وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

وأمّا ما ورد عن علي بن عبد اللّٰه بن عباس في عكرمة ، فهو الآخر لا يمكن الاستدلال به ، لوجود يزيد بن أبي زياد في سنده ، ويزيد ضعيف لا يحتج به (١).

وأمّا ما حكي عن سعيد بن المسيب من أنّه قال لبرد مولاه : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس ، فهو من رواية إبراهيم بن سعد عن أبيه ، وإبراهيم فيه شي‌ء (٢) ، ولو قلنا بصحّة الرواية فهي لا تنفع في تكذيب عكرمة وتضعيفه ، لأنّه جرح غير مفسّر السبب ، وهو لا يعارض تعديلات الأئمّة من أهل العلم له (٣) ، ونحن إنّما قلنا أنّه غير مبيّن السبب باعتبار أنّ تكذيب ابن المسيّب له كان مستندا على اجتهاد قد أخطأ فيه.

وأمّا ما روي عن سعيد بن المسيب أنّه قال : كذب مخبثان ، فهو على فرض ثبوته عن ابن المسيب ، فإنّه قد أخطأ قطعا باتّهام عكرمة بالكذب ، لأنّ هناك طرقا كثيره تروي أنّ ابن عبّاس قال : تزوّج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ميمونة وهو محرم ، فقد رواه عن ابن عباس سوى عكرمة : أبو الشعثاء (٤) ، وسعيد بن جبير (٥) ، ومجاهد

__________________

(١) انظر تهذيب الكمال ٣٢ : ١٣٧.

(٢) لأنّه ليس بذاك الضابط في الحديث ، فلربما يغلط فيه ـ على ما هو صريح ابن سعد في الطبقات ٧ : ٣٢٢ ـ وقد لينه يحيى بن سعيد القطان لهذه العلة ـ على ما هو المحتمل قويا ـ وأرده كل من الذهبي وابن عدي في الميزان ١ : ٣٤ والكامل ١ : ٢٤٦ ـ ٢٥٠ ، ومما يدل على عدم ضبطه أنّ له أحاديث غير مستقيمة عن الزهري وعن غيره ، وقد استعرض بعضها ابن عدي في الكامل فراجع.

(٣) كالبخاري وابن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وغيرهم ، قال ابن مندة : عدّله أمة من التابعين تزيد على سبعين رجلا من خيار التابعين ، وهذه منزلة لا تكاد توجد لأحد من كبار التابعين على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية عنه ولم يستغن عن حديثه ، وكان حديثه متلقى بالقبول قرنا بعد قرن إلى زمن الأئمة الذين أخرجوا الصحيح. حتّى أنّ مسلما ـ وكان أسوأهم رأيا فيه ـ أخرج له مقرونا بغيره. (انظر تهذيب الأسماء ١ : ٣٤١ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٢٦٣ ومقدمة فتح الباري : ٤٢٨ ، ٤٢٤ ، ٤٢٩. وأخيرا في الحديث والمحدثون : ١٧٨).

(٤) انظر مسند أحمد ١ : ٢٢١ ، ٢٢٨ ، ٣٣٧.

(٥) انظر مسند أحمد ١ : ٢٢١ ، ٢٢٨ ، ٣٣٧.

١٢١

ابن الحجاج (١) ، وجابر بن زيد (٢) ، وطاوس (٣) و ..

وتكثّر هذه الطرق عن ابن عباس ربّما يشعر بثبوت هذا المرويّ عنه في الجملة ، خاصّة لو علمنا أنّ بعض هذه الطرق صحيح سندا ، فتكذيب ابن المسيب لعكرمة ، لا وجه له إذن ، فإذا فهمت ذلك ، فاعلم أنّ عدم اطلاع ابن المسيب على باقي الطرق الّتي روت عن ابن عبّاس ذلك لعلّه هو الّذي دعاه للتكذيب ، وهذا هو الّذي عنيناه بما تقدم من قولنا أنّه جرح غير مفسر ، لأنّه لا يفسر لنا كذب عكرمة وإخباره بغير الواقع ، بل استقربنا من خلاله خطأ ابن المسيب واجتهاده ، على أنّ ما رواه عكرمة عن ابن عبّاس في هذه القضيّة ليس بهذا النحو النّاقص الموهم ، الّذي سبّب في أن يطعن ابن المسيب فيه ، فهناك طرق أخرى عن عكرمة رواها عن ابن عبّاس فيها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج بميمونة بعد تمام فريضة الحج أثناء رجوعه إلى المدينة.

روى عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، قال : حدثنا إسماعيل (٤) ، أخبرنا أيّوب (٥) عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله نكح ميمونة وهو محرم ، وبنى بها حلالا بسرف (٦).

وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير (٧) من أنّ عكرمة روى عن ابن عباس كراهة استئجار الأرض ، فلعلّها كانت في موارد مخصوصة لا يباح فيها الإجارة ، لأنّ كراء الأرض واستئجارها عنوان كلّيّ يدخل تحته موارد يصح فيها الاستئجار ، وموارد لا يصح (٨) ، واحتمال كون المكروه هي تلك الموارد ـ المخصوصة عند ابن عباس ـ له

__________________

(١) انظر مسند أحمد ١ : ٢٢١ ، ٢٢٨ ، ٣٣٧.

(٢) انظر مسند أحمد ١ : ٢٨٥ ، ٢٦٢.

(٣) انظر مسند أحمد ١ : ٢٥٢.

(٤) وهو إسماعيل بن عليّه ، الذي احتج به الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٣ : ٤٥٩).

(٥) هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ، وثقه أهل العلم (انظر تهذيب الكمال ٣ : ٤٥٧).

(٦) مسند أحمد ١ : ٣٥٩ ، ومثله في صفحة ٣٥٤ و ٢٨٦.

(٧) في مقدمة الفتح : ٤٢٥ انه سعيد بن المسيب.

