وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

ـ المتفق عليها ـ من روايات المسح.

فقال ابن رشد :

(وقد رجّح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قال في قوم : لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء (ويل للأعقاب من النار) ، قالوا : فهذا يدل على أنّ الغسل هو الفرض ، لأنّ الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب ، وهذا ليس فيه حجه لأنّه إنّما وقع الوعيد على أنّهم تركوا أعقابهم دون غسل ، ولا شك أنّ من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم ، كما أنّ من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين ، وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرّجه أيضا مسلم أنّه قال : فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى (ويل للأعقاب من النار) ، وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح فهو أدل على جوازه منه على منعه ، لأنّ الوعيد إنّما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة ، بل سكت عن نوعها ، وذلك دليل على جوازها ، وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة ..) (١).

فأمّا قول ابن رشد : «لأنّ الوعيد إنّما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة بل سكت عن نوعها» يعني به أنّ على النبي ـ باعتباره المبلغ والمبين لأحكام السماء ـ أن يصرح بالغسل أو ينهى عن المسح حينما رآهم فعلوا ذلك ، فسكوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حكم المسح واكتفائه بجملة (ويل للأعقاب من النار) دون التصريح بالغسل يدل على جواز المسكوت عنه وهو المسح ، وعدم دلالة هذه الجملة على الغسل.

أمّا قوله (إنّما تعلق فيه بترك التعميم) فيمكن الإجابة عنه بأنّه لو أراده صلى‌الله‌عليه‌وآله لبينه ، كما تستدعيه وظيفته الإلهية ، فلمّا لم يبينه عرفنا أنّه لم يرد التعميم.

هذا وقد نقل العيني قول الطحاوي : لمّا أمرهم بتعميم غسل الرجلين حتى لا يبقى منها لمعة ، دل على أنّ فرضها الغسل ، ثم نقل اعتراض ابن المنير : بان التعميم

__________________

(١) بداية المجتهد ١ : ١٥.

٤٨١

لا يستلزم الغسل ، فالرأس تعم بالمسح وليس فرضها الغسل (١) ، وهذا ، الكلام من ابن المنير يؤكد إجمال ما يستدل به على الغسل ، وعليه : فيكون ما اتفق عليه الشيخان ـ والدالة على المسح ـ هي الأرجح في المسألة سندا.

وبعد ذلك وجب علينا البحث عن أسباب صدور الغسل عن عبد اللّٰه بن عمرو ابن العاص ، وخصوصا بعد وقوفنا على كون الروايات المنسوبة إليه ضعيفة وليست موضوعة ـ حتى يمكن لنا طرحها ـ وهذا هو الذي أوجب علينا إعطاء بعض الوجوه والأسباب في ذلك ، وإليك توضيح هذا الأمر في نسبة الخبر إليه.

__________________

(١) عمدة القارئ ٢ : ٢١.

٤٨٢

نسبة الخبر إليه

عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص كان من الصحابة الذين أسلموا قبل آبائهم (١) ، وهو أحد العبادلة الأربع الذين اشتهروا بالزهد والعلم!! وقد ذكر الذهبي : أنّه هاجر بعد سنة سبع ، وشهد بعض المغازي مع رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وقد عدّ من المدونين على ما هو صريح ابن سعد ـ وغيره ـ حيث قال : استأذن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابة حديثه فأذن له (٣) ، واشتهر عنه معرفته بالسريانية كذلك (٤).

«وكان عبد اللّٰه مع أبيه معتزلا لأمر عثمان ، فلمّا خرج أبوه إلى معاوية خرج معه ، فشهد صفين ، ثم ندم بعد ذلك فقال : مالي ولصفين ، مالي ولقتال المسلمين ، وخرج مع أبيه إلى مصر ، فلمّا حضرت عمرو بن العاص الوفاة استعمله على مصر ، فأقره معاوية ثم عزله» (٥).

هذا ، وبسط المؤرخون حالات عمرو بن العاص وابنه عبد اللّٰه ، وذكروا عمروا فيمن نقم على عثمان ، لعزله إياه عن ولاية مصر أيام خلافته.

«وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين وكان يقول : واللّٰه إنّي كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان ، وأتى عليا وطلحة والزبير فحرضهم على عثمان ، فبينما هو بقصره بفلسطين ومعه ابناه محمد وعبد اللّٰه ، وسلامة بن روح الجذامي إذ مرّ به راكب من المدينة ، فسأله عمرو عن عثمان ، فقال : هو محصور ، فقال عمرو ..» (٦).

ولقد غيّر عمرو موقفه اتجاه عثمان بعد محاصرته وقتله ، فقال

__________________

(١) انظر سير أعلام النبلاء ٣ : ٩١.

(٢) انظر سير أعلام النبلاء ٣ : ٩١.

(٣) تقييد العلم ، الطبقات الكبرى ٤ : ٢٦٢.

(٤) الطبقات الكبرى ٢ : ١٨٩.

(٥) الطبقات الكبرى ٧ : ٤٩٥.

(٦) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٣ في حوادث سنة خمس وثلاثين.

