موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٦

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٦

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

٣ ـ وقفيات أخرى. جعلها لنفسه ثم لمن بعده وبالنتيجة ترجع غلتها بعد الانقراض إلى جامع الحيدر خانة.

وفي هذه الوقفيات ما يعين ممتلكاته مما وقفه ... ومنها يعرف غناه وما استولى عليه ...

حوادث سنة ١٢٤٤ ه‍ ـ ١٨٢٨ م

النقود في بغداد :

كان قديما يجري الضرب في البلدان النائية مثل مصر والعراق وتونس تسهيلا للمعاملات. وكان يسمح لها بضرب النقود الصغيرة. وبغداد سوغ لها أن تضرب ومنعت أن تنتشر في الخارج. ومن هذا القبيل ما حدث سنة ١٢٣٥ ه‍ فقد أذن لها أن تضرب بموجب فرمان كل سنة على أن لا يتجاوز مبلغ خمسين ألف قرش ومنع الضرب بعد هذه السنة منعا باتا في حين أننا رأينا ما ضرب إلى سنة ١٢٥٥ ه‍.

حوادث سنة ١٢٤٥ ه‍ ـ ١٨٢٩ م

في الموصل :

في ٩ شوال سنة ١٢٤٤ ه‍ ـ ١٨٢٩ م قتل والي الموصل عبد الرحمن باشا الجليلي من جراء أنه تجاوز في ظلمه الحد. دبر قتله قاسم (باشا) العمري وخالد آغا ابن صالح آغا الشويخ من أغوات الينگچرية ومحمد سعيد بك (باشا) ابن إبراهيم بك آل ياسين المفتي وكان مدير تشريفات. وفي هذه الوقعة قتل محمد بك أخو الوالي.

وعند ما عرض الأمر على داود باشا رشح محمد أمين باشا ابن الحاج عثمان بك الجليلي فوجهت الدولة ولاية الموصل إليه وأرسل للتحقيق عمن اجترأ على قتل الوالي عبد الرحمن باشا ، وأرسل شاكر

٣٤١

بك من الخلفاء للقيام بضبط مخلفاته. وكانت ولاية محمد امين باشا في المحرم سنة ١٢٤٥ ه‍ ، فوقعت له فتنة مع الذين قتلوا عبد الرحمن باشا فأخرجهم من الموصل ، فتوجهوا إلى تلعفر فعادوا بعد شهر بقوة (١٤٠٠) من السكبان من أهل تلعفر بينهم نحو ٤٠٠ من عربان البو حمد فدخلوا الموصل واشتد القتال نحو ٢١ يوما فكسر الباشا فتوجه بنفر قليل إلى بغداد. وفي هذه الفتنة قتل الأستاذ صالح السعدي كاتب الديوان. وتسلم البلد قاسم باشا العمري (١) ...

حوادث سنة ١٢٤٦ ه‍ ـ ١٨٣٠ م

واقعة صادق الدفتري :

غطت هذه الحادثة على غيرها ، فأعادت للأذهان قضية حالت أفندي. وذلك أن الدولة طلبت من بغداد مبالغ للضرورة التي أصابتها إلا أن الوزير اعتذر على خلاف المأمول فحمل اعتذاره على التعند ، فأرسل إليه صادق الدفتري فعذله وبين له أن تصلبه سوف يجر إلى نتائج وخيمة.

والصحيح أنه جاء بعزله إلا أنه لم يستعمل الحكمة ولم يراع التؤدة ولا بالى بالمكاشفات وعواقبها. لذا صارح رجال الحكومة بما جاء من أجله ، فاطلع الوزير على جلية الأمر وبأمر منه قتله (محمد المصرف) (٢).

وهذا ما دعا إلى غضب الدولة عليه وأدى إلى وقوع (حادثة بغداد). فاضطربت الآراء في تفسيرها والكل يستطلع طلعها لما أحدثت

__________________

(١) تاريخ لطفي ج ١ ص ١٤٧ وتذكرة الشعراء أيام داود باشا ومعلومات عن الأستاذ صديق الجليلي. وترجمة صالح السعدي في مجلة سومر ج ١ مجد ٥ ص ٨٥ مقال لي.

(٢) مجموعة الأستاذ السيد نعمان الآلوسي برقم قديم ٢٥٩١ من خزانة الأوقاف العامة.

٣٤٢

من غائلة والتواريخ بين التفصيل والاجمال وتضارب في النصوص. ونحن نذكر ما تيسر دون إخلال.

وكان الأستاذ محمد أمين الكهية مفتي بغداد الأسبق أبدى بيانات دونها لطفي في تاريخه وزاد عليها مصادر رسمية وبيانات أخرى وأن الأستاذ سليمان فائق تصدى للموضوع وهو بمثابة رد عليه بالنظر لما علم عن المماليك وعن الوزير. استنطق بعض رجال الدولة ورجال المماليك فكتب تاريخ الكولات ومرآة الزوراء ، فأوضح ما عنده. ومن ثم رجعنا إلى هذه وغيرها. ولخصنا ما جرى.

