شرح اللّمع في النحو

أبي الفتح عثمان بن جنّي

شرح اللّمع في النحو

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور محمّد خليل مراد الحربي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4863-6
الصفحات: ٤٠٠

(عزيرا) لا ينصرف ، للتعريف والعجمة. فأما قوله تعالى : (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً)(١) ، فإن (ابنا) هنا ، ليس بوصف لعيسى [ولك](٢) ، كتب الألف ، لأنه قال : (اسمه المسيح عيسى) ، وهو ابن مريم. فهو خبر مبتدأ ، أو عطف بيان ، وليس بوصف. فهذا ما يختص بهذه الأعلام.

ومنها الحكاية : إذا قلت : رأيت زيدا ، فيقال : من زيدا؟ ومررت بزيد : من زيد؟ ورأيت أبا محمد : من أبا محمد؟ ولا يجوز هذا في غيره. وكذلك قال : قالوا : حيوة ، فأظهروا الواو ، ولم يقولوا : حية ، كما قالوا : ميّت ، وقالوا : ثهلل ، ولم يدغموا ، لأنه علم ، وللأعلام عندهم حرمة ، ليست لسائر الأسماء ، ولهذا جاء : علي بن أبو طالب ، فلم يغيروا ، لأنه كنية ، وللكنية ، والعلم ، واللقب أحوال ليست لغيرها.

[قال أبو الفتح] : وأما أسماء الإشارة ف (هذا) للحاضر. والتثنية في الرفع (هذان) وفي الجر ، والنصب (هذين) و (هاتين) و (تلك) و (تيك) ، و (تانك) و (تينك) والجمع (هؤلاء) ممدود ، ومقصور. و (ها) في جميع هذا : حرف ، معناه : التنبيه ، وإنها تلحق (ذا) وغيرها ، من نحو قوله : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ)(٣). و" ها السّلام عليكما". وإنما [١١٤ / ب] الخلاف في (ذا). فعندنا ، ذا : اسم للمبهم ، إشارة إلى الحاضر. وهو مبني ، ووزنه : فعل. وعينه ، ولامه ياءان. وأصله : ذيي. وعند الكوفيين : الألف زائدة ، والاسم الذال ، وحدها (٤) ، وهو خطأ ، لأن ذا ، لا يخلو : إما أن يكون اسما مظهرا ، أو مضمرا. ولا يجوز أن يكون مضمرا ، لأنه يوصف ، ويوصف به. تقول : مررت بهذا الرجل ، فتصفه بالرجل ، ومررت بزيد هذا ، فتصف زيدا ب (هذا) لأن معناه : مررت بزيد الحاضر. وإذا كان كذلك ، لم يجز أن يكون مضمرا ، لأن المضمر لا يوصف ، ولا يوصف به. فإذا لم يكن مضمرا كان مظهرا ، وإذا كان مظهرا ، لم يكن على حرف واحد ، إذ ليس في الأسماء المظهرة اسم على حرف واحد ، فثبت أن الألف في (ذا) من نفس الكلمة ، وأنه لام الفعل ، وأن عينه محذوفة ، لما أذكره لك في باب التحقير (٥) ، إن شاء الله.

والكاف : للخطاب ، أعني الكاف في (تلك) و (تيك) لا محل لها من الإعراب ، لأنها لو كانت اسما ، لكانت مجرورة بالإضافة ، كالكاف في (غلامك) و (دارك) ولو كانت كذلك ، لم يجز ثبات النون معها في نحو قوله تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ)(٦) ، كما لم تثبت في قولك : هذان غلاماك. فثبات النون يدل على أن الكاف ، لا محل لها من الإعراب. ولو كان للكاف موضع إعراب ، لكانت مجرورة. ولو كانت مجرورة ، لجاز : ذاك نفسك ، بالتأكيد. فلما لم يجز ، وأجمعوا

__________________

والكشف ـ للقيسي ٢ : ٣٩١ ، ومجمع البيان ١٠ : ٥٦٢ ، وتفسير الرازي ٣٢ : ١٧٩ ، وتفسير القرطبي ٢٠ : ٢٤٤ ، والبحر المحيط ٨ : ٥٢٨.

(١) ٣ : سورة آل عمران ٤٥.

(٢) الأصل غير واضح

(٣) ٣ : سورة آل عمران ١١٩.

(٤) ابن يعيش ٣ : ١٢٧.

(٥) أي : التصغير.

(٦) ٢٨ : سورة القصص ٣٢.

٢٨١

على أنه يقال : ذاك نفسه زيد ، فثبت أن الكاف حرف للخطاب ، وأن تأكيده غير جائز. وإذا قلت : ذانك ، فثنيت ، حذفت الألف الثابتة في المفرد ، ولم تقلبها ياءا ، كما قلبتها في (فتى) حين قلت : فتيان للفصل بين المتمكن ، وغير المتمكن. ومن العرب من يعوض عن هذه الألف المحذوفة ، فيقول : ذانّك ، فيشدد النون ، وبه قرأ جماعة (١) : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) ، فشددوا النون. وقد جاء عنهم (٢) : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) ، فعوّض الياء (٣).

وأبو علي (٤) يذهب إلى أنّ قولهم : ذان : صيغة مرتجلة ، وضعت للتثنية ، لأنها ، لو كانت تثنية ل (ذا) لكان على حد : زيد ، وعمرو. وأنت تقول : الزيدان [١١٥ / أ] ، ولم يقل : الذان ، فثبت أن (ذا) هذا لم يثن ، كما ثني زيد. وهكذا حكم : تانك ، وتينك ، وأولئك ، وأولاك.

وقد جاء (ذا) بمعنى الذي. [قال الشاعر] :

٢٩٢ ـ عدس. ما لعبّاد عليك إمارة

نجوت. وهذا ، تحملين ، طليق (٥)

أي : والذي تحملين طليق. وقال في نحو قوله : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ)(٦) و : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)(٧) و : (ما ذا يُنْفِقُونَ)(٨) : إنه يجوز أن يكون (ما) مبتدأ ، و (ذا) بمعنى الذي. والفعل الذي بعده صلة. والموصول مع الصلة : خبر (ما) قالوا : ويجوز أن يكون (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم مفرد (٩) منصوب بالفعل الواقع بعده. كأنه قال : أي شيء أنزل ربكم؟ وأي شيء يستعجل منه المجرمون؟.

وأبو إسحاق (١٠) جوز أن يكون : " ماذا يستعجل" ، على تقدير : أي شيء يستعجله؟.

فيكون (ما) مع (ذا) كالشيء الواحد ، مرفوعا بالابتداء ، على إضمار الهاء في (يستعجل) أي : يستعجله.

ورد عليه ، أبو علي (١١). فقال : هذا لا يجوز ، في حال السعة ، والاختيار ، إنما يكون في حال

__________________

(١) وهم أهل البصرة : (أبو عمرو ، ويعقوب ، وأصحابهما) ، وابن كثير ، ورويس. السبعة ٤٩٣ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ٥٢٥ ، ومجمع البيان ٧ : ٢٥١ ، وتفسير القرطبي ١٣ : ٢٨٥ ، والنشر ٢ : ٣٤١ ، وإتحاف الفضلاء ٣٤٢.

(٢) وهم : ابن كثير ، وابن مسعود ، وعيسى ، وأبو نوفل ، وابن هرمز ، وشبل. السبعة ٤٩٣ ، وتفسير القرطبي ١٣ : ٢٨٥ ، والبحر المحيط ٧ : ١١٨.

(٣) عن : التشديد.

(٤) المقتصد ١ : ١٩١.

(٥) البيت من الطويل ، ليزيد بن مفرغ ، الحميري ، في : شعره ١١٥ ، ومعاني القرآن ـ للفراء ٢ : ١٧٧ ، والإنصاف ٢ : ٧١٧ ، واللسان (عدس) ٦ : ١٣٣ ، والخزانة ٤ : ٣٣٣ ، ٦ : ٤١ ، ٤٢ ، ٤٨ ، ٣٨٨. وبلا نسبة في : ابن يعيش ٢ : ١٦ ، وهمع الهوامع ١ : ٢٩٠ ، وشفاء العليل ٢ : ٨٧٧.

(٦) ١٦ : سورة النحل ٢٤.

(٧) ١٠ : سورة يونس ٥٠.

(٨) ٢ : سورة البقرة ٢١٩.

(٩) المسائل المشكلة ٣٧١.

(١٠) تفسير القرطبي ٨ : ٣٥٠ ، والخزانة ٦ : ١٤٣.

(١١) الخزانة ٦ : ١٤٤ ، وفيه : ذهب أبو علي في : (المسائل المنثورة) إلى أن (ماذا) بمعنى : (شيء) نكرة.

٢٨٢

اضطرار ، وإقامة الوزن. وقد جاء مثل ما قال أبو إسحاق ، عن ابن عامر في قوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)(١) ، على تقدير : وكلّ وعده الله الحسنى. فرفع (كلا) بالابتداء ، وأضمر الهاء ، وليس في هذا اضطرار. وإنما هو كلام الله ، فلا يختار فيه إلا الأفصح. وتخطئة ابن عامر لا يجوز.

والبصريون يقدمون الأعلام ، في باب التعريف ، على المبهم. وقوم يخالفونهم (٢) ، فيقدمون المبهمة على الأعلام في التعريف. ويظهر هذا في قولهم ، إذا قال الرجل : هذه فاطمة طالق ، فأشار إلى واحدة ، اسمها غير فاطمة ، فإن الأكثرين قالوا : إن المشار إليها (طالق) دون (فاطمة).

ومن قال : إنّ العلم ، هو الغالب ، وهو المتقدم ، لزمه عكس ذلك.

[قال أبو الفتح] : وأما ما تعرف باللام ، فنحو : الرجل ، والغلام ، والطويل ، والقصير.

