موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٦

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٦

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

وكربلاء. وفي المحرم سنة ١٢٣١ ه‍ دخل بغداد. ومدة سفرته دامت شهرين و ٢٦ يوما (١) ...

حوادث سنة ١٢٣١ ه‍ ـ ١٨١٦ م

شمر والخزاعل ـ المنتفق والظفير :

إن فارس الجرباء بعشائره والزقاريط وعشائر البعيج لم يروا من سعيد باشا ما كانوا يرونه من الوزراء السابقين من عناية ورعاية لا سيما أيام الوزير علي باشا ففي أيامه كانت لفارس أبهة عظيمة وصدارة فعبر إلى غربي الفرات عند ما تولى سعيد باشا الوزارة بسبب ما بين الجرباء والعبيد من الضغائن لا سيما قاسم بك الشاوي وكان الوزير ولي أكثر أموره له فلم يستقر فارس في الجزيرة فنزل بعشيرته على الخزاعل فاتفقوا وتجمعوا. وفي هذه الأثناء كان قد نكل الوزير بشيخ الخزاعل سلمان المحسن وضيق عليه تضييقا مرا. وعلى هذا استمد سلمان المحسن بفارس الجرباء فأمده بعشائره فوصلوا وتبعوا الجيش للنكاية به وحينما جاؤوا قرب ديار الخزاعل علموا أن الوزير رجع. ولما سمع بهم تأهب عليهم. ولكنهم هابوه ولذا مالوا إلى الخزاعل ، واتفقت زبيد والعشائر الأخرى ممن في تلك الأنحاء. فصارت جموعهم خطرا. جاؤوا من الحسكة إلى الحلة فانتشر ضررهم وزال الأمن وانقطعت السبل وتسلط العشائر على القرى والمقاطيع. فتحير الوزير في أمره لما ظهر من هذه الأحوال.

وحينئذ طلب الوزير حمود الثامر شيخ المنتفق للسفر على الخزاعل فجهز جيشا عظيما فوصل إلى أنحاء السماوة كما أن الوزير علم أن لا مجال للخلاص من الجرباء إلا بجلب الظفير ألد أعدائهم. وكذا دعا كل

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٦٥.

٢٦١

من ينزع إلى معاكسة هذه العشائر من العشائر الأخرى من العبيد وأرسل معهم قاسم بك مع بيارق الخيالة وعقيل وباش آغا. وكذا جلبوا الدريعي من رؤساء الرولة من عنزة لجانبهم. ولي قاسم بك أكثر أمور هذا الوزير ونظرا لذلك لم يستقر آل الجرباء في الجزيرة وإنما نزلوا بعشائرهم على الخزاعل ليكتالوا من أنحائها. وكان بين فارس وبين الدريعي عداء قديم فاقتفى الدريعي أثره ونزل قريبا منه وأرسل إلى حمود بن ثامر فاستنفره فنفر بفرسان عشائره لمساعدة الدريعي وكذلك خرج عسكر الوزير مع من ذكر (١) ...

تقابل الفريقان في لملوم واشتعلت نيران الحرب فكانت الغلبة في جهة مناصري الوزير وقتل من خصومهم خلق كثير.

وفي هذه الواقعة قتل بنيّة بن قرينس ابن أخي فارس وكان بنية ما كرّ على جناح أو قلب إلا هزمه حتى تحامته الفرسان فأصابته طلقة اردته قتيلا وحينئذ أرسل رأسه إلى الوزير فأعلن أمره ليؤدب به الباقين (٢) ...

المنتفق في هذه الأيام :

بعد قتلة عبد الله باشا قويت شوكة حمود وصار أمر سعيد بيده ولهذا أعطاه وإخوانه ما في جنوب البصرة من القرى. وأطاعهم الحاضر والبادي ، وسالمتهم الأعادي.

وفي أيام الشيخ حمود امتدت يد الظلم من أتباعه. وأطنب في ذلك صاحب مطالع السعود لقصد التوصل إلى ذم ادارة سعيد باشا بل ذمها كثيرا ، وبالغ في ذم حمادي بن أبي عقلين وسائر الموظفين. وما

__________________

(١) مطالع السعود ص ١٥٧ ودوحة الوزراء ص ٢٦٦.

(٢) عشائر العراق ج ١ ص ١٣٢ ـ ١٤٧.

٢٦٢

ذلك إلا لأن الوزير أشرك العرب في الإدارة فنقم عليهم داود باشا فظهر ذلك على لسان مؤرخيه صاحب الدوحة وصاحب المطالع (١).

وقائع مختصرة :

١ ـ إن خالد باشا متصرف بابان سابقا كان قد عين ابنه محمد بك مع خمسمائة فارس لمحافظة أنحاء الحلة فخدم بإخلاص. لذا وعده الوزير أن يوجه إليه إربل لما شاهد من بسالته في حرب الخزاعل. مضت بضعة أيام فوجه إيراد إربل إلى خالد باشا وصار يستوفيه تدريجيا ويصرفه على أتباعه ... ثم ذهب ابنه محمد بك بمن معه إلى إربل.

٢ ـ شوهد تهاون من سليمان باشا متصرف كوى وحرير في أداء ما تعهد به وتساهل في الخدمة. وعلى هذا عزله ووجه هذه الالوية إلى خالد باشا ، وإلى ابنه محمد بك وكالة كوى وحرير بعنوان (باشا).

