شرح اللّمع في النحو

أبي الفتح عثمان بن جنّي

شرح اللّمع في النحو

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠

السري (١) ، إن الاسم : ما دل في نفسه على معنى مفرد (٢) غير مقترن بزمان محصل ، حد مكسور ، وذلك لأنه قال : إنما قلت : ما دل في نفسه ، احترازا عن الحرف ، لأن الحرف ، يدل على معنى في غيره. وقال : قولي على معنى مفرد غير مقترن بزمان ، احتراز عن الفعل ، لأن الفعل ، يدل على معنيين : حدث ، وزمان. والاسم ليس كذلك. هذا حد مكسور ، لأن أنواع المصادر كلها ، تدل على معان في الفاعل. فالضرب يدل على معنى في الضارب ، والأكل يدل على معنى في الآكل.

فإذا كان كذلك ، فقد بطل قوله : الاسم ما دل في نفسه ، لأن قولهم : ضرب ، يدل على معنى في الضارب. وقوله : على معنى مفرد ، باطل بقولهم : الاصطباح ، والاغتباق ، لأنه يدل على معنيين : زمان ، وشرب فيه. فهو اسم دل على معنيين. وإذا كان كذلك ، فهذا حد عام ، وقد بطل ، فما ظنك بغيره؟!.

وقد قال أبو علي (٣) : إن قول ابن السري : غير مقترن بزمان محصل ، يفسد بقولهم : يضرب ، وسائر المضارع ، لأن قولنا : يضرب ، فعل ، وهو غير مقترن بزمان محصل. ألا ترى : أنه يصلح للحال والاستقبال جميعا. وعلى موجب قوله ، ينبغي أن يكون (يضرب) : اسما وقد بطل ذلك ، فبطل حده.

وقد قال الجرجاني (٤) : الاسم : كل كلمة عريت من الدلالة على الزمان ، لا من طريق الوضع وكان [٢ / ب] له إعراب : لفظا ، وتقديرا (٥). قال : ومعنى قولي : عريت من الدلالة على الزمان ، احتراز من الفعل : لأن الفعل يدل على الزمان. وقال : وقولي : لا من طريق الوضع ، احتراز عن قولنا : اليوم والليلة ، فإنه وضعا للزمان ، وكان له إعراب ، لفظا ، وتقديرا : احتراز عن الحروف ، إذ لا إعراب لها ، لا لفظا ، ولا تقديرا. هذا كلامه ، وهو فاسد أيضا ، كما فسد قول ابن السري. ألا ترى : أن الاصطباح ، والاغتباق ، اسمان ، ولم يعريا من الزمان إلا من طريق الوضع. وقوله : وكان له إعراب : لفظا أو تقديرا ، باطل بقولهم : مررت برجل يضربك ، لأن قولك : يضربك ، معرب : لفظا ،

__________________

(١) هو أبو بكر محمد بن السري ، النحوي ، المعروف بابن السراج (ت ٣١٦ ه‍). أخذ النحو عن المبرد ، وأشهر تلامذته : الزجاجي ، والسيرافي ، وأبو علي الفارسي. إنباه الرواة ٣ : ١٥٤ ، ومعجم الأدباء ١٨ : ١٩٧ ، وينظر : مقدمة محقق الأصول ١ : ٦ ـ ١٢.

(٢) الأصول في النحو ١ : ٣٨.

(٣) هو الحسين بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان ، أبو علي الفارسي (ت ٣٧٧ ه‍). ويعرف بالفسوي ، نسبة إلى فسا ، مدينة قريبة من شيراز عاصمة فارس ، ولد بها. قرأ النحو على أبي إسحاق الزجاج ، وأشهر تلامذته ابن جني. ينظر : إنباه الرواة ١ : ٢٧٣ ، ومعجم الأدباء ٧ : ٢٣٣ ، والبلغة في تاريخ أئمة اللغة ٥٣ ، ومعجم المؤلفين ٣ : ٢٠٠.

(٤) هو : أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت ٤٧١ ه‍). إمام البلاغيين ، عالم في النحو واللغة ، له :

(دلائل الإعجاز) ، و (أسرار البلاغة) ، و (المقتصد في شرح الإيضاح) ، وغيرها. إنباه الرواة ١ : ٦١٢ ، وبغية الوعاة ٢ : ١٠٦ ، وينظر : مقدمة محقق المقتصد في شرح الإيضاح ١ : ١٧.

(٥) قول الجرجاني في المقتصد : ١ : ٤٦ ، ونصه : (كل لفظ عري من الدلالة على الزمان ، لا من طريق الوضع ، وكان له إعراب لفظا ، وتقديرا ، فهو اسم).

٦١

وتقديرا. أما في اللفظ فهو مرفوع ، وأما في التقدير ، فهو مجرور صفة لرجل.

فإن قال : هذا لا يصح ، وذلك لأن (يضرب) ، إعرابه ليس بأصلي ، وإني عنيت بقولي : وكان له إعراب ، أعني على جهة الأصالة ، فلا يلزمني ما إعرابه بالمشابهة.

قلت : ليس هذا في حدك ، ولو عنيت ذلك ، فأي شيء منعك عن ذكره ، على أنك إن أردته معنى ربما لا يسلم لك أن الإعراب في الفعل المضارع ، ليس بأصلي ، وربما يلزمك خصمك : أن موجب الإعراب في الأسماء ، موجود في الفعل المضارع. ألا ترى أن الاسم ، إنما أعرب ، للفصل بين الفاعلية ، والمفعولية لأنك إذا قلت : ضرب زيد عمرا ، لو لا الرفع في الفاعل ، والنصب في المفعول ، لم يتبين هذا المعنى. ومثل هذا المعنى موجود في الفعل المضارع. ألا ترى : أنك إذا قلت : ما بالله حاجة ، فيظلمك ، بالرفع والنصب ، لو لا الرفع ، والنصب ، لم يتبين المعنى ، لأن في النصب : نفي الظلم ، وفي الرفع : إثبات الظلم ، وإذا كان كذلك ، لزمك الحجة في وجوب إعراب هذا الفعل.

إذن فحده ما أسند إلى شيء ، ولم يسند إليه شيء. مثال ذلك : قام عبد الله ف (قام) فعل ، لأنه مسند إلى عبد الله. ولو أردت أن تقول : قعد قام ، فتسند : قعد ، إلى (قام) ، لم يجز ، لأن الفعل لا يسند إليه ، وإنما يسند إلى غيره. [٣ / أ] فهذا حد صحيح يخرج عليه باب (كان) وباب (عسى ، وليس) وما أشبهه ، ولا يصح حد من قال : الفعل ما دل على حدث وزمان.

لأنه يخرج منه باب : كان ، وليس ، إذ المقصود منه الزمان المجرد ، دون حدث.

وعلامات الفعل أيضا كثيرة ، ولكنها لا تخلو من أحد أربعة مواضع : إما أن يكون في أوله ، نحو : قد ، والسين ، وسوف. أو يكون في آخره ، كاتصال تاء الضمير به ، نحو : قمت ، وقمت.

وإما أن يكون في جملته ، كالتصريف نحو : قام يقوم ، وخرج يخرج. وإما أن يكون في معناه ، ككونه أمرا ، أو نهيا ، نحو : اخرج ، ولا تخرج.

[وأما الحرف] فما جاء لمعنى : ليس باسم ، ولا فعل (١) ، فهذا حده عند سيبويه (٢). وقال أبو علي : ما جاء لمعنى ليس غير (٣) والمعنى الذي أراده سيبويه ، بقوله : ليس باسم ولا فعل ، هو المعنى الذي تحت قول أبي علي : ليس غير ، إذ المعنى في القولين ، ما ذكرته في أول الفصل ، من أن الحرف يجيء لمعنى واحد ليس باسم ولا فعل ، أي ذلك المعنى ، لا يكون في الاسم ، ولا في الفعل ، إذ كل واحد من الفريقين ، يدل على معنيين. وتقدير قوله : ليس غير ، أي ليس غير ذلك المعنى ، فحذف المضاف إليه من (غير) وبناه على الضم ك (قبل ، وبعد). وقول القائل : الحرف : ما جاء لمعنى في غيره ، ليس بحد صحيح ، لأن جميع المصادر ، أسماء ليست بحروف ، وهي تدل

__________________

(١) الكتاب ١ : ١٢.

(٢) هو عمرو بن عثمان بن قنبر (ت ١٨٠ ه‍). أخذ النحو عن الخليل ، له (الكتاب) في النحو الذي عده اللغويون قرآن النحو. ينظر : مراتب النحويين ٦٥ ، وأخبار النحويين البصريين ٣٧ ، ٣٨ ، وطبقات النحويين واللغويين ٦٦ ـ ٧٤.

(٣) المقتصد في شرح الإيضاح ١ : ٨٤.

٦٢

على معان في الفاعلين ، ولأن قولك : كم ، اسم ، وهي تدل على معنى في غيرها ، ولأنهم قالوا : إنك ما وخيرا. و (ما) : حرف لا يدل على معنى ، لا في نفسه ، ولا في غيره. وقد ذكرنا ذلك في موضع آخر. وقول القائل : ما جاء لمعنى ، إن هذا احتراز عن حروف التهجي ، كأنه لا يصح ، لأن حروف التهجي ، لا تختص بكلام العرب ، فيكف يحترز عنها؟! ولأنها غير مركبة ، والكلام في المركبات.