[قلت] : الألف ، واللام على أربعة أقسام :

[الأول] : أن يكون لتعريف الجنس ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) (٣).

ف (الإنسان) هاهنا ، اسم جنس ، بدليل قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(٤) ، فاستثنى منهم. ولو أراد مفردا بعينه ، ما جاء الاستثناء عنه. وقال (٥) : " أهلك الناس [١١٥ / ب] الدينار ، والدرهم". ومعلوم أن جميع الناس لا يهلكهم دينار ودرهم مفرد ، إنما أراد الجنس. أي : أهلكهم هذا الجنس. ومثله : نعم الرجل زيد ، يريدون به الجنس.

[الثاني] : أن يكون الألف ، واللام للعهد. وذلك إذا ذكرت منكورا لإنسان ، ثم أعدتّه عرّفته ، بالألف ، واللام. تقول : كان عندي رجل ، فقال : كيت ، وكيت. ثم قال : عاد الرجل إلي ، فقال : كيت ، وكيت ، أي : ذلك الرجل المعهود. قال الله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٦). أي : ذلك الرسول المعهود ، فيتعرف بالتكرار. فعلى هذا ، إذا قال : لفلان عليّ مئة ، لفلان عليّ المئة ، كان مالا واحدا. وتكون المئة الثانية ، هي الأولى ، لما ذكرنا. وكذلك ، لو قال : صل ركعتين : صل الركعتين ، لزمه ركعتان. ولو قال : صل ركعتين : صل ركعتين ، لزمه أربع ركعات. ولو قال : له علي مئة ، له علي مئة لزمه مئتان ، لأن الثانية لمّا لم تتعرف باللام ، كانت غير الأولى. ولهذا قالوا في قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) (٧) : اليسر الثاني غير الأول ، لمّا لم يذكر باللام. وصدقه الخبر : " لن يغلب عسر يسرين" (٨). ولو قال : له علي المئة : علي مئة ، يلزمه مئتان ، لأن الثانية منكورة ، بخلاف الأولى. ولو قال : له علي المئة : له علي المئة ،

__________________

(١) ٤ : سورة النساء ٩٥. ينظر : ص ١٨٤ ، هامش (٤).

(٢) هم : الكوفيون. ينظر : الإنصاف (مسألة ١٠١) ٢ : ٧٠٧.

(٣) ١٠٣ : سورة العصر ٢.

(٤) ١٠٣ : سورة العصر ٣.

(٥) أي : بعض العرب. شواهد التوضيح ١٧٦.

(٦) ٧٣ : سورة المزمل ١٥ ، ١٦.

(٧) ٩٤ : سورة الشرح ٥ ، ٦.

(٨) الموطأ ٣٥٨ ، والمقاصد الحسنة ٣٣٨ ، ٣٣٩ ، وينظر : تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ١٢٨.

٢٨٣

يلزمه مال واحد ، لأنه تكرار. وكذا في الصلاة : صل الركعتين : صل ركعتين. وكذا : صل الركعتين : صل الركعتين. فهذه أربع مسائل تدور على هذه النكتة. وكذا : صم يوما : صم اليوم. وصم اليوم : صم اليوم. وصم يوما : صم يوما. وصم اليوم : صم يوما. فاعرفه.

[الثالث] : أن تكون الألف ، واللام ، بمعنى (الذي). وذلك في نحو قوله تعالى : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها)(١) ، أي : التي ظلم أهلها. وقال : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)(٢) ، أي : الذين قست قلوبهم. ويأتي هذا في باب الموصول ، إن شاء الله.

[الرابع] : أن يكون الألف ، واللام ، زيادة في الكلام. وذلك مثل قولهم [١١٦ / أ] : اليزيد بن الوليد ، وبنات الأوبر ، والخمسة العشر. اللام في هذه زائدة ، لأن (يزيد) علم. وكذلك (بنات الأوبر) لضرب من الكمأة ، وكذلك (الخمسة العشر) يتعرف بالأولى. والثانية زيادة. والألف ، واللام في (الذي) زائدة ، لأن تعريفها بالصلة ، كما أن تعريف (من) و (ما) كذلك. وقد جاء طرح الألف ، واللام منه. روي : (صراط ذين أنعمت عليهم) (٣) ، بحذف اللام ، لما كانت زيادة ، وأظنه عن الحسن (٤).

واختلف سيبويه ، والخليل في هذه الألف ، واللام. فقال سيبويه : اللام للتعريف ، وحدها ، والألف وصل. وقال الخليل : الألف ، واللام جميعا ، للتعريف. وكان يقول : إن (أل) للتعريف ، كما أن (قد) للتوقع ، و (هل) للاستفهام (٥). واحتج في ذلك ، بقول الشاعر [وهو عبيد بن الأبرص] :

٢٩٣ ـ يا خليليّ ، اربعا ، واستخبرا آل

منزل الدارس من أهل الحلال

مثل سحق البرد ، عفّى بعده ال

قطر مغناه ، وتأويب الشمال (٦)

في قصيدة ، عدتها بضعة عشر بيتا. فقطع الألف ، واللام عن الاسم ، كما قطع النابغة (قد) [في قوله] :

٢٩٤ ـ أفد الترحّل ، غير أنّ ركابنا

لمّا تزل ، برحالنا ، وكأن قد (٧)

أي : وكأن قد زالت. فعلم أن (أل) ك (قد). والألف بإزاء القاف من (قد) والهاء من (هل). وحيث حذف ، حذف لكثرة الاستعمال ، لا لأنها وصل. ألا ترى : أنها لو كانت وصلا ،

__________________

(١) ٤ : سورة النساء ٧٥.

(٢) ٣٩ : سورة الزمر ٢٢.

(٣) ١ : سورة الفاتحة ٧.

(٤) ليست عن الحسن ، بل لأعرابي. مختصر في شواذ القرآن ١.

(٥) الكتاب ٣ : ٣٢٤ ، ٣٢٥.

(٦) البيتان من الرمل ، في : ديوانه ١١٥ ، والخصائص ٢ : ٢٥٥ ، وابن يعيش ٩ : ١٧ ، والخزانة ٧ : ١٩٨ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨.

(٧) البيت من الكامل ، في : ديوانه ٣٠ ، والمغني ١٧١ ، والخزانة ٧ : ١٩٧ ، ١٩٨ ، ٩ : ٨ ، ١٠ : ٣٩٤ ، ٤٠٧ ، ١١ : ٢٦٠. وبلا نسبة في : الخصائص ٢ : ٣٦١ ، ٣ : ١٣١ ، وابن يعيش ٨ : ١١٠ ، ١٤٨ ، ٩ : ١٨ ، ٥٢ ، وابن عقيل ١ : ١٩ ، والأشموني ١ : ١٣.

٢٨٤

لحذفت في قوله : (الذكرين) (١) و (آللهُ خَيْرٌ)(٢) ، كما حذفت في قوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)(٣) و (أَصْطَفَى الْبَناتِ)(٤) و (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ)(٥). ألا ترى : أن همزة الاستفهام ، لما دخلت على الفعل ، وهو : (افترى) و (اصطفى البنات) و (استغفرت) ، حذفت التي للوصل معها ، ولم تحذف في (الذّكرين) ، بل أبدلت ، مدة. فعلم أنه ليس مثله في (افترى).

[أقول] : اللام ، وحدها ، للتعريف ، دون الهمزة. والدليل على ذلك : اتصاله بالاسم ، كأحد حروفه. ألا ترى : أنك تقول : مررت بالرجل ، فتعمل الباء في الرجل. ولو كانت الألف ، واللام ، بمنزلة (هل) لم تعمل الباء في الاسم ، وكان فاصلا [١١٦ / ب] بين الجار ، والمجرور ، ولأن اللام ، في التعريف ، نقيض التنوين في التنكير. والتنوين : حرف واحد. فكذا ما بإزائه. تقول : مررت برجل ، فيكون نكرة. ومررت بالرجل ، فيكون معرفة.

[فإن قلت] : فأنت تقول : مررت بهذا ، فتعمل الباء في (ذا) ولا يكون (ها) فاصلة ، وإن كانت على حرفين. فما أنكرت أن يكون المعرّف الألف ، واللام ، ولا يكون فاصلة؟

[الجواب] : أنّ : (ها) للتوكيد ، بمنزلة (ما) في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ)(٦) و (فَبِما نَقْضِهِمْ)(٧). ولا يجدّد معنى وجودها ، لم يكن قبل وجودها ، سوى التأكيد. فلم يكن الفصل بها فصلا ، لمّا لم تغير المعنى. وليس كذلك اللام. لأن معنى قولك : مررت بالرجل ، غير معناه ، إذا قلت : مررت برجل.

ولهذا المعنى جاز للشاعر أن يجمع في القافية بين رجل ، والرجل ، وفرس ، والفرس. ولا يكون ذلك عيبا ، لاختلاف معناهما. فلما امتزج بالكلمة امتزاج أحد حروفه ، جاز أن يعمل ما قبلها ، فيما بعدها ، وإن غيّر المعنى. فلو لم يكن على حرف ، كان فاصلا غير ممتزج ، كانفصال : هل ، وبل ، وقد.

وأما إثباتها في : (الذّكرين) ، فلا يدل على أنها ألف قطع ، وإنما صح ذلك ، لأنهم لو حذفوها ، فقالوا : الرجل فعل كذا ، و : (الذكرين حرم) ، اشتبه الخبر بالاستخبار. فقالوا : الرجل فعل كذا ، في الاستخبار ، والرجل فعل كذا ، في الخبر ، لينفصل أحدهما من الآخر. وتقول : إني لأمر بالرجل مثلك ، فيكون الألف ، واللام في تقدير الطرح ، ليصح وصفه بمثلك. لأن (مثلك) نكرة ، أو لأن (الرجل) هاهنا ، ليس بمقصود قصده ، ولا يراد واحد بعينه ، وإن دخلته اللام ، كما قالوا في قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(٨) : إن الذين ليس بمقصود قصدهم ، فجاز وصفه بالمنكور.

