موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٦

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٦

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

المقطوعة إلى استنبول وأما درويش محمد آغا ، والحاج عبد الله آغا فإنهما وصلا حدود السبعين من عمرهما ، وإنهما كما تحقق للوزير قد أكرها على التوظف فرأفت الحكومة بشيخوختهما وكبر سنهما فعفت عنهما كما أن الحاج نعمان چلبي من التجار المعتبرين وأن قتله سيؤدي إلى تنفير التجار وتوحشهم ، ولهذه الملاحظة ومراعاة لخاطر التجار توقف الوزير عن إعدامه وعرض الأمر على الدولة فعفت ، وأن درويش محمد آغا ، والحاج عبد الله آغا قد أدخلا في عداد الندماء ونالا التفاتا وإكراما (١) ... والحاج نعمان چلبي هو صاحب مسجد العمار سبع أبكار وكان الأستاذ أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي أول مدرس فيه ، وآل الباچه چي اسرة معروفة في بغداد ، ولم يعقب الحاج نعمان الباچه ـ چي فآلت تولية المسجد إلى ابن أخيه الحاج سليم چلبي بن عبد الرحمن وذريته وإلى سعد الدين وذريته. والتفصيل في كتاب المعاهد الخيرية.

قتل السيد عليوي آغا الينگچرية :

لم تؤدبه الغربة. وكان يحسب الوزير أنه رجع عن غيّه وأبدل حالته. لذا حينما كان الوزير في بلاد الكرد وافى إليه الآغوات من كرمانشاه وجاء معهم فدخلوا جميعا في معية الوزير وكان المرقوم آغا بغداد سابقا وتبينت له خدمة ماضية فحين وروده بغداد جعله الوزير (آغا بغداد) كالأول. ولكنه عاد إلى حالته الماضية فلم تتغير أطواره من نفاق وفتنة كما أنه فسدت طباعه أكثر في ديار إيران وظهرت مساويه بوضوح ...

ورد من الشهزاده محمد علي ميرزا بعض التفاصيل عن سوء أحواله خفية ، كما أنه ظهرت منه فلتات لسانية وأوضاع رديئة ... كل ذلك تبين

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٨٥.

٢٨١

بصورة يقينية لذا رأى الوزير من الضروري أن ينال عقوبته قبل أن يقوم بعمل يخشى منه فعاقبه بالقتل. ولما كان عبد الرحمن أفندي كاتب الينگچرية موصوفا بالرشد والروية نصبه الوزير وكيل الآغا وقربه منه (١) ...

أراد الوزير أن يقضي على كل من كان يخشى منه أو يتوسم فيه قدرة معارضة ليخلو له الجو وتصفو الإدارة خالصة ...

بعض العشائر :

إن أمور الحكومة وإدارتها كانت في الأيام السالفة منحلة. وهذا ما دعا أن تخرج العشائر قاطبة عن دائرة الطاعة وتلتزم العصيان والمخالفة ولكن الوزير هابته العشائر وخافت صولته فلم يقع ما يكدر الصفو ... إلا أن بني تميم والباوية من شمر ، والنجادة (البو نجاد أو النجادات) من الدفافعة ، وعشائر بني عمير وبعض العشائر في المحمودية ... عاثوا بالأمن فاقتضى تأديبهم فعين الوزير عبد الفتاح آغا (بلوك باشي) بيارق الخيالة لتأديب بني تميم ، وآغا الحشامات يوسف آغا لتأديب عشيرة الباوية من شمر ، والنجادة من الدفافعة ، والبو موسى ، وأرسل باش آغا السابق عبد الله آغا ، والسلحدار مظفر آغا لتأديب عشيرة بني عمير ، وسير عبد الله بك الشاوي باب العرب (من آل سليمان الشاوي) وخليل آغا متسلم كركوك سابقا للمتجمعين في المحمودية. فذهب كل واحد من هؤلاء للناحية التي وجه إليها فقاموا بما عهد إليهم وأدبوا المرقومين وأخذوا أموالهم ومواشيهم (٢). فحصل المطلوب وهو جل القصد من التأديب ...

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٨٦.

(٢) دوحة الوزراء ص ٢٨٦.

٢٨٢

راحة وطمأنينة ـ قصائد الشعراء :

من أيام علي باشا إلى سعيد باشا تشوشت أمور العراق فالفتن والاضطرابات في كل صوب. توالت المحن ، وزال الأمن ... وفي كل هذا انتهكت الحقوق ، فوصلت الضجة إلى عنان السماء. فمنّ الله على العراق بهذا الوزير فكان نصير الفقراء والضعفاء ، وأكبر من اهتم بأمر العدل والنظام فسعى للتنكيل بالعابثين وأوقع بهم ... فدبر الملك بقوة وسياسة رشيدة فذهب البؤس وزال الخوف فتحركت الهمم ، وصار يرعى الوزير كافة الطبقات لا سيما العلماء ، والفضلاء والأدباء والشعراء فيمنح الجوائز ، والوظائف ، ويقدم له الشعراء والأدباء خير البضائع الأدبية بلغة الضاد كما أن الأدباء من الترك والفرس لم يحرموا بدائع بيانهم من نظم ونثر فيحصل كل فوق ما يأمل.