٦٣

باب المعرب والمبني

[قال أبو الفتح] :

الكلام في الإعراب ، والبناء (١) على ضربين : معرب ومبني. فالمعرب على ضربين : أحدهما : الاسم المتمكن ، والآخر : الفعل [٣ / ب] المضارع. وما عداهما ، من سائر الكلام ، فمبني غير معرب.

[قلت] : الإعراب : مشتق من قولهم : أعرب الرجل إذا أبان عما في نفسه. وفي الحديث : (الثيب يعرب عنها لسانها) (٢) أي : يبين. فالإعراب : هو البيان ، وذلك ، لأنك إذا قلت : ضرب زيد عمرا ، لو لا الإعراب الذي هو رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، لم يتبين الفاعل من المفعول. وكذلك إذا قلت : ما أحسن زيدا ، بنصب (زيد) ، علمت أنه تعجب ، وإذا رفعت ، فقلت : ما أحسن زيد ، علمت أنه نفي للإحسان. وإذا قلت : ما أحسن زيد؟ بالجر ، علمت أنه استفهام. فالإعراب : هو هذا البيان. وقال قوم : الإعراب مشتق من قولهم : عربت معدته ، أي : فسدت (٣). وأعربتها ، أي : أزلت فسادها. فهمزة قولك : أعربت ، على هذا ، همزة سلب (٤) ، كما يقال : أشكيت الرجل ، أي : أزلت شكايته.

وعلى هذا حمل أبو علي قوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها)(٥) على أنه أسلب عنها خفاءها (٦) ف (أخفيها) مستقبل : أخفيته ، وأخفيت : أي ، سلبت عنها الخفاء ، وإذا سلب الخفاء ظهر. فمعنى : أخفيها : أظهرها بهذا الطريق. يعني : أزيل خفاءها لا أن : أخفي : بمعنى : خفي ، لأن (خفي) بمعنى : أظهر (٧). فالإعراب : سلب الفساد من الكلام ، لأن قولك : ضرب زيد عمرا ،

__________________

(١) كتاب الحدود في النحو للرماني ، المنشور ضمن رسائل في النحو واللغة ٣٨.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٢٩٦ ، والمعجم الكبير ـ للطبراني ١٧ : ١٠٢ ، واللفظ في كليهما : (الثيب تعرب عن نفسها ، والبكر رضاها صمتها).

(٣) بفتح السين وضمها ، والفتح أعلى. التاج (فسد) ٨ : ٤٩٦.

(٤) السلب : هو أحد معاني همزة أفعل الداخلة على الفعل الثلاثي ، لتفيد : معنى التعدية ، نحو : أجلسته ، والصيرورة ، نحو : أغد البعير ، أي : صار ذا غدة ، والسلب ، نحو : أشكيته ، أي : أزلت شكايته ، كما قال الشارح. الكتاب ٤ : ٥٥ ـ ٥٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ : ٨٣.

(٥) ٢٠ : سورة طه ١٥.

(٦) قال أبو علي : الغرض فيه : أزيل عنها خفاءها ، وهو ما يلف فيه القربة ، ونحوها من كساء ، وما يجري مجراه. قال الشاعر :

لقد علّم الايقاظ أخفية الكرى

تزجّجها من حالك ، فاكتحالها

أراد أن العيون تستر النوم ، أي : تسلبه. ينظر : مجمع البيان في تفسير القرآن ٧ : ٤.

(٧) ورد الفعل (خفي) في كلام العرب بمعنى : ظهر ، وعليه جاء قول امرئ القيس :

خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنما

خفاهنّ ودق من عشيّ مجلّب

يعني : أن عدو فرسه اخرج الفيران من أجحارها ، كما يخرجها المطر الشديد. وقال أيضا :

فإن تدفنوا الداء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

ديوانه ٥٥ ، ٧٧ ، واللسان (خفا) ١٤ : ٢٣٤.

٦٤

لو لا الرفع في الفاعل ، والنصب في المفعول ، فسد الكلام ، واختلط أحدهما بالآخر. وقال قوم : الإعراب زينة في الكلام. وحسن له. من قولهم : امرأة عروب ، إذا كانت متحببة إلى زوجها (١) ، لحسنها وجمالها ، قال الله تعالى : (عُرُباً أَتْراباً) (٣٧) (٢). فالإعراب هو تزيين الكلام. والكلام إذا زين ، فهم معناه ، وأدرك فحواه. وإذا ثبت هذا ، وتقرر ، فالأصل في الإعراب ، هو الأسماء دون الأفعال والحروف ، وذلك لأن الأسماء هي التي يتصور كونها فاعلة أو مفعولة ، أو مضافا إليها دون الأفعال والحروف. فيجب أن يكون مخصوصا بالأسماء ، إلا أنه لما ضارع هذه الأسماء نوع من الأفعال أعرب لمشابهته إياها [٤ / أ] على ما يأتيك بيانه.

[قال أبو الفتح] : فالاسم المتمكن : ما تغير آخره بتغير العامل في أوله ، ولم يشابه الحرف ، نحو قولك : هذا زيد ، ورأيت زيدا ، ومررت بزيد.

[قلت] : أراك (٣) في هذا الفصل ، أن المعرب له شرطان ، أحدهما : تغير الآخر ، والآخر : تغير العامل. فإذا تغير الآخر ، لا بالعامل لم يكن إعرابا. ألا ترى أنك تقول : ضربت ، وضربا ، وضربوا ، فتغير الباء. ولم يكن إعرابا إذا لم يكن بتغير العامل. وقوله : فالاسم المتمكن ما لم يشابه الحرف.

يعني أن الأصل في الأسماء الإعراب ، فما بني منها ، فلأنه يشابه الحرف. وحقيقة هذا الكلام : أن الأسماء المبنية منها ، ما بني لتضمنه معنى الحرف ، نحو : من ، إذا كان بمعنى الاستفهام ، أو بمعنى الشرط ، كقولك : من في الدار؟ فمعناه : أزيد في الدار ، أم عمرو؟ وإنما بني : من : لتضمنه معنى الهمزة. وكذلك إذا قلت : من يأتنا نكرمه ، إنما بنيت ، لتضمنها معنى (إن) ومنها ما بني لمشابهته الحرف ، وذلك نحو (من) إذا كانت موصولة ، كقولك : من في الدار أكرمته. ف (من) هاهنا ، مبنية لاحتياجها إلى الصلة ، والصلة بعض الموصول. ف (من) كأنه بعض الاسم : وبعض الاسم ، لا يستحق الإعراب ، فهو بمنزلة الحروف التي هي أداة. فكل ما لم يتضمن معنى الحروف ، ولا يشبهه من الأسماء. فهو معرب ، كما ذكر من قوله : (زيد ، وزيدا ، وزيد).

[قال أبو الفتح] : والفعل المضارع : ما كان في أوله إحدى الزوائد الأربع ... إلى آخر الفصل (٤).

[قلت] : إنما سمي هذا الفعل ، مضارعا ، لأنه يشبه الاسم ، من ثلاثة أوجه :

الأول : أنك إذا قلت : زيد يضرب ، يصلح : للحال والاستقبال ، فإذا أردت تخصيصه بالاستقبال ، قلت : سيضرب ، وسوف يضرب. كما أنك إذا قلت : جاءني رجل ، صلح (٥) (رجل) لكل من كان من جنسه. فإذا أردت تخصيصه ، قلت : هذا الرجل. فلم يتناول إلا مفردا معينا ،

__________________

(١) التاج (عرب) ٣ : ٣٣٨.

(٢) ٦٥ : سورة الواقعة ٣٧.

(٣) الهمزة في (أراك) للتعدية. وليست همزة المتكلم ، أي : أراك ابن جني ... اللمع في العربية ٥٦.

(٤) وتمامه ، وهي : الهمزة ، والنون ، والتاء ، والباء.

(٥) بفتح اللام ، وضمها ، والفتح أعلى. التاج (صلح) ٦ : ٥٤٨.

٦٥

ولأنك تقول : إن زيدا ليقوم ، فتدخل اللام على هذا الفعل. قال الله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)(١) وهذه اللام موضعها الأسماء لأنها لام الابتداء وإنما جاز : (إن ربك ليحكم) كما جاز (إن ربك لحاكم) ولو قيل : إن ربك لحكم ، لم يجز ، لأن الماضي لا يضارع الأسماء ، ولأنك تصف به إذا قلت : مررت برجل يكتب ، فهو في معنى : مررت برجل كاتب. وإذا ثبت هذا ، وتقرر ، فالمضارع معرب لمشابهته الأسماء على ما بيناه.

وعلامة المضارع ، دخول إحدى الزوائد الأربع عليه التي يجمعها قول القائل : أتين ، أو : تنيا ، في أوله ، نحو : أقوم ، ونقوم ، وتقوم ، ويقوم.

[فإن قلت] : ولم خصت هذه الحروف بالمضارع من جملة سائر الحروف؟. قلت : إن هذا أصل لا بد لك من معرفته ، إذ هو مبنى أكثر كلامهم ، وذلك ، لأن أكثر الحروف دورانا في الكلام ، حروف المد واللين ، وهي : الواو ، والياء ، والألف. ومنها الحركات الثلاث التي هي : الضمة ، والفتحة ، والكسرة. ألا ترى أنك إذا أشبعت الضمة تولدت منه (واو) ، وإذا أشبعت الفتحة ، تولدت منه (ألف) وإذا أشبعت الكسرة ، تولدت منه (ياء) قال الشاعر :

١ ـ وإنّني حيثما يسري الهوى ، بصري

من حيثما سلكوا أثني فأنظور (٢)

أي : أنظر : فأشبع الضمة ، فتولدت منه (واو).

