وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

وقال ابن الجنيد : متروك ، قدري (١).

وقال الدورقي عن ابن معين : ضعيف الحديث (٢).

وقال ابن سعد : كان قاضيا ، وهو ضعيف ، له أحاديث منكرة (٣).

وقال ابن الجنيد : عن يحيى بن معين : كان قدريّا ضعيف الحديث (٤).

وقال وهب بن جرير : قدريّ خبيث (٥).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : هذا رجل ليس بالقويّ في الحديث (٦).

وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن ابن المديني : ضعيف عندنا وكان قدريا (٧).

وقال الجوزجاني : .. وكان سيّئ الحفظ فيما سمعه ، وتغيّر أخيرا (٨).

هذا ، وقد أدرج مصنّفو الضعفاء اسمه في كتبهم كالذهبي (٩) والعقيلي (١٠) وابن الجوزي (١١) وغيرهم.

نعم ، قال أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطّان : قال جدي (١٢) : عبّاد

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ : ٣٧٦ وفيه قال ابن الجيد وهو خطا والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الكامل في الضعفاء ٤ : ٣٣٨.

(٣) الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٧ : ٢٧٠.

(٤) انظر هامش تهذيب الكمال ١٤ : ١٥٩ (عن سؤالاته الورقة ٣٩).

(٥) انظر هامش تهذيب الكمال ١٤ : ١٦٠ (عن تاريخ الدوري ٢ : ٢٩٣).

(٦) انظر هامش تهذيب الكمال ١٤ : ١٦٠ (عن سؤالات ابن محرز : الورقة ٤٠).

(٧) انظر هامش تهذيب الكمال ١٤ : ١٦٠ (عن سؤالات ابن أبي شيبة للمديني الترجمة ١٣ ، ١٦).

(٨) انظر هامش تهذيب الكمال ١٤ : ١٦٠ (عن أحوال الرجال : الترجمة ١٨٠).

(٩) ديوان الضعفاء ٢ : الترجمة ٣٠٥٤.

(١٠) ضعفاء العقيلي ٣ : ١٣٤.

(١١) ضعفاء ابن الجوزي ٢ : ٧٧.

(١٢) هو يحيى بن سعيد بن فرّوخ ، أبو سعيد القطان ، ثقة متقن حافظ ، احتج به الجماعة (انظر تقريب التهذيب ٢ : ٣٤٨).

١٠١

ابن منصور ، ثقة ، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه ، يعني القدر (١).

وهذه الجملة قد يستفاد منها التوثيق ، لكن الحقّ أنّها لا تفيده ، لأنّ نقل الحفيد أحمد بن محمد عن جدّه لا يتّفق مع النقل الآخر عن ابن القطّان ، فقد جاء عنه قوله : .. إنّا حين رأيناه كان لا يحفظ .. (٢).

وقد مر عليك أنّ (صدوق) و (لا بأس به) و (محلّه الصدق) وغيرها من عبارات هذه المرتبة من مراتب التعديل لا يمكن الاحتجاج بأحد من أهلها ، لأنّها تشعر بعدم شريطة الضبط ، وفيما نحن فيه فإنّ عبارة القطّان (لا يحفظ) هي الأخرى دالّة على عدم الضبط ، بخلاف ما نقله أحمد بن محمد عن جدّه فإنها تدلّ على ذلك بالإشعار لا الصراحة ، والعلّة في ذلك أن التوثيق لا يطلق على من كان لا يحفظ ، اللّٰهم الا أن يقال أن مقصود القطان هنا هو أن عباد ثقة في نفسه حتى لو افترض أنّه لا يحفظ وغير ضابط في الحديث ، وهذا هو الذي عنيناه بالإشعار ، فانتبه.

ولا يخفى عليك أنّ دلالة الصريح تقدّم على دلالة الإشعار بالأولويّة العقليّة ، وعليه فعدم الاحتجاج بقول أحمد بن محمد عن جدّه هنا أولى.

هذا إذا افترضنا كون عبّاد قائلا بالقدر مع عدم كونه داعية إليه ، وإلّا فلا يحتج بالداعية من الأساس على ما هو صريح ابن الصلاح (٣) ، وابن حبان (٤) ، وابن حجر (٥) ، والنووي (٦) ، والطيبي (٧) ، والسيوطي (٨) ، وكلّ أصحاب الشافعي (٩).

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٤ : ١٥٨ ، الجرح والتعديل ٦ : ٨٦.

(٢) تهذيب الكمال ١٤ : ١٥٨ ، الجرح والتعديل ٦ : ٨٦ ، الكامل في الضعفاء ٤ : ٣٣٨.

(٣) مقدمة ابن الصلاح : ٢٣٠.

(٤) حكاه عنه الطيبي في الخلاصة : ٩١ ، وابن الصلاح في المقدمة : ٢٢٩ ، وابن حجر في مقدمة فتح الباري : ٣٨٢ ، والسيوطي في تدريب الراوي ١ : ٢٢٥ والذهبي في الميزان ٢ : ٣٧٨.

(٥) مقدمة فتح الباري : ٣٨٢.

(٦) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني على البخاري) ١ : ١٣.

(٧) الخلاصة في أصول الحديث : ٩١.