فلما سمع سليمان باشا بهذا قوض خيامه وطوى بساط الراحة وذهب إلى سنة مع أتباعه ومنها سار إلى كرمانشاه وتابعه محمد علي ميرزا. وسارع محمد باشا ابن خالد باشا من إربل نحو لواء كوى. وكذا استأذن خالد باشا من الوزير أن يذهب إلى محله وكان في بغداد (٢).

سعيد باشا ـ حمادي ابن أبي عقلين :

تولى سعيد باشا الوزارة وهو حديث السن ، لم يجرب الأمور. ومما حط من منزلته أنه استخدم حمادي (ابن أبي عقلين) من صنف العلواتية (بياعي الأطعمة) فنال مكانة لديه.

وإن مؤرخي داود باشا حرموه من كل صفة مقبولة. قالوا : وهو

__________________

(١) مطالع السعود ص ١٥٨.

(٢) دوحة الوزراء ص ٢٦٧.

٢٦٣

كردي الأصل ، فلم يكن عاقلا ولا نصف عاقل فضلا عن أن يكون أبا عقلين. ولو كتبت أعماله لاحتاجت إلى تدوين سفر مع قصر المدة لمباشرته الأعمال وعدوا ذلك من خرق الوزير سعيد باشا وبينوا أنه لم يسمع نصحا كما أن ابن أبي عقلين زاد عتوه ، فوصلت الحالة إلى انحطاط وتدهور ليس وراءهما وهكذا كان شأن العشائر وصاروا لا يسمعون أمرا وتكاثر العصيان. ومثلهم أهل المدن (١). ومجرى الحوادث يبصر بحقيقة الوضع.

ومما وقع في هذه الأيام :

١ ـ في مندلي حدث اختلال فطرد أهلها ضابطهم واختاروا ضابطا غيره.

٢ ـ في كركوك حدثت فتنة عظيمة لم يسبق لها مثيل طالت ثلاث سنوات استعرت في خلالها نيران الخصام بين الأهلين.

٣ ـ أصر (حمادي بن أبي عقلين) على أن يعزل محمود باشا متصرف بابان وينصب مكانه عبد الله بك أخو عبد الرحمن باشا برتبة باشا فاضطر الوزير على ذلك وأرسله إلى كركوك ، وسير معه عبد الفتاح آغا (بلوك باشي) تقوية له وأن باش آغا مع عبد الله باشا وصلا الجانب الأعلى من (قزل دگر من) في كركوك فنصبا خيامهما وطيرا الخبر بما عهد إليهما. فلما سمع محمود باشا تأهب للقراع وعين أحد إخوته عثمان بك مع مقدار من الجيش وتحصن هو في مضيق (بازيان).

وكانت أرسلت الدولة إلى إيران سليمان أفندي رسولا وهذا تشاور الوزير معه على عزل محمود باشا فلم يرض. ثم ذهب إلى إيران وبلغ الرسالة ولكن قبل أخذ الجواب رأى ابن أبي عقلين أن يعجل في القضية

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٦٧.

٢٦٤

فلما علمت إيران اتخذت هذه سببا لاعتذار الشاه ، وأدت إلى انفعال الرسول.

جاء محمود باشا بجيوشه إلى المضيق وأبرز من السطوة ما جعل عبد الله باشا يتهيبه. وإن الباش آغا كانت معه شرذمة قليلة فلم يجسر أن يمضي إلى الأمام بل بقي في محله ولازال في انحطاط في القوة يوما فيوما ... وعزا انصار داود باشا إلى الوزير وإلى ابن أبي عقلين أمورا كثيرة ليبرروا نهضته. وبهذه التشنيعات وأمثالها أثروا على الدولة في أنه عاجز عن ادارة الشؤون مما أدى إلى عزله فاختلت الحالة. وعاد محمود باشا إلى محله (١).

أحوال بغداد :

إن أحوال بغداد انعكست إلى الدولة فتحولت عن الوزير الانظار كما أن حالت أفندي الرئيس كان قد عاد إلى استنبول فصار بمقام مشاور للدولة في مصالح العراق ومهامه لا تخرج الدولة عن رأيه ...

وهذا كان له صراف في استنبول يقال له (حسقيل) (٢) بن راحيل من يهود بغداد. وكان له أخ يدعى عزره (٣) التمس من الوزير أن يعينه رئيس الصرافين.

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٦٩ ومثله في مطالع السعود ، ومرآة الزوراء ، وتاريخ الكولات. وتاريخ شاني زاده ج ٢ ص ٢٠٧ و ٢٠٨.

(٢) ذريته في استنبول. وله بنت اسمها سمحة ماتت بلا عقب ، وأخرى اسمها (دينه) تزوج بنتها المحامي حسقيل ناجي فتوفي سنة ١٩٣٢ م وله ابن اسمه نعمت.

(٣) يكنى بـ (أبي يوسف) وأولاده يوسف رحميم و (عبد الله) ، و (روفائيل). ولا يزال له عقب منهم عبد الله بن روفائيل كان موظفا في المصرف في البصرة. وأما يوسف فله أولاد وأولاد أولاد.