وقال الشاعر :

٢ ـ وتضحك منّي شيخه عبشميّة

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا (٣)

أصله : كأن لم تر. إذ هو مجزوم ب (لم) فأشبع الفتحة ، فتولدت منه (ألف). وعلى هذا قيل في قراءة حمزة (٤) : (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٥) أي : لا تخش ، هو مثل : تخف ، فوقف فاشبع فتولدت منه (ألف) (٦). قال الشاعر :

__________________

(١) ١٦ : سورة النحل ١٢٤.

(٢) البيت من البسيط ، لإبراهيم بن هرمة. في : ديوانه ١١٨ ، وشرح المعلقات السبع ٢٧٤ (عجزه) وفيه : من حوثما ، وخزانة الأدب ١ : ١٢١ ، وفيها : حوثما يثني ، وحوثما سلكوا ، والتاج (نظر) ١٤ : ٢٥٣ ، وفيه : يثني الهوى.

(٣) البيت من الطويل ، لعبد يغوث بن وقاص الحارثي. في : المفضليات ١٥٨ ، ومغني اللبيب ٢ : ٢٧٧ ، والخزانة ٢ : ٢٠١.

(٤) هو حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات (ت ١٥٦ ه‍). أحد القراء السبعة. أخذ القراءة عن : سليمان الأعمش ، وحمران بن اعين ، وجعفر بن محمد الصادق ، وآخرين. روى القراءة عنه إبراهيم بن أدهم ، وإبراهيم بن إسحاق ، وآخرون. إليه صارت الإمامة في القراءة بعد عاصم ، والأعمش. ينظر : غاية النهاية ١ : ٢٦١ ـ ٢٦٣.

(٥) ٢٠ : سورة طه ٧٧.

وكذلك قرأ (لا تخف) : الأعمش ، وابن أبي ليلى. تفسير الطبري ١٦ : ١٤٤ ، والتيسير ـ للداني ١٥٢ ، وتفسير التبيان ٧ : ١٧٠ ، والبحر المحيط ٦ : ٢٦٤ ، وإتحاف الفضلاء ٣٠٦ ، وغيث النفع ٢١٧.

(٦) الحجة في القراءات السبع ـ لابن خالويه ٢٤٥.

٦٦

٣ ـ تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم ، تنقاد الصّياريف (١)

أشبع كسرة الراء من الصيارف ، فتولدت منه (ياء) وليس في (الدراهيم) حجة ، لكونه من الممكنات أن تكون جمع : درهام ، لأن أبا زيد (٢) ، حكى : درهم ، ودرهام. وإذا ثبت هذا علمت أن أكثر الحروف دورانا في الكلام ، حروف المد واللين ، وهم يستعملونها عند الاحتياج إلى استعمال الحروف فجاؤوا بالهمزة في أول المضارع من غير تغيير ، وبالياء في الغائب ، وبالواو في المخاطب [٥ / أ] إلا أنهم أبدلوا من الواو تاءا ، كما قالوا : (تقاة) في (وقاة) و (تجاه) في (وجاه) واحتاجوا إلى حرف رابع ، فجاؤوا بالنون ، لأنهم يفزعون اليها حزبتهم حازبة ، بعد استعمال حروف المد واللين ، فلهذا المعنى خصوا هذه الحروف.

وحرف الإعراب من كل معرب آخره ولم يكن أوله ، ولا ثانيه ، لأنا لو قلنا ، مثلا في عمرو : عمرو ، أو عمرو ، أو عمرو ، أو عمرو ، أو عمرو ، اشتبهت الأوزان ، ولا يعرف (فعل) من (فعل) ولا (فعل) من (فعل).

باب الإعراب والبناء

[قال أبو الفتح] :

الإعراب ضد البناء في المعنى ، ومثله في اللفظ. والفرق بينهما : زوال الإعراب بتغير العامل ، وانتقاله ، ولزوم البناء الحادث فيه من غير عامل ، وثباته.

قلت : قوله : الإعراب ضد البناء في المعنى ، ومثله في اللفظ ، يعني : أن الضمة في قولك : جاءني زيد ، كالضمة في قولك : حيث ، وقبل ، وبعد من جهة اللفظ ، فأما من جهة المعنى فهما مختلفان ، لأن في (زيد) من قولك : جاءني زيد ، تزول بزوال العامل ، إذا قلت : رأيت زيدا ، ومررت بزيد ، والضمة في (حيث) لا تزول ، وإن زال العامل.

[قال أبو الفتح] : والإعراب أربعة أضرب : رفع ، ونصب ، وجر ، وجزم. إلى آخر الفصل (٣). قد ذكرنا ، أن الأصل في الإعراب ، إنما هو الأسماء. وقد استوفت الحركات الثلاث. أعني : الرفع ، والنصب ، والجر. ولما كان الفعل المضارع مشابها للاسم من الأوجه التي ذكرنا ، استحق الإعراب ، فأعطي :

__________________

(١) البيت من البسيط ، للفرزدق ، ولم أجده في ديوانه.

وهو بهذه النسبة في الكتاب ١ : ٢٨ ، وفيه : نفي الدنانير ، واللسان (ص ر ف) ج : ١٩٠.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣١٥ (عجزه) ، والإنصاف في مسائل الخلاف ١ : ٢٧ ، وأوضح المسالك ٦٩٧ (قطعة منه) ، وابن عقيل ٢ : ١٠٢ ، والخزانة ١ : ٤٢٤ ، ٤٢٦.

(٢) هو : أبو زيد ، سعيد بن أوس ، الأنصاري (ت ٢١٤ ه‍ ، وقيل ٢١٥ ه‍). كان عالما بالنحو ، واللغة ، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء ، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلام ، وأبو حاتم السجستاني ، وأبو العيناء محمد بن القاسم ، وغيرهم.

ينظر : نزهة الألباء ١٠١ ـ ١٠٤ ، وإنباه الرواة ٢ : ٣٠ ـ ٣٥.

(٣) تمامه : فالرفع ، والنصب ، يشترك فيهما الاسم والفعل. والجر يختص بالأسماء ، ولا يدخل الأفعال. والجزم يختص بالأفعال ، ولا يدخل الأسماء. اللمع في العربية ٥٧.

٦٧

الرفع ، والنصب ، ومنع الجر ، لأنه فرع على الاسم ، فهو : أحط درجة من درجة الاسم ، فمنع الجر ، من أجل ذلك ، ولكن مضارعته للاسم قوية ، فلا بد من توفير قضية الشبه عليه ، فعوض الجزم من الجر ، ليكون إعرابه من ثلاث جهات ، كما في الأسماء. فهذه هي العلة المعتمدة في تخصيص الجر بالأسماء ، والجزم بالأفعال (١). وقال قوم : إنما لم يدخل الجر الفعل ، لأن الفعل ، لا تمكن الإضافة إليه ، لأنه لا يمتلك شيئا ، ولا يستحقه. والجر لا يكون إلا بالإضافة (٢). وهذه علة فاسدة ، لأن [٥ / ب] الجر ، إنما يكون بالإضافة في الأسماء. فلو كان المانع للفعل من الجر ، الإضافة أمكن أن يكون للجر عامل غير الإضافة ، فيعمل في الفعل. ألا ترى أن الرفع ، والنصب ، يدخلان الفعل ، بعوامل غير عوامل الأسماء ، لأن الرفع ، والنصب في الأسماء ، إنما يكون بالفاعلية ، والمفعولية. وفي الفعل بوقوعه موقع الاسم ، وب (إن وأخواته). فلما جاز دخول الرفع ، والنصب في الأفعال بغير عوامل الأسماء ، فلم لا يكون الجر داخلا عليه بغير الإضافة؟. وإذا كان كذلك لم يصح ادعاء هذا المدعي (٣). وقال الأخفش (٤) : إنما امتنع الجر من الأفعال ، لأن الأفعال أدلة على فاعليها (٥) ، فهي مع فاعليها جملة ، فلا يمكن قيامها مقام التنوين. وهذا مثل الأول فإن زعم زاعم فإنما نضيف أسماء الزمان إلى الأفعال ، نحو ما جاء من قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)(٦) وما أشبهه ، فلم لم يقل : إن الإضافة إلى الفعل صحيحة ، وأنه يجب أن يدخل عليه الجر على زعم هذا الزاعم.

[قلنا] ، لهذا الزاعم أن يقول : إن الإضافة وقعت إلى ما دل عليه الفعل من المصدر ، لأن قوله : ينفع ، يدل على النفع. فكأنه قال : يوم نفع الصادقين. وإذا كان كذلك امتنع نفس الفعل من الجر (٧).

[قال أبو الفتح] : والبناء أربعة أضرب : ضم ، وفتح ، وكسر ، ووقف. فالضم في الاسم ، نحو : قبل ، وبعد ، وحيث.

[قلت] : الأصل في البناء : الأفعال ، والحروف ، والأصل في الإعراب : الأسماء. فإذا جاء الاسم معربا ، فعلى أصله جاء ، وإذا جاء الاسم مبنيا ، فاطلب العلة في ذلك. وإذا جاءت الأفعال مبنية ، فعلى أصلها جاءت ، وإذا جاء الفعل معربا ، فاطلب العلة. وإذا ثبت هذا ، فالمبني ينبغي أن يكون بناؤه على السكون ، فإن جاء متحركا ، فاطلب العلة. والحركة فيه الكسر فإن جاء مضموما ، أو

__________________

(١) الكتاب ١ : ١٤ ، ونصه : (وليس في الأفعال المضارعة جر ، كما أنه ليس في الأسماء جزم ، لأن المجرور داخل في المضاف إليه ، معاقب للتنوين ، وليس ذلك في هذه الأفعال).