والقسم الخامس من المعارف : ما أضيف إلى أحد هذه الأربعة ، فاكتسى منه التعريف ، كما يكتسي منه سائر الأحكام على ما قدمنا.

__________________

(١) ٦ : سورة الأنعام ١٤٣.

(٢) ٢٧ : سورة النمل ٥٩.

(٣) ٣٤ : سورة سبأ ٨.

(٤) ٣٧ : سورة الصافات ١٥٣.

(٥) ٦٣ : سورة المنافقون ٦.

(٦) سورة آل عمران ١٥٩.

(٧) ٤ : سورة النساء ١٥٥.

(٨) ١ : سورة الفاتحة ٧.

٢٨٥

باب النداء

[قال أبو الفتح] : الأسماء المناداة ، على ثلاثة أضرب : مفرد ، ومضاف ، ومشابه للمضاف ، من أجل طوله. فالمفرد على ضربين : معرفة ، ونكرة. والمعرفة أيضا ، على ضربين : أحدهما : ما كان [١١٧ / أ] معرفة قبل النداء ، ثم نودي ، فبقي على تعريفه ، نحو : يا زيد ، ويا عمرو. والثاني : ما كان نكرة ، ثم نودي ، فحدث فيه التعريف بحرف الإشارة ، والقصد (١) ، نحو : يا رجل. وكلاهما مبني على الضم ، كما ترى.

[قلت] : قوله : " فبقي على تعريفه" ، نازعه جماعة ، وقالوا : إذا ثبت أن (يا) حرف تعريف ، ودخل على الاسم ، وجب أن يزيل التعريف الذي كان له ، ويحدث فيه تعريفا آخر ، وهو موجب له. ألا ترى : أن قولك زيد ، معرفة. فإذا ثنيته سلبته التعريف ، وعرفته باللام ، فقلت : الزيدان.

ف (يا) في التعريف ، كاللام.

فكما لا يجتمع تعريف العلمية ، مع التعريف باللام ، فكذا لا يجتمع مع (يا). والدليل على أن (يا) حرف تعريف ، امتناعهم من الجمع بينها وبين اللام ، في نحو : يا الرجل ، ويا الغلام.

وأما بناء هذا النوع من المفرد ، فإن الأصل في المنادى أن يكون منصوبا ، لأنه في الحقيقة مفعول به ، بدليل أن (يا) قائم مقام الفعل ، والفعل مختزل. إذا قلت : يا زيد ، فكأنك قلت : أناديه ، وأدعوه. ألا ترى : أنهم يميلون (يا) والحروف لا تمال ، لكن هذه أميلت ، لقيامها مقام الفعل (٢) ، ولأنك تعدّيه باللام الجارة ، إذا قلت : يا لزيد. وهذا شأن الأفعال. فلما كان الأصل فيه النصب ، وجب نصب المفرد المعرفة ، كما وجب نصب المفرد المنكور ، علمت أنه مفعول ، لكنه بني لوقوعه موقع المبني. ألا ترى : أنك إذا قلت : يا زيد ، كأنك قلت : يا أنت. و (أنت) مبني ، فكذا ما وقع موقعه ، وجب أن يكون مبنيا ، وكان حقه السكون ، لكنه حرك ، لأنه قبل النداء ، كان معربا.

فلما صار إلى حالة البناء ، حرّك ، واختير الضم ، دون الأخريين ، لأن النصب حظه ، إذا كان نكرة ، والكسر ، إذا كان مضافا إلى ياء المتكلم ، نحو : (يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ)(٣) ، فحرك بالضم ، إعلاما أن هذه الحالة ، غير الحالتين الأخريين. ونظير هذا (قبل) و (بعد) إنما حرّك بالضم ، لأن النصب ، والجر كانا يدخلانه ، وهما معربان ، نحو : من قبلك ، وقبلك فضمّا لما ذكرنا.

[قال أبو الفتح] : وأما النكرة ، فمنصوبة ب (يا) لأنه ناب عن الفعل. ألا ترى : أن معناه : أدعو رجلا ، أنادي رجلا ، وقد ذكرنا [١١٧ / ب] هذا. وجاء معربا منصوبا لأنك ، إذا قلت : يا رجلا ، لم ترد واحدا بعينه. فلا يصح وقوعه موقع (أنت) إنما ناديت واحدا من هذه الأمة. فمن أجابك ، كان المراد ، كقول الأعمى : يا مارا ، خذ بيدي. ثم ذكر أنّ المنادى المبني على الضم ، إذا وصف جاز في وصفه ، وجهان : النصب ، حملا على الموضع. والرفع ، حملا على اللفظ ، كقولك :

__________________

(١) شرح اللمع ـ لابن برهان ١ : ٢٧٩.

(٢) الكتاب ١ : ٢٩١ ، وشرح اللمع ـ لابن برهان ١ : ٢٧٢.

(٣) ٤٠ : سورة غافر ٤١.

٢٨٦

يا زيد الظريف ، ويا زيد الظريف ، منصوب ، حملا على الموضع. وإذا رفعت ، فهو على لفظ زيد.

وهكذا حكم المعطوف ، إذا كان في المعطوف الألف ، واللام. كقولك : يا زيد ، والحارث. يا زيد ، والحارث. فأما إذا لم يكن فيه اللام ، فليس إلا الضم. نحو : يا زيد وعمرو. والفرق بينه وبين الحارث ، أنّ الحارث لا يليه (يا) ويلي عمرا (يا). فجاز في (الحارث) لمّا لم تله (يا) النصب ، حملا على الموضع. ويجوز ، أيضا ، الرفع ، وإن لم يجز أن تليه (يا) لأنه تابع. وقد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع ، على ما قدمنا.

فإن كانت الصفة ، مضافة ، لم يجز فيها إلا النصب ، إذا كانت الإضافة ، حقيقية ، نحو قولك : يا زيد أخانا ... فأما إذا لم تكن حقيقية ، نحو قولك : يا زيد الحسن الوجه ، فهو بمنزلة المفرد ، فيه : الرفع ، والنصب. وهكذا حكم عطف البيان ، فيه : الرفع ، والنصب. فأما البدل ، فنحو قولك : يا أخانا ، زيد. لا يجوز في (زيد) إلا الضم ، إذا جعلته بدلا. فإن جعلته عطف بيان ، جاز فيه النصب ، لأن البدل قد ذكرنا أنه في تقدير تكرير العامل.

وأما قوله : " والمشابه للمضاف ، من أجل طوله ، فمنصوب ، نحو : يا ضاربا زيدا ، ويا حسنا وجهه". وهو ، كما قال ، ووجه المشابهة بين هذا ، وبين قولهم : يا عبد الله ، هو أنّ المضاف عامل في المضاف إليه. كما أنّ هذا ، عامل في الأخير ، ولأن قولنا : يا ضاربا ، مبهم. فإذا قلت : يا ضاربا زيدا ، فقد تخصص ، وتبين. كما أنّ (عبدا) مبهم. فإذا أضفته إلى لفظة الله ، فقد تخصص ، وتبين.

[قال أبو الفتح] : والحروف التي ينبه بها المدعو ، خمسة : يا ، وأيا ، وهيا ، وأي ، والهمزة. فأم الباب (يا) لأنه المتداول المعروف. ثم (أيا) لأنه (يا) أيضا. ودخلت عليه الهمزة. ثم (هيا) [١١٨ / أ] ، والهاء : بدل من الهمزة. كما قالوا : إياك ، وهيّاك ، وأرقت ، وهرقت. ثم (أي) لأنه كأنه محذوف من (أيا). ثم الهمزة ، لأنه كأنه محذوف من (أي).

وأمّا حذف حرف النداء ، في نحو قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا)(١) ، فإنه لكثرة الاستعمال ، ولأن الكلام دليل عليه (٢). وحذف حرف النداء ، إنما يجوز في اسم ، لا يكون وصفا ل (أيّ). فأما ما يكون وصفا ل (أيّ) فإن حذف حرف النداء منه ، لا يجوز ، لئلا يشتبه بالخبر ، لو قلت : هذا ، تريد : يا هذا. أو قلت : الرجل ، تريد : يا أيها الرجل ، لم يجز ، لأنه في الخبر هكذا ، ولأن قولهم : يا هذا ، أصله : يا أيّهذا. فحذفت (أيّ) فبقي : يا هذا. فلو قلنا : هذا أقبل ، لكنا قد أجحفنا إذ حذفنا (يا) بعد حذف (أيّ). وهذا لا يجوز.

وكان الجرميّ يرى : أنّ : هذا ، لم يكن جائزا أن ينادى ، لأنه يكون جمعا بين حرفي إشارة.

والجمع بينهما ، إذ هما لمعنى واحد ، ممتنع. كما امتنع : يا الرجل. ولكن جاز : يا هذا ، لأنه قد جاء : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (٤٣) (٣). فأشير ب (ها) إلى غير حاضر. فلما كانت تشار ب (ها) هكذا ، خالفت (يا) فجاز الجمع بينهما.

__________________

(١) ١٢ : سورة يوسف ٢٩.

(٢) شرح اللمع ـ لابن برهان ١ : ٢٧٤.

(٣) ٥٥ : سورة الرحمن ٤٣.

٢٨٧

[فإن قلت] : فقد زعمتم أنه لا يجوز : رجل أقبل ، لأنه يجوز : يا أيها الرجل.

[قال الشاعر] :

٢٩٥ ـ جاري : لا تستنكري عذيري

حلسي ، وإشفاقي على بعيري (١)

يريد : يا جارية. فحذف (يا). وقد يقال : يا أيتها الجارية.

[الجواب] : قد زعم (٢) أن هذا لا يقاس عليه. قال : ومثله في المثل : " افتد مخنوق ، وأطرق كرا" (٣) ، أي : يا مخنوق ، ويا كروان.

