وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

ـ وهو ممن خالف اجتهادات عمر ـ كان لا يرى المسح على الخفّين ، لأنّه كان قد سمع الحديث عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّ المسح على الخفين غير جائز ، وأنّ الوضوء لا يعدّ وضوءا مع المسح على الخفين ، وأنّ سورة المائدة جاءت بالوضوء الذي يمسح فيه على القدمين لا على الخفين ، وهو وإن قيل عنه أنّه ما مات حتى وافق الناس ورجع إلى جواز المسح على الخفين ، إلّا أنّ المهم هو ثبوت كونه من مانعي المسح على الخفين في حياة أبيه ، فموقفه الوضوئي آن ذاك لا يمكن التغاضي عنه مع ما صدر منه من مواقف في الدفاع عن كثير من الأحكام الثابتة ، ووقوفه ضدّ اجتهادات أبيه (١).

وهنا تتأكّد أصالة النهج الوضوئي وأحقّيّته ، ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون ابن عمر رجع وقال بالمسح على الخفين أم لم يرجع ، وإن ذلك ليرجع إلى الظروف التي كان يعيشها ، إذ عرف عنه عدم استقراره في مواقفه السياسية ، لأنّه قد صار في أواخر عمره تبعا للسلطات الأموية.

لكنّ الحقّ أنّ نهج التعبّد المحض والتحديث أخذ ينشط ويعمل بكلّ دأب وجدّ في زمن خلافة علي بن أبي طالب ، لذلك نرى كتاب علي إلى محمد بن أبي بكر ـ وإليه على مصر ـ وسائر مواقفه الوضوئية والفقهية الأخرى ، تؤكد على كثير من الأحكام الشرعية التي كانت من البداهة بمكان ، ومن جملتها الوضوء الثنائي المسحي ، والصلاة وغيرها من بديهيات الأحكام الشرعية ، وعليّ هو رائد مدرسة التعبّد والدعوة لفتح باب التدوين والتحديث.

نعم ، جدّ عليّ ليمحو الآثار الّتي خلّفتها الحكومات التي سبقته ، بسبب اجتهاداتها المتكررة ، فراح يؤكّد على ضرورة اتّباع نهج التعبد ، واتّباع خطى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أحكامه وأفعاله.

فالوضوء إذن ، لا يمكن تفكيكه عن مسألة التحديث والتدوين ، ولا مسألة الاجتهاد والتعبد بحال من الأحوال ، لأنّ روّاد التعبد المحض هم رواد الوضوء

__________________

(١) انظر منع تدوين الحديث ، لنا : ٢٥٦.

٦١

الثنائي المسحي ، ورواد الاجتهاد ـ في زمن عثمان وما بعده ـ هم رواد الوضوء الثلاثي الغسلي ولا ننسى أنّ الخليفة عثمان بن عفان كان قد صرّح بكون معارضيه في الوضوء هم من المحدّثين عن رسول اللّٰه ، لقوله : «إن ناسا يتحدثون عن رسول اللّٰه ..».

وستتضح لك حقيقة الحال لو تابعت البحث معنا في هذه الدراسة ، وذلك بعد مناقشتنا لما يرويه الصحابة وأهل البيت من صفة وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانة الوضوء في مدونات الصحابة والتابعين.

كانت هذه نظرة إجمالية لما سردناه في (المدخل) ، وإليك تقاسيم البحث الآتي هنا ، إذ جعلنا البحث فيه (أي في الجانب الروائي) يتألف من مقدمة وثلاثة أقسام.

أمّا المقدمة فقد انتهى الكلام عنها هنا ، وأمّا الأقسام الثلاثة الأخرى فهي :

القسم الأوّل :مناقشة ما رواه الصحابة في صفة وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سندا ودلالة ونسبة.

القسم الثاني :مكانة الوضوء في مدونات الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

القسم الثالث :مناقشة ما رواه أهل البيت في صفة وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سندا ودلالة ونسبة.