٤٨٣

الدكتور حسن إبراهيم حسن : «.. وهنا غيّر عمرو بن العاص سياسته دفعة واحدة ، وأصبح في حزب عثمان ، لأنّه كان ـ كما لا يخفى ـ من أشد الناس دهاء ، وكان لا يعمل عملا إلّا إذا تأكد من نجاحه ، يدلك على ذلك أنّه لم يسلم إلّا بعد أن ظهر له ظهورا بينا أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف ينتصر ، وما كان ذهابه إلى الحبشة إلّا ليرى ما يكون من أمر محمد وقريش ، فإن كانت الغلبة لقريش كان على أولى أمره مع رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن قد خذل قريشا بالقعود عن نصرتها ، ولكنّه أسلم ودخل في الإسلام لمّا رأى أنّ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهر على قريش لا محالة ، كذلك كان حاله في هذا الظرف ، فتبين له بثاقب رأيه وبعد نظره أنّ هذه الثورة لن تنتهي إلّا بحدوث انقلاب في حالة الأمة العربية ، ولم يكن عمرو بالرجل الساكن الذي لا يلتزم الحيدة في مثل تلك الظروف ، بل لا بد من دخوله في هذه الاضطرابات ، وأن يكون له ضلع فيها ، عسى أن يناله من وراء ذلك ما كان يؤمل منذ زمن طويل ، لأنّه كان طموحا إلى العلا (١)».

وقد نال ما كان يأمله من أمور الولاية والزعامة ، فقد ولي سرية (ذات السلاسل) من قبل رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقاد الجيش الإسلامي لفتح فلسطين على عهد أبي بكر ، ومنه افتتح مصر على عهد عمر بن الخطاب في سنة ثماني عشرة من الهجرة ، فقال الذهبي عنه «.. وولى أمرته (أي مصر) زمن عمر بن الخطاب وصدرا من دولة عثمان ، ثم أعطاه معاوية الأقاليم ، وأطلق مغله ست سنين ، لكونه قام بنصرته ، فلم يلي مصر من جهة معاوية إلّا سنتين ونيفا ، ولقد خلف من الذهب قناطير مقنطرة» (٢).

وقال عنه أيضا : «كان من رجال قريش رأيا ودهاء وحزما وبصرا بالحروب ، ومن أشرف ملوك العرب ، ومن أعيان الصحابة ، واللّٰه يغفر له ويعفو عنه ، ولو لا حبه للدنيا ودخوله في أمور لصلح للخلافة ، فإنّ له سابقة ليست لمعاوية ، وقد تأمّر على أبي بكر وعمر لبصيرته بالأمور ودهائه» (٣).

وقد شرح الدكتور حسن إبراهيم حسن نفسية عمرو بن العاص وحبه للأمارة

__________________

(١) تاريخ عمرو بن العاص للدكتور حسن إبراهيم حسن : ٢٤٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ : ٥٨.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ : ٥٩.

٤٨٤

ومما قاله هو «.. وقد بلغ حب عمرو للأمارة أنّه حين أراد أن يعقد أبو بكر الألوية لحرب الشام ، كلّم عمرو بن العاص عمر بن الخطاب أن يخاطب أبا بكر في تأميره على جيوش المسلمين بدل أبي عبيدة ، وقد قدمنا أنّ عمروا كان أميرا على أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..». (١)

نعم كانت هذه هي نفسية عمرو بن العاص ، وقد عرفها الجميع عنه ، خصوصا ولديه محمد وعبد اللّٰه ، والذي يحز في النفس أن نرى ابنه الزاهد العابد عبد اللّٰه!! يتبع والده على ما ساقه هواه ونفسه في حربه ضد علي بن أبي طالب ، إذ عرّفه ـ حينما استشاره ـ بأنّ الدنيا مع معاوية والآخرة مع علي.

فلو كان يعرف هذا فكيف به يدخل جيش معاوية ضد على ، وهل يصح ما علله لفعله من سماعه لأمر الرسول باتباع أبيه؟!! مما لا نشك فيه أنّ الباري جل وعلا قد أمر الناس بإطاعة الوالدين ، وأنّ الرسول الأكرم قد دعا المسلمين بلزوم تلك الطاعة ، لكنّنا في الوقت نفسه لا نصدق تعميم هذا الحكم حتى لو كانت في أوامر الوالدين معصية للخالق ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

فمن جهة يعلم عبد اللّٰه بأنّ عليا مع الحق وأنّ المحاربة معه محاربة للحق ـ لنهيه والده (٢) ومن جهة أخرى نراه يصير قائدا من قواد جيش معاوية.

بلى ، إنّ عبد اللّٰه بن عمرو أكد في عدة نصوص بأنّ جبهة معاوية هي الفئة الباغية ، فقد حكي عبد الرحمن السّلمي بقوله : لمّا قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا ، وكنّا إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم ، فإذا معاوية ، وعمرو ، وأبو الأعور ، وعبد اللّٰه بن عمرو يتسايرون ، فأدخلت فرسي بينهم لئلّا يفوتني ما يقولون.

قال عبد اللّٰه لأبيه : يا أبه ، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قال.

قال : وما قال؟

__________________

(١) تاريخ عمرو بن العاص : ١٠٨.

(٢) انظر الكامل في التاريخ ٣ : ٢٧٥ أواخر حوادث ست وثلاثين ،

٤٨٥

قال : ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي لبنة لبنة ، وعمار لبنتين لبنتين ، فغشي عليه ، فأتاه رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول :ويحك يا ابن سمية ، الناس ينقلون لبنة لبنة ، وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر ، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية. قال عمرو لمعاوية : أما تسمع ما يقول عبد اللّٰه؟

قال : وما يقول؟

فأخبره ، فقال معاوية : أنحن قتلناه؟ إنّما قتله من جاء به ، فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون : إنّما قتل عمار من جاء به ، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم ..) (١)

وعليه ، فعبد اللّٰه كان يعرف بأنّ أباه ومعاوية هما أئمة الفئة الباغية وهما اللذان قتلا عمارا ، وإنّ اعتراضه عليهما يكشف عن ذلك ، فكيف يبقى معهم حتى آخر المطاف؟! ويحضر مجلس يزيد (٢)؟!! وبم يمكننا أن نفسر هذه المشاركة منه ، وهل يصح ما علله من سبب لالتحاقه بجيش معاوية؟! ألم يكن موقفه هذا هو عون للظلمة المنهي عنه في الذكر الحكيم. وللتأكيد إليك خبرا آخر في هذا السياق.