(٨) تدريب الراوي : ١٧٧.

(٩) حكاه عنهم الطيبي في الخلاصة : ٩١.

١٠٢

وقد صرح ابن حبّان بكونه داعية إلى مذهب حيث قال : وكان داعية إلى القدر (١).

أضف إلى ذلك أنّ حصر العلة ـ في كلام أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن جده ـ بالقول بالقدر ، خطأ واضح من القطّان ، وذلك لأنّ الآخرين من الأئمة إنّما أعرضوا عن عبّاد لا لمجرّد كونه يقول بالقدر ، بل لأنه مدلس أيضا ، فقد صرّح البخاريّ بأنّ عبّادا ربّما دلّس عن عكرمة (٢) ، وهذا التدليس منه في بعض الموارد ، ينطبق على ما نحن فيه ، لأنّ عبادا ـ في هذا الخبر ـ قد عنعن عن عكرمة ، وبما أنّ البخاري قد صرح بتدليسه أحيانا عن عكرمة ، والساجي صرح بأنّه مدلس (٣). فلا يمكن الاعتماد على هذا الخبر بعد هذا ، ويسقط عن الحجية ، وخصوصا لو اتّضح لنا عدم ضبطه وعدم إتقانه ، وتغيّره وروايته للمناكير!! وقد أخرج العقيلي عن الحسين بن عبد اللّٰه الذراع أنّه قال : سمعت أبا داود قال : عبّاد بن منصور ولي قضاء البصرة خمس مرات ، وليس هو بذاك ، وعنده أحاديث فيها نكارة ، وقالوا : تغير (٤).

وقد مر عليك قول ابن سعد عنه : ضعيف له أحاديث منكرة.

ولو سلّمنا ثبوت توثيق القطّان هذا ، فهو لا يقاوم التجريحات المفسّرة في عبّاد ، لأن جلّ أهل العلم على تقديم الجرح المفسّر على التعديل عند التعارض ، لأنّه ـ وكما قيل ـ مع الجارح زيادة علم خفيت على المعدّل ، وعلى هذا صريح كلام

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ : ٣٧٨ الترجمة ٤١٤١ ، المجروحين لابن حبان ٢ : ١٦٥.

(٢) هذا ما حكاه الذهبي عنه في الميزان ٢ : ٣٧٧ الترجمة ٤١٤١. تهذيب التهذيب ٥ : ١٠٥.

(٣) ميزان الاعتدال ٢ : ٣٧٦ الترجمة ٤١٤١ ، هامش الضعفاء للعقيلي ٣ : ١٣٤ ، قال مهنا سألت أحمد عنه فقال : كان يدلس. تهذيب التهذيب ٥ : ١٠٥.

(٤) الضعفاء للعقيلي ٣ : ١٣٧ الترجمة ١١١٩ ، تهذيب الكمال ١٤ : ١٥٩ عن (سؤلات الآجري ٣ / الورقة ٢٦).

١٠٣

ابن الصلاح (١) ، وابن كثير (٢) ، والطيبي (٣) ، والبلقيني (٤) ، والعراقي (٥) ، وابن الأثير (٦) ، والنووي (٧) وابن عساكر (٨) والفخر الرازي (٩) والآمدي (١٠) والسخاوي (١١) والسيوطي (١٢) وغيرهم ، بل لم نعثر على مخالف بعد الاتفاق على ذلك.

__________________

(١) محاسن الإصلاح (المطبوع ضمن مقدمة ابن الصلاح) : ٢٢٤.

(٢) اختصار علوم الحديث : ٧٧.

(٣) الخلاصة في أصول الحديث : ٨٧.

(٤) محاسن الإصلاح ، للبلقيني (المطبوع ضمن مقدمة ابن الصلاح) : ٢٢٤.

(٥) فتح المغيث ١ : ٣٣٦ وط أخرى ١ : ٢٦٣.

(٦) مقدمة جامع الأصول ١ : ١٢٨.

(٧) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني على البخاري) ١ : ١٢.

(٨) حكاه عنهم السخاوي في فتح المغيث ١ : ٣٣٦.

(٩) حكاه عنهم السخاوي في فتح المغيث ١ : ٣٣٦.

(١٠) حكاه عنهم السخاوي في فتح المغيث ١ : ٣٣٦.

(١١) فتح المغيث ١ : ٢٨٧.

(١٢) تدريب الراوي ١٦٨ وط اخرى ١ : ٣٠٩.

١٠٤

الخلاصة

بعد أن انتهينا من بيان حال الأسانيد الخمسة للوضوء الغسليّ عن ابن عباس ، لا بدّ لنا من تلخيص الكلام فيها ، فنقول وبالله المستعان :

أوضحت لنا الصفحات السابقة ، أنّ الطرق الغسليّة عن ابن عباس تنتهي إلى تابعيّين قد رويا الغسل عنه. هما :

الأوّل : عطاء بن يسار.