هذا ، ولا أحسب أنه يخفى على العلماء والباحثين ، أنّ تعاملنا مع أسانيد الوضوء ـ في هذا القسم من الدراسة ـ سيأتي كل حسب قواعده الرجالية والدرائية والأصولية والفقهية ، فإننا لا نحكّم قواعد الشيعة وآراء علمائهم عند مناقشة مرويات أهل السنة ، وكذا العكس.

فعلى هذا ، فما يراه القارئ الكريم في مطاوي بحوثنا الآتية من النقض والإبرام والقبول والردّ إنّما هو حسب قواعد وأصول كلّ طائفة ، لا أنه التزام خاص منا بذلك ، وإليك البحث :

٦٢

دراسة الجانب الروائي

في

صفة وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وينقسم إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : مناقشة ما رواه الصحابة في صفة وضوء النبي سندا ودلالة ونسبة

القسم الثاني : مكانة الوضوء في مدونات الصحابة والتابعين وتابعي التابعين

القسم الثالث : مناقشة ما رواه أهل البيت في صفة وضوء النبي سندا ودلالة ونسبة

٦٣
٦٤

القسم الأوّل

مناقشة

ما رواه الصحابة في صفة وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

سندا ودلالة ونسبة

رواة كيفية الوضوء في الصحاح والسنن

عبد اللّٰه بن عباس

عليّ بن أبي طالب

عبد اللّٰه بن زيد المازني

عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص

الربيع بنت المعوذ

عائشة بنت أبي بكر

عبد اللّٰه بن أنيس

عثمان بن عفان

٦٥
٦٦

قبل الدخول في مناقشة الروايات البيانية عند الطرفين «نهج التعبد المحض ونهج الاجتهاد بالرأي» لا بدّ من إعطاء فكرة إجمالية عن طريقة عملنا في هذا القسم ، فنقول :

قد اتخذنا (الجامع الصحيح) للترمذي منهجا أوّليا لمعرفة روايات الوضوء التي أتى بها الترمذي في باب ما جاء في وضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف كان؟ لأنّه انتهج في كتابه ذكر أسماء كلّ الصحابة الذين رووا فيما يتعلق بكل باب من أبواب جامعه ، ثمّ وسّعنا العمل بتخريج روايات أولئك الصحابة في الصحاح والمسانيد والسنن المتداولة بأيدينا ، ودرسنا جميع تلك الأخبار سندا ودلالة ونسبة ، وبتعبير الفقهاء من جهة أصالة الصدور ، وأصالة الظهور ، وجهة الصدور.

وحيث أنّ معنى البحثين السنديّ والدلاليّ قد عرفت ماهيته لدى الباحثين فلا حاجة بنا لتوضيحه ، وأمّا ما اصطلحنا عليه بجملة «نسبة الخبر» فهو ممّا يجب توضيحه ، لأنّا بعد الفراغ من دراسة الخبر سندا ودلالة ، نأتي إلى دراسة حقيقة إمكان انتساب هذا الخبر إلى ذلك الصحابي المنسوب إليه الخبر ، وهل يتوافق مع مرويّاته الأخرى وسيرته العمليّة أم لا؟ بل ومدى تطابق هذا المنسوب مع الثوابت الحديثية الأخرى الصادرة عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وأخيرا نأتي بما يرجّح أحد النقلين عنه.

لأنّ الذي يهمّنا هو الإلمام بأطراف الحدث الفقهيّ المراد دراسته ، من خلال الأخذ بجميع أطراف الشخصيّة المنسوب إليها الحدث ، أو التي يمكن أن ينسب إليها ، بناء على الكليّات العامّة التي عرفناها عنه ، ثمّ محاولة تطبيق هذا المنسوب مع الحصيلة النهائية المستنتجة منها ، ومدى تلاؤم وانسجام تلك النسبة معه أو عدمها؟

فمطلوبنا هو الوصول إلى إمكان انتساب الواقعة الفقهية إلى الشخصيّة الفلانيّة

٦٧

وعدمه ثبوتا ـ كما يقول الأصوليون ـ بغضّ النظر عن ادّعاء وقوعه وعدم وقوعه في الخارج العملي.

