأصل : (عمرو) ، وهو : وهم.
(٧) هو : محمد بن مروان ، المدني ، القارئ ، ذكره الداني وقال : وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، وذكر عن أبي حاتم ، السجستاني أنه قال : ابن مروان قارئ أهل المدينة ، وعن الأصمعي أنه قال : قلت لأبي عمرو بن العلاء : إن عيسى بن عمر ، حدثنا ، قال : قرأ ابن مروان : (هنّ أطهر لكم) ، قال : احتبى من لحنه. غاية النهاية ٢ : ٢٦١.
(٨) احتبى في لحنه ، أي : اشتمل بالخطأ.
لأنه صار جملة معه. والضمير ، في الفاعل والمفعول ، لا يصيرهما جملة ، فلا يستقل به الصلة. لو قلت : جاءني الذي قائم ، أو جاءني الذي مضروب ، لم يجز ، لأنه ليس بجملة. وليس لهذا الضمير ، صيغة تدل عليها ، كالتاء ، والألف ، والواو في الأفعال. والضمير الذي في الظرف ، نحو : زيد خلفك ، تقديره : زيد مستقر خلفك ، فحذف (مستقر) وانتقل الضمير منه إلى الظرف ، وصار مرتفعا به ، بدليل مجيء الحال عنه ، والعطف عليه ، والبدل منه ، والتأكيد له ، على ما قدمناه ، في باب المبتدأ ، وباب الخبر.
فأما الضمير المنصوب المتصل ، فالياء ، في (كلّمني) ، والتثنية ، والجمع جميعا (كلّمنا). الياء ، في (كلّمني) هو : الاسم. والنون عماد. وإنما جيء بها ، لأن ياء المتكلم يكسر ما قبلها ، فكرهوا الكسر في الفعل ، كما كرهوا الجر فيه. فالنون جيء به لهذا المعنى. وإذا كانوا قد جاؤوا بالنون ، في نحو (إنني) ليسلم آخر (إنّ) لمشابهته بالفعل ، فإلحاقه بالفعل أولى. وقد ألحقوها (قدني) و (عنّي) و (منّي) ، ليسلم سكون الأواخر ، كما أرادوا سلامة آخر الفعل ، هاهنا.
واعلم أنه [١١٣ / أ] مهما أمكنك الإتيان بالمتصل ، لم تأت بالمنفصل. تقول : قمت. ولا تقول : قام أنا ، لأن (أنا) منفصل يجري مجرى الأجنبي ، نحو : زيد وعمرو مع الفعل. وهذا يدل على أن الكلام ، إذا أمكن أن يقدر تقدير المفرد ، فهو أولى من أن يقدّر بعضها ، منفصلا من بعض. وكذلك : قمت ، لا تقول : قام أنت.
[فإن قلت] : فإنّ الفرزدق قد قال :
٢٨٧ ـ ... وإنما |
|
يدافع عن أحسابكم أنا ، أو مثلي (١) |
ولم لم يقل : أدافع؟ وهل هو كقوله :
٢٨٨ ـ إليك حتى بلغت إياكا (٢)
أو هو مستحسن؟
[الجواب] : أنّ قوله : إنما يدافع ، معناه : ما يدافع [عن](٣) أحسابكم إلا أنا. لأن (إنّ) للتحقيق ، و (ما) للنفي. فحمل الكلام على المعنى ، كما قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ)(٤) ... إلى أن قال : (وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢) (٥) ، فرفع ، حملا على المعنى ، لأن الكلام ، دل على
__________________
(١) البيت من الطويل ، ديوانه ٢ : ٣١٥ ، وصدره :
أنا الضامن الراعي عليهم ، وإنما |
|
... |
وهو في ديوانه ٢ : ٣١٥.
(٢) من الزجز ، لحميد الأرقط ، وقبله :
أتتك عنس تقطع الاراكا
وهو بهذه النسبة في : ابن يعيش ٣ : ١٠٣ ، والخزانة ٥ : ٢٨٠ ، ٢٨١.
وبلا نسبة في : الكتاب ٢ : ٣٦٢ ، والتحصيل ٣٧٢ ، والخصائص ١ : ٣٠٧ ، والإنصاف ٢ : ٦٩٩.
(٣) في الأصل : من.
(٤) ٥٦ : سورة الواقعة ١٧ ، ١٨.