(٢) الإيضاح في علل النحو ١٠٨.

(٣) هو : أبو القاسم الزجاجي. في الإيضاح ١٠٨.

(٤) هو : الأخفش الأوسط ، سعيد بن مسعدة المجاشعي (ت ٢١٥ ه‍). أخذ النحو عن سيبويه ، وكان أحذق أصحابه. ينظر : مراتب النحويين ٦٨ ، وأخبار النحويين البصريين ٣٩.

(٥) الإيضاح في علل النحو ١٠٩.

(٦) ٤ : سورة المائدة ١١٩.

(٧) مجمع البيان ٣ : ٢٧٠ ، وفيه : قال أبو علي : (والإضافة إلى الفعل نفسه في الحقيقة ، لا إلى مصدره. ولو كانت الإضافة إلى المصدر ، لم يبن المضاف لبناء المضاف إليه).

٦٨

مفتوحا ، فاطلب العلة.

[قلت] : فالضم : قبل ، وبعد ، وحيث. [فإن قلت] : لم بني : حيث ، وقبل ، وبعد؟ ولم حرك؟ ولم اختير الضم؟

[الجواب] : أن هذه الكلمات الثلاث أسماء ، وحقها الإعراب ، لكنها [٦ / أ] أشبهت الحروف ، فوجب لها البناء. وذلك ، لأن (قبل) و (بعد) أصلها الإضافة. تقول : جئت من قبل كل شيء ، ومن بعده ، وقبل كل شيء وبعده. فإذا لم يكونا مضافين ، وكان ما أضيفا إليه منويا فيهما ، ولم يكن في اللفظ ، لم يكونا تامين ، إذ هما كأنهما بعضا الاسم ، وبعض الاسم ، لا يستحق الإعراب. ألا ترى أن (الزاي) من (زيد) لا يستحق الإعراب ، فلهذا وجب ل (قبل) و (بعد) البناء.

وإنما بنيا على الحركة ، دون السكون ، لأنهما لو بنيا على السكون التقى ساكنان ، وهم مما لا يجمعون بينهما ، فوجب البناء على الحركة. ولم تكن تلك الحركة الكسر ، ولا النصب ، لأن الجر والنصب يدخلانهما ، وهما معربان. تقول : جئت من قبلك ، وقبلك ، ومن بعدك ، وبعدك. ولم يكن الضم يدخله معربا ، فلما جاء إلى البناء ، بني على حركة لم تكن لهما حالة الإعراب.

وأما (حيث) فمبني أيضا ، وهو اسم ، وحقه الإعراب ، لكن البناء ، إنما جاء ، لأنه يشبه : (قبل) و (بعد) ، وذلك لأن (حيث) يجب أن يكون مضافا ، فلما لم يكن مضافا ، وكان مرادا فيه ، كان بعض الاسم ، فاستحق البناء. وما يقع بعد (حيث) من الجمل ، فإن (حيث) مضاف إليه ، ولكن الإضافة إلى الجمل كلا إضافة ، لأن هذه الإضافة لا تفيد تخصيصا ، ولا إيضاحا. ولا يجوز بتة : إضافة (حيث) إلى المفرد ، لأن الإضافة إلى المفرد ، توجب إعرابه ، و (حيث) مبني غير معرب. قال الله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)(١). فلم يعمل فيه (من) وقد جاء مضافا إلى المفرد ، وهو معرب ، وذلك في أشعار الهذليين ، قال الشاعر :

٤ ـ وإنّك لو أبصرت مصرع خالد

بحيث السّتار بين أظلم فالحزم (٢)

في من روى (الستار) بالجر.

وقول الآخر :

٥ ـ أما ترى حيث سهيل طالعا (٣)

ولم يبن (حيث) (٤) على السكون ، لالتقاء الساكنين ، وبني على الحركة والحركة الضم في أكثر اللغات ، تشبيها ب (قبل) و (بعد). وقد جاء فيه الفتح ، والكسر جميعا. فالفتح تشبيها ب (أين)

__________________

(١) ٧ : سورة الأعراف ٢٧.

(٢) البيت من الطويل ، لأبي خراش الهذلي ، وجاءت روايته في : ديوان الهذليين ٢ : ١٥٤ ، والخزانة ٥ : ٧٦ :

(بجنب الستار) ، أما الستار ، وأظلم ، والحزم فهي : أسماء جبال ، أو أمكنة في بلاد العرب.

(٣) من الرجز. لم يعرف قائله ، وبعده :

نجما يضيء كالشّهاب ساطعا.

وهو في الخزانة ٧ : ٣ ، ١١.

(٤) الكتاب ٣ : ٢٩٢ ، والمغني : ١ : ١٣١.

٦٩

والكسر تشبيها ب (جير). وقد قالوا (حوث) (١). [٦ / ب]

[قال أبو الفتح] : وفي الحرف ، في (منذ) في لغة من جرّ بها.

[قلت] إنما قال : في لغة من جر بها ، لأن (منذ) قد يكون حرفا ، وقد يكون اسما. فإذا كان حرفا ، فما بعده مجرور. كقولك : ما رأيته منذ يوم الجمعة. وإذا كان اسما ، فما بعده مرفوع. نحو قولك : ما رأيته منذ يومان. وله باب يذكر فيه. ف (منذ) حرف. إذا كانت جارة ، فلا سؤال عن بنائه ، ولكن السؤال عن بنائه على الحركة إذا كان اسما لالتقاء الساكنين. واختير الضم ، لأن الميم مضمومة ، وهي كأنها مجاورة للميم ، أعني (الذال). ولا اعتداد بالنون الساكنة ، لأنها غير حاجز حصين (٢). ألا ترى أنهم قالوا في : (منتن) (٣) : منتن ، ومنتن ، فمرة ، اتبع : الأول الآخر ، والأخرى :

الآخر الأول. وكل ذلك جائز ، لأن النون ليس بحاجز حصين. وأما إذا كان (منذ) اسما ، فإنما بني تشبيها ب (قبل ، وبعد) لأن الإضافة فيه ممتنعة وهو يتضمن أمد ذلك ، وغاية ذلك ، لأن معنى (منذ) إذا كان اسما : أمد. فكأنه قال : منذ ذلك يومان ، فحذف ذلك ، الذي هو المضاف إليه ، وبني كما بني (قبل ، وبعد) وبني على الحركة لالتقاء الساكنين ، واختير الضم لما ذكرناه.

[قال أبو الفتح] : ولا ضم في الفعل.

[قلت] : وهو كما قال ، لأن أمثلة الأفعال ثلاثة : ماض : وهو مبني على الفتح ، ومضارع : وهو معرب ، وأمر : وهو مبني على الوقف (٤). وليس هناك فعل آخر يبنى على الضم.

[قال أبو الفتح] : والفتح يكون في الاسم ، والفعل ، والحرف.

[قلت] : فالاسم : كيف ، وأين. والدليل على أن (أين) اسم ، دخول حرف الجر عليه ، نحو : من أين؟.

[فإن قلت] : لم بني (أين) على الحركة ، ولم يبن على السكون؟ ولم اختير الفتح؟

[فالجواب] : أن (أين) لما كان اسما متضمنا لمعنى همزة الاستفهام ، وجب له البناء : لأنا قد ذكرنا أن الاسم ، إذا تضمن معنى الحرف ، بني ولم يعرب. و (أين) هكذا. ألا ترى أنك ، إذا قلت أين زيد ، فكأنك قلت : أفي السوق ، أم في المسجد ، أم في الدار ، أم في غيرها من الأمكنة ، فانتظم السؤال ب (أين) السؤال عن هذه الأمكنة.

فلهذا وجب له البناء [٧ / أ] وبني على الحركة دون السكون لالتقاء الساكنين ، واختير الفتح لخفته. [فإن قلت] : فقد عرفنا أن البناء ، وجب له لما ذكرت ، فلم لم تحرك الياء ، دون النون؟ ولم لم يقل (أين) كما قيل (أين) وفي تحريك الياء أيضا زوال التقاء الساكنين ، كما هو في النون؟

__________________

(١) التاج (حيث) ٥ : ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٢) لو قال : لأنها حاجز غير حصين ، لكان أجود في التعبير.

(٣) على وزن (مفعل) ، لأنه من الفعل الرباعي (أنتن) ، ولكن حصل فيه ما حصل للاتباع ، كما أفاده الشارح ، الكتاب ٤ : ١٧٣.

(٤) الوقف : السكون. ومذهب الكوفيين أن فعل الأمر معرب مجزوم ، ومذهب البصريين أنه مبني على السكون.

ينظر : الإنصاف (مسألة ٧٢) ٢ : ٥٢٤.

٧٠

[فالجواب] : أن تحريك الياء ، يوجب قلبها ألفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها. وإذا انقلبت ألفا التقى ساكنان : الألف ، والنون ، فيجب تحريك النون ، فلما كان تحريك الياء يؤدي إلى هذا تجنبوه ، وحركوا النون ، حتى لا تلزمهم هذه الكلفة ..

[فإن قلت] : فلم فتحوا. (أين) وكسروا (جير) وكلاهما محرك لالتقاء الساكنين ، واقع بعد الياء؟!

[الجواب] : أن الفتح في (أين) أولى من الكسر ، لخفة الفتحة ، إذ هي أكثر استعمالا من (جير) وهم مما يغيرون الشيء عن أصله ، لكثرة الاستعمال.