(٨) انظر المجموع ١٥ : ١٣ ـ ١٤ ، المغني لابن قدامة ٦ : ٦٦ ، مغني المحتاج ٢ : ٣٤٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٨٧ وغيرها من المصادر ، ومن تلك الموارد ما لو اشترط المؤجر من المستأجر أن يزرع فيها ويغرس ولم يبين مقدار كل واحد منهما ، ففي هذه الصورة لا تجوز الإجارة.

١٢٢

وجه وجيه ، فلا يستقيم الطعن في عكرمة.

وأمّا ما رواه مسلم الزنجي ، عن عبد اللّٰه بن عثمان بن خيثم ، عن سعيد بن جبير فلا يصح ، لكون الزنجيّ ضعيف ، كثير الأوهام ، منكر الحديث (١).

وأمّا ما رواه عثمان بن مرة من أن عكرمة كذب على ابن عباس في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن المزفّت والنقير والدباء و ..

ففيه أنّ هذا النهي قد صدر فعلا وبطرق مستفيضة عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتكذيب عكرمة في نقله لهذا الحديث لازمة عدم الاطلاع على الطرق الأخرى ، ولا لوم على عكرمة في ذلك.

وأمّا ما رواه القاسم بن معن في قضية الدواة والقرطاس ، فإنّه يوجب مدحا لعكرمة لاذما ، لأنّه يدل على صدقه ووثاقته وخوفه من اختلاط الحديث بالرأي ، قال ابن حجر : ففيها دلالة على تحرّيه فإنّه حدّثه في المذاكرة بشي‌ء ، فلمّا رآه يريد أن يكتبه عنه شك فيه فأخبره أنّه إنّما قاله برأيه ، فهذا أولى أن يحمل عليه من أن يطعن به أنّه تعمّد الكذب على ابن عبّاس (٢).

وأمّا ما قاله ابن سيرين ، فليس فيه طعن في عكرمة ووثاقته في الحديث ، فإنّ الجرح قد جاء لعدم ارتضاء ابن سيرين آراء عكرمة الفقهية ، لا لشكّه في وثاقته ، ويدلّ على ذلك أنّ ابن سيرين إذا قال «ثبت عن ابن عباس» يعني به عكرمة (٣).

وأمّا ذمّ الإمام مالك له بدعوى كونه من الخوارج ، فهو لم يثبت عنه ـ على ما

__________________

(١) هو مسلم بن خالد بن قرقرة الزنجي ، أبو خالد المكي ، أكثر أهل العلم على تضعيفه واستنكار مروياته (انظر تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٠٨ ، التاريخ الكبير ، للبخاري ٧ : الترجمة ١٠٩٧ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ١٥٨ وغيرها من المصادر).

(٢) مقدمة فتح الباري : ٤٢٧.

(٣) مقدمة فتح الباري : ٤٢٦ وفيه (قال خالد الحذاء كل ما قال محمد بن سيرين (ثبت عن ابن عباس) فإنما أخذه عن عكرمة ، وكان لا يسميه لأنّه لم يكن يرضاه).

١٢٣

هو صريح ابن حجر (١) ـ وسيأتي توضيح ذلك.

وأمّا ما رواه فطر بن خليفة : قلت لعطاء أنّ عكرمة قال : قال ابن عباس سبق الكتاب المسح على الخفين ، فقال عطاء : كذب عكرمة ، بل سمعت ابن عبّاس يقول : امسح ..

فالكاذب المخطئ هنا هو عطاء نفسه لا عكرمة ، لأنّ هذا القول ثابت عن ابن عباس بطرق مستفيضة ، والمسانيد والصحاح التي تذكر الناهين عن المسح على الخفين ، تعدّ ابن عباس في ضمن من نهى عن المسح على الخفين (٢).

كانت هذه النقول أشدّ ما يستدل به على تكذيب عكرمة ، وقد استبان لك سقمها ، لكون غالبها دعاوي فارغة غير مبيّنة العلّة والسبب إلّا في موردين أو ثلاث ، كزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ميمونة وهو محرم ، والنهي عن المزفّت والدباء ، وقد اتضح لك عدم صلاحها للطعن.

هذا وإنّ الإصرار على تكذيب عكرمة مع تغاضيهم عن أخطاء المحدثين الآخرين ليدلّ على أنّ وراء تكذيبه غرضا شخصيّا وهوى نفسيّا.

ولعلّه لذلك نظر يحيى بن معين حيث قال : إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وحماد بن سلمة فاتّهمه على الإسلام (٣).

وقد أراد عكرمة بقوله : أرأيت هؤلاء الّذين يكذّبوني من خلفي ، أفلا يكذّبوني في وجهي (٤) ، التنبيه على أن هؤلاء لا يبتغون العلم والحقيقة ، إذ لو أرادوا ذلك لجاءوا فسألوه عمّا يستنكرونه ، فلمّا لم يقابلوه بذلك علمنا بأنّهم مغرضون ، ولذلك وصفهم أبو جعفر الطبري بأنّهم من أهل الغباوة (٥).

وقال ابن مندة في صحيحه بعد كلام طويل له في مدح عكرمة : أجمع الجماعة

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٤٢٤.

(٢) كعلي بن أبي طالب ، وعائشة بنت أبي بكر و ..

(٣) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٨.

(٤) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٨ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ١٩.

(٥) انظر هامش سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٥.

١٢٤

على إخراج حديثه ، واحتجّوا به ، على أنّ مسلما كان أسوأهم رأيا فيه ، وقد أخرج له مقرونا بغيره وعدّله بعد ما جرحه (١).

وقال أيضا : من جرحه من الأئمة لم يمسك من الرواية عنه (٢).

الثاني : القول بأنّه يرى رأي الخوارج.

قال ابن لهيعة : كان يحدّث برأي نجدة الحروري (٣).

وقال سعيد بن أبي مريم ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود : كنت أوّل من سبّب الخروج إلى المغرب ، وذلك أنّي قدمت من مصر إلى المدينة ، فلقيني عكرمة ، وساءلني عن أهل المغرب ، فأخبرته بغفلتهم ، قال : فخرج إليهم ، وكان أوّل ما أحدث فيهم رأي الصفرية (٤).