فقد وقع في الإسناد الأوّل إليه سليمان بن بلال ، وفي الإسناد الثاني هشام بن سعد ، وفي الإسناد الثالث محمد بن عجلان ، وفي الإسناد الرابع عبد العزيز ابن محمد الدراوردي ، وهؤلاء ممن لم يتفق الأئمّة على وثاقتهم ، وإنّ قول الرجاليين عنهم (لا بأس به) (صدوق) وو .. يشعر بعدم شريطة الضبط ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فقد أثبتنا لك فيما تقدّم أنّ رواية زيد بن أسلم عن عطاء منقطعة أو في حكم المنقطعة ، وذلك لأنّه مدلس ، ونقلنا لك تصريحات الأئمّة على تدليسه عن أربعة من الصحابة ، مع ملاحظة أنّ زيدا لم يثبت له سماع عن عطاء ثبوتا معتبرا في مصنّفات الحديث.

الثاني : سعيد بن جبير (١).

وقد وقع في الإسناد إليه الحسن بن علي الخلّال الحلواني الذي ليّنه أحمد بن حنبل وأبو سلمة ، ووقع فيه عباد بن منصور الذي ضعّفه ابن معين والنسائي والساجي والدورقي وابن سعد وغيرهم من أئمّة الجرح والتعديل. وإنّ وجود هذين الشخصين في خبر سعيد بن جبير يسقطه من الاعتبار والحجية ، وخصوصا مجي‌ء عباد بن منصور في إسناد يرويه عن عكرمة الّذي احتمل البخاري تدليسه عنه بقوله (ربّما دلس عن عكرمة) (٢) ، مع معرفتنا بأنّ عبادا كان قدريّا يدعو إلى مذهبه ويروي

__________________

(١) وهو ما جاء في سنن أبي داود ١ : ٣٣ ح ١٣٣.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٣٧٨.

١٠٥

المناكير ، وكان لا يحفظ ـ حسب ما قاله القطان عنه ـ فهذه الأوصاف أسقطت خبر سعيد بن جبير ، من الحجية.

فإن قلت : يمكن تصحيح ما روى عن ابن عبّاس في الغسل باعتبار أنّ هناك شواهد صحيحة من مرويات عثمان وعبد اللّٰه بن زيد بن عاصم وعبد اللّٰه بن عمرو ابن العاص وغيرهم ممن روى الغسل عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تضر الخدشة في الأسانيد الخمسة التي روت عن ابن عباس الغسل.

قلنا : سيأتي منّا البرهان على أن مرويات هؤلاء الصحابة معارضة بمثلها سندا ودلالة ، فقد روي عن ابن عبّاس وعثمان وعبد اللّٰه بن زيد وعبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، كما روي عن علي وأنس بن مالك وعبد اللّٰه بن عمر وأوس بن أبي أوس ورفاعة بن رافع وغيرهم في المسح بأسانيد أقوى من أسانيد الغسل ، وبدلالة أوضح منها ، فادعاء التصحيح بالشواهد ـ مع هذه المعارضة الشديدة جدا ـ مما لا وجه له ، على أنّ هذا هو ممّا سنبحثه مفصّلا بعد انتهائنا من مناقشة جميع البحوث السنديّة ـ غسليّة كانت أم مسحيّة ـ فانتظر ذلك!!.

١٠٦

عبد اللّٰه بن عباس وروايات المسح

١٠٧
١٠٨

هناك مجموعة من الروايات صدرت عن ابن عباس روى فيها أنّ فرض الرجلين في الوضوء هو المسح لا غير ، وقد أسندها عنه غير واحد من أئمة الحديث.

الإسناد الأوّل

قال عبد الرزاق (١) ، عن ابن جريح (٢) ، قال : أخبرني عمرو بن دينار (٣) أنّه سمع عكرمة (٤) يقول : قال ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان (٥).

المناقشة

رجال هذا الطريق أئمّة ثقات ضابطون ، احتجّ بهم الجماعة فضلا عن غيرهم ، ولم يرد فيهم ما يخدش في وثاقتهم ، اللّٰهم إلّا أشياء قليلة ـ سنتعرض لها ـ غير قادحة

__________________

(١) هو ابن نافع الحميري ، مولاهم ، اليماني ، أبو بكر الصنعاني روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٦٣ ، تهذيب التهذيب ٦ : ٣١٤) وغيرها من المصادر.

(٢) هو عبد الملك بن جريح القرشي ، الأموي ، أبو الوليد روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ١٨ : ٣٣٨ سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٢٥ ، تهذيب التهذيب ٦ : ٤٠٢) وغيرها من المصادر.

(٣) هو المكي ، أبو الأثرم الجمحي ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٢٢ : ٦ ، سير أعلام النبلاء ٥ :٣٠٠ ، الجرح والتعديل ٦ : ٢٣١) وغيرها من المصادر.

(٤) هو عكرمة القرشي الهاشمي ، أبو عبد اللّٰه المدني ، مولى ابن عباس ، روى له مسلم مقرونا بغيره واحتج به الباقون (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٦٤ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ١٢ ـ ٣٦ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٢٦٣) وغيرها من المصادر.

(٥) مصنف عبد الرزاق ١ : ١٩ ح ٥٥ وعنه في كنز العمّال ٥ رقم ٢٢١١.

١٠٩

فيهم

فأمّا عبد الرزاق

فهو ممن احتجّ به أئمّة أهل العلم وأصحاب الكتب الستة ، إلّا أنّه ورد فيه بعض التليين ، وغاية ما قيل فيه من جرح أو تليين ثلاثة أشياء لم يعبأ بها أهل العلم ، وهي :

الأول : تكذيب العنبري له.