ولا يحتاج هذا إلى إقامة دليل. وحسبك به قول الله تعالى : (بِسْمِ (١) اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). والقول في (كيف) ، كالقول في (أين) ألا ترى أن (كيف) يتضمن معنى همزة الاستفهام ، إذا قلت : كيف زيد؟ كأنك قلت : أصحيح أم سقيم؟ أصالح أم طالح؟ فلما كان متضمنا لذلك ، وجب له البناء ، وبني على الحركة لالتقاء الساكنين ، واختير الفتح لخفته.

[قال أبو الفتح] : والفعل نحو : قام وقعد. [قلت : فإن قلت] : لم بني الماضي؟ ولم حرك؟ ولم فتح دون أن يضم ، أو يكسر؟ قلت : إن الماضي مبني ، لأنه فعل والأصل في الأفعال البناء ، كما أن الأصل في الأسماء الإعراب والماضي فعل ، لم يحصل بينه وبين الأسماء ، ما حصل بين المضارع ، والأسماء فبقي على أصله من البناء. وكان حقه السكون ، والحركة أقوى من السكون إلا أنه حرك ، لأنه قوي بعض القوة ، من جهتين : إحداهما : أنه يقع موقع المضارع ، في نحو قولك : إن أكرمتني أكرمتك. ألا ترى أن الموضع موضع شرط. والشرط يصح في الاستقبال دون المضي. فقولك : إن أكرمتني أكرمتك ، في تقدير : إن تكرمني أكرمك ، فلما وقع موقعه ، وجب بناؤه على الحركة. كما قالوا : يا زيد ، فبنوه على الحركة دون السكون ، لأن [٧ / ب] البناء على السكون ، إنما يكون فيما لا أصل له في الإعراب ، ولا في وقوعه موقع المعرب. والجهة الثانية ، في وقوع الماضي موقع المعرب ، أنك تقول : مررت برجل ضربنا ، كما تقول ، يضربنا ، فلما وقع موقعه كان التحريك أولى به من الإسكان. واختير الفتح لخفته عندنا (٢). وزعم الفراء (٣) أن الفتح ، إنما جاء فيه ، لأنه يصير إلى حالة لا بد فيها من الفتح ، لوقوع الألف بعدها. فلما كان الفتح هاهنا ، لا بد منه ، بني على هذه الحركة. وقد حمل الفراء في هذا ، الإسناد إلى المفرد على الإسناد إلى المثنى والأصل لا يحمل على الفرع إلا بدليل قاطع.

[قال أبو الفتح] : وفي الحروف ، نحو : إنّ ، وثمّ.

__________________

(١) حذفوا همزة الوصل لكثرة الاستعمال. ينظر : إعراب ثلاثين سورة ٩ ، ١٠ ، والحلل في إصلاح الخلل ٣٣٨ ، في حذف ألف الوصل من (ابن) في الخط.

(٢) يعني : عند البصريين.

(٣) هو أبو زكريا يحيى بن زياد (ت ٢٠٧ ه‍). أخذ النحو ، واللغة عن : الكسائي ، ويونس بن حبيب ، وأشهر آثاره : (معاني القرآن). ينظر : مراتب النحويين ٨٦ ـ ٨٨ ، وطبقات النحويين واللغويين ١٣١ ـ ١٣٣ ، ونزهة الألباء ٨١ ـ ٨٤.

٧١

[قلت] : جاءت (إنّ) و (ثمّ) على الأصل من البناء ، لأن أصل الحروف ، البناء. وحرك لالتقاء الساكنين. ولم يقل : (أن) و (ثم) لأن الكسرة مع الكسرة. والضمة مع الكسرة ثقيلان ، والفتح أولى منهما.

[قال أبو الفتح] : والكسر يكون في الاسم ، نحو : هؤلاء ، وأمس.

[قلت] : إنما بني (أمس) لتضمنه معنى (لام التعريف) وذلك أن (أمس) معرفة ، وليس فيه حرف التعريف ، ولا هو مبهم ، ولا مضمر ، ولا إشارة ، ولا مضاف ، ولا علم ، فتضمن (اللام) فوجب له البناء ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وكسر لأن الكسر أصل في هذا الباب بعد السكون. [فإن قلت] :

فما تقول في (الأمس) إذا دخلت عليه لام التعريف أهو مبني أم معرب؟

[الجواب] : العرب في هذا على مذهبين : الإعراب ، والبناء. أما الإعراب ، فلأنه اسم ، وليس متضمنا لمعنى حرف. وأما البناء ، فإن هذا اللام الذي ظهر فيه ، لم يفد شيئا ، حين كان الاسم متضمنا له. ألا ترى أنه لا فرق بين قول القائل : أمس ، والأمس كما هو حاصل في قوله : رجل ، والرجل. ألا ترى أن (أمس) معرفة ، كما أن (الأمس) معرفة. فالألف ، واللام في الأمس على هذا ، كالألف ، واللام في : الذي والآن ، والوليد بن اليزيد (١) ، وبنات الأوبر ، في [٨ / أ] قول الشاعر :

٦ ـ ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (٢)

[فإن قلت] : ولم كان الكسر الأصل بعد السكون؟ [قلت] : إن الكسر أقل تصرفا من الضم والفتح. ألا ترى أن : باب ما لا ينصرف ، وباب الأفعال ، قد منعا من الكسر ، فكان هو الأولى بعد السكون ، لقلة تصرفه.

وأما (هؤلاء) فإن الكلام فيه أنه مبني. وقال أبو سعيد (٣) : إنما بني ، لأنه تضمن معنى الإشارة (٤) ، والإشارة معنى يستفاد من الحروف ، لأن الحروف هي الموضوعة لمثل هذه المعاني.

فهو اسم تضمن معنى الحرف ، فيجب له البناء. ولو قيل له : إن الذي زعمت ، إنما يتصور

__________________

(١) الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، ولد (٨٨ ه‍). ولي الخلافة الأموية (١٢٥ ه‍) ، وقتل سنة (١٢٦ ه‍).

ينظر : تاريخ الطبري ٦ : ٤٣٤ ، ٧ : ٢٠٩ ، والعقد الفريد ٤ : ٤٥٢.

(٢) البيت من الكامل. أنشده ابن منظور في اللسان (وب ر) ٥ : ٢٧١ ، وأسند روايته للأحمر ، والأصمعي ، ولم ينسبه إلى قائل معين. وهو بلا نسبة في : الإنصاف ١ : ٣١٩ ، والمغني ١ : ٥٢ ، وأوضح المسالك ٢٩٣ ، وابن عقيل ١ : ١٨١.

جنيتك أي : جنيت لك ، على حد قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) ٨٣ : سورة المطففين ٣ ، أي : كالوا لهم أو وزنوا لهم ، والأكمؤ ، والعساقل : ضربان من الكمأة. وبنات الأوبر : علم على ضرب آخر من الكمأة ، اللسان (وب ر) ٥ : ٢٧١.

(٣) هو : الحسن بن عبد الله ، السيرافي ، النحوي (ت ٣٦٨ ه‍). قرأ على ابن مجاهد (القرآن) ، وقرأ على أبي بكر بن دريد (اللغة ، والنحو) ، وقرأ على أبي بكر بن السراج ، وأبي بكر مبرمان (النحو). من أشهر تصانيفه : (شرح كتاب سيبويه). كان عالما فاضلا ، معدوم النظير في علم النحو خاصة. ينظر : طبقات النحويين واللغويين ١١٩ ، ونزهة الألباء ٣٢٧ ـ ٣٢٩ ، والبلغة ٦١.

(٤) الكتاب : ٧٩٢ ، وفيه : (هؤلاء بمنزلة هذا ، وأولئك بمنزلة ذاك).

٧٢

في (أولاء) فما تقول في (هؤلاء) وقد ظهرت (ها) فيه ، وهي للإشارة ، فيمكنه أن يقول مثل ما قيل في (أمس) إلا أن طريقة أبي علي في هذه الأشياء غير الذي قال. ألا ترى أنه قال ، وهو يرد على أبي إسحق (١) قوله في (ثمّ) في قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(٢) : إن (ثمّ) بني لتضمنه معنى الإشارة ، فقال أبو علي : ما من اسم إلا وهو إشارة إلى المسمى ، ودليل عليه ، فيجب أن يكون جميع الأسماء مبنية. وليس الأمر كذلك ، وإن قال إنه مبهم ، فإن قولنا : شيء مبهم ، وليس بمبني.

فالموجب ل (هؤلاء) ول (ثم) البناء ، وهذا وذاك عنده (٣) تضمنه معنى لام التعريف (٤). وقد ذكرنا هذا في مواضع أخر.

[قال أبو الفتح] : وفي الحرف ، في (جير).

[قلت] : بني (جير) ، لأنه حرف ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وكسر ، لأنه الأصل في التقاء الساكنين.

[قال أبو الفتح] : وفي لام الإضافة ، ويائها.

[قلت] : الأصل في الحروف المفردة كلها أن ينطق بها مفتوحة ، كواو العطف ، وفائه ، نحو : زيد ، وعمرو ، وزيد فعمرو ، إلا أن الباء جاءت بخلاف الأصل ، مكسورة ، حتى يكون وفقا لمعموله. ألا ترى أنه يعمل الجر في نحو قولك : مررت بزيد ، فلما كان كذلك أعملوه وبنوه على الكسر. فأما اللام في نحو قولك : المال لزيد ، فإن الأصل فيه الفتح ، لأنه حرف جاء لمعنى.