٢٦٥

أما رئيس (١) الصرافين الموجود فإنه ملتزم من والدة الوزير ومن ابن أبي عقلين لذا لم يروج ملتمسه فاستكبر حالت أفندي ذلك وتألم من الوزير. وصار يتربص الوسائل للوقيعة به.

وفي تلك الأيام كانت الدولة تأذن للولاة في ضرب بعض النقود في بغداد. فأذن له بضرب النقود النحاسية وعين عزره المذكور. وهذا اغتنم الفرصة من غفلة الموظفين فكتب بدل (الطغراء) لفظ (سعيد باشا) ولما قدم إلى الوزير الانموذج تهيج كثيرا فسارع إلى تغيير هذه النقود ولكن تسرب مقدار منها إلى الدولة ولا تزال معروفة عندي نماذج منها. وعزرا هذا بعث إلى أخيه حسقيل مقدارا من هذه النقود قدمها إلى حالت أفندي مبديا له أن سعيد باشا ضرب نقودا باسمه وقدمها إليه تصديقا لقوله وعلى هذا وللأسباب المارة عزل سعيد باشا وصدر الفرمان بلزوم إقامته في حلب في محل (شيخ بكر). ولكن سعيد باشا لا يزال خالي الذهن (٢).

علم محمود باشا ذلك كله ولكنه التزم الكتمان وأمر أن لا يتزحزح من مكانه. وحينئذ فهم الوزير من الأوضاع أن نوايا الدولة متوجهة عليه فاضطر أن يدعو الجيش المرسل لمساعدة عبد الله باشا وأن محمود باشا مع جيوش إيران قاموا من المضيق فعاد كل إلى مكانه وبقي عبد الله باشا في كركوك (٣).

__________________

(١) هو ساسون أبو روبين بن صالح داود يعقوب وله ثلاثة أولاد يوسف وروبين وداود. وأن يوسف له ابن اسمه (يهودا). أعقب حسقيل ناجي المحامي. وهارون. وهذا أعقب المحامي الأستاذ انور بن شاؤل. وأن ساسون من أولاده داود المعروف بـ (داود ساسون) التاجر المعروف وبيته اليوم مشهور في بلاد الانجليز ، ولشركته فرع في بغداد.

(٢) تاريخ الكولات ص ٣٣.

(٣) دوحة الوزراء ص ٢٦٩.

٢٦٦

خروج داود من بغداد :

قال صاحب المطالع : «فلما رأى أرباب الأغراض منه ما رأوا أي من داود من وقعة الخزاعل أضمروا له ما أضمروا وسعوا فيما سعوا ... فوافقهم الوزير على ما بينوا فحاولوا قتله ، أو كادوا ... فبلغه ما عليه أضمروا ... فأشير عليه أن يخرج من بغداد ، ويخطب إيالتها فوافق ما كان أضمره ... فخرج في ١٢ ربيع الأول لسنة ١٢٣١ ه‍ (١).

ومثله وبصورة أوسع في الدوحة من أنه كان مخلصا للوزير إلا أنه أبدى خرقا في الإدارة وتسلط عليه ابن أبي عقلين وأجرى تبدلات كثيرة في المناصب أغضب بها المماليك ، فاختار أكابرهم داود للأمر ، وحذرا من الوقيعة به نهض من بغداد في ١٢ شوال مع بعض أعوانه. ذهب إلى زنگباد ومنها مضى إلى كركوك.

وفي طريقه وصل إليه كتاب من محمود باشا يبدي أنه ووالده لا يقصرون في الخدمة وأن الولاة كانت معاملتهم سيئة وإذا وجهت إليه الوزارة فإنهم لا يخرجون عن رأيه ولا من طاعته ولا يميلون إلى إيران أو يركنون إليها ، وأنهم متأهبون لمؤازرته فأجاب ملتمسهم وذهب إلى السليمانية فاستقبل بحفاوة بالغة الحد (٢).

أخبار سعيد باشا بعد خروج داود :

إن هذا الوزير بعد ذهاب داود أحس بالخطر وعلم أن تبعيد المماليك أدى إلى هذا ، ومن ثم قرب الموجودين ، وأبعد ابن أبي عقلين. وحاول إرضاء جماعته ، فجعل درويش محمد آغا كتخدا أصالة ، ونصب مكان ابن أبي عقلين يحيى آغا الميراخور جعله خازنا ، وعين

__________________

(١) مطالع السعود ص ١٩٥.

(٢) دوحة الوزراء ص ٢٧٣.

٢٦٧

يوسف آغا الميراخور أمين الاصطبل كما كان ، وعزل عمر آغا الملي ووجه كهية الباب إلى عبد الله آغا الباش آغا السابق. وأجرى تبديلات أخرى فكان ذلك تسكينا للخواطر وهيهات أن يرضوا عنه بعد ما رأوا منه ما رأوا وصار يهرب الواحد بعد الآخر. وصار يشتبه من أوضاع العثمانيين أيضا خشية أن يهربوا. وكتب إلى شيخ المنتفق حمود الثامر أن يأتيه لإزالة ما هو فيه من الاضطراب (١).