وهذا البحث ليس بدعا من البحوث ، فقد كان نقد المتن معمولا به متداولا عند الصحابة وجميع الفقهاء المسلمين والكتّاب والباحثين ، إذ جمع الزركشي ما استدركته عائشة على الصحابة في كتاب أسماه «الإجابة فيما استدركته السيدة عائشة على الصحابة».

والحديث الذي يمكن أنّ ينتقد له القابلية لأن يلحق بما اصطلح عليه أرباب علم الدراية بالمعلول في المتن ، وقد أطلق الفقهاء والباحثون على مثل هذا اسم «النقد الداخلي للخبر» ، وهو قريب مما اصطلحنا عليه بجملة «نسبة الخبر إليه».

فالعلماء لم يقعّدوا هذا المنهج بشكل قاعدة عامّة لها أسسها وثوابتها وتطبيقاتها في بحوثهم ، ولم يستخدموه لمعرفة جميع مفردات الموضوع المبحوث عنه ، وإن كانوا يشيرون إليه في الأعمّ الأغلب ، عند دراستهم للروايات الفقهية سندا ودلالة بصورة بسيطة وسريعة ، كما أنّهم لم يستقصوا فقه تلك الشخصية وتاريخه وسيرته وأحواله ، للحكم على الصادر عنه ، بل تراهم يتخذون الموقف ويستوحونه من خلال وقوفهم على نصّ أو نصّين عنه ، وهذا ما لا يمكن قبوله ، لأنّ الاعتماد على النصّ بمفرده دون مقايسته بأشباهه ونظائره والوقوف على ما يعارضه لا يجدي شيئا ، ولا يمكنه أن يصوّر لنا فقهه وسيرته ، فقد قال ابن خلدون وهو يشير إلى هذه المسألة : «.. وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم على مجرد النقل ، غثا وسمينا ، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة ، والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط» (١).

وقال الشريف المرتضى ـ من علماء الشيعة الإمامية ـ في جواب ما روي في الكافي عن الامام الصادق في قدرة اللّٰه :

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون : ٩. وعنه في منهج نقد المتن : ١٢.

٦٨

«اعلم أنّه لا يجب الإقرار بما تضمّنه الروايات ، فإن الحديث المرويّ في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا يتضمّن ضروب الخطإ وصنوف الباطل ، من محال لا يجوز أن يتصور ، ومن باطل قد دلّ الدليل على بطلانه وفساده ، كالتشبيه والجبر والقول بالصفات القديمة .. ، ولهذا وجب نقد الحديث بعرضه على العقول ، فإذا سلم عليها عرض على الأدلّة الصحيحة ، كالقرآن وما في معناه ، فإذا سلم عليها جوّز أن يكون حقا والمخبر به صادقا ، وليس كلّ خبر جاز أن يكون حقا وكان واردا من طريق الآحاد يقطع على أنّ المخبر به صادق» (١).

فرؤية ابن خلدون والسيد المرتضى وغيرهما وإن كانت تتفق معنا في الأصول ، لكنّها لا ترسم رؤيتنا ، لأنّا لا نكتفي بها وحدها ، لأنّ مدار عملنا هنا هو البحث عن تطابق هذا المنقول عن هذا الشخص مع مواقفه ونصوصه الأخرى الصادرة عنه بالخصوص ، لا مقايستها مع الأصول الأخرى وأشباهها فقط لمعرفة أنّها من الشريعة أم لا ، فمثلا : لو ورد خبر مفاده أنّ عمر بن الخطاب كان لا يعمل بالاجتهاد بالرأي ، معضّدا بما رواه هو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من النهي عن العمل بالرأي! فنحن أمام خيارات :

إمّا أن نقول بكذب الخبر الوارد عن عمر ، لما رأيناه من مجمل سيرته من العمل بالاجتهاد وتفسيره للمواقف والأحكام بالرأي لا النص ، وبه يبقى ما رواه محمولا على وجه ما ، أو ساقطا من الاعتبار.

وإمّا أن نكذّب مرويّاته الّتي رواها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في النهي عن الاجتهاد.