والدليل على ذلك قولك : المال لك وله. فالفتح فيه الأصل ، لأن المضمر يرد الأشياء [٨ / ب] إلى أصولها ، وإنما كسرت مع المظهر ، في نحو : لزيد ، ولعمرو ، حتى يفرق بين لام الابتداء ، ولام الجر ، في نحو قولك : إن هذا لزيد ، إذا أردت أنه ملكه ، و : إنّ هذا لزيد ، إذا أردت أنه هو. فلما كان هذا الفرق لا بد منه ، كانت الحركة فارقة بينهما. [فإن قلت] : إنك إذا قلت : إنّ هذا لزيد ، فإن عمل اللام الذي هو الجر يفصل بين المعنيين ، ألا ترى أنك إذا قلت : إنّ هذا لزيد ، تريد : أنه (هو) ، رفعت. وإذا أردت أنه ملكه ، جررت ، فالرفع ، والجر يفرقان بين المعنيين.

[قلت] : هذا المعنى يتصور فيما ظهر فيه الإعراب. فأما ما لا يظهر فيه الإعراب ، نحو قولك : إن هذا لموسى ، وإن هذا لموسى ، فإنه لا بد من فتح اللام ، وكسرها في الموضعين ، ليفرق

__________________

(١) هو إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج (ت ٣١١ ه‍ ، وقيل : ٣١٦). له : (معاني القرآن) ، و (الاشتقاق) ، و (خلق الإنسان) ، و (القوافي) ، و (النوادر). ينظر : طبقات النحويين ١١١ ، ١١٢ ، ونزهة الألباء ١٨٣ ، ١٨٥ ، والبلغة ٥ ، ٦.

(٢) ٢ : سورة البقرة ١١٥.

(٣) أي : عند ابن جني.

(٤) مجمع البيان ١ : ١٩١ ، وفيه : (إنما بني (ثمّ) في الأصل ، لأنه معرفة. وحكم الاسم المعرف أن يكون بحرف ، فبني لتضمنه معنى الحرف الذي يكون به التعريف ، والعهد. ألا ترى أن (ثمّ) لا تستعمل إلا في مكان معهود معروف لمخاطبك).

وفي المغني ١ : ١١٩ : (وهو ظرف لا يتصرف يشار به إلى المكان البعيد).

٧٣

بين المعنيين. فاللام : أصله الفتح ، كما هو في المضمر ، إلا في قولك : المال لي ، فإنه كسر أيضا مع الياء لمجاورة الياء. ولهم دليل آخر في فتح هذه اللام ، وهو قولهم : يا لزيد ، إذا أردت الاستغاثة.

بفتح اللام ، لأن المنادى واقع موقع المضمر ، إذا قلت : يا زيد. فكأنك قلت : يا أنت ، ولهذا بني ففتح اللام مع هذا المنادى ، لوقوعه موقع (أنت).

[فإن قلت] : هذا الكلام لا يجديكم. أعني : فتح اللام ، وكسرها ، للفرق بين المعنيين ، ألا ترى أنهم يقولون : إن هذا لك ، إذا أردت أنه ملكه ، وإن هذا لأنت ، إذا أردت أنه (هو) ، ففتح اللام في الموضعين ، ولا اكتراث بالمعنى الذي زعمتموه.

[قلت] : إن المعنى الذي ذكرناه معنى صواب. وفي قولهم : المال لك ، وإنك لأنت ، وإن هذا لأنت ، يتبين المعنى بشي آخر. وهو أن (أنت) لا يقع بعد اللام الجارة ، و (الكاف) لا يقع بعد لام الابتداء. فالمقصود : الفرق بين المعنيين. فمرة يتبين بفتح اللام ، وكسرها ، ومرة يتبين باختلاف المضمرين بعده. [فإن قلت] : فما بال الكاف الجارة ، في نحو : زيد كعمرو ، ولم لم يكن كالباء؟!.

[قلت] : الكاف فتحت لأنها تكون حرفا ، وتكون اسما. [٩ / أ] فكونها حرفا ، [قول الشاعر] :

٧ ـ ...

وصاليات ككما يؤثفين (١)

الكاف الأولى حرف ، لأنها دخلت على الثانية ، فجرته. والثانية اسم ، لأن الأولى دخلت عليه.

وكونها اسما ، [قول الشاعر] :

٨ ـ أتنتهون؟ ولن ينهى ذوي شطط

كالطّعن يهلك فيه : الزّيت ، والفتل (٢)

فالكاف ، هاهنا ، اسم لأنه فاعل (ينهى). والتقدير : لن ينهى مثل الطعن ذوي شطط.

وإن قال : إنه حرف ، لأنه كأنه قال : شيء كالطعن ، كما قال الله تعالى : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها)(٣) على تقدير : وجنة ، فإن هذا مفعول ، وكالطعن في موضع ما أسند إليه ، فلا يكون مثله.

[قال أبو الفتح] : ولا كسر في الفعل.

__________________

(١) البيت من السريع ، لخطام المجاشعي ، وصدره :

وغير ودّ جازل أو ودّين ...

وهو في : الكتاب ١ : ٣٢ ، ٤٠٨ ، ٤ : ٢٧٩ ، والتحصيل ٦٤ ، والخزانة ٢ : ٣١٣ ، ٣١٥ ، ٣١٨ ، ٥ : ١٥٧ ، ١٠ : ١٧٥ ، ١٨٥ ، ١٨٧ ، ١٨٨ ، ١٨٩ ، ١٩١.

صاليات ، أراد بها : الأثافي ، لأنها صليت بالنار حتى اسودت. والأثافي : جمع أثفية ، وهي : الأحجار التي ينصب عليها القدر.

(٢) البيت من البسيط ، للأعشى. في : ديوانه ٦٣ ، والخصائص ٢ : ٣٦٨ ، وابن يعيش ٨ : ٤٣. وفيه : هل تنتهون ، بدل : أتنتهون. ويذهب ، بدل : يهلك.

الشطط : الجور ، والغلو في الحكم ، والابتعاد عن الحق. قال تعالى (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) ٣٨ : سورة ص ٢٢ ، وقال (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) ١٨ : سورة الكهف ١٤.

(٣) ٧٦ : سورة الإنسان ١٤.

٧٤

[قلت] : وهو كما قال. [فإن قلت] : فقد قال الله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ)(١) و (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٢).

[قلت] : هذه الحركة لالتقاء الساكنين ، فهي في تقدير السكون. ألا ترى أن الواو المحذوفة من (قم) لالتقاء الساكنين ، لم تعد ، وإن حركت الميم ، لما كانت الميم في تقدير السكون. وكذلك الواو في (يكون) لم تعد ، لتحرك النون في (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا).

[قال أبو الفتح] : والوقف يكون في الاسم ، نحو : كم ، ومن. [فإن قلت] : لم بني (كم) وهو اسم؟

[قلت] : لأن (كم) قد تضمن معنى همزة الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت : كم مالك ، فكأنك قلت : أعشرون أم ثلاثون؟

فلما تضمنت معنى الهمزة ، وجب البناء.

[فإن قلت] : فما بالها في الخبر؟ لم بنيت ، ولم تتضمن معنى الهمزة؟

[قلت] : إنها في الخبر تدل على التكثير ، فحملت على (ربّ) التي هي نقيضتها ، لأن (رب) للتقليل. وهم يحملون النقيض على النقيض.

ألا ترى أنه قد جاء : رضي عليه ، كما جاء ، سخط عليه.

[قال الشاعر] :

٩ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمرو الله ، أعجبني رضاها (٣)

حملا على (سخط علي). [فإن قلت] : فما بال (من) بنيت ، وهو اسم؟!. قلت : لأن (من) إذا كانت استفهاما في نحو : من في الدار؟ فهي متضمنة لمعنى الهمزة. كأنك قلت : أزيد في الدار ، أم عمرو ، أم بكر؟ وإذا كان كذلك ، فهي بمنزلة (كم) وإذا كان (من) شرطا [٩ / ب] في نحو : من يأتنا نكرمه. فهي متضمنة لمعنى (إن). وإذا كانت موصولة ، فهي بعض الاسم ، فلا يستحق الإعراب ، نحو : جاءني من في الدار. وإذا كانت موصوفة في نحو : [قول الشاعر] :

١٠ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا (٤)

حبّ النبيّ محمّد إيّانا (٥)

__________________

(١) ٧٣ : سورة المزمل ٢.

(٢) ٩٨ : سورة البينة ١.

(٣) البيت من الوافر ، للقحيف العقيلي ، في : اللسان (رضي) ١٤ : ٣٢٣ ، ٣٣٤ ، والخزانة ١٠ : ١٣٢ ، ١٣٣.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣١١ ، والإنصاف ٢ : ٦٣٠ ، وابن عقيل ٢ : ٢٥ ، والأشموني ٣ : ١٩٨ (صدره).

(٤) حكى جامع العلوم : الجر فقط في البيت ، ويجوز الرفع كذلك ، فالجر كما ذهب إليه على اعتبار (من) نكرة ، و (غير) صفتها. والرفع على اعتبار (من) اسم موصول ، و (غير) صلتها حذف منها صدر الصلة ، والتقدير : على من هم غيرنا.

(٥) البيت من الكامل ، لكعب بن مالك ، في : ديوانه ٢٨٩.

وبلا نسبة في : الكتاب ٢ : ١٠٥ ، والجمل ١ / ٤٩٢ ، وابن يعيش ٤ : ١٢ ، والمغني ١ : ١٠٩ ، ٣٢٨ ، ٣٢٩ ، والخزانة ٦ : ١٢٠.