وقال يعقوب بن سفيان : سمعت يحيى بن كثير يقول : قدم عكرمة مصر ، وهو يريد المغرب ، ونزل هذه الدار ـ وأومأ إلى دار إلى جانب دار ابن بكير ـ وخرج إلى المغرب ، فالخوارج الّذين بالمغرب عنه أخذوا (٥).

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : إنّما لم يذكر مالك ابن أنس عكرمة ، لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية (٦).

وقال عمر بن قيس المكي ، عن عطاء : كان عكرمة أباضيا (٧).

وقال الحسن بن عطية القرشي الكوفي : سمعت أبا مريم يقول : كان عكرمة بيهسيا (٨).

وقال إبراهيم الجوزجاني : سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة ، أكان يرى رأي الأباضية؟ فقال : يقال : إنّه كان صفريا ، قلت : أتى البربر؟

__________________

(١) انظر هامش سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٥.

(٢) انظر هامش سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٥.

(٣) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧٧.

(٤) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧٧ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٠.

(٥) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧٧ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢١.

(٦) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧٨.

(٧) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧٨.

(٨) والبيهسي : طائفة من الخوارج ينتسبون إلى أبي بيهس.

١٢٥

قال : نعم ، وأتى خراسان يطوف على الأمراء يأخذ منهم (١).

وهذه الأقوال لا تثبت كونه صفريا لكون بعضها ، رواتها ضعاف ، فالّذي رواه أبو الأسود وأبو مريم ضعيف بابن لهيعة (٢) ، وما رواه يعقوب بن سفيان أنّه سمع ابن بكير .. ، فهو كلام مبهم وادعاء فارغ ، لأنّ يحيى بن بكير لم يبيّن النصوص الّتي أفادت الخوارج أو التي استفادوا منها وأماكن وردوها في كتبهم ، أو أقوال أئمّتهم ولم يوضح لنا اسم من التقى بهم من الخوارج ، حتّى صيّروه إماما يأخذون معالم مذهبهم منه حسب هذا الزعم.

قال ابن جرير الطبري : لو كان كلّ من ادّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادّعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك ، للزم ترك أكثر محدّثي الأمصار ، لأنّه ما منهم إلّا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه (٣).

وأمّا ما رواه الجوزجاني عن أحمد بن حنبل فهو الآخر لا يثبت شيئا ، لأنّ أحمد قد شكك في نسبة الصفريّة إليه ، ومجرّد ذهاب عكرمة إلى البربر لا يعني أنّه كان خارجيّا ، هذا مع أنّ الّذي يظهر من أحمد تبرئته لعكرمة من هذه التهمة ، وخصوصا حينما وقفنا على كلام أبي بكر المروزِيّ : قلت لأحمد بن حنبل : يحتج بحديث عكرمة؟ فقال : نعم ، يحتج به (٤).

وأمّا ما رواه بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين من أنّ مالكا إنّما لم يذكر عكرمة في الموطّأ لأنّه يرى رأي الصفرية ، فهو عجيب غريب ، لأنّ مالكا قد احتج بعكرمة في الموطأ في كتاب الحجّ ، وقد صرح ابن حجر بذلك حيث قال : «وزعموا أنّ مالكا أسقط ذكر عكرمة من الموطّأ ، ولا أدري ما صحّته ، لأنّه ذكره في الحجّ وصرّح باسمه ومال إلى روايته عن ابن عباس ، وترك عطاء في تلك المسألة ، مع كون عطاء أجلّ

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٥ : ٢١.

(٢) هو عبد اللّٰه بن لهيعة بن عقبة الحضرمي الاعدوليّ. ضعّفه أكثر أهل العلم (انظر تهذيب الكمال ١٥ : ٤٨٧ ، والضعفاء لابن الجوزي ٢ : ١٣٦ ، والضعفاء للعقيلي ٢ : ٢٩٣) وغيرها من المصادر.

(٣) مقدمة فتح الباري : ٤٢٧.

(٤) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٨.

١٢٦

التابعين في علم المناسك (١)».

وأمّا ما رواه عمر بن قيس المكي عن عطاء ، فهو مجمل وادّعاء محض أيضا.

وممّا يؤيد سقم هذه الادّعاءات على عكرمة هو ثبوت المسح على القدمين عنده ، في حين أنّ المشهور عن الخوارج أنّهم يغسلون الأقدام.

ومثله الحال بالنسبة إلى الحكّام ، فالثابت عند الخوارج أنّهم يخرجون بالسيف عليهم (٢) ، فلو كان عكرمة خارجيّا فلم لا يشهر السيف بوجوههم ، بل نراه يقبل جوائز السلطان وصلاته؟!! هذا ، وقد برّأه من هذه التهمة بعض علماء هذا الفن :

فقال ابن حجر : لم يثبت عنه من وجه قاطع أنّه كان يرى ذلك (٣).

وقال العجلي : عكرمة مولى ابن عباس رضي اللّٰه عنهما مكّي ، تابعيّ ، ثقة ، بري‌ء ممّا يرميه الناس به من الحروريّة (٤). وقال ابن حجر : وقد برّأه الإمام أحمد (٥).

الثالث : أنّه يقبل جوائز الحكّام والأمراء

أوضحنا لك قبل قليل أنّ قبول جوائز الحكام ينافي المبدإ الذي قام عليه مذهب الخوارج ، وحسب قول ابن حجر أنّه لا يعني قدحا في الراوي ولا روايته ، فقال :«وأمّا قبوله لجوائز الأمراء فليس ذلك بمانع من قبول روايته ، وهذا الزهري قد كان في ذلك أشهر من عكرمة ، ومع ذلك فلم يترك أحد الرواية عنه بسبب ذلك» (٦).

وقال ابن حجر في موضع آخر أيضا : وأمّا قبول الجوائز فلا يقدح أيضا إلّا عند أهل التشديد ، وجمهور أهل العلم على الجواز كما صنف في ذلك ابن عبد البر (٧).