جاء في الاستيعاب وأسد الغابة : أنّ الحسين بن علي مرّ على حلقة فيها أبو سعيد الخدري ، وعبد اللّٰه بن عمرو بن العاص فسلّم ، فردّ القوم السلام وسكت عبد اللّٰه حتى فرغوا ، ثم رفع صوته ، قال : وعليك السلام ورحمة اللّٰه وبركاته.

ثم أقبل على القوم وقال : ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟

قالوا : بلى قال : هذا هو الماشي ، ما كلمني كلمة منذ ليالي صفين! ولأن يرضى عني أحب اليّ من أن يكون لي حمر النعم؟

فقال أبو سعيد : إلّا تعتذر إليه؟

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٣١١ ، وفي العقد الفريد ٤ : ٣١٩ فلمّا بلغ عليا ذاك قال : ونحن قتلنا أيضا حمزة لأنا أخرجناه!!!

(٢) انظر تاريخ الطبري وغيره.

٤٨٦

قال : بلى ، وتواعدا أن يفدوا إليه ، فلمّا أتياه ، استأذن أبو سعيد فأذن له ، فدخل ، ثم استأذن لعبد اللّٰه فلم يزل به حتى أذن له ، فلمّا دخل أخبر أبو سعيد الحسين بما جرى من قبل ذلك ، فقال الحسين : أعلمت يا أبا عبد اللّٰه أنّي أحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟

قال : أي ورب الكعبة.

قال : فما حملك على أن تقاتلني وأبي يوم صفين؟ فو الله لأبي كان خيرا مني! قال : أجل ولكن أبي أقسم عليّ ـ وكان الرسول قد أمرني بطاعته ـ فخرجت ، أما واللّٰه ما اخترطت سيفا ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم؟

فان قوله (ما اخترطت سيفا و ..) يوحي إلى أنّه كان يعلم بضلالة الفئة التي هو فيها ، فلو عرف حق الحسين وأنّه أحب أهل الأرض إلى أهل السماء ، وسعى إلى الاعتذار منه ، فكيف نراه يلوّح للفرزدق بن غالب ـ في الخبر الآتي ، وبعد تلك الواقعة ـ بأنّ خروج الحسين جاء للملك والسلطان لقوله ، (فو اللّٰه ليملكن ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه).

وتمام هذه الحكاية في تاريخ الطبري ، فقد جاء في (حوادث سنة ستين) : عن عوانة بن الحكم عن لبطة بن الفرزدق بن غالب عن أبيه قال : حججت بأمي فأنا أسوق بعيرها حتى دخلت الحرم في أيام الحج ، وذلك في سنة ٦٠ إذ لقيت الحسين بن علي خارجا إلى مكة ، معه أسيافه وتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار؟

فقيل : للحسين بن علي ، فأتيته ، فقلت : بأبي وأمي يا ابن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أعجلك عن الحج.

فقال : لو لم أعجل لأخذت.

قال ، ثم سألني : ممن أنت ، فقلت له : امرؤ من العراق ، قال [الفرزدق بن غالب] : فو اللّٰه ما فتشني عن أكثر من ذلك واكتفى بها مني.

فقال : أخبرني عن الناس خلفك.

قال ، فقلت له : القلوب معك والسيوف مع بني أمية ، والقضاء بيد اللّٰه.

قال ، فقال لي : صدقت.

قال : فسألته عن أشياء فأخبرني بها من نذور ومناسك ، قال : وإذا هو ثقيل

٤٨٧

اللسان من برسام أصابه بالعراق.

قال ، ثم مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم وهيئته حسنة ، فأتيته فإذا هو لعبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، فسألني فأخبرته بلقاء الحسين بن علي ، فقال لي : ويلك فهلا اتبعته ، فو اللّٰه ليملكن ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه.

قال : فهممت واللّٰه أن ألحق به ، ووقع في قلبي مقالته ، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم فصدني عن اللحاق بهم ، فقدمت على أهلي بعسفان قال : فو اللّٰه إنّي لعندهم إذ أقبلت عير قد امتارت من الكوفة ، فلما سمعت بهم خرجت في آثارهم حتى إذا اسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم ألا ما فعل الحسين بن علي.

قال : فردوا عليّ ألا قد قتل.

قال : فانصرفت ، وأنا العن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص.

قال : وكان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر وينتظرونه في كل يوم وليلة ، قال : وكان عبد اللّٰه بن عمرو يقول : لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يظهر هذا الأمر.

قال : فقلت له : فما يمنعك أن تبيع الوهط.

قال فقال لي : لعنة اللّٰه على فلان (يعني معاوية) وعليك.

قال : فقلت : لا بل عليك لعنة اللّٰه.

قال : فزادني من اللعن ولم يكن عنده من حشمه أحد ، فألقي منهم شرا.

قال : فخرجت وهو لا يعرفني (١).

كان هذا مجمل عن حياة عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، فإنّه إن لم يكن من أعداء علي بن أبي طالب فقد كان من الذين رضوا بالضلال والباطل ، وذلك لمعرفته بمكانة علي بن أبي طالب والحسين بن علي وعمار بن ياسر ومظلوميتهم ثم ابتعاده عنهم.