داود في السليمانية :

تمكن داود في السليمانية. وناصره محمود باشا وقبل برئاسته وكان قد فر إلى كرمانشاه كل من سليمان باشا بن إبراهيم باشا متصرف كوى وحرير سابقا ، وخليل آغا متسلم كركوك. ورستم آغا متسلم البصرة سابقا ، والسيد عليوي المنفصل من آغوية بغداد فورد هؤلاء السليمانية وتابعوه ، وكذا راسله الكركوكيون وأبدوا له الطاعة ودعوه لموافاتهم. لذا استدعى عطف السلطان عليه وعنايته به بتوجيه الوزارة إليه وعرض الكيفية مع تاتار خاص وبقي في السليمانية نحو أربعين يوما ثم توجه إلى كركوك ومعه محمود باشا بعساكره وسليمان باشا.

ثم ورد الجواب ، فأنجز السلطان ما أمله ومنح له الإيالة ، فاستقبله وجوه المملكة (٢). وقبل أن يصل إلى كركوك بنحو ثلاث ساعات جاءه عمر بك دفتري بغداد ابن الحاج محمد سعيد بك مع مقدار من الاتباع ، فنال التفاته. ولما قارب كركوك استقبله متسلمها الحاج معروف آغا وقاضيها ومفتيها ونقيب إشرافها وجملة العلماء والأعيان وآغا الينگچرية وصنوف الجيش من سردنكجدية ومتميزي الاوجقلية ، فقدموا ما يجب من طاعة.

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٧٤.

(٢) مطالع السعود ص ٢١٢ بتلخيص.

٢٦٨

ثم نصب خيامه قرب (قزل دگر من) (١) فاستراح هناك وتجمعت الجيوش إليه. وحينئذ جعل أحمد بك الأخ من الرضاعة وكيل كتخدا ، ومحمد آغا كتخدا البوابين وكيل كتخذا البوابين أيضا ونصب عبد القادر آغا الحشامات وكيل الخازن ، وعمر بك الدفتري وكيل المصرف وخصص لهؤلاء بعض الكدكات المناسبة (٢).

عزل خالد باشا وخيانة أحمد بك :

حينما وصل داود باشا إلى زنگباد كان قد كلف عبد الله باشا متصرف بابان سابقا أن يكون في جهته فأبى. ولم يقف عند هذا بل ارتكب بعض الخيانات فلما رجع من السليمانية إلى كركوك عاد عبد الله إلى بغداد مع أعوانه. وفي طريقه أغار على قرية خرنابات من قرى الأوقاف فانتهبها. وبهذه الصورة وصل إلى بغداد والتحق بسعيد باشا.

وأيضا طلب من خالد باشا متصرف كوى وحرير أن يتابعه حينما توجه من السليمانية إلى كركوك فامتنع وخالفه. ولذا بعد أن ورد كركوك ببضعة أيام عزله ووجه الألوية المذكورة إلى محمود باشا وعين أخاه عثمان بك لضبطها وإدارتها وأرسل معه قوة كافية للاستيلاء عليها.

ولما كانت الدولة أصدرت فرمانا بعزل سعيد باشا عزمت أن تجعل أحمد بك الأخ من الرضاعة قائممقاما فأصدرت فرمانا بقائممقامية ولكن لم يستطع إعلانه حذرا من الخذلان فكتم الأمر وصار يترقب الفرصة. ولما ذهب الجيش إلى كوى وحرير اعتقد أن قد حان الوقت ، فوافقه أهل كركوك نزولا عند الرغبة السلطانية.

قام أحمد بك بوسائل الفتنة فتابعه بعض الآغوات وخالفه آخرون

__________________

(١) الطاحونة الحمراء وهي قرية تبعد عن كركوك نحو نصف ساعة.

(٢) دوحة الوزراء ص ٢٧٥.

٢٦٩

سرا فانتظروا الفرصة ليلا وذهبوا إلى داود فعذل هؤلاء وأهل المدينة فلم يعذلوا بالرغم من الاستمالة بل هاجموا الجيش على حين غرة فقابلهم ضرورة ، فلم يثبتوا إلا مدة قصيرة فألقي القبض على قسم وقتل آخرون. ومنهم من تشتت شملهم.

ومن ثم نهض الجيش من المحل المذكور وضرب خيامه في جنوب كركوك في قرية (تر كلان). وبعد ثلاثة أيام رحل الجيش إلى قرية (طقمقلو) منتظرا أجوبة ما قدمه من معروضات إلى الدولة.

وبعد أن أتم عثمان بك مهمته في كوى وحرير عاد الجيش ونظمت الإدارة هناك (١).

حمود الثامر ـ بعض وقائع بغداد :

إن عبد الله باشا لم يستطع البقاء في كركوك. فلما سمع بمجيء داود باشا إليها ذهب مع خمسمائة من الخيالة إلى بغداد فنصب خيامه خارج باب الإمام الأعظم وطلب أيضا سعيد باشا من حمود الثامر أن يوافيه فجاءه بألف وخمسمائة من العساكر فوصل إلى بغداد في ٢٣ ذي الحجة ونزل في جانب الكرخ.

أما سعيد باشا فإنه اضطربت حالته فلم يتمكن من ضبط الأمور كما أن المصروفات اليومية بلغت عنده ما يزيد على اثني عشر ألف قرش فصار الوزير يرى كل الصعوبات في الحصول على المبلغ فلم ير بدّا من تحمل هذه المشاق وصار يبذل جهوده لتأمين الحالة.