قال صاحب الدوحة : فالقصائد العربية لا تكاد تحصى وكذا القصائد التركية والفارسية ليست بالقليلة ورجح أن ينشر قصيدتين باللغة التركية إحداهما لـ (ثاقب خضر) وهو شقيقه سماها (عيدية) ، والثانية لـ (عبد الله الإربلي) (١).

نجتزىء بالإشارة إليهما وهما طويلتان. وقد حصل الأول على جائزة ثلاثة آلاف قرش ، والآخر كانت جائزته أن نال قضاء إربل أما المادحون من العرب فمنهم الشيخ صالح التميمي (٢). وعلي علاء الدين الموصلي المدرس مدحه بقصيدة فلم ينل منه معروفا وصد عنه. ولعل السبب أنه مدح سعيد باشا ، فكرهه (٣).

ومنهم عثمان بن سند. أرسل إليه قصيدة طويلة من البصرة مع

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٨٨.

(٢) ديوان التميمي ص ٨٩ مخطوطتي.

(٣) التاريخ الأدبي للعهد العثماني. (لا يزال مخطوطا).

٢٨٣

رسالة. ذكرهما في تاريخه في حوادث السنة الأولى من أيام وزارته وأتبعها بأبيات من رسالته (١). وغير هؤلاء من الشعراء.

عشيرة الدليم :

كانت هذه من العشائر المساعدة للوزير السابق. قال صاحب الدوحة : ما زالت ولا تزال تعصى على الحكومة ، وفي زمن الوزير حدث فيها اضطراب فعذلت بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى ، فلم تنجع فيها الوسائل. لذا أمر الوزير وكيل الكتخدا (محمد آغا) للتنكيل بها فنهض من بغداد في ٢ ذي الحجة وقام بما عهد إليه. أما الدليم فتأهبوا للمقاومة وتكاتفوا للدفاع.

حوادث سنة ١٢٣٣ ه‍ ـ ١٨١٧ م

الدليم أيضا : (تتمة)

وكانت مواطن الدليم لا تخلو من غابات ، وعوارض لا يستطيع الجيش أن يسير فيها بسهولة ولا يتمكن من اجتيازها. فلاذوا بهذه الأماكن ظانين أنها الملجأ الوحيد. أما وكيل الكتخدا فإنه كان قبل بضعة أيام قد حصل على رتبة كتخدا أصالة ويحاول أن لا يحبط عمله لدى الوزير ، وأن لا يخيب الظن في اختياره فبذل غاية جهده ليفوز بالغلبة فلم يبال بالأخطار في سبيل آماله واقتحم المصاعب فاضطرهم إلى التسليم واستشفعوا بباب العرب عبد الله بك الشاوي ، وبعبد الله آغا بلوك باشي بيارق الخيالة. وبتوسط هؤلاء اختاروا الطاعة وقدموا مبالغ وفيرة ، وهدايا عظيمة ... فقبلت دخالتهم وعفي عنهم. وعين لكل قبيلة آغا يحصل المتعهد به.

__________________

(١) مطالع السعود ص ١٦٩ ـ ١٧٣.

٢٨٤

وعرضت تفاصيل ذلك للوزير فقبل بالعفو وشكر سعي القائمين بالأمر. وفي خلال بضعة أيام أكملوا التحصيلات منهم (١).

عشائر أخرى :

انتهب عربان الجرباء من عشيرة الحديديين بعض المواشي فضيق عليهم من جراء ذلك وأخذ منهم خمسمائة ذلول ، وأن ترسل الأموال إلى دائرة الوزير أولا فأولا.

وبهذه الصورة حصل النظام.

ثم عادوا من طريق الشامية إلى الحلة. وكانت عشيرة اليسار خرجت عن الطاعة فأغار عليها جيش الكتخدا فاستأصلها ، واستولى على أغنامها وأموالها ومواشيها وأدبها بالوجه المطلوب. وعاد إلى بغداد فدخلها يوم الخميس ١٠ صفر فأكرمه الوزير وألبسه الخلعة ومكنه في مسنده. ومدة هذه السفرة شهران وثمانية أيام (٢).

الغارة على شمر طوقة :

إن هذه العشائر منطوية على الشر ، وإن شيخها (حمد البردي) موصوف بالغرور ، وإن قومه يقطعون الطرق فأمر الوزير كتخداه محمد بك ليسير عليهم فذهب بمقدار من الجيش ليلا عند صلاة العشاء وطال سيره ثماني عشرة ساعة حتى وصلوا ديارهم. فعلموا بالخبر فتفرقوا ، ولم يتمكن الكتخدا من استئصالهم ولكنهم تركوا بضعة آلاف رأس من الغنم ، ومقدارا من الإبل نظرا لما أصابهم من اضطراب وارتباك ثم عاد الكتخدا إلى بغداد. وكانت مدة هذه السفرة ثمانية أيام (٣). وبهذه الغارات والغزوات سد الوزير عجز ماليته.

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٩٢ ومطالع السعود ص ٢٢٣.

(٢) مطالع السعود ص ٢٢٤ ودوحة الوزراء ص ٢٩٣.

(٣) دوحة الوزراء ص ٢٩٤.

٢٨٥

أحمد باشا والي الموصل :

إن ولاة الموصل من قديم الزمان كانوا تبعا لولاة بغداد يجتنبون ما يخالف رغباتهم. أما والي الموصل أحمد باشا فإنه لم يكن كأسلافه. لم يبال بما يوافق رغبتهم ، أو يخالفها فجابه الوزير بمخالفات عديدة ولم يخل من معارضة ...