واعلم أنّ كل اسم فيه الألف ، واللام ، لا يدخل عليه حرف النداء. لأن حرف النداء للتعريف ، والإشارة ، والألف ، واللام للتعريف ، أيضا ، فلا يجتمعان. فإذا أرادوا ذلك ، جاؤوا ب (أيّ). وجعل الاسم الذي فيه الألف ، واللام وصفا ل (أيّ). كقولك : يا أيّها الرجل. ف (يا) حرف النداء. وأيّ : منادى مبني على الضم. وها : للتنبيه. والرجل : صفة لأيّ.

وقد اختلف الناس في هذه اللفظة ، من أوجه :

الأول : أنّ مذهب سيبويه (٤) ، أنّ (أيا) هاهنا ، موصوف. ومذهب أبي الحسن ، [١١٨ / ب] أنّ (أيّا) هاهنا ، موصول. وأنّ الرجل : خبر مبتدأ مضمر ، على تقدير : يا أيها هو الرجل. والجملة : صلة ل (أيّ). وهذا خطأ ، لأن هذا المضمر قط لم يظهر ، هاهنا ، فكيف يكون صلة ، ل (أيّ)؟.

والثاني : أنّ (ها) في (أيّها) هاهنا ، للتنبيه ، عندنا. وزعم أبو إسحاق : أنّ (ها) عوض عن المضاف إليه. لأن حكم أيّ : أن يكون مضافا ، أبدا. فلما خلع عن الإضافة ، عوّض (٥) عن المضاف إليه (ها). وهذا الذي ذكره ، باطل ، أيضا. لأنا رأيناهم حذفوا المضاف إليه ، من أسماء ، ومع ذلك ، لم يعوضوا عنه شيئا. قال الله تعالى : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها)(٦). والأصل : إنّا كلنا فيها ، فحذف المضاف إليه ، من (كلّ) ولم يعوّض شيء منه. وقال ، أيضا : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(٧). والتقدير : من قبل كل شي ، ومن بعد كل شيء. فحذف المضاف إليه ، ولم يعوّض منه. فما بال أبي إسحاق ، يزعم هذا ، وليس له نظير!؟.

__________________

(١) من الرجز ، للعجاج ، في : ديوانه ٢٦ ، والكتاب ٢ : ٢٣١ ، ٢٤١ (صدره) ، وابن يعيش ٢ : ١٦ ، واللسان (شقر) ٤ : ٤٢٢ ، والخزانة ٢ : ١٢٥.

(٢) أي : سيبويه. ينظر : الكتاب ٢ : ٢٣١.

(٣) هذان مثلان ، ف (افتد مخنوق) : يضرب في تخليص النفس من الشدة ، والأذى. التاج (خنق) ٢٥ : ٢٦٩ ، و (أطرق كرا) : يضرب للذليل يتعزز ، فيقال له : اغضض طرفك ، فهاهنا من أعز منك ، والمثل من الرجز ، وهو بتمامه :

أطرق كرا ، أطرق كرا

إن النعام في القرى

(٤) الكتاب ٢ : ١٩٣

(٥) المغني ١ : ٣٤٩.

(٦) ٤٠ : سورة غافر ٤٨.

(٧) ٣٠ : سورة الروم ٤.

٢٨٨

والثالث : أنهم اختلفوا في وصف (أيّ) من قولك : يا أيها الرجل. فلم يجز سيبويه ، في الرجل إلا الرفع (١). وأجاز أبو عثمان (٢) : الرفع ، والنصب. فقال ، في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)(٣) : لو قرأ واحد : يا أيها الناس ، جائز. قال : لأن الناس صفة منادى مفرد ، فجاز فيه : الرفع ، والنصب ، قياسا على قولهم : يا زيد الظريف. وهذا القياس ، لا يصح ، لأنه لو وقف في : يا زيد الظريف ، على قولهم : يا زيد ، ولم يذكر الظريف ، جاز. ولو اقتصر على قولهم : يا أيها ، دون الرجل ، لم يجز ، لأنه لا يتم ، ولا يفيد. فاتضح الفرق بينهما.

[فإن قلت] : فأنتم تقولون : لا يجمع بين (يا) وبين الألف ، واللام ، فلا يقال : يا الرجل. فما بالهم ، قالوا في الدعاء : يا الله. فجمعوا بين الألف ، واللام ، وبين (يا)؟.

[الجواب] : أنّ العرب ، قد خصت لفظة (الله) بخمسة أشياء :

[الأول] : أن يجوز الجمع فيه بين (يا) وبين الألف ، واللام ، بخلاف سائر الأسماء.

[الثاني] : أنهم قطعوا همزة الوصل ، مع الله ، فقالوا : يا الله. ولم يقولوا : يا الله ، كما قالوا : يا ابن فلان ، ولم يقولوا : يا إبن فلان.

[الثالث] : أنهم فخّموا لام لفظة الله ، إذا كان [١١٩ / أ] قبلها فتحة ، أو ضمة. نحو قولهم : إن الله غفور رحيم. والضمة ، (مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ)(٤). فإن كان هناك كسرة ، رققوا ، نحو ، بسم الله ، وبالله ، وعن الله.

[الرابع] : أنهم قالوا في القسم : تا الله ، فأدخلوا التاء ، على هذه اللفظة ، خاصة ، دون غيرها.

فلم يقولوا : تالرحمن ، ولا تالرحيم.

[الخامس] : أنهم قالوا في القسم : ها الله ، ولم يقولوا ذلك في سائر الأسماء.

فهذه اللفظة مخصوصة ، بهذه الخمسة ، على أنهم قالوا في قولهم : يا الله ، إنما جاز الجمع بين (يا) وبين الألف ، واللام ، لأن الألف ، واللام ، هاهنا : بدل من همزة محذوفة ، وهي فاء الفعل. لأن الأصل فيه (إله) لأنه في الأصل : أله ، يأله ، إلها. ف (إله) مصدر سمي به المفعول. كما أنّ (الكتاب) اسم للمكتوب ، و (الخلق) اسم للمخلوق ، و (الضّرب) اسم للمضروب. ف (إله) اسم للمألوه.

فحذفت الهمزة ، وعوّضت منه الألف ، واللام ، فأدغمت لام التعريف في اللام التي في (لاه) فقالوا : الله.

قالوا : وجاز ذلك ، أعني : يا الله ، لأنّ (يا) إنما امتنعت من قولهم : يا الرجل ، لأنها للإشارة.

كما أن الألف ، واللام للإشارة ، والتعريف ، فلم يجتمعا هناك ، بخلاف : يا الله. ونظير ذلك ، قولهم : الناس. وأصله : أناس ، لأنه من الإنس ، فحذفت الهمزة التي هي فاء الفعل ، فصارت (ناسا) ثم أدخلت لام التعريف ، بدلا من الهمزة ، فقيل : الناس.

__________________

(١) الكتاب ٢ : ١٩٥.

(٢) أي : المازني. ينظر : مجمع البيان ١ : ٥٩.

(٣) ٢ : سورة البقرة ٢١.

(٤) ٦ : سورة الأنعام ١٢٤.

٢٨٩

وأما قولهم : اللهمّ ، اغفر لي ، في الدعاء ، أيضا ، فقد اختلفوا فيه. فذهب الخليل ، وسيبويه (١) إلى أن الميم المشددة اللاحقة ، في آخر الاسم ، بدل من (يا) التي تكون للنداء. فلا فرق بين أن يقال : يا الله ، وبين أن يقال : اللهمّ.

وقال الفراء (٢) : اللهم : أصله : الله أمّنا بخير. من : أمّه ، يؤمّه ، إذا قصده. فحذفوا الهمزة ، فصار : اللهم. قال : والدليل على بطلان قولهم : جواز : يا اللهمّ ، في الشعر. ولو كانت الميم ، بدلا من (يا) لم يجتمعا. لأنه لا يجوز الجمع بين العوض ، والمعوّض عنه.

وهذا الذي ذكره ، باطل ، لأنا نقول : اللهم ، أهلك الكافرين. ولو كان التقدير : الله أمّنا بخير ، لوجب [١١٩ / ب] أن يقال : وأهلك الكافرين. ولأنه يقال : اللهم ، اغفر لي. ولا يقال : اللهم ، واغفر لي. ولأنه لو كان أصله : الله أمّنا بخير ، فحذفت الهمزة ، لجاز استعماله ، أيضا. ألا ترى : أن شيئا ، وضوءا ، يقال فيه : شي ، وضو ، بحذف الهمزة ، ومع ذلك ، لا يمنع حذف الهمزة استعمالها ، أيضا. فكذا ، هاهنا.

فأما قولهم في الشعر : يا اللهم ، فإن الشاعر ، إذا اضطر ، جمع بين العوض ، والمعوض منه. ألا ترى : أنّ (فما) أصله : فوه ، بدليل قولهم : أفواه. فحذفوا الهاء ، وعوضوا من الواو ميما ، فقالوا : فم.

ثم يجمعون بين الواو ، والميم في ضرورة الشعر.

[قال الشاعر] :

٢٩٦ ـ هما نفثا في فيّ ، من فمويهما

على الّنابح العاوي ، أشدّ رجام (٣)

فجمع بين الواو ، والميم.

أما نداء المضاف ، نحو قولهم : يا غلامي ، فالوجه فيه فتح الياء. فيقال : يا غلامي. لأن هذه الياء بإزاء الكاف للمخاطب. فكما أنّ كاف المخاطب ، في نحو : غلامك ، مفتوح ، فكذا ينبغي أن يكون مفتوحا. ثم يجوز : يا غلامي ، بإسكان الياء ، لأن الياء أخت الألف. والألف لا تكون إلا ساكنة ، وكذا الياء. وعلى هاتين اللغتين : إنّي أعلم ، وإنّي أعلم. والوجه الثالث : أن تقول يا غلام ، فتحذف الياء ، وتجتزئ بالكسرة ، لأن الكسرة : أصل الياء ، والياء متولدة منها على ما بينا. وعلى هذا : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ)(٤) و (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ)(٥) والوجه الرابع : أن تقول : يا غلاما ، تبدل من الكسرة فتحة ، فتنقلب الياء الفا ، كما قالوا في (ناصية) ناصاة. وفي (جارية) جاراة ، وفي (رضي) رضا.