إن الدولة أرادت أن تطبق ما جرى على يد حالت أفندي فقامت بأمر خطير وذلك أن داود باشا داخل ذهنه الاستقلال فاستخدم الشعراء لمدحه وإطرائه ، وقام بتعمير المدارس والجوامع وكلها مقدمات نوايا يحسب لها حسابها. وما طلب الإعانة منه إلا وسيلة للوقيعة به. وكان هذا الوزير أعرف بالأوضاع السياسية والحربية. زاد نفوذه في بغداد. فقضى على المتنفذين من الأهلين والعشائر ورجال المماليك فصفا له الجو بحيث لم يبق له مزاحم. وتدخل في شؤون الموصل فعرفت الدولة آماله. وكانت تظن أن يكون عونا لها في الملمات فيقوم بخدمات جلى فتهاون بل صار يطلب الاستقلال فعزمت على القضاء عليه.

استغل الحوادث السياسية والحربية فكان من الصعب جدا أن تكاشفه الدولة بعزل. وإنما أعملت الفكرة ، فاتخذت الكتمان والمذاكرات الخفية لا سيما أنها كانت في غوائل حاقت بها ولكنها عدت حادث الوزير أكبر.

أرادت أن تطرح إعانة على بغداد وقررت إرسال صادق الدفتري لهذه المهمة ولحل بعض القضايا المعلقة بين الدولة وايران ، حاولت الحصول على دراهم من بغداد تعادل ما يؤخذ من إيالة مصر ، وأن

٣٤٣

يتفاوض مع إيران بخصوص محمود باشا متصرف بابان الهارب إليها في تلك الأثناء. هذا ما أظهرته الدولة.

ولا ننس أن الوزير حاول إلحاق الموصل ببغداد ، لتأمين آماله. فشكا من واليها يحيى باشا وطلب عزله ولكن حاذرت الدولة أن تودع الولاية إلى أحد الوطنيين مع علمها بأن إرسال صادق لا يقترن بنتيجة صالحة بل ارسلته لهذه الغاية وإن كانت أظهرت غير ذلك.

قبل أن يذهب صادق الدفتري إلى بغداد أراد أن يحصل على تعليمات تخص مهمته فلم يظفر ببغية سوى أنه أوعز إليه أنه إذا وصل المحل تحرك حسب المصلحة.!

فلما تحقق أن لا مجال لمعرفة الوضع جاء إلى (المابين الهمايوني) مع مصطفى (باشا) (كاتب السر) فأمر بالمواجهة فتلقى التعاليم الشفهية من السلطان والتنبيهات المقتضية. وهذا أغلب ما يرد إلى الخاطر ...!

قال المؤرخ لطفي : وللتحقق عن أصل القضية ذهبت بنفسي إلى مصطفى باشا كاتب السر من قدماء وكلاء السلطنة وكان مقيما في وانى كوى (من قرى استنبول) ولما سألت منه أفادني أنه لم يواجه صادق أفندي إلا أن الصراف جاءه يوما إلى (المابين الهمايوني) وحضر عنده فأبدى أنه يطلب إعفاء صادق من هذه المهمة والتمس أن يتوسط بذلك وأتى بليرات كثيرة ، فأجابه أن الدولة عينته وأنه لا يتدخل وطرد الصراف. هذا ما بقي بخاطره.

واستمر لطفي في الرجوع إلى أصل بحثه وقال :

وعلى هذا سار صادق إلى بغداد في ربيع الأول وصحبه معه جناب أفندي من مقدمي قلم الديوان وأخذ مصاريف سفرية خمسين ألف قرش ، وأجور المنزل ثلاثين ألف قرش فقصد بغداد ...

٣٤٤

ويقال إن من جملة التعليمات التي تلقاها أن يحصل على المعلومات من يحيى باشا الموصلي وكان آنئذ والي ديار بكر فإذا التقى به استفاد منه خبرة ... ولكن الدولة إثر إرساله كانت تخشى أن يفتضح أمره فتحبط مساعيها فتعد قضيته شبيهة بقضية حالت.

نقل لطفي في تاريخه المسموعات عن هذه القضية وهي لا تختلف كثيرا عما في تاريخ الكولات ولا عما ورد في تقويم وقائع ... ولا يهمنا أن تكرر الأقوال. وإنما نذكر الصفوة.

ورد صادق بغداد. والدولة في ريب من أمره.

وكان الوزير على علم بالخبر قبل أن يتحرك صادق فلما جاء إلى بغداد قابله (محمد المصرف) وأظهر له الوزير معاملات جافة لحد أنه لم يأمر له بالجلوس بحضرته وإنما أبقاه واقفا وحقره بأمثال هذه ... مع أن المعتاد أن من يأتي من جانب السلطنة صغيرا أو كبيرا يستريح في قصبة الأعظمية ويبيت فيها ليلته وفي اليوم التالي يدخل بغداد باحتفال مهيب فيلاقي الوالي وينزل ضيفا عنده. جرى ذلك المعتاد من زمن حسن باشا فاتح همذان.

أما الموما إليه فقد وصل إلى الأعظمية يوم الجمعة وأمر أن يدخل بغداد في حينه فاحتفل بدخوله وتوجه إلى السراي وأحضر للسلام مقدار من مشاة العساكر النظامية. ومن هناك ذهب إلى داره.