قال العنبري (العباس بن عبد العظيم) فيه : واللّٰه الذي لا إله إلّا هو إنّ عبد الرزاق كذّاب (١).

وتهمة العنبري هذه غير مفسّرة ، إذ أنّه لم يبيّن موارد كذبه ، وفي أي حديث كان؟! فعدم ذكره لها يعني إسقاط كلامه من الاعتبار ، وجعله بمثابة الدعوى التي يطالب قائلها بشاهد عليها ، والذي يزيد هذه التهمة إبهاما وسقوطا هو تفرّده في نسبتها إلى عبد الرزاق ، ولم يتابعه عليها أحد من الأعلام.

فقد قال ابن حجر : «عبد الرزاق أحد الحفّاظ الإثبات ، صاحب التصانيف ، وثّقه الأئمّة كلّهم إلّا العبّاس بن عبد العظيم العنبري وحده ، فتكلّم بكلام أفرط فيه ولم يوافقه عليه أحد» (٢).

وقال الذهبي ـ في السير ـ عن عبد الرزاق «.. بل واللّٰه ما بر العبّاس بيمينه ، ولبئس ما قال ، يعمد إلى شيخ الإسلام ومحدّث الوقت ، ومن احتج به كلّ أرباب الصحاح .. فيرميه بالكذب ، ويقدّم عليه الواقدي الذي أجمعت الحفّاظ على تركه ، فهو في مقالته هذه خارق للإجماع بيقين» (٣).

وقال في الميزان : «هذا ما وافق العبّاس عليه مسلم ، بل سائر الحفّاظ وأئمّة العلم يحتجّون به إلّا في تلك المناكير المعدودة» (٤) ، فتعبير الذهبي عن المناكير ـ بـ (المعدودة) ،

__________________

(١) حكاه عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٧١ ، وابن حجر في مقدمة الفتح : ٤١٨.

(٢) مقدمة فتح الباري : ٤١٨.

(٣) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٧١ ـ ٥٧٢.

(٤) ميزان الاعتدال ٢ : ٦١١.

١١٠

ثمّ تفسير الآخرين لها ، ممّا يهوّن الخطب ، لأنّها معدودة ومعروفة عند أصحاب الحديث ، فيمكن للباحث الوقوف عندها لدراستها.

هذا ، وإنّ الذهبي في ميزانه (١) وابن عدي في ضعفائه (٢) قد أشارا إلى أنّ هذه المناكير قد رواها الضعفاء والمتروكون عن عبد الرزاق ، فهي إذن مناكير من جهة من روى عن عبد الرزاق لا من جهته ، فالتفت.

ويدل عليه ما جاء عن أحمد بن حنبل أنّه قال : حدثني أحمد بن شبويه ، قال : هؤلاء ـ أي الّذين حدّثوا عنه المناكير ـ سمعوا بعد ما عمي ، كان يلقّن ، فلقّنه ، وليس هو في كتبه ، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه ، كان يلقنها بعد ما عمي (٣).

وقال الذهبي : سمعت أبا عليّ الحافظ ، سمعت أحمد بن يحيى التستري يقول : لما حدّث أبو الأزهر بهذه الفضائل أخبر يحيى بن معين ـ تلميذ عبد الرزاق ـ بذلك ، فبينما هو عنده في جماعة أصحاب الحديث إذ قال : من هذا الكذّاب النيسابوري الذي حدّث بهذا عن عبد الرزاق؟! فقام أبو الأزهر ، فقال : هو ذا أنا ، فتبسّم يحيى ابن معين ، وقال : أما إنّك لست بكذّاب ، وتعجّب من سلامته ، وقال : الذنب لغيرك (٤).

وقال ابن الصلاح «.. وقد وجدت فيما روي عن الطبري ، عن إسحاق ابن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق ، أحاديث أستنكرها جدا ، فأحلت أمرها على ذلك ـ أي عند ذهاب بصره ـ فإنّ سماع الدبري منه متأخّر جدّا ، قال إبراهيم الجري : مات عبد الرزاق وللدبري ستّ أو سبع سنين» (٥).

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ : ٦١٣.

(٢) الكامل في الضعفاء ٥ : ٣١٣.

(٣) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧.

(٤) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٧٥.

(٥) مقدمة ابن الصلاح : ٥٩٧.

١١١

وقال ابن الصلاح أيضا : وعلى هذا يحمل قول العنبري «إنّه كذّاب» (١)!.

الثاني : اتهامه بالتشيع.

قال أبو أحمد بن عدي : ولعبد الرزاق أصناف وحديث كثير ، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمّتهم وكتبوا عنه ، ولم يروا بحديثه بأسا ، إلّا أنّهم نسبوه إلى التشيع ، وقد روى أحاديث في الفضائل مما لا يوافقه عليه أحد من الثقات ، فهذا أعظم ما ذمّوه من روايته لهذه الأحاديث ، ولما رواه في مثالب غيرهم ، وأمّا في باب الصدق فإني أرجو أنّه لا بأس به إلّا أنّه قد سبق منه أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب آخرين مناكير (٢).