[قال الشاعر] :

__________________

(١) الكتاب ٢ : ١٩٦.

(٢) معاني القرآن ١ : ٣٠٣ ، ومجمع البيان ٢ : ٤٢٧.

(٣) سبق ذكره رقم (٣٠).

(٤) ٤٠ : سورة غافر ٤١.

(٥) ٤٣ : سورة الزخرف ٦٨.

٢٩٠

٢٩٧ ـ ... ونص

طاد نفوسا بنت على الكرم (١)

أي : بنيت. وفيه لغة خامسة ، حكاها سيبويه (٢) : يا غلام ، بضم الميم ، وهي شاذة. وأظن ابن أبي عبلة (٣) قرأ : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ)(٤) بضم الميم (٥).

باب الترخيم

الترخيم : ضرب من التصرف. وإنما يلحق الاسم الذي تصرّف فيه النداء ، فبناه على الضم.

وينبغي أن يبقى بعد الترخيم ، ثلاثة أحرف ، كي لا يختل الاسم. وبعد ، فإنّ الترخيم على ضربين :

الأول : أن يكون آخر الكلمة ، محذوفا ، وهو منويّ ، كأنه ثابت.

والضرب الثاني : أن يكون آخر [١٢٠ / أ] الكلمة محذوفا ، وهو مطّرح ، كأنه قط لم يكن.

الأول : قولهم ، في (حارث) يا حار ، فتحذف الثاء. وتبقى كسرة الراء ، لأن الثاء كأنه ثابت.

والثاني : قولهم : يا حار ، فتحذف الثاء وتجعل (حار) اسما علما قائما بنفسه ، غير محذوف منه شيء.

وكأنه سمي : (حار) مجردا عن الثاء. ومثله (مال) في : يا مالك. قال أبو علي : جاء عن علي (٦) ، رضي الله عنه : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)(٧).

[فإن قلت] : فإنكم زعمتم ، أنه ينبغي أن لا يرخّم اسم على ثلاثة أحرف ، كي لا يختل الاسم ، فما بالهم ، قالوا في (ثبة) : يا ثب؟.

[قلت] : إنّ التأنيث في الاسم ، كأنه اسم آخر مضموم إلى الأول. فمنزلتها من (ثبة) منزلة (بكّ) من (بعل) في قولهم : (بعل بكّ). ولهذا المعنى يفتح ما قبلها ، كما يفتح ، هناك. فذا ساقط.

وتقول في ترخيم (منصور) يا منص. هذا في اللفظ يستوي على لغة من قال : يا حار ، أو يا حار. إلا أنه في التقدير ، مختلف. فمن قال : يا منص ، على لغة من قال : يا حار ، كانت الضمة هي الضمة في منصور ، قبل ؛ لأنه ينوي بقية الاسم. ومن قال : يا حار كانت الضمة في قولهم : يا منص ، مجتلبة في النداء ، لأنه لا ينوي بقية الاسم.

وقد أريناك أشياء تستوي في اللفظ ، وتختلف في التقدير. من ذلك قولهم : فلك ، في الواحد.

__________________

(١) البيت من المنسرح ، لرجل من بولان ، وصدره :

نستوقد النبل بالحضيض ...

 ...

وهو بهذه النسبة في اللسان (بني) ١٤ : ٩٤.

وبلا نسبة في : شافية ابن الحاجب ١ : ١٢٤ (قطعة منه).

(٢) الكتاب ٢ : ٢٠٩ ، وفيه : " بعض العرب يقول : يا ربّ اغفر لي ، ويا قوم لا تفعلوا".

(٣) هو : إبراهيم بن أبي عبلة ، واسمه : شمر بن يقظان بن المرتحل ، أبو إسماعيل ، وقيل : أبو إسحاق ، وقيل : أبو سعيد ، الشامي ، الدمشقي ،

(٤) ٦١ : سورة الصف ٥.

(٥) بل هي قراءة : ابن محيصن. إتحاف الفضلاء ٤١٥.

(٦) وهي كذلك قراءة : عبد الله ، ويحيى ، والأعمش ، وأبي الدرداء. مجمع البيان ٩ : ٥٦ ، وتفسير القرطبي ١٦ : ١١٦.

(٧) ٤٣ : سورة الزخرف ٧٧.

٢٩١

وفي الجمع : فلك ، أيضا. ففلك ، في الواحد ، نظير : قفل. وفي الجمع : نظير أسد. وناقة هجان في الواحد ، نظير كتاب. وفي الجمع : نظير : ظراف. فكذا ، هاهنا.

وأما ترخيم : ترقوة ، وعرقوة ، على لغة من قال : يا حار ، فلا إشكال في أن يقال : يا ترقو ، ويا عرقو. ومن قال : يا حار ، فلا بد من أن يقلب الواو ياءا ، والضمة كسرة ، فيقول : يا عرقي ، ويا ترقي. كما تقول : يا ثمي ، في ترخيم : ثمود ، لأنه لو قال : يا ثمو ، ويا عرقو ، ويا ترقو ، لأوقع في الاسم واوا قبلها ضمة. وهم إذا أدى إلى ذلك قياس تركوه ، ورفضوه. ألا ترى : أنهم قالوا في جمع دلو : أدل ، وأبدلوا من الضمة ، قبل الواو ، كسرة. فانقلبت الواو ياءا ، فقالوا : أدل. وعلى هذا قياس هذا الباب.

[قال أبو الفتح] : وتقول في ترخيم : كروان : يا كرو أقبل. على لغة من قال : يا حار. ومن قال : يا حار ، قال : يا كرا. أمّا من قال [١٢٠ / ب] : يا كرو ، فإنه يحذف الحرفين الزائدين ، وهما الألف ، والنون ، وهو ينويهما فيبقى الواو مفتوحا ، كما كان مفتوحا ، وبعدها ألف.

وقد تقدم في كتاب اللمع : أن الحرفين الزائدين ، يسقطان في الترخيم. كترخيم هندات ، اسما علما. وإذا كانوا قد حذفوا الحرف الأصلي ، مع الزائد ، في نحو : منصور ، ومحمود ، فيقولون : يا منص ، ويا محم ، فيحذفون الراء ، والدال ، مع الواو ، وهما حرفان أصليان ، فلأن تحذف الألف ، مع النون ، في : كروان ، وعثمان ، ومروان ، أولى ، وأحرى.

وأمّا من قال : يا حار ، فإنه يقول : يا كرا ، لا بد له من ذلك ، لأنه يحذف الحرفين ، ولا ينويهما. فيبقى : كرو ، فيقلب الواو ألفا ، لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، كما قلبها في : عصا ، ورحا ، والأصل : عصو ، ورحو ، على أحد المذهبين.

وأما : عظاية ، وعباية ، وشقاوة ، فإنه على لغة من قال : يا حار ، لا إشكال فيه ، أنه يقال : يا عظاي ، ويا عباي ، ويا شقاو. فأما من قال : يا حار ، فإنه لا يعتبر التاء طرفا ، ويرى : الواو ، والياء طرفين ، وهما متحركان ، وقبلهما ألفان ، فيقلب الواو ، والياء ألفين ، وقبلهما ألفان ، فلا يخلو : إما أن يحذف أحدهما ، أو يحرّك أحدهما ، فلا يجوز حذف أحدهما ، والتحريك في [الآخر] أولى ، لأنه بدل من حرف متحرك. فقالوا : يا عظاء ، ويا عباء ، ويا شقاء. فاعرفه.

وأما إذا سميت ب (حبليان) على لغة من قال : يا حار ، فهو بمنزلة : مروان ، وعثمان. تقول : يا حبلى أقبل. فأما. من قال : يا حار ، فإن ترخيمه على لغته مستحيل ، وذلك ، لأنه ينبغي أن يقول : يا حبلى ، لأنه يحذف الألف ، والنون ، فيبقى : يا حبلي ، وهو لا ينوي الحرفين المحذوفين ، بل يجعل : حبلي ، اسما على حياله ، فينبغي أن يقلب الياء ألفا ، فيقول : يا حبلى. وإذا كان كذلك ، كان ألف حبلى ، بدلا من الياء ، فيخرج بذلك عن أصول كلام العرب ، لأن (فعلى) قط ، لا يوجد إلا وألفها زائدة. فإذا احتاج إلى قلب الياء ألفا ، فقد جعل الألف [١٢١ / أ] أصلية ، إذ كان بدلا من حرف أصلي. وهذا لا يجوز. وهذا بمنزلة قولهم (طيلسان) بكسر اللام ، إذا رخّم ، بعد التسمية ، لم يجز ، لأنه يؤدي إلى أن يكون (فيعلا). و (فيعل) ليس في الأسماء الصحيحة. وإنما

٢٩٢

يكون (فيعل) في الأسماء المعتلة ، نحو : سيّد ، وميّت. وقوله في الفصل المتقدم : وصميان بمنزلة : كروان ، يعني من قال : يا حار ، قال : يا صمي. ومن قال : يا حار ، قال : يا صما ، يقلب ، كما يقلب في : كرا. وباب الترخيم ، باب يطول ذكره ، وفيما ذكر دليل على غيره.

باب النّدبة

أكثر العلماء ، لم يذكروا هذا الباب ، إذ ليس هو شيئا عاما في كلامهم. وأكثرهم لا يعرفونه.