فقبوله بولاية الكوفة ومصر من قبل معاوية وتأسّفه عن ذهابهما عنه ، معناه عدم زهده في الملك والمال ، لأنّه لو كان زاهدا في أمور الدين والدنيا للزمه الاحتياط بأن يعتزل القتال ضد علي ، وعدم الدخول في جبهة معاوية ، ثم عدم رضاه بالولاية

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٩١ حوادث سنة ٦٠.

٤٨٨

من قبله.

وكذا لزمه ترك القناطير المقنطرة التي ورثها من أبيه وإرجاعها إلى بيت المال لإعانة الفقراء والمعوزين ، وذلك لعلمه بأنّ غالب هذه الأموال كان قد حصل عليها عمرو بعد ولايته وإمرته وبدون استحقاق!!.

فعلام تدل هذه المواقف؟! على الزهد أم على شي‌ء آخر؟؟! ألم يدل قوله (أما واللّٰه على ذلك ، ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم ، وما رجل أحوج مني من رجل لم يفعل ذلك) على أنّ معركة صفين كانت معركة باطلة باعتقاده ، وخصوصا بعد وقوفنا على تصريحه لمعاوية وغيره بأنّهم هم الذين قتلوا عمار بن ياسر ـ وهو الذي تقتله الفئة الباغية ـ!! وهل تصدق أن لا يضرب عبد اللّٰه بن عمرو بسيف ولا يطعن برمح وهو قائد ميمنة جيش معاوية (١) ، والمحرّض على الحرب ضد علي (٢).

وهو من كبار رجال جيش معاوية ومن الذين شهدوا على وثيقة التحكيم عنه (٣) وهو من الذين كان يستعين بهم عمرو بن العاص لتنظيم الصفوف (٤).

وكيف بعبد اللّٰه لا يضرب بسيف ولا يطعن برمح وهو القائل :

وقالوا لنا إنّا نرى أن تبايعوا

عليا ، فقلنا : بل نرى أن نضارب (٥)

وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة إحدى وأربعين : أنّ معاوية استعمل عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص على الكوفة ، فأتاه المغيرة بن شعبة فقال له : استعملت عبد اللّٰه على الكوفة وأباه على مصر فتكون أميرا بين نابي الأسد ، فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة (٦).

__________________

(١) صفين ، لنصر بن مزاحم : ٢٠٦ ، تاريخ ابن الخياط : ١١٨.

(٢) صفين : ٣٣٤ وفيه (وعبد اللّٰه يحرض الناس على الحرب).

(٣) الاخبار الطوال : ١٩٦.

(٤) صفين : ٢٢٧.

(٥) العقد الفريد ٤ : ٣٢٠.

(٦) الكامل في التاريخ ٣ : ٤١٣.

٤٨٩

وعليه ، فعبد اللّٰه لم يكن بالزاهد العابد حسب ما يصوره التاريخ ، بل كان حاكما من قبل معاوية على الكوفة ومصر ، ولا يعقل أن يولي معاوية شخصا لم يثبت ولائه وإخلاصه له!!

عبد اللّٰه بن عمرو واجتهاده بمحضر الرسول

عن ابن شهاب : أنّ سعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخبراه أنّ عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص قال : أخبر رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله إني لأقول لأصومن الدهر ولأقومن الليل ، فقال لي رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت الذي تقول لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت؟

قال : قد قلت ذلك يا رسول اللّٰه.

فقال رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك لا تستطيع ذلك فأفطر وصم ، ونم وقم ، وصم من الشهر ثلاثة أيام ، فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر.

قال : قلت : إنّي أطيق أفضل من ذلك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صم يوما وأفطر يومين.

قال : إنّي أطيق أفضل من ذلك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أفضل من ذلك.

وعن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد اللّٰه بن عمرو. قال : قال لي رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يا عبد اللّٰه بن عمرو في كم تقرأ القرآن؟

قال قلت : في يوم وليلة ، قال فقال لي : أرقد وصلّ وصلّ ، وأرقد واقرأه في كلّ شهر ، فما زلت أناقضه ويناقضني حتى قال : اقرأه في سبع ليال ، قال ثم قال لي : كيف تصوم؟

قال قلت : أصوم ولا أفطر.

قال فقال لي : صم وأفطر ، وصم ثلاثة أيام من كلّ شهر. فما زلت أناقضه ويناقضني حتى قال لي : صم أحبّ الصيام إلى اللّٰه ، صيام أخي داود ، صم يوما وأفطر يوما ، قال فقال عبد اللّٰه بن عمرو : فلأن أكون قبلت رخصة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحب إليّ

٤٩٠

من أن يكون لي حمر النعم حسبة (١).

وعن يحيى بن حكيم بن صفوان : أنّ عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص قال : جمعت القرآن فقرأته في ليلة ، فقال رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّى أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تمل قراءته ثم قال : اقرأه في شهر ، قال : يا رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعني استمتع من قوتي وشبابي قال : اقرأه في عشرين ، قلت : أي رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعني استمتع من قوتي وشبابي قال : اقرأه في سبع ، قلت : يا رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعني استمتع من قوتي وشبابي ، فأبى (٢).

وفي آخر : فغضب وقال : قم فاقرأ (٣).