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٤٢٩.

(٢) انظر قاموس الرجال ، للتستري ٧ : ٢٣٧.

(٣) مقدمة فتح الباري : ٤٢٤ ، ٤٢٨.

(٤) انظر ثقات العجلي كما في مقدمة الفتح : ٤٢٧ وتهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٩.

(٥) مقدمة فتح الباري : ٤٢٧.

(٦) مقدمة فتح الباري : ٤٢٧.

(٧) مقدمة فتح الباري : ٤٢٤.

١٢٧

وإذ فرغنا من الجواب عما طعن به عليه ، فلنذكر ثناء أهل العلم عليه :

فعن عثمان بن حكيم ، قال : كنت جالسا مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف إذ جاء عكرمة ، فقال : يا أبا أمامة أذكّرك اللّٰه هل سمعت ابن عباس يقول : ما حدّثكم عني عكرمة فصدّقوه فإنه لم يكذب عليّ؟ فقال أبو أمامة : نعم (١). قال ابن حجر : وهذا إسناد صحيح (٢).

وقال عثمان بن سعيد الدارمي : قلت ليحيى بن معين : فعكرمة أحبّ إليك عن ابن عباس أو عبيد اللّٰه بن عبد اللّٰه؟ فقال : كلاهما ، ولم يخير ، قلت : فعكرمة أو سعيد بن جبير؟ فقال : ثقة وثقة ، ولم يخيّر (٣).

وفي آخر : قلت ليحيى : كريب أحبّ إليك عن ابن عباس أو عكرمة؟ فقال : كلاهما ثقة (٤).

وقال حمّاد بن زيد : قال لي أيّوب : لو لم يكن [عكرمة] عندي ثقة لم أكتب عنه (٥).

وقال أحمد بن زهير : عكرمة أثبت الناس فيما يروي (٦).

وقال أحمد بن حنبل : يحتجّ به (٧).

وقال ابن عدي : مستقيم الحديث إذا روى عنه الثقات (٨).

وقال النسائي : ثقة (٩) ، من أعلم الناس (١٠).

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٤٢٧ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧١.

(٢) مقدمة فتح الباري : ٤٢٧.

(٣) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٨.

(٤) هامش تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٨ عن (تاريخه الترجمة ٦٠٤).

(٥) مقدمة فتح الباري : ٤٢٨.

(٦) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٧.

(٧) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٨.

(٨) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٩ ، مقدمة فتح الباري : ٤٢٩.

(٩) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٩.

(١٠) المستخرج من مصنفات النسائي : ١١٦ الترجمة ٢١٩٠ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٣١.

١٢٨

وقال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلّا وهو يحتج بعكرمة (١).

وقال أبو حاتم : ثقة يحتجّ بحديثه إذا روى عنه الثقات (٢).

وقال الحاكم : احتجّ بحديثه الأئمّة القدماء ، لكنّ بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيّز الصحاح (٣).

وقال ابن حجر : قال ابن حبّان : كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن ، ولا أعلم أحدا ذمة بشي‌ء ، يعني يجب قبوله والقطع به (٤).

والحاصل : أنّ عكرمة ثقة ـ وفق ما تقدم ـ ، وقد احتجّ به غالب الأئمّة.

قال البزّار : روى عن عكرمة مائة وثلاثون رجلا من وجوه البلدان كلّهم رضوا به (٥).

وقال أبو جعفر بن جرير : ولم يكن أحد يدفع عكرمة من التقدّم في العلم بالفقه والقرآن وتأويله وكثرة الرواية للآثار ، وإنّه كان عالما بمولاة ، وفي تقريظ جلّة أصحاب ابن عبّاس إيّاه ، ووصفهم له بالتقدم في العلم ، وأمرهم الناس في الأخذ عنه ، ما بشهادة بعضهم تثبت عدالة الإنسان ويستحق جواز الشهادة ، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح ، وما يسقط العدالة بالظنّ وبقول فلان لمولاه : لا تكذب عليّ ، وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعان غير الذي وجّهه إليه أهل الغباوة ومن لا علم له بتصاريف كلام العرب (٦).

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٤٢٨ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٩ ، تاريخه الكبير ٧ : الترجمة ٢١٨.

(٢) الجرح والتعديل ٧ : ٧ الترجمة ٣٢ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٢.

(٣) الجرح والتعديل ٧ : ٧ الترجمة ٣٢ سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٢ ، مقدمة فتح الباري : ٤٢٩.

(٤) مقدمة فتح الباري : ٤٢٩.

(٥) مقدمة فتح الباري : ٤٢٨.

(٦) مقدمة فتح الباري : ٤٢٩.

١٢٩

لطائف هذا الاسناد

١ ـ إنّ رواة هذا الطريق أئمّة ثقات ، ضابطون ، عدول ، حفاظ للحديث ، فقهاء في الشريعة ، علماء بالسنة ، لم يكونوا بالمغمورين المطمورين ، وقد تقدم ذكر تصريحات العلماء في حقّهم.

٢ ـ إنّ رواة هذا الطريق هم مقصد البخاري في صحيحه ، لأنّهم بمثابة الطبقة الأولى من الطبقات التي تروي عن الزهري.

٣ ـ إنّ لكلّ من رواة هذا الطريق ، ملازمة طويلة ـ لا تقلّ عن عدّة أعوام ـ كلّ عمن يروى عنه ، وهذا مما يجعل هذا الطريق أكثر قوّة وحجية.

٤ ـ إنّ بعض رواة هذا الطريق كان أعلم من غيره بعلم ابن عباس ، فعن ابن عيينة قال : ما أعلم أحدا أعلم بعلم ابن عباس رضي اللّٰه عنهما من عمرو بن دينار ، سمع من ابن عبّاس وسمع من أصحابه.