(٥) ٥٦ : سورة الواقعة ٢٢.
أن لهم حورا عينا. فكأنه قال ، بعد قوله : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢١) (١) : ولهم حور عين. وأنشد لصحة هذا [قول الشاعر] :
٢٨٩ ـ بادت ، وغيّر آيهنّ من البلى |
|
إلا رواكد ، جمرهنّ هباء |
ومشجّج. أمّا سواء قذاله |
|
فبدا ، وغيّر ساره المعزاء (٢) |
فرفع (مشججا) ولم يعطفه على (رواكد) حملا على المعنى. أي : وهناك مشجج. فكذا ، هاهنا ، وهو كثير واسع.
[قال أبو الفتح] : وأما الأعلام : فما خص الواحد من جنسه ، فجعل علما له ، نحو : عبد الله ، وزيد ، وعمرو. وكذلك : الكنى ، نحو : أبي محمد ، وأبي علي. وكذلك : الألقاب ، نحو : أنف الناقة ، وعائذ الكلب.
[قلت] : الأعلام على ثلاثة أقسام : منقول ، ومشتق ، واسم جنس من جملة الأجناس.
فالمنقول ، نحو : حجر ، ومدر ، إذا سميت به ، نقلته من بابه ، إلى العلم.
والمشتق ، نحو : العباس ، والقاسم ، والهاشم. أصل هذا أن يكون صفة. تقول : مررت برجل عباس ، وبرجل قاسم ، وبرجل هاشم. فجعلته علما ، وبقّيت فيه رائحة الصفة. فيجوز أن يستعمل معه اللام ، وإن كان علما كما يستعمل معه حين كان وصفا. وكذلك : الفضل. كان في الأصل مصدرا ، فلما نقلته استجيز فيه اللام. لأنّ المصادر ، تجري مجرى الفاعلين.
وأما القسم الثالث ، فنحو : أبي الحارث ، وأسامة ، للأسد ، وثعالة ، وجيئل للضبع ، وابن قترة للحيات (٣) [١١٣ / ب] ، وابن آوى ، وابن عرس. فهذه الأسماء معارف ، بمنزلة الأعلام. يدل على أنها معارف ، قولهم : ابن آوى ، فلا تصرف (آوى) لأنه على وزن (أفعل) معرفة ، فلم ينصرف لهذا. ولو كانت نكرة ، لكان مصروفا. وتقول : هذا ابن آوى ، مقبلا ، فتنصبه على الحال ، ولا تجعله صفة لابن آوى ، لأن (ابن آوى) معرفة ، ومقبلا : نكرة. والمعرفة لا توصف بالنكرة. قال سيبويه (٤) : " وقد قال بعضهم : هذا ابن عرس مقبل ، بالرفع ، توهّم في ابن عرس التنكير ، كما يتوهم ، في الأعلام ، إذا قلت : مررت بعثمان ، وعثمان آخر".
[واعلم] : أنّ الأعلام ، والكنى ، والألقاب ، لها اختصاص ، ليس لسائر الأسماء في كلامهم.
وذلك لأن شيئا منها ، إذا وصف بابن مضاف إلى مثله ، يترك التنوين ، في الموصوف ، ولا يكتب الألف في ابن ، ويفتح الحرف الأخير منه ، في النداء ، إتباعا للنون. تقول : هذا زيد بن عمرو ، وزيد بن أبي محمد ، وزيد بن كرز ، وكرز بن زيد ، وكرز بن أبي محمد ، وكرز بن وبرة ، وأبو محمد بن زيد ، وأبو محمد بن أبي محمد ، أبو محمد بن كرز. ويا زيد بن عمرو ، ويا زيد بن كرز ،
__________________
(١) ٥٦ : سورة الواقعة ٢١.
(٢) البيتان من الكامل ، للشماخ ، في ملحق ديوانه ٤٢٧ ، ٤٢٨.
وبلا نسبة في : ١ : ١٧٣ ، والتحصيل ١٣٩ ، والخزانة ٥ : ١٤٧.
(٣) الكتاب ٢ : ٩٥.
(٤) الكتاب ٢ : ٩٧.