وإمّا أن نقول بصحّة مروياته الناهية عن الاجتهاد ، والرواية الواردة في عدم عمله بالاجتهاد ، ونحتال لسيرته بما أمكننا من وجوه.

ونحن أمام هذا الركام لا نستطيع الخروج إلّا بنتيجة تابعة للأهواء والميول ، إذ أنّ هذا الجمع جمع متكلّف غاية التكلّف ، لأنّ الأشخاص لا يصحّحون السيرة ، بل السيرة هي التي تكون مقياسا للأشخاص وميزانا لهم ، ولمعرفة ما يهدفون إليه.

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى) جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة مسألة (١٣) ص ٤٠٩ ـ ٤١٠.

٦٩

ثمّ إنّ هذا الجمع جمع بين سيرة قطعية للخليفة عمر بن الخطاب في عمله بالرأي ، ومرويات قطعية ثابتة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في النهي عن العمل بالرأي والاجتهاد ، ومن البديهي أنّ سيرة الخليفة عمر وغيره لا يمكنها أن تعارض سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله قولا وعملا وتقريرا ، فلا بدّ من طرحها ، والبحث عن المخروج والمبرر العلمي المعقول الذي يمكن وراء هذه المقولة وأمثالها ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، فإنّ استبعاد بعض النفوس تخطئة الخليفة الثاني أو غيره من الصحابة ، والنبوّ به عن تجاوز ما يرويه عن النبي ، هو ما لا نرتضيه ولا نجعله مقياسا لتجاوز الحقائق ، لكونه شخصا غير معصوم يخطأ ويصيب.

فنحن لو أردنا أن نقف على الحقيقة لزمنا معرفة السيرة العامة للخليفة أو غيره ، وهل أنّه من نهج الاجتهاد بالرأي أو التعبد المحض؟ وحيث ثبت عند المسلمين جميعا أنّه من رواد الاجتهاد والرأي فلا سبيل بعد ذلك إلّا طرح الرواية القائلة بعدم عمله بالرأي ، حتّى لو افترضنا جدلا صحّتها سندا ودلالة ، وذلك لمنافاتها للسيرة القطعية العامّة التي علمناها منه في عمله بالاجتهاد والرأي ، ولإيماننا بتحكّم الأهواء والميول في نقل مثل هذه القضايا! ولكون الفقه والتاريخ قد تأثرا بتلك الاجتهادات لا محالة.

قال الدكتور محمّد روّاس قلعه‌چي في موسوعة فقه عمر بن الخطاب : «من المعروف عند الفقهاء أنّ للفقه بناء متكاملا ، يأخذ بعضه برقاب بعض ، ولكي يكون الرأي الفقهي الصادر عن المجتهد مقبولا لا بدّ وأن يكون منسجما مع بنائه الفقهي ، فإذا ما نبا عنه أو شذّ عدّ غير مقبول ، وإن كان منسجما معه عدّ مقبولا وإن كان سنده ضعيفا ، وإنّي إذا ما أتى القول عن عمر منسجما مع بناء فقهه أثبتّه له وإن كان ضعيفا ، ويكون انسجامه مع البناء الفقهي بمثابة الشواهد للحديث الضعيف ، يتقوّى بها ويشتدّ أزره ، مثلا ، لو ورد عن عمر أنّه كان يمضمض ويستنشق من كفّ واحدة ، يشهد لصحّة هذا القول عن عمر بناء عمر لنظريّته في النجاسات ، إذ أنّ الماء عنده لا ينجس نجاسة ماديّة ولا معنويّة ، وإذا كان الماء لا ينجس فما المانع أن يتمضمض ويستنشق من كف .. وهكذا» (١).

__________________

(١) موسوعة فقه السلف (فقه عمر بن الخطاب) : ١١.