٥ ـ إنّ رواية عكرمة عن ابن عبّاس في هذا الطريق لا تفيد الظنّ المعتبر فقط ، بل هي رواية محفوفة بالقرائن الخاصة التي تورث الاطمئنان ، لأنّ عكرمة كان قد اطّلع على حركات وسكنات ابن عباس عن حسّ ، وبما أنّ الوضوء من الأعمال المتكرّرة في اليوم عدّة مرات ، فأخبار عكرمة يأخذ مأخذا آخر ، أعلى من محض الرواية بالسماع أو بالمشاهدة مرّة أو مرّات.

٦ ـ إنّ الجماعة وطائفة من أهل العلم قد احتجّوا برواة هذا الطريق الّا مسلما فإنّه توقّف في عكرمة ، لكنّه رجع فاحتج به ، وعليه فهذا الطريق حجّة عند الجميع.

٧ ـ ومن خصائص هذا الإسناد أنّ فيه توثيق صحابيّ لتابعيّ ، فقد روي عن عثمان ابن حكيم قوله : كنت جالسا مع أبي أمامة بن حنيف إذ جاء عكرمة ، فقال : يا أبا أمامة ، أذكرك اللّٰه هل سمعت ابن عباس يقول : ما حدّثكم عني عكرمة فصدقوه فإنّه لم يكذب عليّ؟ فقال أبو أمامة : نعم. وهذا الإسناد صحيح على ما هو صريح ابن حجر.

والحاصل : إنّ طريق عبد الرزاق في هذا الحديث صحيح على شرط البخاري وغيره

١٣٠

من الجماعة ، بل غالب أئمّة أهل العلم ، وهو ما يفرض الأخذ به والاعتماد عليه.

الإسناد الثاني

قال عبد الرزاق ، عن معمر (١) ، عن قتادة (٢) ، عن جابر بن يزيد (٣) أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : افترض اللّٰه غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين ، وقال رجل لمطر الورّاق : من كان يقول : المسح على الرجلين؟ فقال : فقهاء كثير (٤).

المناقشة

رجال هذا الطريق أئمّة ثقات ، يظهر ذلك لمن تتبّع تراجمهم في كتب الرجال ، إلّا أنّه قد يتكلّم في بعضهم من جهة الضبط ومقدار الحفظ.

وقد مر عليك الكلام في عبد الرزاق ،. وبقي أن نذكر خصوص روايته عن معمر.

فعن عبد الرزاق أنّه قال : جالسنا معمرا سبع سنين أو ثمان سنين (٥).

وقال أبو بكر الأثرم ، عن أحمد بن حنبل : حديث عبد الرزاق عن معمر أحبّ

__________________

(١) هو معمر بن راشد الأزدي ، الحداني (انظر تهذيب الكمال ٢٨ : ٣٠٣ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ٢٤٣) وغيرهما من المصادر.

(٢) هو قتادة بن دعامة الدوسي ، أبو الخطاب البصري (انظر تهذيب الكمال ٢٣ : ٤٩٩ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٦٩ ، تهذيب التهذيب ٨ : ٣٥١) وغيرها من المصادر.

(٣) الصحيح جابر بن زيد الأزدي اليحمدي (انظر تهذيب الكمال ٤ : ٤٣٤) ، لأن قتادة لا يروى عن جابر بن يزيد الجعفي والأخير لا يروى عن ابن عباس (انظر تهذيب الكمال ٤ : ٤٦٥) ولو أردت التفصيل أكثر عن جابر بن زيد (أبي الشعثاء) فانظر البداية والنّهاية ١٠ : ٩٣ وأجوبة ابن خلفون ص ٩ وغيره.

(٤) مصنف عبد الرزاق ١ : ١٩ ح ٥٤.

(٥) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٦.

١٣١

إليّ من حديث هؤلاء البصريين ، كان ـ يعني معمرا ـ يتعاهد كتبه وينظر فيها .. (١)

وقال عباس الدّوريّ عن يحيى بن معين : كان عبد الرزاق في حديث معمر أثبت من هشام بن يوسف .. (٢).

وأمّا رواية معمر عن قتادة ، فقد قال معمر : جلست إلى قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فما سمعت منه حديثا إلّا كأنه منقش في صدري (٣).

وقد وثّق معمرا كلّ من ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي وابن حزم وابن حجر والدار قطني في السنن (٤) إلّا أنّه قال عنه في العلل : سيئ الحفظ لحديث قتادة والأعمش (٥).

وقال الذهبيّ في الميزان : أحد الأعلام الثقات ، له أوهام معروفة احتملت له في سعة ما أتقن (٦). وقال ابن حجر في التقريب : «ثقة ثبت فاضل إلّا أنّ في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئا» (٧) ، ولم يذكر فيه سوء حفظه لحديث قتادة.

وأمّا قتادة فقد وثّقه ابن معين وابن سعد والعجلي والدار قطني وابن حجر ، وقال أبو بكر الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئا إلّا حفظه ، وقرئ عليه صحيفة جابر مرّة واحدة فحفظها (٨).

وقال عبد الرحمن بن يونس عن سفيان بن عيينة : كان قتادة يقص صحيفة جابر ، وكان كتبها عن سليمان اليشكري (٩).

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧ وفي ص ٥٨ عن أبي زرعة قريب منه.

(٢) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٨.

(٣) تهذيب الكمال ٢٨ : ٣٠٦.

(٤) السنن ١ : ١٦٤ كما في هامش تهذيب الكمال ٢٨ : ٣١٢.

(٥) العلل (٤ الورقة ٣٩) كما في هامش تهذيب الكمال ٢٨ : ٣١٢.

(٦) ميزان الاعتدال ٤ : الترجمة ٨٦٨٢.

(٧) تقريب التهذيب ٢ : ٢٦٦ ، تهذيب الكمال ٢٨ : ٣٠٩.

(٨) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥١٥.

(٩) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥٠٨.

١٣٢

وقال علي بن المديني : سمعت يحيى بن سعيد يقول : قال سليمان التيمي : ذهبوا بصحيفة جابر إلى قتادة فرواها ، أو قال : فأخذها (١).