وفي اليوم التالي جاء لملاقاة الوزير فأحضر لاستقباله فوج من العسكر ولم يقصر في الاحتفال به رسميا إلا أن الوزير تثاقل في القيام له ... ولكنه رأى مقابلة بمثلها تقريبا. ولم يفاتحه بما يتعلق بمهمته حتى أنه لم يسأله عن حاله وإنما أنهى المجلس ببعض الكلمات الرسمية والعادية ... ولما خرج لم ينهض له إلا بتثاقل. وهذا صعب على مثل صادق ولم يعد إليه الزيارة مع أنه انتظره في اليوم التالي. وفي يوم الاثنين ذهب إلى الوزير وحينئذ وعند المواجهة اخبره بعزله فقال له إني

٣٤٥

قدمت معروضات إلى الدولة وأنا منتظر جوابها فينبغي أن تكتم ذلك. فأبدى أنه لا يغتر بمواعيد أمثال هذه وأصر عليه بلزوم تسليم المملكة إليه. وجرت معارضات بينهما فانفعل الواحد من الآخر ... ثم عاد صادق إلى محله.

وإثر عودته دعا سليمان آغا الميراخور (المناخور) من عتقاء الوزير ففاتحه صادق في القضية وقال له إذا قتلت الوزير وجهت إليك وزارة بغداد فلم يقبل وذهب توا إلى الوزير فأخبره بما جرى.

وفي الأثناء دخل محمد آغا كتخدا البوابين وقال للوزير إن قائممقام النقيب السيد عبد الرزاق جاء لأمر مهم يطلب المواجهة فأذن له. وحينئذ قدم إليه تذكرة مرسلة إليه من صادق الدفتري يبين له فيها عزل الوزير وصدور الفرمان بقتله وأنه يطلب معاونته ... ولما قدمها إليه كانت يده ترتجف وآثار الرعب بادية عليه. قرأها وقال : أنا سوف أتصالح مع دولتي فلا تطلع أحدا.

مذكرات :

بعد الملاقاة الثانية للوزير وانفعال الواحد من الآخر عاد صادق إلى داره متألما وعلى هذا وعد سليمان الميراخور بالوزارة وأخبر قائممقام النقيب ...

وعلى هذا غرق الوزير في بحر من الأفكار. وحينئذ استوحش الوزير من سليمان آغا ، فدعاه ودعا محمدا المصرف وإسحاق الصراف وتذاكر معهم في دفع هذه الغائلة. فاتفقوا على لزوم قتل صادق إلا أن الوزير أبدى أن عاقبة ذلك وخيمة فقال الجميع : إن حياتنا مهددة ببقائه ، وإن الخطر محيق بنا ما دام هذا حيا ، وتعهد الميراخور بقتله وعند هذا أنهى الوزير القول. وهذا غفلة منه (١).

__________________

(١) تاريخ الكولات ص ٢٧ وفيه تفصيل.

٣٤٦

ثم أرسل الوزير بعض رجاله فقتلوه وفي اليوم التالي أعلن للناس أنه أضر بالأهلين بحركات غير لائقة فحبس وأخبرت الدولة بذلك. وبعد بضعة أيام ورد التاتار بإعدام صادق فأعدم.

قص خبر هذه الواقعة الأستاذ محمد أمين الزندي البغدادي أحد أعضاء شورى الدولة باستنبول وكان عالما معروفا. صار مفتيا ببغداد بعد أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين الآلوسي ثم صار كهية وبعدها صار في مجلس الشورى.

قال الأستاذ الزندي :

«إن مسموعاتي عن قتل صادق هي أنه دبر نزاع بين الضباط لقتله فلم ينجح.

ولما رأوا فشل التدبير أحاطت ثلة من العسكر النظامي بدار صادق وكان سليمان آغا الميراخور ومحمد المصرف في غرفة منها وأدخل كل من رمضان آغا الجوخه دار مع خالد من قواسي سليمان آغا ومعهم أتباع الوزير فهاجموا فجأة غرفة صادق فأعلموه بما جاؤوا لأجله فتكلم معهم كثيرا وطلب الأمان منهم وأن لا يقتلوه وأنه يعمل ما يريدون وطلب مواجهة الوزير مرة واحدة فلم يفد معهم حتى أنه رضي أن يعرض له الأمر فإذا أصر فليفعلوا ما شاؤوا ... فلم يجد ذلك كله نفعا وقالوا له كان الواجب أن تطلب ذلك قبل الآن. وحينئذ سل خالد القواس سيفه فقتله في الحال ...

وذهبوا توّا لتبشير الوزير بما فعلوا وكان جالسا مع عدة أشخاص ينتظر ما يأتي من الاخبار. وحينئذ ذهب إلى دار المقتول فتبين له مماته فأظهر التأسف ، وأمر أن تدفن جنازته في محل تحت رابية الصابونية (الصابونجية) تجاه الدار التي قتل فيها.

ثم أعلن أن صادق أفندي مريض خشية شيوع الخبر ولكن حقيقة

٣٤٧

الحال عرفت في تلك الليلة. وفي الصباح علمها الكل ومع هذا أخبر أنه مريض ، وأن الوزير في كل يوم يبعث بطبيب لمداواته ... وكذا يرسل بعض الأشخاص للسؤال عن خاطره ...

وعلى كل أحدثت هذه الوقعة اضطرابا في النفوس وقلقا ، أما الوزير فقد كتب إلى الباب العالي فلم يأخذ عن درجة أثرها. لذا قام بأمر المدافعة واهتم بلوازم التأهب للطوارىء.