أما العثمانيون فقد ضجروا من هذه الحالة وجعل الوزير في الأبواب من يمنع الخروج عن البلد من الفرسان. لذا ترى الواحد

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٧٧.

٢٧٠

والاثنين بصورة متوالية يبدلون قيافتهم ويخرجون ليذهبوا إلى داود باشا حتى أن أخا الوزير صادق بك مل هذه الحالة ويئس فانتهز الفرصة وفر إلى جهة قزلرباط فأعيد إلى الوزير بعد بضعة أيام. وأن أعوان الوزير احتاروا في أمرهم ... وفي النتيجة سدت أبواب المدينة سدا محكما (١) ...

حوادث سنة ١٢٣٢ ه‍ ـ ١٨١٦ م

وزارة داود باشا

توجيه الوزارة إلى داود باشا :

جاءت البشرى بتوجيه إيالة بغداد والبصرة وشهرزور إليه وهو في قرية (طقمقلو) في غرة المحرم يوم الجمعة ، وورد محمد آغا معتمد محمد سعيد التوقيعي السابق. ومحمد سعيد آغا التاتار بالمنشور يوم الأحد ٣ المحرم فاحتفل بذلك.

وهذا الوزير من أكابر وزراء العراق علما ومعرفة. وله الصيت الذائع ... ومهمته أنه أدرك مناهج من قبله. فإذا كان سليمان أبو ليلة ثبت دعائم الحكم للمماليك ، وأن سليمان الكبير حاول أن تكون الإدارة خالصة لهم وأن سليمان (المقتول) استخدم الأهلين في الإدارة ومثله سعيد باشا فإن داود باشا سعى سعيه الحثيث للقضاء على العناصر الأخرى أو تبعيدها عن الإدارة وراعى كل واسطة دون أن يبالي بما قام به من قسوة وتجددت له آمال استقلال فحال دونها ما لم يخطر ببال ، وظهر ما لم يتوقع فكانت عاقبة ذلك الخذلان. وتعين ذلك حوادثه.

مكث نحو خمسة عشر يوما ثم توجه إلى بغداد فأقام في

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٧٨.

٢٧١

طوز خورماتو نحو عشرة أيام في خلالها قام ببعض الأعمال ، فوجه لواء درنة وباجلان إلى سليمان باشا فذهب إلى منصبه الجديد.

ونهض من هناك فوصل إلى الجديدة. وحينئذ أرسل نسخ الفرامين وبعض الأوامر إلى بعض أعيان بغداد واتخذ الوسائل لاستمالة الأهلين. والعثمانيون ملوا من سعيد باشا فأبدوا ذلك بتحرير ورد منهم إلى الوزير إلا أن سعيد باشا اكتسب قوة بعبد الله باشا وحمود الثامر.

ثم علم هؤلاء بعزل سعيد باشا حينما تقرب داود من بغداد فانتبهوا من غفلتهم وكذا الصنوف العسكرية واللوند وعقيل والقليقلية (أهل القلنسوات) وسائر الزمر فمن كانت له شهرية تقاضاها في حينها بقصد الاستمالة وجمع نحو أربعة آلاف أو خمسة آلاف من المشاة ليتغلب بهم على الأهلين ، ولكن ظهر القحط في بغداد فبلغت وزنة الحنطة ثلاثين قرشا وزيادة ووزنة الشعير ستة عشر قرشا ولكنها كانت مفقودة. وكذا تضاعفت أسعار الارزاق الأخرى واستولى الضيق على الفقراء وشغلوا بأنفسهم. وكذا الأغنياء سئموا الحالة.

وكان الأولى بالوزير أن يذعن للأمر السلطاني فأبى بتسويل من ابن أبي عقلين وأمثاله.

وعلى هذا أراد سعيد باشا أن يشوش على محمود باشا متصرف بابان أمره وكان ورد مع داود باشا بجميع قواه فبقيت بابان خالية فعين عبد الله باشا الباباني أن يسير بجيشه ليستولي على لواء بابان فذهب من جانب الكرخ ليعبر من ناحية تكريت ويذهب إلى كركوك ومنها إلى السليمانية ففعل ، وكتب إلى خالد باشا الذي عزل من لواء كوى وذهب إلى إربل فأقام فيها بضعة أيام ثم جاء إلى كركوك فأكد له الوزير سعيد باشا في لزوم متابعة عبد الله باشا وأن يأخذ معه السباهية ممن في كركوك ويرافقه إلى السليمانية.

٢٧٢

ولما وصل الخبر إلى محمود باشا اضطرب. لأنه لم يترك سوى أخيه حسن بك ونحو مائة من الخيالة للمحافظة. ولكن حسن بك تمكن أن يقاوم الهاجمين فلم يتزلزل بالرغم من الجموع الوفيرة التي هاجمته. وذلك أن الموظفين حينما وصل عبد الله باشا إلى كركوك اتفقوا معه وجهزوا نحو ألفي جندي من خيالة ومشاة وتوجهوا نحو السليمانية وسعوا جهدهم للاستيلاء عليها فقاومهم حسن بك مقاومة لا مثيل لها وداموا نحو ثلاثة أيام أو أربعة فلم ينالوا بغيتهم وعادوا خائبين (١) ...