وعن يحيى بن معين أنّه شك في سماع قتادة من أبي قلابة (٢) وأبي الأسود الدؤلي (٣) وسليمان بن يسار (٤) ومجاهد (٥) ، وقال عن قتادة : أنّه لم يدرك سنان ابن سلمة ، وعن أحمد بن حنبل قوله : قتادة لم يسمع عن رجاء بن حياة ، وعن يحيى بن سعيد قريب منه.

وأنت ترى أنّ هؤلاء العلماء قد شكّكوا في رواية قتادة عن أولئك ولم يشكّكوا في روايته عن جابر بن زيد (يزيد) أو عكرمة.

هذا ، ويمكننا أن نجيب الدار قطني فيما ادّعاه في (العلل) على قتادة ، بأنّ مسلما وأبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجة قد احتجوا بمرويات معمر عن قتادة في صحاحهم ، وهو مرجّح قوي للحديث (٦).

وأما رواية قتادة عن جابر (٧) وعكرمة (٨) ، فقد احتج بها الجماعة أصحاب الصحاح ، اللّٰهم إلّا مسلما من جهة عكرمة ـ على ما تقدم بيانه ـ ومهما يكن من شي‌ء ، وعلى أسوأ تقدير ، فإنّ هذا الطريق صحيح ، لوجود التابع الصحيح له من رواية عبد الرزاق آنفة الذكر ـ الإسناد الأوّل ـ من وضوء ابن عباس المسحي.

وقال السيوطي : وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله ، أي مثل حديث عبد الرزاق هنا (٩).

__________________

(١) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥٠٨.

(٢) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥١٠ عن تاريخ يحيى بن معين.

(٣) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥١٣.

(٤) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥١٣.

(٥) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥١٣.

(٦) تهذيب الكمال ١٨ : ٢٠٤.

(٧) تهذيب الكمال ٢٣ : ٤٩٩.

(٨) تهذيب الكمال ٢٣ : ٥٠١.

(٩) الدر المنثور ٢ : ٢٦٢.

١٣٣

الإسناد الثالث

روى عبد الرزاق ، عن معمر (١) ، عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، عن الربيع : أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله غسل قدميه ثلاثا ، ثمّ قالت لنا : إنّ ابن عبّاس قد دخل عليّ فسألني عن هذا [الحديث ـ ظ] فأخبرته ، فقال : يأبى الناس إلّا الغسل ، ونجد في كتاب اللّٰه المسح ـ يعني القدمين (٢).

الإسناد الرابع

قال ابن أبي شيبة (٣) : حدثنا ابن علية (٤) ، عن روح بن القاسم (٥) ، عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، عن الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، قالت أتاني ابن عبّاس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذكرت أنّها رأت النبيّ توضأ ، وأنّه غسل رجليه ـ قالت : فقال ابن عباس : أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح (٦).

وروى ابن ماجة مثله ، وفي الزوائد : إسناده حسن (٧).

__________________

(١) مر الكلام عنه في الإسناد الثاني من مرويات عبد اللّٰه بن عبّاس المسحية.

(٢) مصنف عبد الرزاق بن همام ١ : ٢٢ ح ٦٥ ، وعنه في كنز العمال : وسيأتي الكلام عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل.

(٣) هو عبد اللّٰه بن محمد بن إبراهيم العبسي مولاهم ، أبو بكر بن أبي شيبة ، صاحب المصنف المعروف ، من الأئمة الثقات ، احتج به الجماعة ، بل كثير من أهل العلم ، إلّا أن الترمذي لم يخرّج له شيئا (انظر تهذيب الكمال ١٦ : ٣٤ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ١٢٢ ، تقريب التهذيب ١ : ٤٤٥) ، وغيرها من المصادر.

(٤) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي ، أبو بشر البصري ، المعروف بابن عليه ، من الثقات ، احتجّ به الجماعة وغيرهم (انظر تهذيب الكمال ٣ : ٢٣) ، وغيره من المصادر.

(٥) هو روح بن القاسم التميمي ، العنبري ، أبو غياث البصري ، احتجّ به الجماعة وغيرهم وهو ثقة ، إلّا أن الترمذي لم يخرّج له شيئا (انظر تهذيب الكمال ٩ : ٢٥٢) وغيره من المصادر.

(٦) مصنف ابن أبي شيبة ١ : ٣٧ ح ٩٩.

(٧) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ ح ٤٥٨.

١٣٤

الإسناد الخامس

قال الحميدي (١) : حدّثنا سفيان (٢) ، قال : حدّثنا عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ابن أبي طالب ، قال : أرسلني عليّ بن الحسين إلى (الربيع بنت) المعوذ بن عفراء ، أسألها عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يتوضّأ عندها ، فأتيتها فأخرجت إلىّ إناء يكون مدّا أو مدّا وربع (وفي نسخة منه : مدّا وربعا) بمدّ بني هاشم ، فقالت : بهذا كنت أخرج لرسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيبدأ فيغسل يديه ثلاثا ، قبل أن يدخلهما الإناء ، ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثا ثلاثا ، ويغسل وجهه ثلاثا ، ثمّ يغسل يديه ثلاثا ثلاثا ، ثمّ يمسح برأسه مقبلا ومدبرا ، ويغسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، قال : وقد جاءني ابن عمتك (٣) ، فسألني عنه فأخبرته ، فقال : ما علمنا في كتاب اللّٰه إلّا غسلتين (٤) ومسحتين ، يعني ابن عبّاس (٥).

الإسناد السادس

روى البيهقي بسنده إلى سفيان بن عيينة ، قال : أخبرنا عبد اللّٰه بن محمد ابن عقيل : أنّ عليّ بن الحسين أرسله إلى الرّبيع بنت المعوّذ ليسألها عن وضوء

__________________

(١) هو عبد اللّٰه بن الزبير ، القرشي الأسدي ، المكي ، أبو بكر الحميدي (صاحب المسند) ، المتوفّى ٢١٩ ه‍. قال الإمام أحمد عنه : الحميدي عندنا امام ، وقال أبو حاتم : أثبت الناس في ابن عيينة الحميدي وهو رئيس أصحاب ابن عيينة وهو ثقة إمام. وقال ابن سعد : صاحب ابن عيينة وراويته ، مات بمكة سنة تسع عشر ومائتين ، وكان فقيه ، كثير الحديث (انظر تهذيب الكمال ١٤ : ٥١٥ ، الطبقات الكبرى ٥ : ٥٠٢ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٦١٦) وغيرها.