ولو أغمض الوزير عينه عنه لأدى إلى إخلال في أمور كثيرة وتشوش في النظام. فلم يسعه التساهل للمصلحة التي كان يراها فقدم عرضا بذلك إلى الدولة وبين لها حقيقة الأمر. فالشكاوى من ولاة بغداد مسموعة وبالأخص على ولاة الموصل.

فأجابت الدولة ملتمسه وعزلت والي الموصل على أن يذهب إلى حلب ويقيم في المحل المسمى (شيخ بكر) وصدر الفرمان بذلك ، وتوجهت إيالة الموصل إلى حسن بك بن حسين باشا الجليلي وأرسلت الفرامين بواسطة والي بغداد فأرسلها مع (درويش محمد آغا) الكتخدا السابق إلى حسن باشا ، فامتثل أحمد باشا الأمر وتوجه نحو حلب إلا أنه أثناء الطريق وعند وصوله إلى المحل المعروف بالموصل القديمة أمال عنان فرسه وجاء إلى بغداد فدخل على الوزير إذ لم ير ملجأ للعفو إلا من طريقه. وحينئذ قام الوزير بما يقتضي من ضيافته وإكرامه ، وأنه صمم أن يكتب إلى استنبول في أمره. وإثر وصول الفرمان إلى حسن باشا جلس على سرير الحكم ولكنه مرض بضعة أيام فتوفي.

ولما ورد خبر ذلك إلى بغداد استشفع الوزير لأحمد باشا وبعد تردد واشتباه قبلت الدولة شفاعته ومنحته ولاية الموصل وورد منشور إيالته وذهب مكرما إلى الموصل وهذا هو الذي يأمله الوزير من سلطة على الموصل وولاتها (١) ...

__________________

(١) تاريخ شاني زاده ج ٢ ص ٣٩٦ ودوحة الوزراء ص ٢٩٤.

٢٨٦

محمود باشا متصرف بابان وكوى :

إن محمود باشا تعهد أن يقطع علاقته من إيران ولكن محمد علي ميرزا حاكم كرمانشاه ضيق عليه في الخفاء وأسرّ إليه أن يخالف وهدده فلم يستطع أن يخرج عن طاعته.

أما الوزير فإنه احتاط للأمر ، والتزم الحقوق القديمة على أن لا تمس بسياسة الدولة ومكانتها فأرسل إليه عناية الله آغا المهر دار لينصحه ، ويدعوه للخدمة الخالصة ... فنصحه فلم يصغ إليه ، وبين أنه منقاد لإيران من كل وجه ...

وحينئذ تغير فكر الوزير عليه فنزع منه في بادىء الأمر لواء كوى وعهد إلى عناية الله آغا المهردار أن يعهد به إلى من يصلح. وأرسل معه من دائرته نحو مائة من آغوات الداخل ، وسير معه عسكر إربل وعشائر شمامك ودزدي (ديزه يي).

أما محمود باشا فإنه عرض لأموره وهن وفتور وذلك أن أخاه حسن بك أمير (قره طاغ) كان قد أرسله إلى محمد علي ميرزا الشهزاده ليكون رهنا لديه. وفي أثناء الطريق رجع توّا ودعا إليه بقية أتباعه وحاشيته. فرغبهم في اللحاق به فوصل إلى بغداد بنحو خمسمائة فارس من النخبة فالتجأ إلى الوزير فنال إكراما منه.

توجه عناية الله إلى إربل وفيها عثمان بك من إخوة محمود باشا. وهذا لم يستطع البقاء فترك نحو مائة خيال هناك مع محمد عيسى آغا وخرج من اللواء وأخذ بقية أتباعه ومتعلقاته وذهب إلى السليمانية. أما المهر دار فإنه ساق كتائبه إلى كوى وحينئذ فر محمد عيسى بمن معه من الخيالة من وجه المهر دار. وعلى هذا ضبط البلدة وأقام بها ثم أخبر الوزير بما جرى.

أما الوزير فإنه راعى جانب حسن بك وأبدى له توجها والتفاتا

٢٨٧

زائدا ، وعلى هذا وجه إليه ألوية كوى وحرير برتبة (باشا) وألبسه الخلعة وسيره إلى مقر حكومته فتمكن.

أما محمود باشا فإنه أخبر إيران بما وقع واستمدها. ورأت من المنفعة ما يبرر نقض العهد ويسوغ خرق الصلح فالتزمت جانب محمود باشا وجهزت جيشا يبلغ العشرة آلاف جندي بقيادة (محمد علي خان شام) البياتي ، وكذا سير خان الفيلية حسن خان ومعه عساكر اللر إلى أنحاء مندلي. وعلي خان گلهر مع (كلب علي خان) أمير كروسي وبقيادته نحو ثلاثة أو أربعة آلاف توجه إلى ناحية بدرة وجسان بأمل ضبط المقاطعات المذكورة.

فلما علم الوزير بالأمر تأهب للدفاع وأرسل كتخدا البوابين خليل آغا مع قوة كافية إلى مندلي ، وسير عبد الفتاح الباش آغا السابق مع مقدار من الجيش إلى ناحية جسان وبدرة. وأما كتخداه محمد آغا فإنه بعثه ليقطع الصلة بالجيوش المرسلة مددا إلى محمود باشا من جانب ايران ... وجهز معه جيشا عظيما ليذهب إلى جهة كركوك.