وهذه التهمة باطلة ، لقول عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل : سألت أبي ، قلت : عبد الرزاق كان يتشيع ويفرط في التشيع؟ فقال : أمّا أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا ، ولكن كان رجلا تعجبه أخبار الناس ، أو الأخبار (٣).

وعن عبد الرزاق قوله : واللّٰه ما انشرح صدري قطّ ، أن أفضّل عليا على أبي بكر وعمر ، رحم اللّٰه أبا بكر ، ورحم اللّٰه عمر ، ورحم اللّٰه عثمان ، ورحم اللّٰه عليّا ، من لم يحبّهم فما هو مؤمن ، وقال : أوثق عملي حبّي إياهم.

وفي نقل آخر عنه قوله : أفضّل الشيخين بتفضيل عليٍ إيّاهما على نفسه ، ولو لم يفضّلهما لم أفضّلهما ، كفي بي آزرا أن أحبّ عليّا ثمّ أخالف قوله (٤).

ونحن من خلال هذين النّصين لا نريد القول بتفضيل عبد الرزاق للشيخين على علي بن أبي طالب أو العكس وأنّ ذلك هو معيار التشيع وعدمه آن ذاك ، بل الّذي نريد قوله هو أنّ روايته أحاديث لم يوافقه الثقات لا يعني كونها موضوعة كما لا يعني عدم صحتها في نفسها ، لأنّ النكارة عند القوم هي رواية أحاديث لا يرتضونها ، وليس معناه عدم صحتها ـ حسب ما نوضحه في بحوثنا اللاحقة ـ وخصوصا لما عرفنا من

__________________

(١) مقدمة ابن الصلاح : ٥٩٧.

(٢) تهذيب الكمال ١٨ : ٦٠ عن الكامل.

(٣) علل أحمد ١ : ٢٣٣.

(٤) تهذيب الكمال ١٨ : ٦٠.

١١٢

وجود نهجين في الشريعة

١ ـ التعبد المحض

٢ ـ الاجتهاد والرأي

وكذا الحال بالنسبة إلى تقديم عبد الرزاق وغيره عليا على غيره ، فهو الآخر لا يعني غلوا أو رفضا ، لأنّ هذا التقديم يدخل في باب الاجتهاد المستنبط من الأدلّة ، ولا يمكن لأحد اتّهام الذّاهب إليه بالرفض أو الغلو ، لأنّ زيادة محبة بعض المؤمنين لم يحرّمها كتاب ولا سنّة ، وخصوصا حينما عرفنا ذهاب جمع من الصحابة والتّابعين إلى ذلك أمثال : أبي ذر الغفاري ، عمار بن ياسر ، المقداد بن الأسود ، سلمان الفارسي ، أبي أيّوب الأنصاري ، خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، جابر بن عبد الأنصاري ، العبّاس بن عبد المطلب ، الحسن والحسين ، وذهب إلى ذلك أيضا بنو المطلب وبنو هاشم كافّة ، وما لا يحصى من التّابعين كحجر بن عدي وأويس القرني وزيد ابن صوحان وذهب إلى ذلك أيضا صعصعة وجندب الخير وغيرهم.

وعليه فرواية عبد الرزاق وأمثاله أحاديث في فضائل أهل البيت أو مناقب الآخرين لا يعني عدم صحة تلك الأحاديث أو كونها نقلت غلوا أو رفضا كما يدعونه ، وهي الأخرى لا يمكن أن تعد جرحا للرّاوي ، لأنّ دعاة النهج الحاكم استهدفوا رواة فضائل علي ومناقب الآخرين بالنقد والتجريح وإن كانت لتلك الأخبار شواهد ومتابعات صحيحة في صحاحهم.

وخير ما أختم به هذا الاتّهام هو ما قاله الذهبي للعقيلي في الدفاع عن علي ابن عبد اللّٰه بن جعفر المديني ، والحديث طويل ، منه :

«.. ولو تركت حديث علي ، وصاحبه محمد ، وشيخه عبد الرزاق ، وعثمان بن أبي شيبة ، وإبراهيم بن سعد ، وعفّان ، وأبان العطار ، وإسرائيل ، وأزهر السمان ، وبهز بن أسد ، وثابت البناني ، وجرير بن عبد الحميد ، لغلقنا الباب ، وانقطع الخطاب ، ولماتت الآثار ، واستولت الزنادقة ، ولخرج الدّجال ، أفما لك عقل يا عقيلي ، أتدري فيمن تتكلّم ، وإنّما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم ولنزيف ما قيل فيهم ، كأنّك لا تدري أنّ كلّ واحد من هؤلاء أوثق