ويا كرز بن زيد ، ويا كرز بن أبي محمد. فهذه تسع مسائل تجري على نمط واحد ، جعل فيه الصفة ، والموصوف كالشيء الواحد ، وترك التنوين ، في اللفظ ، فلما ترك التنوين في اللفظ ، تركت الألف في الخط ، دليلا على هذا المعنى. وفتح الحرف في النداء. فهذه ثلاثة أحكام يجري كل واحد منهن ، مع صاحبيه. وإن ضممت الحرف في النداء ، وجب عليك كتب الألف ، إذا قلت : يا زيد ابن عمرو. وكذلك ، إذا قلت : يا زيد ابن أبي عمرو. وإن ضممت الدال ، كتبت الألف ، فكما أن الوجه ترك الألف ، فكذا فتح الدال ، هو الوجه في قوله : يا زيد ابن عمرو. [قال الشاعر] :
٢٩٠ ـ يا حكم بن المنذر بن الجارود |
|
سرادق العزّ عليك ممدود (١) |
بفتح الميم. [وقال الآخر] :
٢٩١ ـ يا عمر بن معمر ، لا منتظر (٢)
بفتح الراء. ومن قال : إن الوجه ضم الميم ، من (حكم) وضم الراء ، [١١٤ / أ] من (عمر) لم يعرف غرض سيبويه. فإنما هذه أحكام يجري بعضها مع بعض.
ومن قال : هذه هند ، فصرف ، لم ينون ، إذا قال : هذه هند بنت عمرو ، لكثرة الاستعمال.
وكذلك ، إذا قلت : هذا زيد بنيّ عمرو ، لم تحذف التنوين ، لأن الاستعمال لم يكثر بالتصغير. فإذا جعلت الابن خبرا ، دون الوصف ، أتيت بالتنوين ، كقولك : زيد ابن عمرو. وكذلك ، إذا أضفت الابن إلى غير العلم ، والكنية ، واللقب ، قلت : زيد ابن أخينا ، فتثبت التنوين ، والألف. وأما قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)(٣) ، فمن نوّن جعل (ابنا) خبرا. ومن لم ينون (٤) جعله وصفا ، وأضمر الخبر. أي : عزير ابن الله ، معبودهم. أو جعل (ابنا) خبرا ، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كما جاء : (أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ) (٢) (٥) ، فحذفت التنوين (٦) ، لالتقاء الساكنين. أو جعل
__________________
(١) من الرجز ، لرؤبة ، وقبله : من شاهد الأمصار من حيي مضر وهو في ديوانه ١٧٢ ، ولرجل من بني الحرماز ، في : الكتاب ٢ : ٢٠٣ ، والتحصيل ٣٠٩.
وبلا نسبة في : المقتضب ٤ : ٢٣٢ ، وابن يعيش ٢ : ٥.
(٢) من الرجز ، للعجاج ، في : ديوانه ٤٧ ، والكتاب ٢ : ٢٠٤ ، والتحصيل ٣١٠.
(٣) ٩ : سورة التوبة ٣٠.
(٤) من قرأ بالتنوين ، هم : عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، ويعقوب ، وسهل. ومن لم ينون : نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وخلف ، وروي عن حمزة. تفسير الطبري ١٠ : ١١٢ ، والحجة ـ لأبن خالويه ١٧٤ ، وحجة القراءات ٣١٧ ، والكشف ـ للقيسي ١ : ٥٠١ ، والتيسير ١١٨ ، وتفسير التبيان ٥ : ٢٠٤ ، ومجمع البيان ٥ : ٢٢ ، وتفسير الرازي ١٦ : ٣٦ ، والتبيان ـ للعكبري ٢ : ١٣ ، والبحر المحيط ٥ : ٣١ ، والنشر ٢ : ٢٧٩.
(٥) ١١٢ : سورة الإخلاص ١ ، ٢.
(٦) وهي قراءة : أبي عمرو ، وأبن سيرين ، والحسن ، ونصر بن عاصم ، وعبد الله بن أبي إسحاق ، وأبان بن عثمان ، وزيد بن علي ، وأبي السمال ، ويونس ، ومحبوب ، والأصمعي ، واللؤلؤي ، وعبيد ، وهارون. معاني القرآن ـ للفراء ٣ : ٣٠٠ ، وتفسير الطبري ٣٠ : ٢٢٢ ، والسبعة ٧٠١ ، وتفسير التبيان ١٠ : ٤٢٩ ،