استدعى الوزير إليه عجيل السعدون شيخ المنتفق وكان من أعوانه. جاءه بعشائره وعشائر أخرى غيرها وجعل قسما كبيرا من هذه بقيادة الميراخور وأن يكون في جهة ماردين وجعل العشائر الأخرى بقيادة عجيل السعدون ليسوقهم إلى أنحاء أورفه من جهة الدير.

قرر ذلك واختط هذه الخطة.

وفي الأثناء وتوسلا ببعض الوسائط ورد تحرير من كتخدا البوابين إلى نجيب بك (١) أنه عفي عنه وعما قريب يأتيه خبر ابقائه في منصبه من استنبول وأنه ينبغي أن يقدم لركاب السلطان عدة رؤوس من الخيل العربية وأن يحترس من القيام بأي حركة عسكرية من شأنها أن تكدر عليه أمره. جاء خبر ذلك بواسطة بعض الأشخاص بتأكيد. وعلى هذا أخر الأمر وصار ينتظر النتيجة.

ثم علم الوزير أن علي رضا باشا نصب واليا على بغداد. وعلى هذا اتخذ التدابير اللازمة لإعداد القوة إلا أنه في هذا الحين استولى الوباء على بغداد جاءها من ايران. وفي أمد قصير انتشر فحطم من الأهلين ٩٥ من ١٠٠ من نفوسها وفتك فتكا ذريعا وأفنى العساكر الموجودة» اه ....

__________________

(١) أخو حسني بك. صار ناظر الحربية (علي نجيب باشا). (تاريخ الكولات ص ٤٧).

٣٤٨

صدى قتلة صادق :

وبينما الدولة تترقب وصول خبر من صادق عما قام به إذ انبأها والي حلب علي رضا باشا أنه قتله الوزير وجاء كتاب من داود باشا يفيد أنه توفي بقضاء الله تعالى.

وصلت هذه الكتب متعاقبة إلى الباب العالي وحينما علم الوزير أن القضية عكس صداها إلى الباب العالي ووقف على التدابير السريعة التي اتخذتها الدولة كتب إلى السلطان ووكلائه ورجال البلاط كتبا فحواها أن القضية وقعت حسب المقدر ، ونظرا لخدماته السابقة في العراق ، وصدقه وإخلاصه وديانته ... يستعفى عن جرمه وقصوره ... فأرسل هذه الكتب بواسطة المقيم البريطاني في بغداد إلى سفارة استنبول. قدمها الترجمان (شابر) مع أقوال السفير في حق الوزير تتضمن حسن حاله ...

قال لطفي : طالعت كل هذه الوثائق ...!

اهتمام الدولة بلزوم تأديب الوزير :

ثم إن الصراف لداود باشا في استنبول ورد إليه كتاب من ابنه في بغداد يصدق ما جاء من نبأ علي رضا باشا والعزم مصروف إلى لزوم التنكيل بداود. فقدمت الدولة مهمتها على غيرها وجعلتها أم المسائل وقامت بتدابير عاجلة.

وعلى هذا بينت الدولة الحالة سرا إلى علي رضا باشا والي حلب وهو من أقوى الوزراء في جوار بغداد وأقدرهم ... فأجاب أن تأديبه أمر سهل إلا أنه إذا لم يكن للدولة معلومات عما أعلمه عنه فلا تتخذ أي تدبير علني ولا تشرع بشيء من ذلك فطلبت منه المعلومات وأرسلت إليه ترجمة كتاب الصراف فورد الجواب منه ينطق بأن أكثر رؤساء العشائر في البصرة وبغداد وتجار البصرة كل هؤلاء ساخطون وأكثرهم ذو

٣٤٩

علاقة به. ومن المتوقع أن تلتحق به رؤساء القبائل وعساكر عظيمة من أنحاء البصرة إلى بغداد ، فيرى أن توجه إليه بغداد إلحاقا بحلب ويعلن ذلك ، وأن تودع الموصل إلى قاسم العمري برتبة باشا وأن تدفع إليه ستة آلاف كيس على أن تسترد بعد ذلك ، وأن تصل إليه المهمات وأن يلتحق المتميزون من الأهلين في الأطراف بمعيته ...

أنهى ذلك كله فوافقت على طريقة حله ...

ومن جهة أخرى أشعر رسميا إلى دولة إيران عما وقع من داود وأنه اقتضى تأديبه ، والشروع بما يجب عمله فإذا حاول أن يفر إلى جهتها فترجو أن لا تؤويه. وجعل بصحبة علي رضا باشا كل من يحيى باشا والي ديار بكر ، وعلي شفيق باشا والي أرضروم (أرزن الروم) سابقا وموظفين كثيرين ومتسلمين وأكابر رجال الكرد والأنحاء المجاورة.

والملحوظ أن والي الموصل عبد الرحمن باشا توفي في هذه الأثناء ، وأن قاسم أفندي التزم مخلفات أخت المتوفى وأخيه وأمه بألف وخمسمائة كيس بسعر الموصل ، وبهذا نال إيالة الموصل.

كما أن علي شفيق باشا من أهل بلد علي رضا باشا فصوب استخدامه معه.