وعن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص قال : زوجني أبي امرأة من قريش ، فلما دخلت عليّ جعلت لا أنحاش لها ممّا بي من القوة على العبادة ، من الصوم والصلاة ، فجاء عمرو بن العاص إلى كنّته حتى دخل عليها ، فقال لها : كيف وجدت بعلك؟

قالت : خير الرجال ـ أو كخير البعولة ـ من رجل لم يفتش لنا كنفا ، ولم يقرب لنا فراشا ، فأقبل علىّ فعذمني وعضني بلسانه ، فقال : أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت ، ثم انطلق إلى النبي فشكاني ، فأرسل إليّ النبي فأتيته ، فقال لي : أتصوم النهار؟

قلت نعم! قال : أفتقوم الليل؟

قلت : نعم قال : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأمس النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ـ إلى أن قال رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّ لكل عابد شرة ، وإنّ لكل شرة فترة ، فإمّا إلى سنة ، وإمّا إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك (٤) فهذه النصوص توضح بانّ عبد اللّٰه بن عمرو لم يتعبد بتعاليم

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٤ : ٢٦٤.

(٢) البخاري في فضائل القرآن ٩ : ٨٤ ومسلم (١١٥٩) (١٨٤) كما في هامش سير أعلام النبلاء ٣ : ٨٣ ، وانظر حلية الأولياء ١ : ٢٨٥.

(٣) حلية الأولياء ١ : ٢٨٥.

(٤) حلية الأولياء ١ : ٢٨٦ ، وانظر سير أعلام النبلاء ٣ : ٩٠ ومسند أحمد ٢ : ١٥٨ والبخاري في فضائل القرآن ٩ : ٨٢.

٤٩١

النبي بل كان يجتهد أمامه ، راجيا التعمق في العبادة ، وأنّ رسول اللّٰه أخبره بعاقبة الزاهد المتعمق!! هذا وقد بقي عبد اللّٰه مصرّا على ما رآه حتى أواخر حياته (١) مع وقوفه على نهى الرسول وسماعه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا أفضل من ذلك) ، نعم إنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره بإمكان ضعفه وتكاسله عن العبادة عند الكبر لقوله (إنّك لعلك أن تبلغ بذلك سنا وتضعف) (٢).

وفي نص آخر : يا عبد اللّٰه لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل (٣).

وجاء في سيرة ابن هشام أنّ عبد اللّٰه بن الحارث سأل عبد اللّٰه بن عمرو : هل سمع كلام ذو الخويصرة وقوله لرسول اللّٰه لم

أرك عدلت؟ فأجابه بالإيجاب ، ثم نقل له كلام رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ له شيعة سيتعمقون في الدين (٤).

بلى ، إنّ عبد اللّٰه تأسف في كبره على عدم استجابته لتعاليم رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال (.. فأدركني الكبر والضعف حتى وددت إنّي غرمت مالي وأهلي وإنّي قبلت رخصة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل شهر ثلاثة أيام ..) (٥)

وقد علّق الذهبي بعد كلام طويل له بقوله «. فمتى تشاغل العامّة بختمة في كل يوم ، فقد خالف الحنفية السمحة ، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه ولا تدبّر ما يتلوه.

هذا السيد العابد الصاحب [يعني به عبد اللّٰه بن عمرو] كان يقول لما شاخ : ليتني قبلت رخصة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك قال له عليه‌السلام في الصوم ، وما زال يناقضه حتى قال له : صم يوما وأفطر يوما ، صوم أخي داود عليه‌السلام ، وثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :أفضل الصيام صيام داود ، ونهى عليه‌السلام عن صيام الدهر (٦) ، وأمر عليه‌السلام بنوم قسط من

__________________

(١) لقوله : فلان أكون قبلت رخصة رسول اللّٰه أحب إليّ من أن تكون لي حمر النعم حسبة.

(٢) الطبقات الكبرى ٤ : ٢٦٣.

(٣) الطبقات الكبرى ٤ : ٢٦٥.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٩.

(٥) حلية الأولياء ١ : ٢٨٤ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٩١ ، مسند أحمد ٢ : ٢٠٠ ، الطبقات الكبرى ٤ : ٢٦٤.

(٦) أخرجه البخاري : ١٩٥ في الصوم ، باب صوم داود ، ومسلم (١١٥٩) (١٨٧) في الصيام باب النهي عن صيام الدهر بلفظ (لا صام من صام الأبد).

٤٩٢

الليل ، وقال : (ولكنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، وآكل اللحم ، فمن رغب عن سنتي فليس منّي) وكل من لم يزمّ نفسه في تعبده وأوراده بالسنّة النبوية ، يندم ويترهب ويسوء مزاجه ، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيّه الرءوف الرحيم بالمؤمنين ، الحريص على نفعهم ، وما زال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلما للأمة أفضل الأعمال ، وآمرا بهجر التبتل والرهبانية التي لم يبعث بها ، فنهى عن سرد الصوم ، ونهى عن الوصال ، وعن قيام أكثر الليل إلّا في العشر الأخير ، ونهى عن العزبة للمستطيع ، ونهى عن ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.

فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور ، والعابد العالم بالآثار المحمدية ، المتجاوز لها مفضول مغرور ، وأحب الأعمال إلى اللّٰه تعالى أدومها وإن قلّ ، ألهمنا اللّٰه وإياكم حسن المتابعة ، وجنبنا الهوى والمخالفة (١)».

وبهذا فقد وقفنا على نفسية عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص وأنّ روحية الاجتهاد كانت هي الحاكمة عليه في عهد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده لا التعبد ، لأنّه لو كان متعبدا بقول رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما جاز له أن يناقضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو يناقصه حسب تعبير الذهبي ـ في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كان عليه الامتثال والطاعة ، لقوله سبحانه (وَمٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَلٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالاً مُبِيناً) (٢) وإنّ ما قدمناه يدعونا للتشكيك فيما علله عبد اللّٰه في سبب خروجه على علي بن أبي طالب من أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بإطاعة أبيه (٣) ، لأنّ وقوفه أمام أوامر الرسول ومناقضته له ، وثبوت تأسفه وتركه لتعاليم الرسول حتى آخر حياته ، كل هذه تخالف مقولته السابقة من أنّه قد تعبد بكلام رسول اللّٰه!! وعليه ، فخروج عبد اللّٰه بن عمرو على علي بن أبي طالب ودخوله في جيش

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ : ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ ـ ٣٦.