٧٠

لكن رؤيتنا أوسع دائرة من قول القلعة القلعه‌چي أيضا ، لأنّه ولا تختصّ بمعرفة بنائه الفقهيّ ، بل تتعدّى إلى معرفة سيرته العامّة ومواقفه الأخرى ونصوصه في الفقه وأقواله وخطبة المتناثرة في كتب التاريخ و .. فإنّ فتح مثل هذه الأمور يعطينا رؤية أدق عن الصحابي الراوي والعقائد والأفكار السائدة في عهده ، ومدى تطابق هذا النقل عنه وصحّة انتسابه إليه ، وهذه النكتة جديرة بالبحث والدرس ، لكونها تحلّ لنا الكثير من الأقوال المنسوبة إلى هذا أو ذاك في عويصات المسائل ، كما أنّها تجلّي لنا الآراء الكامنة وراء نسبة الأقوال.

ونستطيع كذلك تطبيق هذه الرؤية عكسيّا ، بمعنى أنا يمكننا إسقاط أيّ رواية ـ ولو صحت سندا ودلالة ـ لمخالفتها للثوابت العلمية والدينية كالقرآن والسنة النبوية ، فقد روى أبو هريرة عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : خلق اللّٰه التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين و .. حتّى عدّ خلق العالم في سبعة أيّام (١) فنحن ، لا بدّ أن نطرح هذه الرواية وأمثالها لمخالفتها لصريح القرآن الّذي جاء في سبع آيات من سبع سور منه بأنّه سبحانه خلق العالم في ستّة أيّام (٢).

فهذه الرواية في الأعمّ الأغلب يتّفق صدورها عن أبي هريرة ويمكن انتسابها إليه ، ولا يمكن التصديق بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالها وإن روى الصحابيّ ذلك! فالوقوف على السيرة العامة للراوي والرواية ـ كما قلنا ـ هو المطلوب في مثل هكذا بحوث ، لأنّه يعطينا صورة قريبة للواقع ، ويعرّفنا باتجاهه الفكري وإمكان تطابق هذا القول معه وعدمه ، وهو أيضا يعرّفنا بملابسات الأمور ومن هم وراء نسبة الأقوال إلى هذا أو ذاك! ودوافعهم المختلفة في هذه النسبة أو تلك ، ونفي هذا النقل أو ذاك.

لكنه ليس هو الوحيد في الباب ، بل يجب كذلك البحث عن تطابق هذا المنقول مع الأصول الأخرى من القرآن الكريم والسنة النبوية ، كي نعرف صحة النقل أو بطلانه ، ولتوضيح هذا الأمر «يمكن أن نعطي مثلا واقعيا من حياتنا اليومية ، فإذا

__________________

(١) أخرج هذا الحديث مسلم والنسائي واحمد ، والبخاري في التاريخ الكبير وغيرهم.

(٢) الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣ ، هود : ٧ ، الفرقان : ٥٩ ، السجدة : ٤ ، ق : ٣٨ ، الحديد : ٤.

٧١

أخبرك رجل عن آخر خبرا ، كان أوّل ما يسبق إلى خاطرك ، أن تستوثق من صدق المخبر بالنظر في حاله وأمانته ومعاملته ، وغير ذلك من الملاحظات التي تراها ضروريّة لك للتأكّد منه.

فإذا استوثقت من الرجل نظرت بعد ذلك في الخبر نفسه وعرضته على ما يعرض عن صاحبك من أقوال وأحوال ، فإذا اتفق مع ما تعلمه من ذلك ، لم تشك بصدق المخبر والاطمئنان إليه ، وإلّا كان لك أن تتوقّف في قبول الخبر لا لريبة في المخبر ـ فأنت واثق من صدقه ـ بل لشبهة رأيتها في المخبر نفسه ، ويصحّ أن يكون مرجعها وهما أو نسيانا من المخبر ، كما يصح أن ترجع إلى سرّ فيه لأمر لم تتبينه ، فلعلّ هذه الحالة توجب علينا أن نتوقف عند الخبر لنطمئنّ إلى صحّته ولا نتسرّع في حكمنا أنّه كاذب ، وإذا فعلنا ذلك يكون منا إفتئاتا على من أخبرنا ونحن له مصدّقون وبه واثقون» (١).