حركة علي رضا باشا إلى بغداد :

إن علي رضا باشا هيأ لوازم السفر واستعد. وفي ٨ شوال سنة ١٢٤٦ ه‍ توجه من حلب إلى بغداد. وفي حركته هذه بعث أوامر (بيورلديات) تتضمن الرأي والأمان لمماليك بغداد والعثمانيين (الجيش الوطني) ولصنوف (الينگچرية) وسائر الأهلين. وبذلك أراد جلبهم إلى جهته.

٣٥٠

وصوله إلى الموصل :

وفي ذي القعدة وصل إلى الموصل وأبقت الدولة وزارة حلب بعهدته ووجهت رئاسة البوابين إلى متسلم حلب إبراهيم آغا ووردت الوزارة إلى محمد باشا. فصار قائممقاما في حلب. وهذا هو (البيرقدار) ووجهت رتبة مكة إلى قاضي حلب وحيد أفندي العرياني ووجه قضاء بغداد إلى قائممقام النقيب (تقي الدين القدسي) وكان أخذه معه. ثم ألحقت ديار بكر بعلي رضا باشا فخولت إدارتها إلى شفيق باشا ورفع يحيى باشا إلى رتبة الوزارة وأقيم في أماسيه ...

ثم إن علي رضا باشا نال كل التفات ووجه إليه عنوان سر عسكر (قائد الجيش) تقوية لنفوذه. فأصدر الخط الهمايوني وجاء في فقرة منه : «تذاكر المجلس بخصوص إعطاء عنوان سر عسكر إلى الوالي تقوية لنفوذه وإعظاما للمسألة ، وبيانا لمكانته وأهمية القضية التي يعالجها» اه ...

ثم صدرت الإرادة إلى الصدر السابق سليم محمد باشا أن يذهب إلى فيلق حلب ليكون قوة ظهر فصار قائدا للفيلق الثاني وسار بسرعة إلى أنحاء حلب.

داود باشا ـ اجراءات الدولة :

وقف الوزير على الأعمال المتخذة والنوايا المزمع عملها فبدرت له فكرة نقل أمواله ونفائسه ونقوده الموجودة إلى الهند بمعرفة قنصل انكلترا فإذا تضايق فحينئذ يذهب هو أيضا إلى الهند. فلما علم الباب العالي دعا ترجمان الانجليز (شابر) وبسطت له الحالة وبين له أن كل مساعدة له تنافي الصفاء والولاء بين الدولتين وأن يبين ذلك للسفير رسميا. ولما كان يعتقد بعدم التصحب أبدى أنه ينبغي محافظة حدود البصرة قبل كل شيء وختم الترجمان كلامه بذلك وذهب.

٣٥١

ومن ثم كتب إلى علي رضا باشا بلزوم محافظة أنحاء البصرة ، وأن يسرع فأجرى الإيجاب.

وبعد هذا قدم سفير الانجليز إلى الباب العالي مذكرة حاول بها أن يعفى عن داود باشا. ولكن الجواب المرسل من مقام الرئاسة كان يضمن أنه لزم القصاص الشرعي في حقه ولا يمكن العدول عنه فأجاب الترجمان أرى الأولى من صرف مبالغ طائلة أن تؤخذ منه المقادير التي سيؤديها ... ألم يكن ذلك خيرا؟

فقال له : إن الرجل خائن ، ولا قيمة للمبالغ التي يؤديها وإن الخزائن الموجودة معدة لتصرف في مثل هذه السبيل. فلا يستثقل من مصاريف باهظة مثل هذه ...!

فأعيد الترجمان.

حوادث سنة ١٢٤٧ ه‍ ـ ١٨٣١ م

حادث بغداد :

يعين هذا الحادث وضعه التاريخي وما كان من مراجعات رسمية ، وما قصه أكابر رجالنا في بغداد. وخير من عولوا على بياناته الأستاذ محمد أمين الكهية مفتي بغداد الأسبق قال ما ملخصه : إن الدولة اختارت ـ بعد أن سمعت بحادث صادق ـ علي رضا باشا للمهمة فسار من حلب بقوة عسكرية كافية ، وكان معه من المبعدين والفارين من المماليك جماعة منهم رستم آغا ، وأخو شوكت صالح آغا وصالح چلبي الزهير ، وصفوق الفارس شيخ شمر ، وسليمان الغنام من رؤساء عقيل ...

وإن هؤلاء كاتبوا الأطراف وسعوا لجلب الأعيان وسائر من يؤمل منهم خدمة وصاروا يهتمون بمن يوافيهم فينال كل اعزاز وتكريم ...

٣٥٢

وبذلت الأموال الطائلة في هذه السبيل ... وكلما جاؤوا إلى موطن أعزوا أهله ، وبشوا في وجوههم وقضوا مطالبهم حتى جاؤوا إلى الموصل.

وفي الأثناء فتك الطاعون فاستفاد القوم من هذه الغائلة. ومع هذا لم يضيعوا الحزم فبقي علي رضا باشا في الموصل مدة ونصب قاسم باشا متصرف الموصل (قائممقاما) لبغداد وعين بمعيته خليل بك الكتخدا السابق ، والحاج أبو بكر ، وشيخ شمر الجرباء صفوق ، وسليمان الغنام وأتباعهم ولواحقهم ... فأرسلهم إلى بغداد من طريق الصحراء من الجانب الغربي.