٧٥

و (من) موصوفة ، لاحتياجها إلى إيضاح بالوصف.

[قال أبو الفتح] : وفي الفعل ، نحو : خذ ، وكل ومر.

[قلت] : أمر المخاطب عندنا (١) موقوف (٢) ، لأنه فعل.

وأصل الفعل البناء. وزعم الكوفي (٣) : أنه مجزوم بلام مقدرة (٤) ، لأن القائل إذا قال : خذ ، فكأنه قال : لتأخذ.

ألا ترى أنه [قال] :

١١ ـ محمّد ، تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا (٥)

فاللام مضمرة ، وحرف المضارعة محذوفة. وقد جاء : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)(٦) فدل ذلك على أنّ (قم) بمعنى (لتقم) والا لم يكن لقوله ((فلتفرحوا)) وجه. [قلت] : إنّ الجازم لا يضمر ، كما أن الجار كذلك ، بل الجازم أضعف من الجار. وأما (محمد ، تفد نفسك) فمثله لا تثبت به القواعد ، والأصول لشذوذه ، وندوره.

وأما قوله (فلتفرحوا) فمروي عن النبي عليه السّلام ، وكان مبعوثا إلى الكافة ، فجمع بين علامة الغيبة ، وهو اللام ، وعلامة المخاطب ، وهو التاء. وهذا المعنى غير متصور في صفة غيره.

[قال أبو الفتح] : وفي الحرف ، نحو : هل ، وبل.

[قلت] : هما حرفان مبنيان. ف (هل) للاستفهام ، وبمعنى قد ، لقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى

__________________

(١) أي : عند النحويين البصريين.

(٢) أي : مبني.

(٣) أل في (الكوفي) : للجنس. أي : زعم النحويون الكوفيون ، إذ لا يقصد نحويا بعينه.

(٤) هذه مسألة خلافية بين الكوفيين ، والبصريين في فعل الأمر. أمعرب هو أم مبني؟

ذهب فيها الكوفيون إلى أن فعل الأمر معرب مجزوم ، وذهب فيها البصريون إلى أنه مبني على السكون.

ينظر : الإنصاف (مسألة ٧٢) ، ٢ : ٥٢٤.

(٥) البيت من الوافر ، وقد نسب إلى : أبي طالب عم النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وحسان ، والأعشى ، وليس في ديوان أي منهم. وهو من شواهد الكتاب ٣ : ٨ ، وابن يعيش ٧ : ٣٥ ، ٦٠ ، ٩ : ٢٤ ، والإنصاف ٢ : ٥٣٠ ، وشرح شذور الذهب ٢١١.

وجاء في روايته : من أمر ، بدل : من شيء. والتبال : سوء العاقبة ، وأصله : الوبال ، بالواو ، فأبدلت الواو تاءا.

(٦) ١٠ : سورة يونس ٥٨.

رويت قراءة (فلتفرحوا) بالتاء عن النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ، وقرأ بها : ابن عامر ، والكسائي ، وعثمان بن عفان ، وأبي ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين ، وأبو جعفر المدني ، والسلمي ، وقتادة ، وابن عباس ، ويعقوب ، ورويس ، والمطوعي ، وزيد بن ثابت ، والعباس بن الفضل ، والجحدري ، والأعمش ، وهلال بن يساف ، وعمرو بن قائد. معاني القرآن ـ للفراء ١ : ٤٦٩ ، وتفسير الطبري ١١ : ٨٨ ، والسبعة ٣٢٧ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٢ : ٦٥ ، والحجة ـ لابن خالويه ١٨٢ ، ومختصر شواذ القرآن ٥٧ ، وحجة القراءات ٣٣٣ ، ٣٣٤ ، والمحتسب ١ : ٣١٣ ، وتفسير التبيان ٥ : ٣٩٥ ، والكشاف ٢ : ٢٤٢ ، ومجمع البيان ٥ : ١١٦ ، وتفسير الرازي ١٧ : ١٢٤ ، وتفسير القرطبي ٨ : ٣٥٤ ، والبحر المحيط ٥ : ١٧٢ ، والنشر ٢ : ٢٨٥ ، وإتحاف الفضلاء ٢٥٢.

٧٦

الْإِنْسانِ)(١) أي : قد أتى. وفي كلا الوجهين حرف. و (بل) : حرف ، وهي لترك قصة إلى قصة.

ول (هل ، وبل) أحوال ستأتيك في بابهما ، إن شاء الله تعالى.

باب إعراب الاسم الواحد

إنما قيد قوله (إعراب الاسم) بقوله : الواحد ، احترازا من التثنية والجمع ، لأن إعراب التثنية ، والجمع بخلاف إعراب الاسم المفرد ، فلا بد من تقييده بذكر الواحد.

[قال أبو الفتح] : الاسم المعرب ، على ضربين : صحيح ، ومعتل. فالصحيح : ما لم يكن آخره ياءا قبلها كسرة ، ولا ألفا ، نحو : زيد ، وعمرو.

[فإن قلت] : إن حروف العلة ثلاثة : الواو ، والياء ، والألف ، فلم ذكر [١٠ / أ] الياء ، والألف ولم يذكر الواو؟

[قلت] : إن الواو لا يقع في آخر الاسم ، وقبلها ضمة : فإن أدى إلى ذلك قياس رفضوه ، وقلبوه ياءا. كما قالوا في جمع : دلو : أدل. وأصله : أدلو. على مثال : (أفعل) ، ك (كعب) و (أكعب) إلا أنه ، لو قيل : أدلو ، وقعت (واو) في آخر الاسم مضمومة ، وقبلها ضمة ، فاستثقلوا ذلك ، فأبدلوا من الضمة كسرة ، ومن الواو ياءا ، فصارت ، أدل (٢) ، كداع ، وقاض ، وما أشبه ذلك.

[قال أبو الفتح] : وهو على ضربين : منصرف ، وغير منصرف. فالمنصرف : ما لم يشابه الفعل من وجهين ، وتدخله الحركات الثلاث : الضمة ، والفتحة ، والكسرة ، والتنوين.

[قلت] : فقد عرفنا دخول الرفع ، والنصب ، والجر عليه لأي معنى هو ، وأنه للفصل بين الفاعلية ، والمفعولية ، والإضافة. فلم دخل التنوين عليه؟

[قلت] : إن التنوين دخل عليه ، ليعلمك أنّ هذا الاسم ، اسم خفيف متمكن أمكن عند العرب ، نحو : زيد ، وعمرو. [فإن قلت] : فإذا كان كذلك ، فلم قال : ودخل التنوين الكلام ، علامة ، للأخف عليهم ، والأمكن عندهم ، وهو الواحد النكرة ، ومثل : زيد ، وعمرو ، دخله التنوين ، وهو مفرد خفيف متمكن أمكن عندهم ، وليس بنكرة؟.

[قلت] : إن قوله : وهو الواحد النكرة يعني به : أن أخف الأسماء الذي دخل عليه التنوين ، اسم نكرة ، على ثلاثة أحرف. وبهذا المعنى قال سيبويه بعد قوله : اسم ، وفعل ، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ، ولا فعل. فالاسم ، نحو : رجل ، وفرس (٣) ، فخص هذين الاسمين ، لما ذكرناه ، من أنه أخف الأبنية ، وليس فيه من الفروع التسعة (٤) شيء. وإذا ثبت هذا ، فاعلم أن التنوين على خمسة أقسام :

__________________

(١) ٧٦ : سورة الإنسان ١.

(٢) شرح شافية ابن الحاجب ٢ : ٩٠.

(٣) الكتاب ١ : ١٢.

(٤) يقصد بالفروع التسعة ما يثقل الاسم فيمنعه من الصرف ، وهي : التعريف ، ووزن الفعل ، والتأنيث ، والوصف ، والعدل ، والعجمة ، والتركيب ، والجمع ، وزيادة الألف ، والنون.

٧٧

[الأول] : تنوين يفرق بين المنصرف ، وغير المنصرف كالتنوين في : زيد ، وعمرو ، ورجل ، وفرس.

[الثاني] : تنوين يفرق بين التعريف ، والتنكير ، وذلك قولهم : صه ، وصه. فإذا قلت : صه ، فإنك أمرته بالسكوت في هذه الساعة. وإذا [١٠ / ب] قلت : صه ، فإنك أمرته بالسكوت في ساعة من الساعات غير معينة.

[الثالث] : تنوين يكون عوضا عن المضاف إليه ، كالتنوين في قوله (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)(١) و (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ)(٢). [قال الشاعر] :

١٢ ـ نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعاقبة ، وأنت إذ صحيح (٣)

ألا ترى أن (إذ) مضاف إلى الجمل أبدا (٤). فلما حذف منه المضاف إليه في هذه الأشياء ، عوضوا التنوين من المضاف إليه.

[الرابع] : أن يكون التنوين بإزاء النون ، كالتنوين في : مسلمات ، هي بإزاء النون في : مسلمين.

والدليل على ذلك ، قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ)(٥) فنوّن. وهذا الاسم ، لا ينصرف.

للتأنيث ، والتعريف.

فثبت أن التنوين فيها ليس كالتنوين في : زيد ، وعمرو ، وإنما هي بإزاء النون في : مسلمين.

قال سيبويه (٦) : وعرفات : اسم ، معرفة ، كقولك : هذه عرفات مباركا فيها. فتنصب : مباركا فيها على الحال. والحال تكون من المعرفة دون النكرة.