الوزير في قره بولاق :

تيقن الوزير أن سعيد باشا وأعوانه لم يكن عملهم مثمرا وأنه سريع الزوال ، لما علم أن القحط اشتد على بغداد وانقطعت القوافل. فلو بقي على هذه الحالة لبضعة أيام لقام الأهلون على الحكومة وهاجموا سعيد باشا. وهذا كان لديه نحو الأربعة آلاف أو الخمسة من الجنود الموظفين ومن عشائر المنتفق ومن غيرهما أما الوزير فأراد أن يزيد الاضطراب وأن ينكف عن سعيد باشا أعوانه والمتصلون به ، فانسحب وتنحى عن بغداد ولم يعجل بالأمر.

ومن ثم دعا حمود الوزير أن يخرج معه فلم يوافقه (٢) ...

رحل الوزير من منزله وتوجه إلى ما يحاذي مقاطعة (دكة) من ديالى ونزل في (قره بولاق) ، فأمن ذخائر الجيوش وأطعمتهم من الكرد ومن درنة وباجلان. فصارت تجلب إليه المؤونة من هناك فتوقف مدة وترك الأمور تجري في مجراها الطبيعي (٣) ...

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٨٠.

(٢) مطالع السعود ص ٢١٤.

(٣) دوحة الوزراء ص ٢٨٠.

٢٧٣

سعيد باشا والوزير :

لم يلتفت سعيد باشا إلى الأمر السلطاني وأرسل عبد الله إلى جهة كركوك ليذهب إلى السليمانية وأبقى العشائر الأخرى في بغداد. فلما رجع عبد الله باشا من السليمانية بيأس توقف في كركوك. ولكن المنتفق والعبيد والدليم بقوا للمحافظة ، وأن مصاريف المنتفق وحدهم تتجاوز العشرة آلاف قرش ونفقات الباقين على هذه النسبة فنفدت المؤونة وصارت تشترى من الأهلين بصعوبة بحيث تسعى الحكومة من الصباح إلى الغروب لسد حاجتها.

كانت الأوضاع في حرج والعربان لا سيما المنتفق يتحكمون من أجل الارزاق بحيث صار لا يطاق أمر إرضائهم فأظهر سعيد باشا العجز ولم يبق له تدبير بل صار يتحرى الخلاص من الكلفات الناجمة.

وفي هذه الأثناء ورد الخبر بأن الوزير عاد من الجديدة ورفع الحصار عن بغداد فكان ذلك خير وسيلة لترخيص شيخ المنتفق وإخوته وعشائره فابتهج الشيخ لهذه المنة. أبدت الحكومة استغناء عنه بداعي أن النظام جرى على محوره المطلوب فعاد (١).

مذاكرات :

في المطالع ما يشير إلى أن الوزير أرسل صورة الفرمان إلى حمود ابن ثامر وكان مشككا فيه وحينئذ أشار على سعيد باشا بالامتثال للأمر وأنه يبلغه مأمنه فلم يسمع قوله. وحينئذ عزم الشيخ حمود على الرجوع إلى دياره فذهب. وأن ابن سند أسهب في البحث (٢).

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٨١.

(٢) مطالع السعود ص ١٧٥.

٢٧٤

حالة بغداد بعد الشيخ حمود :

إن سعيد باشا عزل الكتخدا درويش محمد آغا ونصب مكانه أصالة الحاج عبد الله آغا وكان من الندماء وقبل ذلك كان وكيل الكتخدا فصار العزل داعية سرور الأول والنصب حزنا على الآخر. قال صاحب الدوحة : أنه اطلع على كتاب منه ورد إلى الشيخ موسى ابن الشيخ جعفر جوابا له «إنني كنت أظنك تضمر الخير لي فظهر لي أنك لم تكن كذلك. فلو كنت محبا لما تمنيت لي هذا المنصب في هذا الأوان بل كنت تعزيني به» اه ...

وذكر أنه شاهد الكتاب بعينه. ولذا قام بهذا المنصب على كره. أما درويش محمد آغا فإنه اعتزل الوظيفة وسكن بيته فرحا إلا أنه نسب حمادي إليه بعض الأعمال فترك منزله ضرورة وأقام في دار أخرى بعيدة عن دار الحكومة. وصار يترقب الفرج.

مضت أيام على هذه الحالة وتواردت السوابل ، وزال الضيق عن الأهلين نوعا وأن سعيد باشا اطمأن. وخرج مرة راكبا فشاهد أخاه صادق بك ومعه أتباعه وبعض آغوات الداخل يرافقونه ذاهبين إلى الوزير فلم يمنعهم أو أنه لم يقدر على ارجاعهم.

وبعد بضعة أيام اجتمع قسم من أهل باب الشيخ وتذاكروا في أمر دفع سعيد باشا فوصل إليه خبر اجتماعهم فطلب الأشخاص الحاضرين فلم يأتوا وأصر فلم يجيبوا ووافقهم غيرهم وتجمهروا وشرعوا في الشغب.

وكان سعيد باشا ينوي تسيير جيش عليهم. وفي الصباح سير الجيش فأشعل الفتنة متميزو العساكر ، وأغروا لفيفا من أهل باب الشيخ.