ولما وصلوا إلى ما يبعد نحو خمس ساعات أو ست ساعات عن بغداد أرسل قاسم باشا البيورلدي إلى قاضي بغداد طاهر السيروزي خفية ، فأظهره لبعض معتبري الأهلين وأخذ منهم عهدا أن لا يخونوا دولتهم وأن يخلصوا لها.

ولما كان الوزير في دار الحكومة صار طاهر أفندي يحث الأهلين ويدعوهم أن لا يركنوا إليه. وأن يبادروا لاستقبال القائممقام وإلا نظر إليهم نظر عصاة. فلما سمعوا منه ذلك وافقوه ، وأذعنوا بالطاعة.

أما الوزير فقد قتل الوباء أكثر عساكره ورجال دائرته وحواشيه وسائر أعوانه ومماليكه ما عدا الأربعين أو الخمسين نفرا منهم كانوا في الخارج والداخل حتى إن سليمان آغا الميراخور توفي في خانقين مطعونا مما أدى إلى تفرق أتباعه. وفي تلك الأثناء مرض الوزير بالطاعون وتعطل عن إدارة الأمور.

ولما زال الوباء عاد من فر وممن رجع محمد المصرف. وهذا كان منتظرا مجيء محمد باشا آل خالد باشا ومعه نحو أربعمائة فارس أو خمسمائة من الأكراد فتوقف خارج المدينة معتمدا عليه. ومن ثم عين

٣٥٣

الباشا محمدا المصرف مكان سليمان آغا الميراخور.

ذهبا إلى أنحاء مندلي وخانقين من طريق بهرز ليتداركا قوة إلا أن رئيس شمر طوقة الشيخ محمد البردي كانت بينه وبين الشيخ صفوق مخابرة فأوصاه صفوق أن لا يفلت منهما أحدا إلى خارج بغداد.

وعلى هذا أراد محمد البردي أن يبدي خدمة ، وأن يستولي على الغنائم. وبهذا الأمل خرج عليهما بقبيلته وسائر من معه من عشائر أما محمد باشا فإنه أبدى بسالة وشجاعة ولكن معداته الحربية نفدت وسقط بعيدا عن الماء وبهذا خارت قواه فانسحب بعد ذلك ولم يسلّم. وأن محمد المصرف عري وصار يقوم ويقعد حتى تمكن من الذهاب إلى ناحيته. وحينئذ استولى محمد البردي ومن معه على خزانة الوزير وما جمعه محمد المصرف. فصارت لمحمد البردي ومن معه من العربان ...

وإن الوزير لم تكن له قدرة القيام والقعود. ومع هذا كان في كل يومين أو ثلاثة يأتي إلى دائرة العرض محتضنا بالأيدي فيجلس في محله ثم يرفع الستار فيدخل عليه البعض. نجا من مخالب الطاعون وصار يخرج متطلعا على العثمانيين المجتمعين ويجلس كجلسة خطيب ثم ينفض الحضار من حوله فيعاد إلى دائرة الحرم.

وإن قاسم باشا جاء بفيلقه إلى محل قريب من الكاظمية فصارت تسمع أصوات المدافع من هناك. وفي بعض الأيام وافت الساعة الحادية عشرة فجاء نحو المائتين من الأهلين المسلحين من محلة الشيخ فهاجموا دار الحكومة. وأشعلوا النيران في باب السراي الداخلي ثم انسحبوا. وكان ذلك لإفهام الوزير أنهم من أعوان الدولة ، وإعلام قاسم باشا أنهم منقادون مخلصون لها.

٣٥٤

هرب الوزير :

وعلى هذا علم الوزير أن الأمر خرج من يده وأنه لا يسعه أن يحتمي بالسراي فلم يدر أين يذهب؟ وفي تلك الليلة ركب فرسه واستصحب معه حبشيا يقال له فيروز وخرج من السراي والتجأ إلى بيت حبيبة خانم زوجة محمد آغا من ملتزمي الاحتساب المعروف بـ (قره بيبر).

وفي اليوم التالي عرف مقره فوافاه العلماء والرؤساء والأعيان وأخرجوه من ذلك البيت بتعظيم واحترام ، وأبدوا أن علي رضا باشا إذا ورد فلا يستطيع أن يتعرض ولو بشعرة منه ، ولا يقدر أن يصيبه بأذى ما ، وإنما يسلم إليه دون أن يناله مكروه. وحينئذ نزل ضيفا عند صالح بك ابن سليمان باشا الكبير وتعهد له بسند مصدق من جانب الشرع يتضمن لزوم المحافظة عليه ...

القائممقام في بغداد :

وحينئذ عرضت الكيفية على القائممقام وطلب منه أن يعجل بالمجيء فأجاب الدعوة في الحال. وسارع أركان المدينة وأعيانها لاستقباله فجاؤوا به إلى دار الإمارة ...

ومن حين دخل المدينة حصلت له فكرة ضبط بغداد ودفع علي رضا باشا استعانة بصفوق وسليمان الغنام. ولكنه تيقن بأن الأمر لا يتم له ما لم يقض على الوزير والمماليك وكذا على بقايا العثمانيين ... قرر ذلك في نفسه ولما قرىء البيورلدي كان أول عمل قام به أن دعا الوزير إليه. ولما لم توافق الهيئة على هذا ركب فلكة في اليوم الثالث من دخوله ليلا وقت العشاء وذهب إلى دار الحاج صالح بك الكائنة على ساحل دجلة (بيت دلة) وطلب الوزير ولكنه أقنع بالأدلة المسكتة فلم يذعن وأصر على طلبه وجرى بينه وبين صالح بك مناقشة انتهت في أنه

٣٥٥

تعهد أن يسلمه غدا بمحضر الهيئة والقاضي ويستعيد السند الذي أخذ منه ، فصار القائممقام ينتظر انبلاج الصباح.