وقد ذكر أنه شي يختص بالنساء. وهو خارج عن عادات العرب. ألا ترى : أن (وا) كأنه مأخوذ من العجم. وإذا كان كذلك ، فمن ذكر هذا الباب ، فغرضه أن يبني عليه المسائل التي يشتبه بعضها ببعض ، في بعض الأحوال.

فمن ذلك ، أنه إذا ندب غلام المخاطب ، قال : واغلامكاه. وإذا ندب غلام المخاطبة ، قال : واغلامكيه. فيخرج عن سنن الندبة ، إذ سنن الندبة ، أن يلحق بالأخير ألف ، وفي الوقف ألف ، وهاء. فلما احتاج ، هنا ، إلى الفرق بين المذكر ، والمؤنث ، قلب الألف اللاحقة ، ياءا ، لانكسار ما قبلها. ومن ذلك : غلام الغائبين ، يقال فيه : يا غلامهموه. فيقلب الألف واوا ، كي لا يشتبه بغلام الاثنين. وكذا جماعة المخاطبين ، يقال فيه : يا غلامكموه ، كي لا يشتبه ، ب (يا غلامكماه) ويقال : يا غلامهموه ، في الغائب لئلا يشتبه بالغائبة ، نحو : يا غلامهاه. وهذه الهاء اللاحقة في الوقف ، بعد الألف ، تسمى : هاء الاستراحة. وقد جاء في التنزيل ، كقوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) (٢٨) (١)(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (١٠) (٢).

[أقول] : والندبة ، إنما تكون في أشهر الأسماء. وهو ، كما قال. لأن الاسم إذا لم يشتهر ، لا يعرف أنّ نادبه من يندب.

وأما ندبة المضاف ، ففيه خلاف. أجازه قوم ، ومنعه قوم. وقالوا : إنه لا يجوز [١٢١ / ب] لأن النداء لا يعمل فيه البناء ، فلا يجوز أن يندب. والصحيح : جوازه. إذ الأمر يتعلق في ذا ، بشهرة الاسم. ولأن العرب ، قالت : وامن حفر بير زمزماه. وهو أبعد من المضاف ، والمضاف إليه. إذ هو واقع في صلة (من) فإذا استجازوا ذلك لشهرته ، فجواز : واعبد الملكاه ، أولى.

[قال أبو الفتح] : وتقول : واغلامياه.

قد ذكرنا أن هذا الفصل يجوز فيه أربعة أوجه :

[الأول] : تحريك الياء. فعلى هذا ، لا أشكال أن يقال : واغلامياه.

[الثاني] : إسكان الياء. فعلى هذا فيه وجهان : الأول : تحريك الياء ، لالتقاء الساكنين ، فيقال : واغلامياه. والآخر : حذف الياء ، لالتقاء الساكنين ، فيقال : واغلاماه.

[الثالث] : يا غلام. فعلى هذا تقول : واغلاماه ، فتلحق الألف ، وتفتح الميم ، لوقوع الألف بعدها.

__________________

(١) ٦٩ : سورة الحاقة ١٩ ، و ٢٨.

(٢) ١٠١ : سورة القارعة ١٠.

٢٩٣

[الرابع] : يا غلاما في النداء. فإذا جئت بالألف ، حذفت الألف الأولى ، كي لا يجتمع ألفان.

وأما قولهم : يا غلام غلامي ، فهذا إذا ندب ، لم يجز فيه ما جاز في قولهم : يا غلامي ، لأن الحذف ، والاستخفاف ، جاءا في المنادى ، ولم يجئ في المضاف إليه المنادى. فاعرفه.

وأما ندبة الصفة ، نحو : يا زيد الظريفاه ، فجوزه يونس (١) ، خلافا للجماعة ، لما رأى الصفة كالجزء من الموصوف ، أجاز فيه ما جاز في الموصوف. وكنا دللنا على ذلك في موضع آخر.

باب إعراب الأفعال

قسم الأفعال قسمين : مبنيا ، ومعربا.

فالمبني : الفعل الماضي ، وفعل الأمر. فأما الماضي ، فمبني على الفتح ، ولم يبن على الكسر ، ولا على الوقف ، ولا على الضم. أما امتناع بنائه على الوقف ، فإنه فعل يشبه المعرب من وجهين :

الأول : أنه يقع موقعه في موضع الشرط ، والجزاء ، كقولك : إن قمت قمت ، كما تقول : إن تقم أقم.

والثاني : أنه يقع موقع الاسم ، في كونه وصفا. فتقول : مررت برجل ضربنا ، كما تقول : مررت برجل ضاربنا. فلما وقع موقعه ، في هذا الموضع ، قوي مشابهته بالمعرب ، وكان بناؤه على الحركة ، أولى ، من هذه الجهة. وإنما اختير [١٢٢ / أ] الفتح دون الضم ، والكسر ، لخفة الفتحة ، عندنا. وقال الفراء : اختير الفتح ، لأنه يصير إلى حالة ، لا بد له فيها من الفتح. وذلك إذا اتصل به ضمير الاثنين ، نحو : ضربا ، وقعدا. وهذا باطل ، لأنه يصير إلى حالة ، لا بد له فيها من الضم ، كقولهم : ضربوا ، وقعدوا. ومع ذلك لم يبن على الضم.

وأما فعل الأمر ، فمبني على الوقف ، عندنا (٢). وقال الفراء ، والكسائي : هو معرب مجزوم.

واحتجوا في ذلك بأنهم يقولون : اغز ، وارم ، واخش. وفي التثنية : اغزوا ، وارميا ، واخشيا.

فيحذفون الواو ، والياء ، والألف ، والنون. وحذف هذه الحروف ، إنما يكون علامة للجزم ، لا الوقف. فكيف يقال : هو مبني؟ وهل يكون مبنيا على حذف حرف؟

[قلت] : الأمر مبني على الوقف ، لأنه فعل. وأصل الفعل البناء ، وإنما الإعراب عارض فيه بحق المشابهة ، فما لم يوجد المشابهة ، فهو باق على أصله. ولأن الجزم لا يكون إلا بعامل ، وليس في الأمر عامل الجزم.

[فإن قلت] : إن تقدير : اضرب : لتضرب ، واللام مضمرة.

[قلت] : عامل الجزم ، لا يجوز أن يضمر ، كما أن عامل الجر ، لا يجوز أن يضمر ، مع كون عامل الجر أقوى ، لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء.

[أما] : حذف هذه الحروف ، فإنهم أجروا هذه الحروف ، مجرى الحركة. فكما أن المبني على الوقف ، ليس بمتحرك ، فينبغي أن لا يكون فيه أحد هذه الحروف. والدليل على أن هذه الحروف

__________________

(١) وكذلك : أبو الحسن بن كيسان. ينظر : الكتاب ٢ : ٢٢٦ ، والإنصاف (مسألة ٥٢) ١ : ٣٦٤.

(٢) فعل الأمر : أمعرب أم مبني ، مسألة خلافية. ينظر : الإنصاف (مسألة ٧٢) ٢ : ٥٢٤.

٢٩٤

تجري مجرى هذه الحركات ، أنهم قالوا : لم يقض ، ولم يرم ، ولم يخش ، ولم يغز. فحذفوا هذه الحروف ، في موضع الجزم من هذه الأفعال المعتلة ، كما حذفوا الحركات من الصحيح ، نحو : لم يقعد ، ولم يذكر. فكما أن الحركات ، هناك ، ساقطة للجزم ، سقطت هذه الحروف ، أيضا ، إذ أجريت مجراها.

وأما الفعل المعرب ، فما في أوله إحدى الزوائد الأربع ، نحو : يقوم ، ويقعد ، وقد ذكرنا : لم خصّت هذه الحروف من بين سائرها ، ولم أعرب هذا الفعل الخاص؟. وبقي علينا أن نريك أن الموجب للإعراب ، في الأفعال [١٢٢ / ب] المستقبلة غير موجب الرفع فيها. فنقول : إنّ الموجب للإعراب ، كونه مضارعا للأسماء ، من الأوجه الثلاثة المتقدمة ، في صدر هذا الكتاب. وموجب الرفع ، وقوعه موقع الاسم. وبيان ذلك ، أنا نقول : زيد يقوم ، فيرتفع (يقوم) لوقوعه موقع الاسم ، إذ موقعه موقع (قائم). فكما أنك ، لو قلت : زيد قائم ، استقام الكلام به ، فكذلك يستقيم ، حين تقول : زيد يقوم.

ولا نظر إلى أنّ الاسم ، لو وقع : كيف إعرابه. ألا ترى : أنا نقول : مررت برجل يقوم ، ورأيت رجلا يقوم. ولو أوقعت الاسم ، هناك ، لقلت : مررت برجل قائم ، فتجره. ورأيت رجلا قائما ، فتنصبه. فالموجب للرفع ، وقوعه موقع الاسم ، مجردا ، وصلاحيته في موقعه ، ولا نظر إلى إعرابه.

[فإن قلت] : فإنا نقول : كاد زيد يقوم ، فنرفع (يقوم) ولا يقع هاهنا ، موقع الاسم ، إذ لو قلنا : كاد زيد قائما ، لخرجنا عن أصل كلامهم.

[قلت] : إنّ قولنا : كاد زيد يقوم ، الأصل فيه : كاد زيد قائما ، إلا أنهم ، رفضوا الاسم ، في هذا الموضع ، واقتصروا على استعمال الفعل. والدليل عليه ، [قول الشاعر] :

٢٩٨ ـ فأبت إلى فهم ، وما كدتّ آئبا

 ... (١)

فأخرج (آئبا) هنا ، على الأصل ، كما أخرجت العرب : استحوذ ، على الأصل ، في قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ)(٢) ، ليدل على أنّ : استقام : أصله : استقوم. فكذا ، هاهنا. قال : وما كدت آئبا ، ليدل على أن قولهم : كاد زيد يقوم ، في تقدير : كاد زيد قائما. والشيء قد يرفض ، ثم يخرج على الأصل ، في بعض المواضع.