(٣) انظر سيرة أعلام النبلاء ٣ : ٩٢ وقال في الهامش : إسناده ضعيف لضعف عبد اللّٰه بن قدامة ضعفه أبو حاتم والدار قطني والنسائي وابن حبّان وغيرهم.

٤٩٣

معاوية لم يكن لتعبده بقول رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله بل جاء اجتهادا من عند نفسه ، ولما رجاه من فائدة ومصلحة في هذا الأمر!!

تأثر العرب بيهود الجزيرة

كل ما مر كان بمثابة المقدمة الأولى لما نريد قوله هنا ، والآن مع مقدمة أخرى نأتي بها لتوضيح ما نبغي إليه.

نحن قد وضّحنا في بحوثنا عن (السنّة بعد الرسول) أنّ عرب شبه الجزيرة لم تكن لهم مدنية راقية ولا ثقافة عالية قبل الإسلام (١) ، وأنّهم قد تأثروا كثيرا بالوافدين إليهم كيهود فلسطين و .. ، إذا كانوا يرجعون إليهم في كثير من الأمور ، لكونهم قادمين من حضارات عريقة (كالروم والفرس و ..) ويحملون معهم أخبار الديانات والمغيبات ، وأنّهم كانوا أصحاب كتب ومدوّنات ، فكان العرب ينظرون إليهم نظر التلميذ إلى معلّمه ، ويعدّوهم مصدر الثقافة الدينيّة والعمليّة لهم ، فما عرض الإسلام على قبيلة أو عشيرة منهم إلّا وهرعوا إلى مناطق اليهود يستفتونهم في قبول هذا الأمر أو ردّه.

وممّا جاء في هذا الأمر

١ ـ أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا قبيلة كندة إلى الإسلام ، فأبوا قبوله ، فأخبرهم شخص أنّه سمع من اليهود أنّهم قالوا : إنّه سوف يظهر نبي من الحرم قد أطلّ زمانه وهذا الخبر دعاهم للتثبت أكثر في الأمر ، ثم قبوله.

٢ ـ نجد قبيلة بكاملها تذهب إلى يهود فدك لتسألها عن قبول الإسلام أو ردّه (٢).

٣ ـ جاء في الإصابة : أنّ وفد الحيرة وكعب بن عدي أسلما على يدي رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمّا توفى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتابوا إلّا كعبا

__________________

(١) انظر مقالنا في مجلة تراثنا العدد ٥٣ ـ ٥٤ السنّة الرابعة عشرة. دلائل النبوة ، لأبي نعيم : ١١٣.

(٢) البداية والنهاية ٣ : ١٤٥ ، دلائل النبوة لأبي نعيم : ١٠٢.

٤٩٤

فإنّه استدل على إسلامه بقوله : إنّى خرجت أريد المدينة فمررت براهب كنّا لا نقطع أمرا دونه .. (١)

٤ ـ نقل ابن عباس عن حيّ من الأنصار كانوا أهل وثن ، أنّهم كانوا يرون لليهود المجاورين لهم فضلا عليهم في العلم ، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم (٢).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على اعتقاد عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام باليهود ، وأنّهم أهل الفصل والعلم ، وممّن يرجع إليهم في أمر الحياة والدين.

وقد حذّر اللّٰه ورسوله المؤمنين من اليهود في عدة آيات من الذكر الحكيم ، وعدّهم القرآن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا فقال تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّٰاسِ عَدٰاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ..) (٣) ، لأنّه سبحانه كان مطّلعا على نواياهم وسرائرهم وأنّهم هم الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ولا يستقبحون الكذب والافتراء على اللّٰه ورسوله في حين أنّهم (يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤) وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أمر زيد بن ثابت بتعلم السريانية خوفا من اليهود ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزيد : إنّي أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا عليّ أو ينقصوا فتعلم السريانية (٥).

وروي عن عمر أنّه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا نسمع أحاديث من يهود ، تعجبنا ، أفترى أن نكتبها؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية (٦).

وروى الخطيب بسنده عن عبد اللّٰه بن ثابت الأنصاري قال : جاء

__________________

(١) الإصابة ٣ : ٢٩٨.

(٢) الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : ١٠٩.

(٣) سورة المائدة ٥ : ٨٢.

(٤) سورة البقرة ٢ : ١٤٦.

(٥) تاريخ دمشق ٦ : ٢٨٠ ، الطبقات الكبرى ٢ : ١١٥.

(٦) النهاية ، لابن الأثير ٥ : ٢٨٢ ، حجية السنّة : ٣١٧ ، جامع بيان العلم وفضله ٢ : ٤٢.

٤٩٥

عمر بن الخطاب إلى النبي ومعه جوامع من التوراة ، فقال : مررت على أخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة أفلا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال [الأنصاري] : أما ترى ما بوجه رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فقال عمر : رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، فذهب ما كان بوجه رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده ، لو أنّ موسى أصبح فيكم ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنتم حظّي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين (١).

فتلخص مما مر : هو تأثر العرب بيهود الجزيرة قبل الإسلام وحتى بعده ، إذ وقفت على نصوصهم في ذلك ، والآن مع

عبد اللّٰه بن عمرو وزاملة اليهود

سبق أن وضّحنا ارتباط بعض الصحابة باليهود واليهودية ، وقد مر عليك في مدخل هذه الدراسة اعتراض أبو ذر الغفاري على كعب الأحبار بحضور عثمان وقوله له : يا ابن اليهودية أتعلمنا ديننا ، وعدم ارتياح عثمان من كلام أبي ذر وتهديده له بالنفي.