ومما يجب التنويه عليه هنا : هو انّنا سعينا في هذا الكتاب ـ وبقدر المستطاع ـ تبسيط العبارة والفكرة ، وطرحها بكلا الاسلوبين (القديم والجديد) ، وذلك لحساسية الموضوع ، وكثرة قرّائه من طلاب العلوم الدينية والاكاديميين ، كي لا نجحف أحدا مما نطرحه من بحوث ، ولكي لا يخلو البحث من فائدة لكلتا المجموعتين ، لأنّ البحوث الاسنادية مثلا هي تخصصية بحته فلا يستسيغها الاكاديمي الحديث ، وقد تثقل على غير المتخصص ، ومثلها الحال بالنسبة إلى البحوث الحديثة كـ (نسبة الخبر إليه) فقد لا يرى الاكاديميي الإسلامي فائدة في طرحها.

فالذي نرجوه من قرائنا هو أن يعيرونا صبرا ، وأن يقرءوا الاسلوبين معا ، كي يحصلوا على الفائدة المرجوة من هذه الدراسة ، وأن يدركوا بأنّ ما كتبناه ليس خارجا عن الموضوع بل يشكلان دعامتين لخطوة واحدة.

وعليه فيكون مجال عملنا «نسبه الخبر إليه» في ثلاثة محاور :

١ ـ إمكان صدور هذا الخبر عن هذا الفرد بعينه وعدمه؟

٢ ـ عرضها على سيرته العلمية والعملية قولا وفعلا وتقريرا ، للوقوف على

__________________

(١) نقد الحديث ١ : ٤٣١ ـ ٤٣٢ للدكتور حسين الحاج حسن ، ط مؤسسة الوفاء / بيروت.

٧٢

ما يخالفها.

٣ ـ تطابق المنقول مع الأصول والثوابت الأخرى في الشريعة وعدمها؟

والآن ، وبعد هذا العرض السريع نأتي بقول الترمذي في باب «ما جاء في وضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف كان» فإنّه قال بعد ذكره حديثا عن علي بن أبي طالب :

«وفي الباب : عن عثمان ، وعبد اللّٰه بن زيد ، وابن عبّاس ، وعبد اللّٰه بن عمرو ، والربيع ، وعبد اللّٰه بن أنيس ، وعائشة (١)» ، والآن مع مرويات هؤلاء الصحابة حسب تقسيمنا وتبويبنا ، للكتاب لا حسب ترتيب الترمذي :

__________________

(١) سنن الترمذي ١ : ٣٤ ذيل حديث ٤٨.

٧٣
٧٤

مناقشة مرويات

عبد اللّٰه بن عباس

سندا ودلالة ونسبة

المناقشة السندية لمروياته الغسليّة

المناقشة السندية لمرويّاته المسحيّة

البحث الدلالي

دعوى رجوعه إلى الغسل

نسبة الخبر إليه

٧٥
٧٦

عبد اللّٰه بن عباس وروايات الغسل

٧٧
٧٨

لأصحاب الكتب الثمانية (١) ، بل غيرها (٢) خمسة أسانيد إلى مرويّات ابن عبّاس الغسليّة ، فقد روى البخاري عنه بسند واحد ، وأبو داود والنسائي كلّ منهما بسندين وترجع هذه الأسانيد الخمسة إلى طريقين ، فأربعة منها تتّحد بـ «زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس» ، وهذا هو الطريق الأول ، والثاني يرويه «عباد بن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس» ، والبحث ينصبّ على هذين الطريقين من خلال هذه الأسانيد الخمسة كالآتي.

أ ـ ما رواه عطاء بن يسار عنه

الإسناد الأوّل

قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم (٣) ، قال : أخبرنا

__________________

(١) للجمهور أصول خمسة اعتمدوها واشتهرت عندهم ، ولهم كتب أخرى فيها شروط الصحيحين ـ وقد اعتمدوها كمصادر ثانوية ، والأصول الخمسة هي : ١ ـ صحيح البخاري ٢ ـ صحيح مسلم ٣ ـ سنن أبي داود ٤ ـ سنن الترمذي ٥ ـ سنن النسائي.