وعلى هذا علم الباشا أن حمادي جرح فحاصر في القلعة ومن ثم ترك أعوانه وحشمه وتخلى عن المنصب من تلقاء نفسه وحاصر في

٢٧٥

القلعة مع حمادي. وقبل هذا وضع عسكر عقيل في القلعة.

وحينئذ اجتمع آغوات الداخل مع الأعيان والندماء والعلماء وصنوف العسكر فاتفقوا على طاعة الوزير داود ونصبوا موسى آغا قائممقاما ثم كتبوا عرضا مع محضر دونوه من ساعتهم وأرسلوه إلى الوزير. وكان في قره بولاق ينتظر الفرج بصبر فجاءه العرض مع المحضر متضمنا دعوته وإنقاذ الأهلين مما نالهم (١).

الوزير في بغداد :

وعلى هذا نهض بموكب فخم إلى بغداد فوصل يوم الجمعة ٥ ربيع الآخر سنة ١٢٣٢ ه‍ فتوقف خارج الباب الشرقي ونصب خيامه هناك. ومن ثم استقبله الأعيان والعلماء والأركان ... فدخلها مساء بابتهاج من الأهلين. مضى من وسط المدينة فتعالت الأصوات من كل صوب بـ (خير مقدم) و (مرحبا) ...!

وفي اليوم الثالث اجتمع العلماء والأعيان وصنوف الجيش والندماء ووجهاء البلد وعموم العثمانيين فتألف الديوان العظيم وازدحم الخلق فقرئت المناشير على الملأ وأجريت مراسيم الأفراح ...

وعين محمد آغا كتخدا البوابين سابقا كهية. ولكتابة الديوان فضل الله (٢) ولآغوية الينگچرية السيد علي آغا وأبقى كلّا من الحاج محمد سعيد الدفتري ، وموسى آغا كهية البوابين ، ويحيى آغا الخازن في مناصبهم وألبس كلّا منهم خلعة ... كما ألبس رؤساء الصنوف الأخرى.

وحينئذ تقدم الأعيان والعلماء والأشراف والعثمانيون للتبريك (٣).

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٨٢.

(٢) ترجمته في ص ٥٥ من تذكرة الشعراء ، وهو أخو لطف الله كاتب الديوان.

(٣) دوحة الوزراء ص ٢٨٤.

٢٧٦

قتلة سعيد باشا وحمادي :

إن سعيد باشا حينما عزل وصل الأمر السلطاني إلى الأخ من الرضاعة أحمد بك فأطلع سعيد باشا على محتوياته فلم يلتفت وتمرد فكانت النتيجة أن تفرق جمعه فالتجأ مع حمادي إلى القلعة الداخلية فحاصر بها. وأنذره الوزير داود باشا مرارا بلزوم التسليم فلم يذعن. وورد الفرمان بأنه إذا خالف قتل. وفي أول الأمر أبعد عنه العقيليون وألقي القبض على حمادي وحبس في (باشا اسكي). ثم قتله محمد آغا معتمد حالت داخل القلعة يوم الأربعاء ١٠ من شهر ربيع الآخر (١).

وحكى صاحب تاريخ الكولات تفصيل مأساة قتلته بشكل روائي داع للألم. وبين قسوة داود باشا ، وأن آغا الينگچرية وبعض الأعوان الآخرين قد عهد إليهم بقتله فقتلوه. أخذوه من حجر أمه .. فانتهت المأساة. وحمل ذلك على شدة حنقه وقسوته. وكان الأولى به أن يسيره إلى السلطان ويطلب العفو عنه كما فعل خلفه علي رضا باشا اللاز (٢) ولم يكن قتله في القلعة كما ذكر صاحب الدوحة.

ومن هنا نرى المؤرخين أيام الوزير لم يجسروا أن يدونوا مثل هذه الأمور كما دون الأستاذ سليمان فائق (مؤرخ الكولات) من ذم داود باشا على فعلته بابن سيده. ومهما بالغ الوزير في تبرير قتلته على لسان مؤرخيه لم يستطع لها توجيها إلا من عباد الجاه.

ترجمة سعيد باشا :

ذكرت أحواله على لسان مؤرخي داود باشا. وغاية ما يستفاد منها أنه حصل على الوزارة بمناصرة حمود الثامر شيخ المنتفق ونال سائر

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٢٩٤ ومطالع السعود ص ٢١٦.

(٢) تاريخ الكولات ص ٣٦.

٢٧٧

العناصر توجها منه وتدخلوا في الإدارة وأقصى بعض المماليك وكانوا آنئذ قوة لا يستهان بها فعارضوه من جهة ، ونفروه من أخرى وذهبوا إلى بلاد نائية مما ولد فيهم حنقا عليه. لذا نبزوه بأنه قدم من ليس بأهل ويعنون من ليس منهم.

وقالوا كان ذلك بتسويل من حمادي بن أبي عقلين وأنه لخرق فيه لم يلتفت إلى مصلحة المماليك.