وكذا جاء في كلام عائشة بنت أبي بكر ما يشير إلى قناعتها باتصال الخليفة عثمان باليهود لقولها عنه (اقتلوا نعثلا (٢) فقد كفر) فمن نسبة عثمان بنعثل وتصريحها بكفره ، نفهم برجوع عثمان إلى بعض أفكارهم بعد الإسلام.

ومن هذا المنطلق لزم علينا التعرف على عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص وهل أخذ عن اليهودية واليهود أم لا؟

مما لا يختلف فيه اثنان من أهل التحقيق هو عثور عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص على زاملتين من كتب اليهود في معركة اليرموك ، وقد كانت صحيفته تلك تسمى أحيانا باليرموكية وأخرى بالزاملة ، وقد شك بعض العلماء في حجية مرويات عبد اللّٰه ، لاحتمال روايتها عن الزاملتين لا عمّا سمعه من رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله!.

__________________

(١) مجمع الزوائد ١ : ١٧٤ ، المصنّف لعبد الرزاق ١٠ : ٣١٣ وقريب منه في ج ١١ : ١١١ ، مسند أحمد ٣ : ٣٨.

(٢) وكان هذا رجلا يهوديا.

٤٩٦

هذا وقد أخرج أحمد في مسنده : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن واهب بن عبد اللّٰه المعافري ، عن عبد اللّٰه بن عمرو ، قال : رأيت فيما يرى النائم كأنّ في أحد إصبعي سمنا ، وفي الأخرى عسلا ، فأنا ألعقهما ، فلما أصبحت ذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (تقرأ الكتابين التوراة والفرقان) فكان يقرؤهما (١).

وقد علّق الذهبي على الخبر آنف الذكر بقوله (ابن لهيعة ضعيف الحديث ، وهذا خبر منكر ، ولا يشرع لأحد بعد نزول القرآن أن يقرأ التوراة ولا أن يحفظها ، لكونها مبدلة محرّفة ، منسوخة العمل ، قد اختلط فيها الحق بالباطل ، فلتجتنب ، فأمّا النظر فيها للاعتبار وللرد على اليهود ، فلا بأس بذلك للرجل العالم قليلا ، والإعراض أولى.

فأمّا ما روي من أنّ النبي أذن لعبد اللّٰه أن يقوم بالقرآن ليلة وبالتوراة ليلة ، فكذب موضوع ، قبّح اللّٰه من افتراه ، وقيل : بل عبد اللّٰه هنا هو ابن سلام ، وقيل : إذنه في القيام بها ، أي يكرر على الماضي لا أن يقرأ بها في تهجده) (٢).

وعجيب من الذهبي أن يقول هذا عن عبد اللّٰه ويتهم ابن سلام بدله ، وقد قال قبل قوله هذا بصفحات قليلة (.. وقد روى عبد اللّٰه أيضا عن أبي بكر ، وعمر ، ومعاذ ، وسراقة بن مالك ، وأبيه عمرو ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي الدرداء ، وطائفة ، وعن أهل الكتاب ، وأمعن النظر في كتبهم ، واعتنى بذلك (٣)).

ونحن لو قبلنا ضعف هذا الحديث بابن لهيعة ، فما ذا نفعل بما اتفق عليه الجميع من عثور عبد اللّٰه على زاملتين يوم اليرموك وتحديثه عنها ، وعلى حسب تعبير الذهبي (.. وأمعن النظر في كتبهم واعتنى بذلك).

ويضاف إليه : إنّ غالب الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير جاءت عن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص لا عن عبد اللّٰه بن سلام حتى يصح ما نقله الذهبي عن البعض إنّه عبد اللّٰه بن سلام!! بل اعتقادنا إنّ رؤيا عبد اللّٰه ـ وعلى عهد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، كانت من الرؤى الصادقة والتي تظهر مكنون عبد اللّٰه عند رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢ : ٢٢٢ ، حلية الأولياء ١ : ٢٨٦ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٨٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ : ٨٦ ـ ٨٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ : ٨١.

٤٩٧

هذا وقد توجه الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة إلى خطورة رفع الإسرائيليات إلى النبي فقال :

«ولو أنّ هذه الإسرائيليات جاءت مروية صراحة عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه أو عبد اللّٰه بن سلام وأضرابهم ، لدلت بعزوها إليهم أنّها مما حملوه ، وتلقوه عن كتبهم ، ورؤسائهم ، قبل إسلامهم ، ثم لم يزالوا يذكرونه بعد إسلامهم ، وأنها ليست مما تلقوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الصحابة ، ولكانت تشير بنسبتها إليهم إلى مصدرها ، ومن أين جاءت ، وإنّ الرواية الإسلامية بريئة منها.

ولكنّ بعض هذه الإسرائيليات ـ بل الكثير منها ـ جاء موقوفا على الصحابة ومنسوبا إليهم ـ رضي اللّٰه عنهم ـ فيظن من لا يعلم حقيقة الأمر ، ومن ليس من أهل العلم بالحديث أنّها متلقاة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّها من الأمور التي لا مجال للرأي فيها ، فلها حكم المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تكن مرفوعة صراحة» (١).