حوادث بغداد :

كان صادق بك رأى رعاية وإنعاما من الوزير وكان ينظر إليه بالتفات زائد. ونظرا لحداثة سنه وقلة رشده كان يأمل أن يكون وزيرا ودخل في دماغه ميل ورغبة في الرئاسة. لذا اتخذ هذه الوقائع وهجوم إيران من كل صوب فرصة سانحة لإنفاذ مرغوبه والقيام بدعوته ... لذا فر ليلا واختلس الفرصة فوصل إلى (عشيرة زبيد) والتجأ إلى شيخ شفلح الشلال. وهذا بمقتضى عوائد العشائر قد قبل دخالته وآواه ملتزما جانبه.

ثم وافاه قاسم بك الشاوي وكان صدر الفرمان بقتله والتجأ إلى الخزاعل وسكن معهم فعاضده واتفق معه فجمع له عشائر كثيرة فسلكوا

٢٨٨

طريق المناوأة ، وتجاوزوا على السفن المارة بين بغداد والبصرة وصاروا ينتهبون ما عرض لهم.

وعلى هذا عين الكتخدا لدفع غائلته وأخر الذهاب إلى كركوك وعين مكانه عبد الله باشا. عهدت إليه القيادة وسير معه محمد باشا ابن خالد باشا وبلوك باشي بيارق الخيالة عبد الله آغا مع كافة البيارق وجمع كبير من الصنوف الأخرى ...

وكذا كتب إلى المهر دار أن يلتحق بهم بمن معه من عشائر ذزه يي وشمامك كما علم أن الشهزاده عازم على الحركة من كرمانشاه وشاع خبر ذلك.

ولدى التحقيق تبين أن أمل الكتخدا من هذه الإشاعة أن يذهب الوزير بنفسه فيكون مانعا من إرسال قوة كافية إلى صادق بك لتمزيق شمله والقضاء عليه ... هذا وكان من متشخصي زبيد والمطالبين بمشيختها علي البندر مع شبيب الدرويش قد جلبوا لجهة الوزير وافترقوا عن الشيخ شفلح ...!

وحينئذ عزل شفلح ووجهت المشيخة إلى علي البندر وجعل في معيته جميع العربان فألحقوا بمن معه من عشائر وسلطوا على شفلح فتقابلوا في موقع يقال له (خشيخشة) وبتأثير من توجهات الحكومة لعلي البندر تغلب على شفلح وكسر هو وصادق بك وقاسم بك وذهب صادق بك ومن معه إلى جهة عفك. التجأوا إلى شيوخها وتحصنوا بالأهوار.

وكانت المشاغل الأخرى تدعو إلى تركهم على هذه الحالة شهرين. وفي هذه المدة لم يدعوا الشغب. استفادوا من الفرصة وركنوا إلى التشويش وسلبوا الراحة. انتهبوا السفن وقطعوا الطرق فاضطرب حبل الأمن ...

٢٨٩

أحوال إيران والبابان :

أما عبد الله باشا فقد ورد كركوك بعشائره. وكان هناك أيضا محمد باشا بن خالد باشا فاتفقا وكان المهر دار قد عين بصحبتهما آغوات الداخل وسائر خيالة العشائر فوافوا إليهم والتحقوا بهم. أقاموا في أنحاء كركوك وتكاتفوا لدفع الأعداء.

وأما الإيرانيون الذين سيرهم الشهزاده لمعاونة محمود باشا فقد وصلوا إلى ديار الكرد لكنهم لم يروا من المصلحة استرداد لواء كوى وانتزاعه من حسن باشا وذهابهم إليه لأن الجيش العثماني كان مرابطا في كركوك ويخشى أن يقطع خط الرجعة عليهم فرأوا الأحرى أن يخرجوا من مضيق (بازيان) إلى كركوك ، فمضوا إلى (كوشك اسپان) (١) وتبعد ثلاث ساعات عن (قره حسن) وتقابلوا.

وكذا وصل (حسن خان الفيلي) مع عسكر اللر إلى قرب مندلي كما أن (علي خان گلهر) مع (كلب علي خان كروسي) وسائر الجيوش وردوا حوالي بدرة وجسان وأبدوا آثار العداء ، ثم نهض الشهزاده من كرمانشاه بجيش عظيم وجعل (پاي طاق) مضرب خيامه.

ورد خبر ذلك كله إلى الوزير وسمع بورود الشهزاده فعزم بنفسه وأعد المعدات إلا أن الخانات الذين وردوا مندلي وبدرة وجسان بأمل الاستيلاء عليها هاجموها عدة مرات فلم يتمكنوا منها لما رأوا من دفاع.

وكذا الجيوش التي تبعت محمود باشا من إيران تقارعت طلائعها مرارا مع العساكر والكركوكيين فأصابهم ما أصاب أولئك فلم يفلحوا.

__________________

(١) كوشك اصفهان قرية تسمى بـ (كوله) عائدة إلى السيد أحمد خانقاه من رجال الطريقة (النقشبندية) أتباع الشيخ خالد من برزنجه. جاء من سركلو إلى كركوك. وتوفي قبل بضع سنوات.