(٢) هو سفيان بن عيينة ، الإمام الكبير ، أبو محمد الهلالي الكوفي ثمّ المكي ، روي له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ١١ : ١٧٧ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ١٢٨ : ٤٥٤ ، الطبقات الكبرى ٥ : ٤٩٧) وغيرها من المصادر.

(٣) كذا في الأصل. وعند البيهقي من طريق العبّاس بن يزيد عن سفيان «ابن عم لك» وكذا في مسند أحمد من طريق سفيان وفي النّسخة الظاهريّة من مسند الحميدي «وجاءني ابن عمّ لك»

(٤) كذا في الأصل وعند البيهقي وأحمد ، وفي النسخة الظاهريّة من مسند الحميدي (غسلين ومسحين).

(٥) مسند الحميدي ١ : ١٦٤.

١٣٥

رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فذكر الحديث في صفة وضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه ـ قالت : ثمّ غسل رجليه ، قالت : وقد أتاني ابن عمّ لك ـ تعني ابن عبّاس ـ فأخبرته ، فقال : ما أجد في الكتاب إلّا غسلتين ومسحتين (١).

الإسناد السّابع

قال عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل (٢) : حدّثني أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدّثني عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، فسألتها عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخرجت له ـ يعني إناء يكون مدّا أو نحو مدّ وربع ـ قال سفيان : كأنّه يذهب إلى الهاشمي ، قالت : كنت أخرج له الماء في هذا فيصبّ على يديه ثلاثا ، وقال : مرة يغسل يديه قبل أن يدخلهما ، ويغسل وجهه ثلاثا ، ويمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا ويغسل يده اليمنى ثلاثا واليسرى ثلاثا ويمسح برأسه ، وقال : مرّة أو مرتين مقبلا ومدبرا ، ثمّ يغسل رجليه ثلاثا ، قد جاءني ابن عمّ لك فسألني ـ وهو ابن عبّاس ـ فأخبرته فقال لي : ما أجد في كتاب اللّٰه إلّا مسحتين وغسلتين (٣).

المناقشة

يوجد في هذه الأسانيد الخمسة الأخيرة عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل (٤) ، وقد

__________________

(١) السّنن الكبرى ، للبيهقي ١ : ٧٢ باب على ان فرض الرجلين الغسل وان مسحهما لا يجزى.

(٢) الحافظ ، محدّث بغداد ، أبو عبد الرحمن الذّهلي الشيباني المروزي ثمّ البغدادي ، قال أبو علي ابن الصواف ، قال عبد اللّٰه بن أحمد : كلّ شي‌ء أقول قال أبي ، قد سمعته مرّتين وثلاث وأقله مرّة ، وعن ابن أبي حاتم : كتب إليّ بمسائل أبيه وبعلل الحديث ، وقال ابن المنادي : لم يكن في الدّنيا أحد أروى عن أبيه منه ، لأنّه سمع (المسند) وهو ثلاثون ألفا والتّفسير وهو .. (انظر تهذيب الكمال ١٤ : ٢٨٥ ، سير أعلام النبلاء ١٦ : ٥١٦ ، الجرح والتّعديل ٥ : الترجمة ٣٢ ، تاريخ بغداد ٩ : ٣٧٥) وغيرها من المصادر.

(٣) مسند أحمد ٦ : ٣٥٨.

(٤) الهاشمي القرشي ، روى له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة (انظر تهذيب الكمال ١٦ : ٧٨ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٠٤ ، الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦).

١٣٦

ليّنه بعض أهل العلم ، إلّا أنّ تليينهم جاء لسوء حفظه وقلّة ضبطه ، ولم نعثر على قول جرحه في أصل وثاقته وعدالته ، وإليك أهمّ أقوالهم فيه :

قال يعقوب : وابن عقيل صدوق ، وفي حديثه ضعف شديد جدا (١).

وقال أبو معمر القطيعي : كان ابن عيينة لا يحمد حفظه (٢).

وقال الحميدي عن سفيان : كان ابن عقيل في حفظه شي‌ء فكرهت أن ألقه (٣).

وقال أبو بكر بن خزيمة : لا أحتجّ به لسوء حفظه (٤).

وقال الترمذيّ : صدوق ، وقد تكلّم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجّون بحديث ابن عقيل ، قال محمد بن إسماعيل : وهو مقارب الحديث (٥).

وقال أحمد بن عبد اللّٰه العجليّ : مدنيّ تابعيّ ، جائز الحديث (٦).

وقال ابن حجر : حديثه ليّن ، ويقال : تغيّر بأخرة (٧).

وقال الحاكم : عمّر فساء حفظه ، فحدّث على التخمين ، وقال في موضع آخر : مستقيم الحديث (٨).

وقال أبو أحمد ابن عدي : روى عنه جماعة من المعروفين الثقات ، وهو خير من ابن سمعان ، ويكتب حديثه (٩).

وقال عمرو بن علي : سمعت يحيى وعبد الرحمن جميعا يحدّثان عن عبد اللّٰه

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٢) الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٣) الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٤) الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٥) الجامع ١ : ٩ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨٤.

(٦) تهذيب الكمال ١٦ : ٨٣ عن الثقات للعجلي الورقة ٣١.

(٧) تقريب التهذيب ١ : ٤٤٧.

(٨) تقريب التهذيب ٦ : ١٥.

(٩) الكامل في الضعفاء ٤ : ١٢٩.

١٣٧

ابن محمد بن عقيل ، والناس يختلفون فيه (١).