أما المعارضون فقد شعروا بالخطر من القائممقام كما أن العوام رأوا ما يكرهون من الشيخ صفوق ومن سليمان الغنام. والظاهر أنهم لم يتمكنوا من ضبط أعوانهم فعاثوا وإلا فهؤلاء لا يعرف عنهم ما عزي إليهم. وبهذا يفسر قول صاحب مرآة الزوراء وتاريخ الكولات أو كان ذلك تشنيعا من أعدائهم ...

مؤامرة ودعوة فمقارعات :

إن بعض الخواص (١) علم بمجيء قاسم باشا ليلا ثم أخبر بالأمر الحاج صالح بك والوزير ، وفي تلك الليلة اجتمعوا في دار صالح بك وتذاكروا فقر رأيهم أن يفتكوا بقاسم باشا لسلامة العموم.

وعند الصباح دعا قاسم باشا للحضور من يجب حضوره لأخذ داود باشا بمحضر الهيئة وأن يعطي لصالح بك سنده فحضر من لم يكن يعلم بما بيت ليلا. وأن المطلوب حضورهم لم يأتوا فأوجس قاسم باشا خيفة من تأخرهم فعزم أن يقضي على من يتيسر له القضاء عليه إلا أن الحاضرين صاروا يتسللون الواحد بعد الآخر. وتوارد الأهلون مسلحين فقال قاسم باشا : ما هذه الجلبة؟!

قالوا له إن هؤلاء ممن لا يعرفون وزنا لأنفسهم من الخذلة ، لنقم الآن وندفعهم فنهض بهذه الوسيلة من بقي. وحينئذ كان مع قاسم باشا نحو ثلاثة آلاف أو أكثر من عساكر عقيل فدافعوا من وراء الحيطان وسدوا الأبواب.

__________________

(١) في مرآة الزوراء أن صالح بك أخبر السيد محمود النقيب وتمكن من جذبه لجهته.

٣٥٦

بدأ القتال من وراء الحيطان ومن المتاريس والتحق العقيليون من عسكر الوزير في الكرخ بالأهلين دون أن يدعوهم أحد. وممن في الثكنة الداخلية الملا حسين رئيس الاحشامات دخل في زمرة الأهلين وأعطي مدافع ومهمات ومعدات حربية. وعدا ذلك وجه القنابل من داخل القلعة على السراي فكانت تمطر على جوانب السراي الأربعة وبهذه الصورة استولى على المحصورين اليأس.

وكان درويش آغا القائممقام قد أعاقه قاسم باشا عنده ثم ساعد على خروجه ... فأفهم المحاصرين أن جناب أفندي الذي جاء مع صادق أفندي من الخواجگان ولا يزال في السراي ، وقد استولى عليه الخوف والهلع ... فأقنعهم بلزوم إخراجه وإخراج صادق بك الذي جاء مع علي رضا باشا فوافقوا.

وبناء على ذلك أرسل مصطفى بك الربيعي فأخرج جناب أفندي وصادق بك من أعيان عينتاب. وفي وقت العصر سلم قاسم باشا و (ويودة) ماردين ولكن الحاج أبا بكر آغا كتخدا علي رضا باشا السابق مع سليمان الغنام امتنعوا من التسليم وبقوا إلى وقت الغروب ، وقبل أن يستولي الظلام انتهبوا الخزانة الداخلية وألقوا النار في غرفة العرض فاحترقت الأطراف ما عدا الحرم وخرجوا في وقت ذهاب الناس إلى أهليهم. ركضوا مسرعين وذهبوا من باب الإمام الأعظم حتى أنهم لم يبالوا بما سقط من أكياس الذهب والفضة. ولا بما تساقط من شقوق الأكياس (١) ...

حبس القائممقام وقتله :

حبس قاسم باشا مع ويودة ماردين شهرا ونصف شهر وبناء على

__________________

(١) تاريخ لطفي ومرآة الزوراء ص ٤١.

٣٥٧

إصرار الوزير قتلا وجاء في مجموعة الأستاذ أبي الثناء الآلوسي كان قتله في ٣ المحرم سنة ١٢٤٧ ه‍ أيام الفتنة قبل أن يفتح بغداد علي رضا باشا اللاز (١) ...

وبقيت نقود كثيرة. وأواني فضية وذهبية وسيوف مرصعة وطبانجات وخناجر ومحامل مرختة ومرصعة مما يخص الوزراء ولؤلؤ وشمام وعنبر وبنادق وأسلحة نارية وصناديق وشال لاهوري وأقمشة هندية فكان من التحف الكثيرة والتفاريق التي لم تشاهد قبل ومن نوادر ونفائس فريدة وعديدة اغتالتها أيدي النهب والسلب.