٢٩٠

والحاصل لم تستطع طلائعهم أن تخرج عن أصل الجيش ، ولم تقم بعمل ما.

ثم وحدوا قواهم فصار الكرد والإيرانيون جبهة واحدة وبلغوا نحو أربعة عشر ألف فارس فوصلوا إلى (قوتلو) فوقفوا على تل هناك نحو ساعة أو ساعتين ليظهروا قوتهم بقصد الارهاب وأن يشوشوا على معنوية الجيش إلا أنه عقد النية على الدفاع وناضل نضال مستميت فلم يعبأ بخصمه.

وفي هذه الحالة هاجم منهم نحو خمسمائة على قرية (تسعين) (١) فقابلهم من العساكر نحو ثلاثين خيالا من أهل شمامك فأبلوا فيهم بلاء حسنا وغنموا منهم غنائم وافرة وتركوا المواشي التي كانوا انتهبوها. وعادوا.

شاهد محمود باشا هذه الحالة بأم عينه وعلم أن الإيرانيين لا يستطيعون التقدم ، فندم ندما عظيما وعاد. وأن أخبار هذه الوقائع كانت ترد إلى الشهزاده فتيقن ضعف جيشه ، وأن جيوش الوزير ما زالت تتوارد ، وأنه عازم على النهوض بجيش عرمرم. فأرسل كتابا إلى الوزير يرجو فيه ترك المخاصمات وأن تبقى كوى وحرير بيد محمود باشا وأن لا يرسل عبد الله باشا إلى ديار الكرد. وأن محمود باشا ينقاد إليه. وتبقى بابان في عهدته وألح في الطلب.

أما الوزير فقد عرض على دولته ماجريات الاحوال ، وأن الإيرانيين تقدموا على بغداد وعلى ربوع الكرد وأوضح مغازيهم ، وطلب المساعدة له. وعلى هذا صدرت الفرامين بلزوم حرب ايران ، وعين الأمراء والوزراء وسائر الرجال من أهل الكفاءة للقيام بالأمر ، وأن تجهز الجيوش اللازمة.

__________________

(١) من قرى داقوق. أهلها قزلباش ويقال لها (تسين) أيضا.

٢٩١

وبينما هم في هذه الحالة إذ جنح الإيرانيون إلى الصلح فلم تر الحكومة بدّا أن توافق صيانة للدماء وحبّا للراحة ، وأضيف إلى الشروط لزوم ترخيص سليمان باشا بن إبراهيم باشا الذي فر زمن سعيد باشا وعبد العزيز بك بن عبد الفتاح باشا متصرف درنة السابق الذي التجأ أيام عبد الله باشا إلى إيران وأن يسير إلى هذه الأنحاء ...

أسعف طلبه في حق محمود باشا وذهب السفراء من الطرفين لبضع مرات حتى استقر الصلح وتم الاتفاق بين الحكومتين وسحبت الجيوش الإيرانية من أنحاء مندلي وبدرة وجسان ، ونهض الشهزاده وعاد إلى كرمانشاه كما أن الوزير أمر بإعادة الجيوش وفاء بالشروط وجلب حسن باشا من لواء كوى ، وطلب من الشهزاده أن يرخص عبد العزيز بك وسليمان باشا فأرسلهم إلى بغداد.

وحينئذ خصصت مقاطعة (زنگباد) إلى سليمان باشا ووجهت درنة وباجلان إلى عبد العزيز بك برتبة باشا وأن عبد الله باشا ائتلف مع محمود باشا فجاء معتمد الدولة ميرزا محمد اللرستاني من الشهزاده لتعطى كوى وحرير إلى عبد الله باشا فأعادها محمود باشا إليه. وكتب للوزير كتابا يبدي فيه امتنانه العظيم وشكره وقدم الهدايا ... كما أنه أرسل والدته إلى أخيه حسن باشا لترغيبه في المجيء إليه فوافق وعاد إلى أخيه محمود باشا فتم أمر بابان (١).

صادق بك وشيخ زبيد :

شغل الوزير بأمر إيران مدة شهرين في خلالها شاغب هؤلاء ... ولذا أرسل عليهم عبد الله آغا بلوك باشي بيارق الخيالة ، وعبد الله بك

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٩٥.

٢٩٢

الشاوي وجهز عليهم جيوشا كافية فلما وصلوا إلى قرب محلاتهم لم يتمكنوا من اجتياز الأهوار والأماكن الصعبة المرور فاتخذوا الوسائل للتضييق عليهم ، وبقوا بضعة أيام ...

ولما ضيقوا الخناق عليهم أرسل الشيخ شفلح أنه إذا أعيدت المشيخة إليه ترك جماعته وحدهم ... وتعهد أنه يقطع علاقته من صادق بك وقاسم بك الشاوي ، وحينئذ عرضوا الأمر على الوزير فعفا عنه وأرسل إليه الخلعة مع أمر المشيخة ففارق جماعته وعاد ، فتضعضع أمرهم ...

ونفر من صادق بك بعض أعوانه بسبب ما كان يقوم به من الأعمال كما أن شيوخ عفك كفوا أيديهم عن مؤازرته ، وكذا فارقه قاسم بك الشاوي وبعض أتباعه فبقي متحيرا في أمره. وبكل عناء ومشقة تمكن من الوصول إلى الحويزة ومنها توجه إلى كعب وبقي هناك (١).