سكت داود ولم يتدخل في الشؤون ظاهرا لكنه كان يرقب هذه الأحوال ... فلما رأى الكيل قد طفح ، ووجد أن لدعوته تربة صالحة رتب أموره في بغداد باتفاق من رجالهم البارزين ونهض بمن نهض وأراد أن يستميل قاسم بك الشاوي وأمثاله فلما اطلع قاسم بك على دخيلة الأمر تخلف عنه ولعله أراد أن يطحنهم بعضهم ببعض فشوق على ابقاء الشيخ حمود لينهك القوى. ونتائج الحرب غير مكفولة ... وكان له الأمل ان يخذل خصمه إلا أن الأوضاع لم تساعد. ومنها خذلان عبد الله الباباني ومهما يكن فإن الحكومة لهم وبأيديهم. لذا ناصروه لما شعروا به من خشيتهم أن يصير حمادي مهردارا أو خازنا ثم كهية فوزيرا فيخرج الأمر من يدهم فكانت ثورة داود بأمل القضاء على تدخل العراقيين في الإدارة ... ولم يكن آنئذ مجال للعرب وغير العرب أن يظهروا أكثر من مناصرة بعضهم على بعض.

أشار صاحب تاريخ الكولات أنه نحى عنه العارفين بالإدارة وقرب الجهال ...!

مضت أعمال حمادي بن أبي عقلين فلم نر ما ينقمونه منه سوى تسمية المناصب واستشارة الوزير له وكانت مدة عمر الوزير سعيد باشا (٢٥) عاما وبضعة أيام. ومدة حكومته بانضمام أيام ما بعد العزل أربع سنوات وبضعة أيام. قتل وقطع رأسه في ١٠ ربيع الآخر.

٢٧٨

وكان يلقب بـ (أسعد). والأبيات المنسوبة إليه لأسعد ابن النائب عن بيان حالة نفسه. وبعد بضعة أيام قتل حمادي أيضا وأرسلت رؤوسهما المقطوعة إلى استنبول.

وكانت هذه الوقعة سبب انتصار المماليك. قبض هؤلاء بيد من حديد على الإدارة وأمنوا الغوائل ... والحوادث أيام داود باشا تعين المجرى وتميط اللثام.

حمادي بن أبي عقلين :

يقال إن سبب تسميته هو أن والده أو أحد أجداده عاش كثيرا حتى بلغ من العمر ما دعا أن يكنى بذلك. وبعضهم يقول إنه من أهل (بعقلين) من أنحاء الشام وشاع غلطا بابن أبي عقلين وهذا يرجح على غيره. وتروى حكايات كثيرة عن تعذيبه وقطع لحمه حيا ليطلعه على ما جمعه من أموال ، أو اخفاه من أموال الحكومة لحد أنه قال وضعت الأموال عند تاجر لا أذكر اسمه (لكثرة ما أصابه من ضرب) فأحضر التجار وكل منهم خاف أن يقول هذا أو ذاك. وحينئذ وجه خطابه إليهم وقال : اعلموا أن وزيركم صفته كذا وكذا ...!

ولم يترك قذعا أو سبّا إلا قاله. أراد أن يعجل بقتله فلم يلتفت إلى ذلك. ويقال إنه رأى محمود باشا أمير بابان مارّا فدعاه إليه ورجا منه أن يلتمس من الوزير ليعجل بقتله قائلا له : إنه تألم كثيرا من هذا التعذيب ورجا أن يتوسط بقتله لينجو من التعذيب. وهذه قسوة أخرى. ولا تزال بقية باقية من ذريته إلى اليوم رأيت منهم الأستاذ عبد الكريم نادر من مدة طويلة. وله رسالة سماها (مختصر تاريخ العراق) طبعت سنة ١٩٢٩ م في مطبعة النجاح.

٢٧٩

الكركوكيون ـ خالد باشا وعبد الله باشا :

في اليوم الذي قتل فيه سعيد باشا تمهد للوزير أمره وتم له استقلاله ، فحذر منه القريب والبعيد وصاروا يهابون السطوة ، ومن جملة هؤلاء أهل كركوك. أذعنوا بالطاعة وندموا على أفعالهم ، وفتحوا الطريق لأحمد بك أخيه من الرضاعة فذهب. وأرسلوا العلماء للعفو عما وقع منهم ...

وأيضا جاء عبد الله باشا وخالد باشا إلى بغداد للدخالة بصورة متوالية إذ إنهما ضاقت بهما الأرض بما رحبت فلم يروا نجاة إلا بالتسليم.

واحتراما للعلم والعلماء قبل رجاءهم فعفا عن كركوك وكرم العلماء وأعطاهم (كتاب الأمان) ، كما أنه أغمض عينه عن هؤلاء الباشوات وعفا عن هفواتهما وخصص لكل منهما أربعة آلاف قرش شهريا.

حبس وإعدام :

كانت مخالفة سعيد باشا للأمر السلطاني ودوامه على هذه المعارضة لمدة إنما كان لمعاضدة من درويش محمد آغا من الكهيات السابقين ، والحاج عبد الله آغا ، والحاج محمد سعيد الدفتري ببغداد ، وعمر آغا الملي كهية البوابين سابقا ، وقاسم بك الشاوي باب العرب ، والحاج نعمان الباچه چي من التجار فصدر الفرمان بقتلهم لغضب السلطان عليهم من جراء إقدامهم على هذا العمل.

أما قاسم بك الشاوي فقد فر إلى جزيرة العرب فلم يتمكنوا من القبض عليه ، وألقي القبض على الخمسة الباقين. منهم الحاج محمد سعيد وعمر آغا الملي فإنهما أعدما في الحال وأرسلت رؤوسهما

٢٨٠