وأما حذف الحروف ، من الأفعال المعتلة ، في موضع الجزم ، لم يقض ، ولم يخش ، ولم يغز ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، لتأبط شرا ، وعجزه :

 ...

وكم مثلها فارقتها ، وهي تصفر

وهو في : شعره ٨٩ ، وديوان الحماسة ١ : ١٨ ، وفيه : لم أك ، والخصائص ١ : ٣٩١ ، والأغاني ٢١ : ١٤١ ، وفيه : ما كنت ، واللسان (كيد) ٣ : ٣٨٣ ، والخزانة ٨ : ٣٧٤ ، ٣٧٥ ، ٣٧٦ ، ٩ : ٣٤٧.

وبلا نسبة في : الإنصاف ٢ : ٥٥٤ ، وابن يعيش ٧ : ١٣ ، وابن عقيل ١ : ٣٢٥ ، وأوضح المسالك ١٥٢ (صدره).

(٢) ٥٨ : سورة المجادلة ١٩.

٢٩٥

فلجريها مجرى الحركة. وهي تثبت في موضع الرفع ، ساكنة ، نحو : هو يقضي ، ويغزو ، ويخشى ، لأن الحركة تستثقل فيها.

فأما في النصب ، فالواو ، والتاء يفتحان ، خاصة ، دون الألف. فيقال : لن يغزو ، ولن يقضي.

ويسكن الألف ، فيقال : لن يخشى. ولا يفتح الألف ، لأن فتحها يوجب قلبها ، أيضا ، لتحركها ، وانفتاح ما قبلها. وقد جاءت هذه [١٢٣ / ا] الحروف ، ثابتة ، أيضا ، في موضع الجزم. [قال الشاعر] :

٢٩٩ ـ ألم يأتيك ، والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (١)

وقد قرأ ابن كثير (٢) : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ)(٣). وقال قوم : من هذا الباب

[قول الشاعر] :

٣٠٠ ـ وتضحك منّي شيخة عبشميّة

كأن لم ترى ، قبلي أسيرا يمانيا (٤)

وقالوا في قراءة حمزة (٥) : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٦) :

ولم يقل : ولا (تخش). [وقال الشاعر] :

٣٠١ ـ إن تذنبوا ، ثمّ يأتيني بقيّتكم

فما عليّ ، بذنب عندكم ، فوت (٧)

ولم يقل : ثم يأتني. قالوا : والوجه في إثبات هذه الحروف في موضع الجزم ، أنه كأنه قدر الحركة ، في الياء ، والألف. فلما أدخل عليه الجازم ، أسقط تلك الحركة في التقدير. وقال قوم : بل أشبعوا الكسرة ، والفتحة ، الواقعتين قبل الألف ، والياء ، فتولدت منهما الألف ، والياء.

وأما إثبات النون ، في موضع الرفع ، في الأفعال الخمسة ، فلأنهم ، لما عجزوا عن استعمال الحركات التي استوفتها الأفعال المسندة إلى الآحاد ، إذا كانت صحيحة ، والحروف ، لما استوفتها الآحاد ، إذا كانت معتلة ، لجؤوا إلى النون ، في موضع الرفع.

فلما صاروا إلى الجزم ، حذفوا النون ، وحملوا النصب على الجزم ، كما حمل النصب على الجر ، في تثنية الأسماء ، وجمعها على ما بينا.

وأما فعل جماعة النسوة ، فإنه مبني ، نحو : يقعدن ، ولن يخرجن ، وإن كانت مضارعة. قال سيبويه (٨) : لأنهم حملوه على الفعل الماضي ، حيث قالوا : قعدن ، وخرجن. فأسكنوا الأخيرة في الماضي ، لأن هذا فعل ، كما أن ذاك فعل ، ولأن هذا مسند إلى ما أسند إليه ذلك ، فلهذا وجه ، كما أن لإعرابه وجها. قال : وكلّ صواب عربيّ.

باب الحروف التي تنصب الفعل

[قال أبو الفتح] : وهي أربعة : أن ، ولن ، وكي ، وإذن .. إلى آخر الباب.

__________________

(١) سبق ذكره رقم (١٢٨).

(٢) ينظر : ص ١٢٧ ، هامش (٨).

(٣) ١٢ : سورة يوسف ٩٠.

(٤) سبق ذكره رقم (٢) ، و (١٢٦).

(٥) ينظر : ص ٩ ، هامش (٣).

(٦) ٢٠ : سورة طه ٧٧.

(٧) البيت من البسيط ، لم أهتد إلى قائله.

(٨) الكتاب ١ : ٢٠.

٢٩٦

فأما (أن) فعلى أربعة أقسام :

[الأول] : أن تكون ناصبة للفعل المضارع. وهو مع الفعل ، في تقدير المصدر ، وذلك ، كقولك : أريد أن تقوم ؛ أي : أريد قيامك. قال الله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(١) ؛ أي : الصوم خير لكم.

[الثاني] : أن تكون مخففة من الثقيلة. [قال الشاعر] : [١٢٣ / ب] :

٣٠٢ ـ ...

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (٢)

فقوله : أن هالك ، في تقدير : أنه هالك ، فحذف الهاء ، وخففت (أنّ). و (أن) هذه ، إذا دخلت على المضارع ، يفصل بينها ، وبين الفعل بالسين ، أو سوف ، أو حرف من حروف النفي.

قال الله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى)(٣). والتقدير : أنه سيكون منكم مرضى. فاسمها مضمر. وهي مخففة من الثقيلة. وقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً)(٤). وقال : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(٥).

[الثالث] : أن تكون بمعنى (أي). قال الله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا)(٦) ؛ أي : امشوا. ولا يراد بالانطلاق ، قطع المسافة ، والمكان ، وإنما يراد به الانطلاق في الكلام ، والذهاب فيه. أي انطلقوا في الكلام ، ولم يقبلوا قول محمد [صلّى الله عليه وسلّم]. ثم قال : أن امشوا ، أي امشوا. يعني : يقول : امشوا. ف (أن) بمعنى : يقول : كأنه ، لما قال : انطلق الملأ منهم ، قال : امشوا ، واصبروا ف (أن) إذا كانت مفسرة ، فسرت جملة بجملة. ومثله قوله : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) (١٠٤) (٧) ، كأنه يقول : يا إبراهيم ؛ ف (يا إبراهيم) تفسير : ناديناه.

[الرابع] : أن تكون أن زائدة ، كقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ)(٨) ؛ أي : لما جاءت. وأن زائدة.

[وأما لن] : فإنه ينصب المضارع ، أيضا ، كقولك : لن يقوم ، وهي : نفي (سيفعل) أو (سوف يفعل). ولا يقتضي التأبيد ، كما يدعي بعضهم (٩). والدليل عليه ، قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)(١٠). ولو كان يقتضي التأبيد ، لما ذكر معه (أبدا) إذ في ذكره دليل عليه. وقال : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(١١) ، فذكر معه (اليوم) وهو ضد التأبيد ، إذ هو بالحال أولى.

__________________

(١) ٢ : سورة البقرة ١٨٤.

(٢) عجز بيت من البسيط ، سبق ذكره رقم (١٢١).

(٣) ٧٣ : سورة المزمل ٢٠.

(٤) ٢٠ : سورة طه ٨٩.

(٥) ٥ : سورة المائدة ٧١ ، وقرأ برفع (تكون) : أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف ، واليزيدي ، والأعمش. الكشف ـ للقيسي ١ : ٤١٦ ، والبحر المحيط ٣ : ٥٣٣ ، وإتحاف الفضلاء ٢٠٢.

(٦) ٣٨ : سورة ص ٦.

(٧) ٣٧ : سورة الصافات ١٠٤.

(٨) ١١ : سورة هود ٧٧.

(٩) وهو : الزمخشري. الكشاف ١ : ٤٨ ، وينظر : المغني ١ : ٢٨٤.

(١٠) ٢ : سورة البقرة ٩٥.

(١١) ١٩ : سورة مريم ٢٦.

٢٩٧

وزعم الخليل : أن (لن) أصله (لا أن) فحذفت الهمزة ، حذفا ، وكانت الألف ساكنة ، والنون ساكنة ، فحذفت الألف ؛ لالتقاء الساكنين ، فبقي (لن).

قال سيبويه : قلت له : إذا كان أصله (لا أن) فلم جاز : زيدا لن أضرب ، على تقدير : لن أضرب زيدا ، ولم لا يجوز : أريد زيدا أن تضرب ، على تقدير : أريد أن تضرب زيدا يعني : أنّ (لن) لو كان أصله (لا أن) لم يجز أن يتقدم عليه ما في [١٢٤ / ا] صلته ، كما لم يجز ذلك في (أن). وقال المحتج (١) عن الخليل : يجوز ذلك ، في (لن) وإن لم يجز ، في (أن) لأن التركيب يحدث أشياء ، لم تكن قبل التركيب.

ألا ترى : أنّ (لو) تدخل على الفعل ، وهي لامتناع الشيء ، لامتناع غيره ، فإذا ركبتها مع (لا) فهي لامتناع الشيء ، لوجود غيره ، وتدخل على الاسم ، دون الفعل ، كقولك : لو لا زيد لهلك عمرو.

[وأما كي] : فهي على ضربين :

[الأول] : أن تنصب الفعل ، بنفسها ، كقولك : جئتك : كي تقوم. قال الله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(٢). ف (كي) هاهنا ، هي الناصبة ، لدخول اللام عليها.

[الثاني] : أن يكون (كي) حرفا من حروف الجر ، كقولهم : كيمه ؛ كما تقول : عمه ، ولمه (٣).

[وأما إذن] : فهي تعمل بشرائط :

[الأولى] : أن تكون جوابا.

[الثانية] : أن تكون في ابتداء كلامك.

[الثالثة] : أن يكون ما بعدها مستقبلا.