عشيرة الصقور (الصكور):

هذه العشيرة من عنزة كانت في أنحاء حلب. وأحيانا تأتي من طريق الشامية إلى أطراف العراق وتتجول في جهات الحلة وحسكة ... وفي هذه السنة وردت العراق وحلت في غربي المسيب من صوب الشامية فجاء بعض شيوخها إلى الوزير وعرضوا الطاعة. فنالوا إكراما ورعاية ثم أذن لهم بالذهاب على أن لا يأتوا بما يخالف الرضا ، أو يخل بالأمن. ورجعوا إلى مواطنهم ...

كل هذا التكريم ، وتلك الرعاية لم تؤثرا ... فصاروا يعيثون بالأمن وتوالت الشكاوى عليهم فصدر الأمر بتأديبه وسير الوزير خازنه يحيى آغا بسرية عبرت الفرات من الجسر وتوجهت نحو هذه العشيرة.

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٣٠٠.

٢٩٣

فلما وصلت إلى قلعة أبي صخير في غربي المسيب تقابل الخازن معهم فأبلى الجيش بلاء حسنا ، ولكن الخازن لم يكن عارفا بترتيب الصفوف ولا مطلعا على الأمور الحربية ، وبما أن (السر بالسردار) كما يقول المثل العامي أي الجيش بقائده. غلب الجيش على أمره وكسر فتفرق العسكر شذر مذر فوصلوا إلى (قلعة الدريعية). وحينئذ عرض الخازن الأمر على الوزير بما وقع فأمر أن يرجع (١).

عشيرة شمر :

إن العراق من قديم الأيام إنما تنشأ فيه الفتن والقلاقل في الغالب من العشائر. وهم دائما في غي وشغب ... فعرض الوهن على الإدارة ونظامها ... فمن الضروري القضاء عليها تأمينا لسلطة الحكومة على العشائر. وكان الوزير أرسل على الصقور من عنزة خازنه فلم يفلح في تأديبهم.

عد بعض العشائر ذلك دليلا على ضعف الحكومة وعجزها عن السيطرة. ومن جملة هؤلاء شيخ شمر (مشكور الزوين). قطع السبل ... فلما علم الوزير بذلك أنذره عدة مرات فلم يجد نصحه نفعا ... وحينئذ لم ير الوزير بدا من القضاء على غائلته فاهتم للأمر وجهز جيشا تحت قيادة محمد الكهية بقصد استئصالهم والقضاء عليهم ... ليكونوا عبرة ...

وعلى هذا سار الكتخدا ليلا في أول العشاء فأغار ليلته ونهاره إلى وقت الزوال مدة ثماني عشرة ساعة حتى وصل إلى ديارهم فعلموا بالأمر في حينه فتركوا جميع أموالهم ومواشيهم وفروا بأنفسهم وأهليهم ... وحينئذ انتهب الجيش خيامهم وكل ما يملكون من حطام وإبل وغنم ...

صارت هذه الوقعة عبرة. وكانت الغنائم ثمانية آلاف من الضأن

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٣٠١ ومطالع السعود ص ٢٣٢.

٢٩٤

ومائتي ذلول ونحو خمسمائة من النوق ، فسيرت لجانب الوزير وقفل الجيش راجعا منصورا (١).

ابن سعود والأحساء :

سار إبراهيم باشا في هذه السنة لقتال الأمير ابن سعود فانتصر عليه في أكثر وقائعه واستولى على غالب المدن وأخذ أكابر رجالهم أسرى وفتح الدرعية وغيرها من بلاد نجد ... وتهمنا علاقة العراق بهذه الوقائع ...

أرسل الوزير محمدا وماجدا ابني عريعر بعشائرهما بني خالد وساعدهما بعشائر المنتفق والعشائر المناوئة للأمير ابن سعود ممن قربتهم الحكومة لوقت الحاجة ... فحاصروا بلاد الأحساء قبل أن يفتح إبراهيم باشا الدرعية. فتحاها وفتحا القطيف وما حاذاها ... فأخبر الوزير الدولة. فلما انتصر إبراهيم باشا في حرب الدرعية مد يده على الأحساء ونزعها من محمد وماجد وبهذا تابع إبراهيم باشا الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز الحنبلي وأرسل معه عثمان الكاشف. ولكنه فاجأه الأجل بغتة فبقيت الأحساء بيد الكاشف ...

فلما بلغ الوزير ذلك كتب إلى السلطان محمود شارحا له حال ذينك الشيخين فأجابه إلى ما أمله وكتب منشورا نازعا يد إبراهيم باشا عن الأحساء والقطيف ناصبا ذينك الشيخين فخرج الكاشف حين ورود المنشور فارتاحت عشيرة بني خالد وشكرت الوزير على صنيعه (٢) ...

ومن ثم نعلم أن الحكومة العراقية لا تزال مرتبطة بالأحساء وبوقائع الأمير ابن سعود وأنها تراعي سياسة الدولة ولذا قربت عشائر

__________________

(١) مطالع السعود ص ٢٣٣ ودوحة الوزراء ص ٣٠٢.

(٢) مطالع السعود ص ٢٣٠ وتاريخ شاني زاده ج ٣ ص ٢٧٩.

٢٩٥

نجد المناوئة لآل سعود تنتظر بهم مثل هذا اليوم ، فجلبت قبائل بني خالد ، والظفير ، والجرباء من شمر. وفي الوقت نفسه نرى الدولة راعت في هذه الوقعة رغبة حكومة بغداد (١).