وقد اختلفوا في السادس ، فقال ابن حجر انه سنن الدارمي ، وذكر بعض انه ابن ماجة ، وقال ابن الأثير : ان بعض العلماء جعل الموطأ سادس تلك الأصول ، ونحن اعتمدنا المتفق والمختلف فيه من الأصول فصارت ثمانية. ثمّ وسعنا البحث إلى الأصول الثانوية الأخرى للوقوف على جميع روايات الباب غسلا أو مسحا بقدر المستطاع.

(٢) كمسند أحمد وصحيح ابن حبان وصحيح البزار وصحيح ابن خزيمة ومسند أبي يعلى وصحيح ابن أبي خيثمة ومعاجم الطبراني الثلاثة ومصنّفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرها من المصادر الحديثية.

(٣) هو : أبو يحيى البزار ، البغدادي ، العدوي ، المعروف بصاعقة ، مولى آل عمر بن الخطاب ، فارسيّ الأصل ، وثقة عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل ، والنسائي ، وأبو بكر الخطيب ، وقال أبو حاتم : صدوق. روى له الجماعة سوى مسلم وابن ماجة (انظر تهذيب الكمال ٢٦ : ٥ ، الجرح والتعديل ٨ : الترجمة ٣٣ ، تاريخ بغداد ٢ :٣٦٣) وغيرها من المصادر.

٧٩

أبو سلمة الخزاعي ـ منصور بن سلمة (١). قال : أخبرنا ابن بلال ـ يعني سليمان (٢) ـ عن زيد بن أسلم (٣) ، عن عطاء بن يسار (٤) ، عن ابن عبّاس ، أنّه توضّأ فغسل وجهه ، أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق ، ثمّ أخذ غرفة من ماء ، فجعل بها هكذا ، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه ، ثمّ أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ، ثمّ أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثمّ مسح برأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء فرّش على رجله اليمنى حتّى غسلها ، ثمّ أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله ـ يعني اليسرى ـ ثمّ قال : هكذا رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ (٥).

المناقشة

ويناقش هذا الطريق من عدة جهات :

الأولى : من جهة سليمان بن بلال ، إذ أورده ابن حجر ضمن المطعونين من

__________________

(١) هو منصور بن سلمة ، أبو سلمة الخزاعي البغدادي ، وثقة ابن معين وابن سعد ، وقال ابن حجر في التهذيب : قال ابن عدي : لا بأس به ، وقال في التقريب : ثقة ثبت حافظ (انظر تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٣٣ ، الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٧ : ٣٤٥ ، تقريب التهذيب ٢ : ٤٧٦) وغيرها من المصادر.

(٢) هو سليمان بن بلال ، القرشي ، التيمي ، مولاهم ، روى له الجماعة (أنظر تهذيب الكمال ١١ : ٣٧٢ وسير أعلام النبلاء ٧ : ٤٧٥ وتهذيب التهذيب ٤ : ١٧٥) وغيرها من المصادر ، وسيأتي الحديث عنه.

(٣) هو زيد بن أسلم ، القرشي ، العدوي ، أبو أسامة المدني ، مولى عمر بن الخطاب ، روى له الجماعة. (أنظر تهذيب الكمال ١٠ : ١٢ وتهذيب التهذيب ٣ : ٣٩٧ ، وتاريخ البخاري الكبير ٣ : الترجمة ١٣٨٧) وغيرها من المصادر ، وسيأتي الحديث عنه.

(٤) هو عطاء بن يسار الهلالي ، أبو محمد المدني ، مولى ميمونة زوج النبي ، وثّقه يحيى بن معين وأبو زرعة والنسائي ، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ٣ الترجمة ٥٦٥٤ لأنّه أرسل عن أبي الدرداء ، وقد صرح البخاري بذلك (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ١٢٥ الترجمة ٢٩٤٦ ، الجرح والتعديل ٦ الترجمة ١٨٦٧ تهذيب التهذيب ٧ : ٢١٧) وغيرها من المصادر.

(٥) صحيح البخاري ١ : ٤٧ / باب غسل الوجه واليدين من غرفة واحدة.

٨٠