وقال الفسوي : صدوق ، في حديثه ضعف (٢).

هذه هي أهمّ الأقوال الواردة فيه ، وقد رأيت أنّ علّة التليين لا تتعدّى سوء حفظه وإلّا فهو في نفسه ثقة صدوق ، وقد احتجّ به بعض أساطين العلم كأحمد ابن حنبل والحميدي وإسحاق بن إبراهيم.

وعليه فقد اتضح من مجموع كلمات العلماء أنّ عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ممّن يتابع على حديثه ، وذلك لأنّه لم يجرح بما يمسّ بوثاقته وصدقه ، بل بسبب سوء حفظه ، وهذا الضعف قد يتدارك ـ بواسطة القرائن وغيرها ـ فترتقي مرويّاته من درجة الضعف إلى درجة الحجية ، وقد مرّ عليك إسناد ابن ماجة عن الربيع الّذي حكم عليه بأنّه طريق حسن ـ كما في زوائد ابن ماجة ـ وهذا يقتضي أنّ ما أسنده عبد الرزاق عن الربيع ـ وكذا البيهقي عنها ـ حسن أيضا لاتّحاد العلّة في الجميع ، إذ أن جميع رواة هذه الأسانيد ـ سوى عبد اللّٰه ـ ثقات حفّاظ ، بل إنّ بعضهم أئمّة! وإليك القرائن الّتي يمكن بمجموعها أن ترقى هذه الأسانيد إلى درجة الحسن والحجية.

١ ـ روى هذا الحديث عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ثلاثة من إثبات أهل العلم.

فالأوّل : معمر بن راشد الأزدي ، على ما في إسناد عبد الرزاق.

والثاني : روح بن القاسم ـ على ما في إسناد ابن ماجة وأبي بكر بن أبي شيبة ـ والذي قال عنه الذهبي : قد وثقه الناس.

والثالث : سفيان بن عيينة ، على ما في إسناد الحميدي والبيهقي و ..

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٢) سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٠٥.

١٣٨

فرواية ثلاثة أعلام كهؤلاء عنه بمتون متّفقة بلا زيادة فيها ولا نقيصة لقرينة قويّة على صدور قول ابن عبّاس المتقدّم للربيع.

٢ ـ ظاهر كلام الترمذي هو الاحتجاج بما يرويه عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، لو اتفقت مروياته مع مرويات الثقات ، لأنّه كان قد صدّر باب «ما جاء في مسح الرأس مرّة» بما رواه محمد بن عجلان ـ الضعيف ـ عن عبد اللّٰه بن عقيل عن الربيع ، وقال بعد ذلك : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ، ومعنى كلامه هو احتجاجه بمرويّات الضعفاء لو وافقت ما رواه الثقات ، أي أنّ هذه الروايات تكون حسنة بغيرها. فإذا كانت رواية ابن عجلان عن عبد اللّٰه بن عقيل معتبرة ـ بنص الترمذي ـ مع أنّ فيها ابن عجلان الضعيف ، فهذه الرواية أولى بالعمل من تلك ، لكون الجرح هنا في عبد اللّٰه وحده.

٣ ـ إن الّذي رواه عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل في هذه الأسانيد عن ابن عبّاس هو الأقرب للواقع ، لموافقته للروايات الصحيحة المسحيّة عن ابن عبّاس ، ولأقوال العلماء الجازمة بأنّ مذهب ابن عبّاس هو المسح على القدمين لا غير.

وملخص القول : إنّ هذه الأسانيد ممّا يتابع عليها بما تقدّم من الصحيح عن ابن عبّاس ، والمشهور من مذهبه ، وعليه فلا مانع من أن ترتقي هذه الأسانيد إلى درجة الصحّة فيمكن الاحتجاج بها ، وخصوصا لو لوحظت مع النصوص الأخرى الموجودة في كتب التفاسير :

قال الطبري : حدثنا أبو كريب ، قال : حدّثنا محمد بن قيس الخراساني ، عن ابن جريح ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : الوضوء غسلتان ، وقال السيوطي : وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن ابن عبّاس ، قال : افترض اللّٰه غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمّم ، فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدّثنا أبي ، حدّثنا أبو معمر المنقري ، حدّثنا عبد الوهّاب ،

__________________

(١) الدرّ المنثور ٢ : ٢٦٢.

١٣٩

حدّثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عبّاس (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ..) قال : هو المسح (١).

تصريحات الأعلام بمذهب ابن عبّاس المسحي

هذه كانت مجموعة من الروايات المعتبرة والصحيحة التي تحكي أن مذهب ابن عبّاس هو المسح في الوضوء ، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها ، بل هو ممّا لا يحتاج لأن يبرهن عليه بالروايات ، وما ذلك إلّا لأنّه متواتر ومقطوع به عند كل أهل الإسلام ، وإليك بعض تصريحات الأساطين في ذلك :

قال ابن حجر : ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك [أي الغسل] إلّا عن علي وابن عبّاس وأنس (٢) ..

وقال موفق الدّين ابن قدامة : «.. ولم يعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح غير من ذكرنا (٣)».

وكان ابن عبّاس وعليّ بن أبي طالب ممن ذكرهم.

وقال أبو زرعة في حجة القراءات : وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر .. وأرجلكم .. خفضا ، عطفا على الرءوس ، وحجتهم في ذلك ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (٤).

وفي قول أبي زرعة دلالة قوية على صدور هذا النّص عن ابن عبّاس ، لأنّه لا يتلاءم لأن يكون حجّة ودليلا ـ لقراءات قرآنيّة يتعبّد ويقرأ بها جميع أهل الإسلام ـ لو لم يصحّ عنه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، شرح معاني الآثار ١ : ٤٠.

(٢) فتح الباري ١ : ٢١٣ ، ونحوه عن الشوكاني في نيل الأوطار ١ : ٢٠٩.

(٣) المحلى ١ ـ ٢ : ٥٦ م ٣٠٠.

(٤) المغني ١ : ١٥١ م ١٧٥.

١٤٠