[الرابعة] : أن يكون ما بعدها ، معتمدا عليها. وذلك قولك ، في جواب قائل : آتيك ، إذن أكرمك. (فإذن) جواب : آتيك. وهو في ابتداء كلامك. و (أكرمك) مستقبل ، وهو معتمد على (إذن). و (إذن) هذه تلغى إذا بطلت إحدى هذه الشرائط. وذلك ، قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) (٧٦) (٤).

ونظير هذا (أظن ، وبابها). وذلك ، لأنها ، إذا تقدمت المفعولين ، أعملت ؛ كقولك : ظننت زيدا قائما. وإذا توسطت ، أو تأخرت ألغيت ، كقولك : زيد ، أظن ، قائم ، وزيد قائم ، أظن.

فكذلك ، هاهنا ، تقول : زيد ، إذن ، يقوم. وزيد يقوم ، إذن.

وقال قوم : إنّ (إذن) أصله (إذ أن) (٥) فحذفت الهمزة ، حذفا ، فقيل : اذن. وإن : هي الناصبة

__________________

(١) الكتاب ٥ : ٣ وعنى ب (المحتج) : من ذهب مذهب الخليل في تركيب (لن) وهو من الذين ذهبوا هذا المذهب.

(٢) ٥٧ : سورة الحديد ٢٣.

(٣) الكتاب : ٣ : ٦.

(٤) ١٧ : سورة الإسراء ٧٦.

(٥) المغني ١ : ٢٠.

٢٩٨

للفعل. وأخطؤوا في ذلك ؛ لأن (إذن) يعمل ، ويلغى. و (أن) لا يلغى أبدا ، فثبت أنّ ذاك باطل ، ولأنّ (إذن) في الوقف بالألف (١) ، و (أن) لا يوقف عليه إلا بالنون.

وأما (حتى) فقد تقدم لها باب (٢).

وأما الفاء ، فإذا كانت جوابا ، لأحد [١٢٤ / ب] سبعة أشياء ، فإن (أن) يضمر بعدها ، وينصب الفعل بإضمار (أن). ولجميع السبعة شيء واحد ، وهو أنه غير واجب. فالأمر ، قولك : زرني فأزورك. والتقدير : ليكن منك زيارة ، فزيارة مني. لا بد أن يقدر (أن) بعد الفاء ؛ ليكون ما بعدها ، في تقدير المصدر. ويكون اللفظ الأول ، مؤولا ، فيعطف المصدر على المصدر.

وقال الجرمي : الناصب للفعل ، الفاء نفسها. وهذا باطل ؛ لأن الفاء ، تدخل على الاسم ، والفعل ، جميعا ، وتكون للعطف ، فلا يجوز أن يكون عاملا ، في الفعل. فاعرفه ، وإذا قلت : ما تأتيني ، فتحدثني ؛ فهو أيضا ، في هذا التقدير. أي : ما يكون منك إتيان فحديث. ويجوز الرفع في هذه الأجوبة بالفاء. قال الله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى)(٣).

رفعه الجماعة ، غير حفص (٤). (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (٤) (٥) ، رفعوه ، غير عاصم (٦). فعلم أن الوجهين جائزان.

والواو : بمنزلة الفاء. قال الله تعالى : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٧). قرئ بالرفع ، والنصب (٨). أعني : لا نكذب ، ونكون. وقالوا في قوله تعالى : (وَلا

__________________

(١) اللسان : (إذن) ١٣ : ١٣ ، والمغني ١ : ١.

(٢) ينظر : ص ٢٢٠.

(٣) ٤٠ : سورة غافر ٣٦ ـ ٣٧.

كما نصبه : الأعرج ، والسلمي ، وعيسى. السبعة ٥٧٠ ، والحجة ـ لابن خالويه ٣١٥ ، وحجة القراءات ٦٣١ ، والتيسير ١٩١ ، والكشاف ٣ : ٤٢٨ ، ومجمع البيان ٨ : ٥٢٣ ، وتفسير الرازي ٢٧ : ٦٧ ، وتفسير القرطبي ١٥ : ٣١٥ ، والنشر : ٣٦٥ ، وإتحاف الفضلاء ٣٧٩.

(٤) هو : حفص بن سليمان بن المغيرة ، أبو عمر بن أبي داود ، الأسدي ، الكوفي ، الغاضري ، البزاز ، ويعرف ب (حفيص) (ت ١٨٠ ه‍ على الأرجح). أخذ القراءة عن عاصم ، وكان ربيبه ، ابن زوجته ، روى القراءة عنه : حسين بن محمد ، المروذي ، وحمزة بن القاسم الأحول ، وخلف الحداد ، وآخرون. قال أبو هشام الرفاعي : كان حفص أعلمهم بقراءة عاصم. ينظر : غاية النهاية ١ : ٢٥٤ ، ٢٥٥.

(٥) ٨٠ : سورة عبس ٣ ـ ٤.

(٦) كما نصبه : ابن أبي إسحاق ، والسلمي ، وعيسى ، وزر بن حبيش. السبعة ٦٧٢ ، والحجة ـ لابن خالويه ٣٦٣ ، وحجة القراءات ٧٤٩ ، والتيسير ٢٢٠ ، ومجمع البيان ١٠ : ٤٣٦ ، وتفسير الرازي : ٣١ : ٥٧ ، وتفسير القرطبي : ١٩ : ٢١٤ ، والنشر ٢ : ٣٩٨ ، وإتحاف الفضلاء ٤٣٣.

(٧) ٦ : سورة الأنعام ٢٧.

(٨) بالرفع فيهما ، قرأ : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وأبو بكر ، وبرفع (نكذب) ، ونصب (نكون) قرأ : ابن عامر ، وبنصب (نكذب) ، ورفع (نكون) قرأ : الشنبوذي. تفسير الطبري ٧ : ١٧٥ ، والسبعة ٢٥٥ ، وإعراب القرآن ـ للنحاس ١ : ٥٤٢ ، والحجة ـ لابن خالويه ١٣٧ ، والكشف ـ للقيسي ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٩ ، والتيسير ١٠٢ ، وتفسير التبيان ٤ : ١٠٧ ، ١٠٨ ، ومجمع البيان ٢ : ٢٨٨ ، وتفسير الرازي ١٢ : ٢٠٢ ، والتبيان ـ للعكبري ١ : ٢٣٩ ، وتفسير القرطبي ٦ : ٤١٨ ، والبحر

٢٩٩

تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ)(١) : وجهين :

[الأول] : أن يكون (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) جزما ، على تقدير : ولا تلبسوا الحق بالباطل ، ولا تكتموا الحق.

[الثاني] : أن يكون نصبا ، على الصرف (٢) ، على تقدير : ولا تجمع بينهما.

[قال الشاعر] :

٣٠٣ ـ لا تنه عن خلق وتأتي مثله

 ... (٣)

أي : لا تجمع بينهما.

وإما (أو) فإنه ينصب الفعل أيضا ، على إضمار (أن) وقد اختلفوا في تقديره : فمن مقدر يقدره : ب (إلّا أن) ومن مقدر يقدره : ب (إلى أن). وذلك قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)(٤). فقال قوم ، تقديرها : إلى أن يتوب عليهم. وقال قوم ، تقديره : إلّا أن يتوب عليهم. والوجهان جائزان عربيان ؛ لأنه يصح أن يكون مستثنى ، ويصح أن يكون غاية.

فأما لام الجر : فهي التي تسمى : لام العلة [١٢٥ / ا] ، وهي على ضربين : إما أن يستعمل في الإثبات ، أو يستعمل في النفي. فإذا استعمل في الإثبات ؛ جاز إظهار (أن) بعدها ، وجاز إضمارها.

كقولك : جئتك لتكرمني ، ولأن تكرمني ، فيكون (أن) مع ما بعدها ، في تقدير المصدر ، في موضع الجر باللام. ولا يكون الناصب اللام بتة ؛ لأن اللام من عوامل الأسماء ؛ فلا تعمل في الأفعال. فلا بد من إضمار (أن).

وإما إذا استعمل في النفي ، فلا يجوز إظهار (أن) بعدها بتة ، كقوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ)(٥). وقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(٦). وهذا لا يجوز فيه : وما كان الله لأن يعذبهم ؛ لأن هذا نفي (سيفعل) في الإثبات ؛ واللام عوض عن السين. فكما لا يستعمل (أن) بعد السين ؛ فكذا لا يستعمل بعد اللام ؛ لأنه يؤدي إلى الجمع بين العوض ، والمعوّض

__________________

المحيط ٤ : ١٠٢ ، والنشر ٢ : ٢٥٧ ، وإتحاف الفضلاء ٢٠٦ ، وغيث النفع ١١٦.

(١) ٢ : سورة البقرة ٤٢.

(٢) معنى الصرف : أنه صرف عن الأول بإضمار (أن). وهذه عبارة عن الكوفيين ؛ إذ تسمية هذه الواو ب (واو الصرف) اصطلاح كوفي ، كما ذكر ابن هشام عند الكلام عن الواو المفردة. ينظر المغني ٢ : ٣٦١ ، والخزانة ٨ : ٥٧٠ ، والإنصاف (مسألة ٢٨) ٢٣٥.

(٣) البيت من الكامل ، وعجزه :

 ...

عار عليك ، إذا فعلت ، عظيم

وهو لأبي الأسود الدؤلي ، في ديوانه ١٦٥ ، وللأخطل في الكتاب ٣ : ٤١ ، ٤. وقد نقلت هذا البيت أغلب كتب النحو ، مع اختلافات كثيرة في النسبة. ينظر : الخزانة ٨ : ٥٦٤ ـ ٥٦٩.

(٤) ٣ : سورة آل عمران ١٢٨.

(٥) ٣ : سورة آل عمران ١٧٩.

(٦) ٨ : سورة الأنفال ٣٣.

٣٠٠