١١٣

منك بطبقات ، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك ، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث ، وأنا اشتهي أن تعرّفني من هو الثّقة الثبت الّذي ما غلط أو انفرد بما لا يتابع عليه ، بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له ، وأكمل لرتبته ، وأدلّ على اعتنائه بعلم الأثر ، وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها ، اللّٰهم إلّا أن يتبين غلطه ووهمه في الشي‌ء فيعرف ذلك ، فانظر أوّل شي‌ء إلى أصحاب رسول اللّٰه الكبار والصغار ، ما فيهم أحد إلّا وقد انفرد بسنة ، فيقال له : هذا الحديث لا يتابع عليه ، وكذلك التّابعون ، كلّ واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم ، وما الغرض هذا ، فإنّ هذا مقرر على ما ينبغي في علم الحديث وإن تفرّد الثقة يعدّ صحيحا غريبا ، وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعدّ منكرا ، وإنّ إكثار الرّاوي من الأحاديث الّتي لا يوافق عليها لفظا أو إسنادا يصيّره متروك الحديث ، ثمّ ما كلّ أحد فيه بدعة أو له هفو ، أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه ، ولا من شرط الثقة أن يكون معصوما من الخطايا والخطأ ، ولكن فائدة ذكرنا كثيرا من الثّقات الّذين فيهم أدنى بدعة أو لهم أوهام يسيرة في سعة علمهم أن يعرف أنّ غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم ، فزن الأشياء بالعدل والورع (١)!!.

وقد يدلّ على مكانة عبد الرزاق ووثاقته مقولة تلميذه يحيى بن معين فيه ، حيث حكى محمد بن إسماعيل الضراري قوله : بلغنا ونحن بصنعاء عند عبد الرزاق أنّ أصحابنا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما تركوا حديث عبد الرزاق وكرهوه فدخلنا من ذلك غم شديد ، وقلنا : قد اتّفقنا ورحلنا وتعبنا ، فلم أزل في غمّ من ذلك إلى وقت الحج ، فخرجت إلى مكة فلقيت بها يحيى بن معين ، فقلت له : يا أبا زكريا ما نزل بنا من شي‌ء بلغنا عنكم في عبد الرزاق؟ قال : وما هو؟ قلنا : بلغنا أنّكم تركتم حديثه ورغبتم عنه؟!. فقال : يا أبا صالح لو ارتدّ عبد الرزاق عن الإسلام ما تركنا

__________________

(١) ميزان الاعتدال ، للذهبي ٣ : ١٤٠ ـ ١٤١ ترجمة رقم ٥٨٧٤.

١١٤

حديثه (١).

وبعد هذا نقول : ليس من المعقول أن يكون عبد الرزاق فاسد المذهب والرواية ونحن نرى أئمّة الحديث والرجال أمثال يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وابن راهويه وغيرهم (٢) يأخذون الحديث عنه ويوثّقونه.

الثالث : القول بأنّه تغيّر.

قال النسائي : فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة ، روي عنه أحاديث مناكير (٣).

وقال أبو زرعة الدمشقي ، أخبرنا أحمد بن حنبل ، قال أتينا عبد الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر ، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره ، فهو ضعيف السماع (٤).

وقال أحمد بن شبّويه : «.. هؤلاء ـ أي من روى عن عبد الرزاق المناكير ـ سمعوا منه بعد ما عمي ، كان يلقّن فلقّنوه ، وليس في كتبه ، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه (٥)».

وهذه النصوص توضح أن تغيّر عبد الرزاق كان في أواخر عمره ، وبسبب ذهاب بصره.

وأنّ التضعيف والتليين يرجع إلى ما رواه عنه الضعفاء والمتروكون لا لنفسه ، لأنّ من الواضح أن كتب عبد الرزاق معتمدة ولم يخدش في سلامتها أحد ، فقال البخاري : ما حدث عنه عبد الرزاق من كتابه فهو أصح (٦).

وقال أحمد بن حنبل : من سمع من الكتب فهو أصحّ (٧).

وقال الذهبي : ومن احتجّ به لا يبالي بتغيّره ، لأنّه إنّما حدّث من كتبه لا من

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٧٣ ، الميزان للذهبي الضعفاء ، للعقيلي ٣ : ١١٠.

(٢) انظر تهذيب الكمال ١٨ : ٥٩ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٦٤.

(٣) ميزان الاعتدال ٢ : ٦١٠ ، الضعفاء والمتروكون (للنسائي) : ١٥٤ وليس فيه : روى عنه أحاديث مناكير.

(٤) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٦٥ ، تهذيب الكمال ١٨ : ٥٨.

(٥) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٦٨.

(٦) ميزان الاعتدال ٢ : ٦١٠ ، التاريخ الكبير ، للبخاري ٦ : ١٣٠ الترجمة ١٩٣٣.

(٧) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٨.

١١٥

حفظه (١).

والحاصل : فإن كتب عبد الرزاق معتبرة معتمدة عند أهل العلم ، وبخاصة مصنّفه الجامع الذي قال عنه الذهبي : إنّه خزانة علم (٢) ، وأنت تعلم ما في عبارة الذهبي من دلالة على اعتبار ما في المصنّف من أحاديث ، أضف إليه : أن سماع عبد الرزاق من ابن جريح وروايته عنه ، مما لا يتكلّم ولم يتكلّم فيه أحد من أهل العلم ، لأنّه فيها من الإثبات كما هو صريح أحمد بن حنبل (٣).

وعليه فإنّ خبر المسح عن ابن عباس ـ من جهة عبد الرزاق ـ حجّة لكونه قد ورد في مصنفه ، ولم يكن من محفوظاته!! ولعنعنة عبد الرزاق هنا عن ابن جريح وهو ممن سمع عنه.