اجتماع واتفاق :

انتهت غائلة قاسم باشا ببؤسها إلا أن الاضطراب من جراء علي رضا باشا لا يزال كبيرا ويحسب للخطر ألف حساب. ولكن انتهاب السراي أسس الاتفاق وشد الأزر. ولذا اجتمع العثمانيون والأهلون والحيطة (هايته) ومتقدمو العقيليين ... في محل واحد وقالوا لا يجوز بعد هذه الوقعة أن نأمن علي رضا باشا والأولى أن نبقي الوزير أو ننصب صالح بك ، وأن علي باشا لو جاء فإننا ندافع بأجمعنا لمقاومته ، وأن الدولة لا تهدم صرح مملكة عظيمة لأجل علي رضا باشا ...

وجرت مذاكرات أخرى عديدة فكانت النتيجة أن قرروا إرسال محضرين قدموهما بواسطة القنصل العام الانجليزي المستر تيلر أحدهما يرسل من طريق الشام ، والآخر من طريق إيران فأرسلا وأوضح فيهما حدوث هذه الوقعة ، وأنهم سلب أمنهم. وقدموا ذلك إلى استنبول وصاروا يترقبون صدور الإرادة الملكية. وقرروا أن علي رضا باشا إذا جاءهم واضطروا لمدافعته فإنهم يناضلون بكل ما استطاعوا من قوة

__________________

(١) مجموعة الآلوسي رقم ٢٥٩١ في خزانة الأوقاف.

٣٥٨

ويكونون قد بدأوا بالمخالفة فيما إذا لم يسمع منهم قول. كما كتبوا محضرا قدموه إلى علي رضا باشا مع أحد متميزي المماليك سفيان أفندي (الخطاط المعروف).

ثم إن إقعاد الوزير في محل الحكومة يعد بمثابة عصيان على الدولة ومكاشفة لها في العداء. ولذا أقيم في دار صالح بك الذي نصب (قائممقاما).

كان ظهور هذه الحالة من قاسم باشا مما سبب أن تسلب الأمنية فكتب الأهلون المحضر إلى الباب العالي وطلبوا العفو وعوضوا بدل هذا العفو بعشرين ألف كيس خدمة للخزانة الجليلة ، وإبلاغ سنوية بغداد إلى أربعة آلاف كيس في السنة الأولى بعد أن كانت ألفين ، ثم يضاف في كل سنة ألف كيس حتى تبلغ عشرة آلاف كيس وتؤدى المبالغ المصروفة من قبل علي رضا باشا على حدة ، وأن الإيالة بأجمعها كفيلة بذلك ويلتمس ابقاء الوزير داود باشا وإذا لم يوافق رأي الباب العالي فالمأمول أن توجه الوزارة إلى صالح بك. وهذا إذا لم يمكن فلا نكلف بمبلغ وللدولة أن تختار من شاءت. ويتخلل هذا ألفاظ رقة ومرحمة وتعابير استرحام وتمنيات ...

أوضاع علي رضا باشا :

أما علي رضا باشا فإنه حينما علم أن قاسم باشا دخل بغداد بسهولة سار من الموصل وحط رحاله على نهر الزاب ، وحينئذ وصل إليه سفيان أفندي فعرف دخائل الأمر ولئلا يحدث اضطراب في الجيش أمر بالرحيل. وتقدموا مرحلة إلى الامام. وفي اليوم التالي وصلوا إلى إربل ولم يتوقفوا واستمروا في السير حتى ضرب الجيش خيامه أمام قصبة الأعظمية.

وجاء ذكر واقعة بغداد في حديقة الورود. وبين الأستاذ سليمان

٣٥٩

فائق أن كلّا من قاسم باشا والحاج أبي بكر وسليمان الغنام وصفوق صار يميل إلى تولي الإدارة وأن يستقل بالأمر (١).

الطاعون والغرق في بغداد :

إن هذا الداء كان من المصائب العظيمة على بغداد. محا البيوتات الكثيرة وقضى على الآثار بل هو البلاء على المماليك. سبّب انقراض حكومتهم. ولولاه لما أمكن الاستيلاء على بغداد.

وجاء وصفه في حديقة الورود حدث في سنة ١٢٤٦ ه‍. ابتدأ في العشر الأواخر من شهر رمضان وأوضح عن المصاب وما كان يهلك كل يوم حتى ضاع الحساب. زاد شدة في شوال فهرب الناس ومات الغالب وخف في ذي الحجة. ومن ثم صار ينقل الموتى ويطرحون في دجلة وانقطع بعد أن أضر بما لا مزيد عليه. وجاء وصفه أيضا في غرائب الاغتراب وفي مجموعة الآلوسي ومجموعة خليل ونة. وأن دجلة فاضت فدمرت غالب البيوت ... مما يطول تفصيله (٢).

محاصرة بغداد :

وحينئذ سدت مداخل المدينة فدافع الأهلون. وكان في كل ليلة تطلق تسع قنابل بقصد الإرهاب ، فانقطع الذهاب والإياب وكانت مدافع بغداد تجيبها. وثابروا على هذه الحالة.

وفي مرآة الزوراء :

«إن الأهلين كانوا بانتظار الأمر العالي ولكن ورود الوزير بسرعة

__________________

(١) حديقة الورود ص ٢٩ مخطوطتي. ومرآة الزوراء ص ٣٩.

(٢) حديقة الورود ص ٢٧ من مخطوطتي ، ومجموعة الآلوسي رقم ٢٥٩١ وغرائب الاغتراب ص ٢١ ومجموعة خليل ونة.

٣٦٠