ثم جاء الأستاذ ليذكر شروط أئمة علم أصول الحديث في ذكر موقوفات الصحابة التي لها حكم المرفوع إلى النبي فقال : «.. فمنشؤها في الحقيقة هو ما ذكرت لك ، وهي : التوراة وشروحها ، والتلمود وحواشيه ، وما تلقوه عن أخبارهم ، ورؤسائهم الذين افتروا ، وحرّفوا وبدّلوا ، ورواتها الأول ، هم : كعب الأحبار ، ووهب بن منبّه وأمثالهما ، والنبي والصحابة ـ رضوان اللّٰه عليهم ـ بريئون من هذا.

ويجوز أن يكون بعضها مما ألصق بالتابعين ، ونسب إليهم زورا ، ولا سيما أن أسانيد معظمها لا يخلو من ضعف أو مجهول ، أو متهم بالكذب أو الوضع ، أو معروف بالزندقة ، أو مغمور في دينه وعقيدته» (٢).

__________________

(١) الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : ٩٦.

٤٩٨

«ولعل قائلا يقول : أمّا ما ذكرت من احتمال أن تكون هذه الروايات الإسرائيلية مختلقة ، موضوعة على بعض الصحابة والتابعين ، فهو إنّما يتجه في الروايات التي سندها ضعيف أو مجهول ، أو وضاع ، أو متهم بالكذب ، أو سيئ الحفظ ، يخلط بين المرويات ، ولا يميز ، أو نحو ذلك ، ولكن بعض هذه الروايات حكم عليها بعض حفاظ الحديث بأنّها صحيحة السند أو حسنة السند ، أو إسنادها جيد ، أو ثابت ، أو نحو ذلك فما تقول فيها؟

والجواب : أنّه لا منافاة بين كونها صحيحة السند أو حسنة السند أو ثابتة السند ، وبين كونها من إسرائيليات بني إسرائيل وخرافاتهم ، وأكاذيبهم ، فهي صحيحة السند إلى ابن عباس ، أو عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، أو إلى مجاهد ، أو عكرمة ، أو سعيد بن جبير وغيرهم ، ولكنّها ليست متلقاة عن النبي ، لا بالذات ولا بالواسطة ، ولكنّها متلقاة من أهل الكتاب الذين أسلموا ، فثبوتها إلى من رويت عنه شي‌ء ، وكونها مكذوبة في نفسها ، أو باطلة ، أو خرافة شي‌ء آخر ..» (١).

وقال في مكان آخر : «ويوغل بعض زنادقة أهل الكتاب فيضعون على النبي خرافات في خلق بعض أنواع الحيوانات التي زعموا أنّها مسخت ، ولو أنّ هذه الخرافات نسبت إلى كعب الأحبار وأمثاله أو إلى بعض الصحابة والتابعين لهان الأمر ، ولكن عظيم الإثم أن ينسب ذلك إلى المعصوم ، وهذا اللون من الوضع والدس من أخبث وأقذر الكيد للإسلام ونبي الإسلام» (٢).

وقال عند بيانه الإسرائيليات في بناء الكعبة (البيت الحرام والحجر الأسود) وبعد نقله خبرا عن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، قال :

(قال ابن كثير : إنّه من مفردات ابن لهيعة ، وهو ضعيف ، والأشبه واللّٰه أعلم أن يكون موقوفا على عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما

__________________

(١) الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : ٩٦.

(٢) الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : ١٦٦ ـ ١٦٧.

٤٩٩

يوم اليرموك ، ومن كتب أهل الكتاب ، فكان يحدث بما فيهما ..) (١)

وعلى هذا فنحن لا يمكننا أن نحدد نقولات عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص وإسرائيلياته بما تتعلق بالقصص وأخبار الفتحة والآخرة وما أشبهها فقط ، كما أراده الأستاذ أبو شهبه وغيره ـ بل نراها تسري إلى نقولاته في الأحكام الشرعية كذلك لورود هذا الاحتمال فيها ، وعليه فإن وافقت تلك الأحكام اليهود فقد تكون أخذت منهم ، لأنّ الإسرائيليات لا تنحصر بالقصص وأخبار الفتحة والآخرة ، وخصوصا بعد معرفتنا بأنّ عبد اللّٰه كان من أهل الاجتهاد والنظر في الشريعة وعلى عهد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإذا عرفنا هذه الأمور فيمكننا أن نطرح احتمالا فيما رواه البخاري وغيره عن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) وإنّها جاءت لإعذار أمثاله ممّن رووه عن بني إسرائيل ، إذ لا يعقل أن يجيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما في رواية عبد اللّٰه ـ نقل الإسرائيليات ولا حرج ، ويحظر الآخرين من نقل روايته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما جاء في نقل الآخرين عنه ـ وكذا يمكننا طرح احتمال آخر في سبب تسمية عبد اللّٰه صحيفته بالصادقة وأنّها جاءت لرفع تشكيكات المشككين من الصحابة والتابعين ، وعدم اطمينانهم بنقولاته عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمخالفتها لما سمعوه وتلقوه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتأكيد عبد اللّٰه باختصاصه بتلك الأحاديث دون المسلمين وقوله «هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بيني وبينه فيها أحد» قد تكون جاءت لرفع هذا التشكيك.

وضوء اليهود

نقل الأستاذ كرد علي عن مخطوطة ألفها أحد كهان الطائفة السامرية في نابلس جاء فيه «.. ويشترط أن يكون المصلي طاهرا ، والطهارة عندهم على نوعين ، الغسل أولا والوضوء ثانيا.

فالطهارة من الحدث شروط أولى على كل موسوي ، حتى إن لمس الحائض

__________________

(١) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : ٢٣٧ ، ١٦٩ عن تفسير ابن كثير والبغوي ١ : ٣١٦ ط المنار ، فتح الباري ٦ : ٣١.

٥٠٠