[الخامس] : تنوين يدخل الأسماء ، والأفعال ، والحروف جميعا ، وذلك إذا أرادوا التغني ، والحداء. [قال الشاعر] :

١٣ ـ وقاتم الأعماق ، خاوي المخترقن (٧)

__________________

(١) ١١ : سورة هود ٦٦.

(٢) ٢٧ : سورة النمل ٨٩.

(٣) البيت من الوافر ، لأبي ذؤيب الهذلي ، في : ديوان الهذليين ١ : ٦٨ ، والكشاف ٣ : ٣٥٩ ، واللسان (اذذ) ٣ : ٤٧٦ ، و (شلل) ١١ : ٣٦٣ ، والخزانة ٦ : ٥٣٩ ، ٥٤٣ ، ٥٤٤.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣٤٦ ، وابن يعيش ٣ : ٢٩ ، والمغني ١ : ٨٦.

(٤) والتقدير : أنت إذ الأمر ذاك.

(٥) ٢ : سورة البقرة ١٩٨.

(٦) الكتاب ٣ : ٢٣٣. والعبارة فيه : ألا ترى إلى عرفات ، مصروفة في كتاب الله ـ عز وجل ـ وهي معرفة.

الدليل على ذلك قول العرب : هذه عرفات مباركا فيها.

(٧) من الرجز ، لرؤبة بن العجاج ، وبعده : مشتبه الأعلام لمّا ع الخفقن وهو في : ديوانه ١٠٤ ، والخزانة : ١ : ٧٨ ، ١٠ : ٢٥.

وبلا نسبة في : الكتاب ٤ : ٢١٠ ، وابن عقيل ١ : ٢٠ ، والعقد ٥ : ٥٠٦.

القاتم : ما علت لونه غبرة وحمرة. الأعماق : جمع عمق وهو : ما بعد من أطراف الصحراء. الخاوي : الخالي.

٧٨

[وقول الآخر](١) :

١٤ ـ يا أبتا علّك ، أو عساكن (٢)

[وقول جرير] :

١٥ ـ أقلّي اللّوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن (٣)

[وقال أيضا] :

١٦ ـ إذا كان الخيام بذي طلوح

سقيت الغيث ايّتها الخيامن (٤)

[قال أبو الفتح] : والمضاف كالمفرد ، فيما ذكرنا.

[قلت] : يعني في دخول الحركات الثلاث عليه ، لا في دخول التنوين ، وذلك ، لأن الاسم ، إذا أضيف إلى اسم ، فلا بد فيه من حذف التنوين ، لأن التنوين نهاية في الاسم ، ودال على تمامه ، والمضاف إليه داخل في الأول ، متصل به اتصال حرف من الاسم ، ودال على تمامه ، والمضاف إليه داخل في الأول ، متصل به اتصال حرف من حروفه ، فلا يجمع بين ما هو كحرف من حروفه ، وبين ما هو منه له ، دال على كماله. [فإن قلت] : كيف ذاك ، وقد جاء : (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٥) ونحو [قول الشاعر] :

١٧ ـ فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبي مزاده (٦)

[وقول الآخر] :

__________________

المخترق : اسم مكان مهب الريح. الأعلام : علامات يهتدى بها في الطريق ، واحدها : علم. الخفق : اضطراب السراب.

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) من الرجز ، لرؤبة ، وقبله : تقول : ابنتي : قد أنى إناكا وهو في : ديوانه ١٨١ ، والكتاب ٢ : ٣٧٥ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ١٣٠ ، والخزانة ٥ : ٣٦٢ ، ٣٦٦.

وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٩٦ ، والمغني ١ : ١٥١ ، والإنصاف ١ : ٢٢٢ ، والأشموني ١ : ٤٦٣.

أنى : فعل ماض بمعنى قرب ، و (الإنى) بكسر الهمزة ، والقصر : الوقت.

قال تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) ٣٣ : سورة الأحزاب ٥٣. أي : وقته ، ومعناه : تقول ابنتي قد حان وقت ارتحالك ، فسافر ، فلعلك تجد لنا رزقا.

(٣) البيت من الوافر. في : ديوانه ٦٤ ، والكتاب ٤ : ٢٠٥ ، ٢٠٨ ، والخزانة ١ : ٦٩ ، ٣٣٨ ، ٣ : ١٥١ ، ٧ : ٤٣٢.

وبلا نسبة في : الإنصاف ٢ : ٦٥٥ ، والمغني ١ : ٣٤٢.

(٤) البيت من الوافر. في : ديوانه ٥١٢ ، والكتاب ٤ : ٢٠٦.

وبلا نسبة في : ابن يعيش ٩ : ٧٨. وفي جميع رواياته : متى كان.

(٥) ٦ : سورة الأنعام ١٣٧. وهي قراءة ابن عامر وحده. السبعة ٢٧٠.

(٦) البيت من مجزوء الكامل ، بلا نسبة ، في : الكتاب ١ : ١٧٦ ، هامش (١) ، ومجالس ثعلب ١ : ١٢٥ ، والخصائص ٢ : ٤٠٦ ، والإنصاف ٢ : ٤٢٧ ، والأشموني ٣ : ٥٠٨ ، والخزانة ٤ : ٤١٥ ، ٤١٦ ، ٤١٨ ، ٤٢١ ، ٤٢٢ ، ٤٢٣.

٧٩

١٨ ـ ...

بين ذراعي وجبهة الأسد (١)

[وقول الشاعر] :

١٩ ـ لمّا رأت (ساتيدما) استعبرت

لله درّ اليوم من لامها (٢)

[قلت] : هذه الأشياء ، جاءت [١١ / أ] على نية التقديم ، والتأخير ، فلا ينتقض بها الأصل الذي أصلناه ، والقاعدة التي مهدناها.

[قال أبو الفتح] : وغير المنصرف ، وما شابه الفعل من وجهين ، وتدخله الضمة ، والفتحة ، ولا يدخله جر ، ولا تنوين ، ويكون في موضع الجر مفتوحا.

[قلت] : قوله : ما شابه الفعل من وجهين : أراد أن الأصل في الكلام : الأسماء ، والأفعال فروع عليها. ويتبين ذلك بشيئين : [الأول] : أن الفعل يصدر من الاسم ، فلا بد من أن يكون الاسم أصلا ، والفعل فرع عليه.

[الثاني] : أن يكون الكلام يجتمع من اسمين ، ولا فعل معهما ، كقولنا : الله ربنا ، ومحمد نبينا ، فثبت أن الاسم ، هو الأصل ، والفعل هو الفرع. وإذا كان كذلك ، فكل اسم اجتمع فيه فرعان ، كل واحد منهما فرع على أصل ، وجب منع التنوين منه أصلا ، والجر تبعا ، كما منعا للفعل.

والفروع التي ، إذا اجتمع منها فرعان في اسم ، منعا الصرف : تسعة : التعريف ، ووزن الفعل ، والتأنيث ، والوصف ، والعدل ، والعجمة ، والتركيب ، والجمع ، وزيادة الألف والنون ، فإذا قيل :

مررت بأحمد ، لم تنون ، ولم تجر ، لأن فيه فرعين : التعريف ، ووزن الفعل. فالتعريف فرع التنكير ، ووزن الفعل فرع وزن الاسم ، فامتنع من الصرف لذينك. كما أن الفعل لما كان فرعا منع الجر ، والتنوين ، ويكون في موضع الجر مفتوحا. والمبرد (٣) يزعم أنه في موضع الجر ، مبني. إذ لم يظهر فيه الإعراب. والاسم إذا لم يكن للعامل فيه تأثير كان مبنيا. وغيره يزعم أنه معرب ، وإن لم يظهر فيه الجر. أرأيت باب عصا ، ورحى ، هل يحكم بكونه مبنيا؟ فإذن الفتح قائم مقام الجر ، ونائب عنه.

__________________

(١) البيت من المنسرح ، نسب للفرزدق ، وليس في ديوانه ، وصدره :

يا من رأى عارضا اسرّ به

 ...

وهو بهذه النسبة في : الكتاب ١ : ١٨٠ ، والخزانة ٢ : ٣١٩.

وبلا نسبة في : الكتاب ١ : ١٨٠ ، والخصائص ٢ : ٤٠٧ ، والمغني ٢ : ٦٢١.

العارض : السحاب يعترض في الأفق. ذراعا الأسد ، وجبهته (منزلان من منازل القمر ينسب اليهما المطر).

(٢) البيت من السريع ، لعمرو بن قميئة البكري ، المعروف ب (عمرو الضائع) في : ديوانه ١٨٢ ، والكتاب ١ : ١٧٨ ، ١٩٤ ، ومجالس ثعلب ١ : ١٢٥ ، والأغاني ١٨ : ١٣٩ ـ ١٤٤ ، والإنصاف ٢ : ٤٣٢ ، وابن يعيش ٣ : ٢٠ ، والخزانة ٤ : ٤٠٥ ، ٤٠٦ ، ٤٠٧ ، ٤١١ ، ٤١٩.

ساتيدما : اسم جبل. استعبرت : بكت ، والضمير يعود على ابنته.

(٣) هو : أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي (ت ٢٨٠ ه‍). كبير نحويي البصرة في عصره. أخذ عن : الجرمي ، والمازني ، وأشهر آثاره : (المقتضب). طبقات النحويين ١٠١ ، وأخبار النحويين البصريين ٧٢ ، والبلغة ٢٥٠ ، وينظر : (المبرد ، سيرته ومؤلفاته ١٠ ـ ١٩).

٨٠