وأمّا ابن جريح

فقد أجمع أئمّة رجال الحديث على الاحتجاج به بشرط أن يصرّح بالسماع ، وذلك لاشتهاره بالتدليس والإرسال عن الآخرين.

قال أبو بكر الأثرم : قال أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريح «قال فلان» و «أخبرت» جاء بمناكير ، وإذا قال «أخبرني» و «سمعت» فحسبك به (٤).

وقال أبو الحسن الميموني ، عن أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريح «قال» فاحذره ، وإذا قال «سمعت» أو «سألت» جاء بشي‌ء ليس في النفس منه شي‌ء (٥).

وقال يزيد ابن زريع : كان ابن جريح صاحب غثاء (٦).

وقال مالك بن أنس : كان ابن جريح حاطب ليل (٧).

__________________

(١) انظر هامش مختصر علوم الحديث ، للطيبي : ١٩٦.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٦٠٩.

(٣) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٨.

(٤) تهذيب الكمال ١٨ : ٣٤٨ ، تاريخ الخطيب ١٠ : ٤٠٥.

(٥) تهذيب الكمال ١٨ : ٣٤٨.

(٦) تهذيب الكمال ١٨ : ٣٤٩ ، تاريخ الخطيب ١٠ : ٤٠٤.

(٧) تهذيب الكمال ١٨ : ٣٤٩ ، تاريخ الخطيب ١٠ : ٤٠٤.

١١٦

وقال ابن حجر : ثقة ، فقيه ، فاضل ، يدلّس ويرسل (١).

أقول : حديث ابن جريح في هذا الطريق خال من علّة التدليس والإرسال ، فأما أنّه ليس بمرسل ، فلأنّ ابن جريح قد عاصر عمرو بن دينار ، وقد صرّح هو بذلك حيث قال : جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء تسع سنين (٢).

وأما أنّه ليس بمدلّس ، فلأنّ ابن جريح قد صرّح هنا بالسماع بقوله «أخبرني عمرو بن دينار» ، وعليه فلا خدشة في هذا الطريق من هذه الجهة.

والظاهر إنّ ما اشتهر به ابن جريح من الإرسال والتدليس هو الّذي دعا مالكا وابن زريع لأن يتكلّما فيه ، فنحن لم نعثر على قول جرح به ابن جريح غير ما اشتهر عنه من التدليس والإرسال!! ومهما يكن من أمر فإنّ كلام مالك وابن رزيع جرح مبهم ، وهو لا يعارض التعديل من الأئمّة له ـ كما هو مسلم.

وأمّا عمرو بن دينار.

فهو إمام من الأئمّة ، قد أجمع أهل العلم على الاحتجاج بمرويّاته ، ولم نعثر على من جرحه أو ليّنه بشي‌ء.

قال أبو زرعة : مكّي ثقة (٣).

وقال أبو حاتم : ثقة ثقة (٤).

وقال النسائي : ثقة ثبت (٥).

وقال ابن عيينة : ثقة ، ثقة ، ثقة (٦).

وقال ابن حجر : ثقة ثبت ، من الرابعة (٧).

__________________

(١) تقريب التهذيب ١ : ٥٢٠.

(٢) تهذيب الكمال ١٨ : ٣٤٧ ، وانظر تاريخ الخطيب ١٠ : ٤٠٢.

(٣) تهذيب الكمال ٢٢ : ١١ ، الجرح والتعديل ٦ : ٢٣١.

(٤) تهذيب الكمال ٢٢ : ١١ ، الجرح والتعديل ٦ : ٢٣١.

(٥) تهذيب الكمال ٢٢ : ١١.

(٦) سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٠٢.

(٧) تقريب التهذيب ٢ : ٦٩.

١١٧

إلى غير هذه الأقوال التي تشهد على علوّ مقامه ورفعة منزلته عند أهل الحديث ، وخصوصا فيما رواه عن ابن عباس ، إذ أنّه أدركه وعاصره وروى عنه ، فضلا عن روايته عن أصحابه ، فقد قال ابن عيينة : ما أعلم أحدا أعلم بعلم ابن عباس رضي اللّٰه عنهما من عمرو بن دينار ، سمع من ابن عباس ، وسمع من أصحابه (١).

وقال عمرو بن دينار نفسه : جالست جابرا وابن عباس وابن عمر (٢).

والحاصل : فإنّه مجمع على الاحتجاج به وخاصّة فيما يرويه عن ابن عباس.

وأمّا عكرمة

فهو المفسّر المشهور ، ـ أحد أوعية العلم حسب تعبير الذهبي ـ احتج به الجماعة وغير الجماعة ، إلّا أنّ مسلما قد أخرج له مقرونا بغيره (٣) ، لكنه رجع فاحتجّ به فيما بعد ـ على ما سيأتي توضيحه ـ وقد جرح البعض عكرمة ، ودافع عنه آخرون حيث صنّفوا كتبا في الذبّ عنه ، منهم : أبو جعفر بن جرير الطبري ، ومحمد بن نصر المروزي ، وأبو عبد اللّٰه بن مندة ، وأبو حاتم ، وابن حبّان ، وأبو عمرو بن عبد اللّٰه ، وغيرهم (٤).

وممن تصدّى للدفاع عنه الحافظ ابن حجر في مقدمته لفتح الباري ، وكلّهم مجمعون على تبرئته من الكذب (٥).