حوادث سنة ١٢٣٤ ه‍ ـ ١٨١٨ م

عفك ووقائع أخرى :

طمعت قبيلة الظفير في العام المنصرم في وقعة يحيى آغا الخازن وكذا سائر العشائر في قطع الطرق وتجاوزت على زوار العتبات ... حتى أن وكيل متولي أوقاف النجف عباس الحداد تمكن من إشعال نيران الفتن بين حيين من أحياء النجف وهما الشمرت والزكرت فأدى الأمر إلى هلاك الكثيرين. وكذا في أنحاء الخزاعل امتنع شيوخ جليحة وعفك عن أداء الميري. فحاول الوزير عبثا في دعوتهم فلم يجيبوا وأصروا على عنادهم ...

وعلى هذا أرسل من آغوات الداخل صالح آغا الكردي مع بيرق أو بيرقين من الخيالة لاتخاذ الوسائل الناجعة لإلقاء القبض على عباس الحداد أو قتله ، وإذا لم يتيسر فيجب عليه أن يراعي المصلحة بالتزام من يناوئه بإغرائهم عليه ... أو ما ماثل ...

وأرسل محمدا الكهية بقوة عظيمة على الصقور وعلى عشائر جليحة وعفك لأجل تأديبهم فتحرك من بغداد في ٢ المحرم يوم الأحد فوصل إلى الحلة وعبر الفرات من الجسر إلى الشامية وفي محل يبعد عن الكفل نحو ساعتين وجد رؤساء الصقور حمدان القعيشيش (الگعيشيش) ، وابن هذال وهو زيد بن الحميدي ، وابن أخيه فواز مع مشاهير رؤساء عنزة

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٣٠٠.

٢٩٦

وأعيانهم ويقدرون بثمانية وأبناء عمهم وأقاربهم ومجموع الكل نحو ثمانية عشر رجلا فاستقبلهم الجيش ، وأن الكتخدا استصحبهم معه إلى أن وصلوا إلى الكوفة فأمر الكتخدا بإلقاء القبض عليهم وأرسلهم إلى بغداد مقيدين ...

وأما صالح آغا فلم يتيسر له القبض على عباس الحداد حيّا فانتهز الفرصة وقتله مع علي دبيس الشقي المشهور وأرسل برأسيهما إلى الوزير فزالت الفتنة بين الزكرت والشمرت في النجف وهدأ الأهلون وأن الباقين أذعنوا وخلدوا للسكينة. وحينئذ نصب عليهم وكيل متول محمد طاهر چلبي من أقارب السادن (الكليدار) الأسبق وزال النزاع.

نهض الجيش من الكوفة وتوجه نحو مهمته الأصلية. وفي هذه الأثناء أخبر الكتخدا أن الحميدي ، وابن حريميس ومعهم نحو أربعة آلاف بعير وركب كبير جاؤوا للاكتيال إلى محل يقال له (الحاج عبد الله) فعين عليهم شيوخ الخزاعل والبعيج للانتقام منهم وأرسل معهم خيالة وقسما من العثمانيين العرب. ولما وصلت العساكر إلى الديوانية اشتغلت الجنود بربط الجسر وترقبوا أخبار العشائر فاختاروا الإقامة هناك والانتظار في جهة الشامية لبضعة أيام وحينئذ وصلت العشائر إلى محل أخذ الكيل فتقابل الفريقان ووقع القتال بينهما من طلوع الشمس إلى غروبها.

وهناك نزل شيخ البعيج السابق عزيز السلطان يبعد بضع ساعات عن المحل المذكور للإفساد وأعان عنزة كما تلاحق ركبهم وتظاهر معهم وفي كل هذا كان النصر حليف الجيش وكسر أولئك شر كسرة واستولوا على مقدار كبير من الإبل فنالت العشائر المذكورة عقوبتهم ورجعت عشائر الحكومة ظافرة منصورة.

وفي هذه الأثناء أكملت العساكر نصب الجسر فعبرت إلى جهة

٢٩٧

جليحة وعفك من الشامية إلى الجزيرة. فوصلوا إلى گرمة اليوسفية فاشتغلوا بسدها وأكملوها في بضعة أيام ومروا عليها ...

وحينئذ توجه الجيش نحو الطائفتين لاستئصال الواحدة بعد الأخرى فأحدثوا رعبا. ولذا اتفق الكل واتحدوا خشية مما سينالهم ...

ولكن العساكر هاجمتهم بصولة عظيمة ، واختل جمعهم ولم يقدروا أن يدافعوا. ومن ثم انقسمت جليحة إلى فرقتين إحداهما كان رئيسها (نهر الطعيس). وهذا طلب الأمان فقبل منه ترغيبا له وجلبا للباقين ، والأخرى تابعت مشكور الحمود. وهذه تركت أثقالها وفرت إلى هور (البدير) وولت الأدبار ...

وأما عفك فإنها اتفقت ولكنها أصابها أيضا الخوف فتفرقت ولم تعمد إلى مناجزة العساكر بل فرت فرقة منها إلى الأهوار التي لا يمكن اجتيازها والأخرى التي كان شيخها (شخير الغانم) التجأت إلى قلعة محكمة وهي المعروفة (بقلعة شخير) فتحصنوا فيها. ومن ثم توجهت الجنود إليها ووصلت في ٢٨ صفر وقبل الوصول إليها بنحو نصف ساعة حط الجيش ركابه وضرب خيامه تجاههم ... فدخل العشائر الذين في أطرافها إلى باطنها وباشروا في الخصام ...