وعلى أيّ حال ، فإنّ غاية ما قيل في عكرمة من تهم وطعون هي ثلاثة ، وهي كلّها يمكن أن يجاب عنها طبق ما قرّر من أصول وقواعد ، وعليه فالنتيجة المتوصل

__________________

(١) التاريخ الكبير ، للبخاري ٦ : الترجمة ٢٥٤٤.

(٢) تهذيب الكمال ٢٢ : ١١.

(٣) فقد قرن مسلم عكرمة بطاوس في الرواية عن ابن عباس في حج ضباعة (انظر صحيح مسلم بشرح النووي ٧ ـ ٨ : ٣٨٢ ح ١٢٠٨).

(٤) مقدمة فتح الباري : ٤٢٤ وفي كلام الشيخ محمد تقي التستري ـ من الشيعة ـ ما يشير إلى دفاعه عن بعض التهم الموجّهة إليه ، انظر قاموس الرجال ٧ : ٢٣٧.

(٥) مقدمة فتح الباري : ٤٢٤.

١١٨

إليها هنا لا تعني بالضرورة رأينا ، ولا تمتثل وجهة نظرنا ، وإنما تعنى صحّة النتيجة طبق الأصول والمقررات وعلى أىّ حال فالطعون هي :

الأوّل : القول بأنّه كذّاب

وأشدّ ما استدلّوا به على كذبه عدّة نصوص ، هي :

١ ـ ما جاء عن ابن عمر من قوله لنافع : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس (١).

٢ ـ روى جرير بن عبد الحميد ، عن يزيد بن أبي زياد ، قال : دخلت على علي بن عبد اللّٰه بن عباس ، وعكرمة مقيّد على باب الحشّ ، قال : قلت : ما لهذا كذا؟

قال : إنّه يكذب على أبي (٢).

٣ ـ روى إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب أنّه قال لبرد مولاه : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس (٣).

وروى هشام بن سعد ، عن عطاء الخراساني ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : أنّ عكرمة يزعم أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج ميمونة وهو محرم ، فقال : كذب مخبثان ، اذهب فسبّه ، سأحدّثكم : قدم رسول وهو محرم ، فلمّا حلّ تزوّجها (٤).

٤ ـ قال عبد الكريم الجزري : قلت لسعيد بن جبير : إنّ عكرمة كره كراء الأرض ، فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول : إنّ أمثل ما أنتم صانعون استئجار الأرض البيضاء (٥).

٥ ـ قال مسلم الزنجي ، عن عبد اللّٰه بن عثمان بن خيثم ، أنّه كان جالسا مع سعيد ابن جبير فمرّ به عكرمة ومعه ناس ، فقال لنا سعيد : قوموا إليه واسألوه واحفظوا ما تسألون عنه وما يجيبكم ، فقمنا وسألناه فأجابنا ، ثمّ أتينا سعيدا فأخبرناه ،

__________________

(١) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧٩ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٣ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٠.

(٣) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٢.

(٤) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٤.

(٥) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٤.

١١٩

فقال : كذب (١).

٦ ـ وعن عثمان بن مرّة ، قال : قلت للقاسم : أنّ عكرمة قال : حدّثنا ابن عباس أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن المزفّت ، والنّقير ، والدّباء ، والحنتم ، والجرار ، قال : يا ابن أخي أنّ عكرمة كذّاب يحدّث غدوة حديثا يخالفه عشية (٢).

٧ ـ عن القاسم بن معن ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّث عكرمة بحديث ، فقال : سمعت ابن عباس يقول كذا وكذا ، فقلت : يا غلام هات الدواة والقرطاس ، فقال :أعجبك؟ قلت : نعم ، قال : إنّما قلته برأيي (٣).

٨ ـ وقال فطر بن خليفة : قلت لعطاء : أنّ عكرمة قال : قال ابن عبّاس : سبق الكتاب المسح على الخفين ، فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول : امسح على الخفين وإن خرجت من الخلاء (٤).

٩ ـ وسئل ابن سيرين عنه فقال : ما يسوؤني أنّه يكون من أهل الجنة ، ولكنّه كذّاب (٥).

١٠ ـ ونقل الربيع بن سليمان عن الشافعي أنّه قال : وهو ـ يعني مالك بن أنس ـ سيئ الرأي في عكرمة ، قال : لا أرى لأحد أن يقبل حديثه (٦).

أقول : أكّد المدافعون عن عكرمة بأنّ هذه الأقوال المتقدّمة لا تثبت كذبا عليه ، ولا يصحّ الاستدلال بها على تكذيبه ، لأنّ المروي عن ابن عمر غير صحيح ، لوجود يحيى البكاء في الرواية عنه ، وهو متروك الحديث ، إذ قال ابن حبّان عنه : كان يتفرد بالمناكير عن المشاهير ، ويروى المعضلات عن الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به (٧).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٢.

(٢) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٦ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٨.

(٣) سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٩ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٦.

(٤) سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٤ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨١.

(٥) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٢ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٥.

(٦) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٣ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٦.

(٧) الضعفاء لابن الجوزي ٢ ـ ٣ : ١٩٣ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٤٠٩.

١٢٠