وإلقاء للحجة أنذروا بالنصيحة مرارا فلم ينتصحوا. وفي اليوم التالي نقل الفيلق منزله إلى محل (قروشوت) ، وحينئذ نظمت الكتائب والمدافع والخمبرة وأعدت المعدات فهاجمتهم الجيوش فقاوموا. وكانت القلعة محكمة رصينة كما أنها محاطة بخندق عميق جدا وهي في مناعتها مثل قلعة الأحساء في الإحكام والمتانة.

وجد الجيش أن لا طريقة للاستيلاء عليها واكتساحها بالهجوم ... وعلى هذا التجأ إلى اتخاذ التلول الصناعية ونصب المدافع عليها ، وكذا الخمبرة وتوجيهها عليهم واتخاذ متاريس للجيش حتى لا تصل طلقات بنادقهم ، فتضر بالجيش. ودام القتال والرمي من الصباح إلى الغروب.

٢٩٨

واستفادة من ظلام الليل قدمت التلول والمتاريس إلى الأمام ، ومن أول السحر بوشر بضرب المدافع والطلقات وأخرجت المدفع إلى أعلى الروابي وأدخل البندقيون في متاريسهم وعين القواد لكل فرقة وصنف وأحاطت بهم الجيوش من جوانبهم الأربعة وأحكمت الإحاطة ...

وفي الليلة التالية تستر الجند بظلمة الليل والمطر فهاجموهم لعلمهم بأن الجيوش كانت مشغولة بنفسها ومن ثم هربوا إذ رأوا أن البقاء سيؤدي إلى وبال وخطر ... فتركوا جميع أموالهم وأمتعتهم ، واكتفوا بأخذ أهليهم. اختلسوا فرصة الهزيمة والنجاة. فضبطت الجيوش آنئذ القلعة واختفى أولئك بالأهوار والأماكن الصعبة المرور فاستولى الجيش على جميع أموالهم ومتاعهم وحصلوا على ما يزيد على ألف تغار من الغلال والأطعمة غنيمة ، وخربوا قلعتهم فجعلوها قاعا صفصفا ...

وعلى هذا نظموا تلك البقاع ونسقوا إدارتها وعرضوا على الوزير هذا الفتح بتفاصيله فنال الكتخدا مكانة أعظم وشكر الوزير سعيه وقدم إليه أمرا (بيورلدي) يتضمن تقدير صنعه ، وبين له أن البقاء أكثر لا تقتضيه المصلحة وأمره بالعودة.

وفي هذه المدة أذعنت جليحة ، والفتلة بالطاعة وألبس شيوخهما الخلع وطلب من كل منهم خمسون ألف قرش وأحيل أمر تحصيل هذه المبالغ إلى شيخ الخزاعل تعهد باستيفائها منهم على أن لا يفتح سد اليوسفية ما لم تدفع بتمامها.

وإن شيخ الأقرع مع عشيرته ألزموا بمحافظة (سدة أم العويل). وللقيام بذلك ليلا ونهارا ترك له مقدارا من الجيش يبلغ أربعين بيرقا من عقيل جعلوا معه ، وكذا أعاق نحو ثلاثين بيرقا في معاونة شيخ الخزاعل لاستحصال المبالغ المطلوبة من الفتلة وجليحة وجعل لكل بيرق (باش

٢٩٩

چاووش) للقيام بالخدمة المطلوبة تبعا لأمر الشيخ. نظمت الأمور بهذا الوجه وقفل الكتخدا راجعا بباقي الجند.

وفي ٥ ربيع الأول دخل بغداد ظافرا منصورا. ففرح الوزير وألبسه خلعة فاخرة ترغيبا له (١).

وقائع أخرى :

جاء في تاريخ شاني زاده أن الوزير حارب قبيلة العبيد وفي مقدمتها قاسم بك الشاوي المتفق مع اليزيدية في سنجار فنكل بها كثيرا كما أنه في أواسط ربيع الأول عاثت عنزة في الأطراف فأرسل إليها كتخداه فقضى على غائلتها وأسر منها جماعة منهم ابن هذال وابن كعيشيش فأمر الوزير بقتلهم فقتلوا وغنموا من هؤلاء غنائم كثيرة (٢).

جامع الحيدر خانة ومدرسته :

في هذه السنة بنى الوزير الجامع الكائن في محلة الحيدر خانة واتخذ فيه مدرسة سماها (الداودية) وسجل وقفيتها ورصد لها أوقافا واشترط لنفسه التغيير والتبديل ثم إنه في غرة رجب سنة ١٢٤٣ ه‍ غير الشروط وعين راتبا للمدرس والإمام والخطيب واتخذ فيها خزانة كتب وجعل راتبا لمحافظها.

حوادث سنة ١٢٣٥ ه‍ ـ ١٨١٩ م

عشائر الدليم :

إن عشائر الدليم بسبب عصيانهم سنة ١٢٣٣ ه‍ كان قد قضى على

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٣٠٣.

(٢) تاريخ شاني ج ٣ ص ٢١.

٣٠٠