وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

رجال الصحيح (١) ، حيث حكى عن ابن شاهين عن الحافظ عثمان بن أبي شيبة أنّه قال في سليمان : لا بأس به ، لكن ليس

ممّا يعتمد على حديثه (٢).

وقال أحمد بن حنبل عن سليمان : لا بأس به (٣).

وقال أبو حاتم : متقارب (٤).

وهذان الوصفان ـ لا بأس به ، ومتقارب ـ وأمثالهما كـ (متماسك) و (مأمون) و (خيار) وحتّى (صدوق) و (محلّه الصدق) وغيرها ، لو اتّصف الراوي بأحدها فإنّ مروياته تخرج من الصحاح وتندرج في الحسان ، فلا يمكن الاحتجاج بها إلّا بعد النظر والاعتبار.

قال ابن أبي حاتم : إذا قيل صدوق ، أو محلّه الصدق ، أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه (٥).

وقال ابن الصلاح معقّبا على قول ابن أبي حاتم : هكذا كما قال ، لأنّ هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط ، فينظر في حديثه ، ويختبر حتّى يعرف ضبطه (٦).

وقال النووي معقّبا أيضا على قول ابن أبي حاتم : وهو كما قال ، لأنّ هذه العبارة لا تشعر بالضبط ، فيعتبر حديثه على ما تقدم (٧).

وقال الطيبي : .. فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، لأنّ هذه العبارات لا تشعر بالضبط فينظر ليعرف ضبطه (٨).

وقال السخاوي : (.. لا يحتج بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تشعر بشريطة

__________________

(١) مقدّمة فتح الباري : ٤٠٥.

(٢) مقدّمة فتح الباري : ٤٠٥.

(٣) الجرح والتعديل ٤ : الترجمة ٤٦٠.

(٤) الجرح والتعديل ٤ : الترجمة ٤٦٠.

(٥) حكاه عنه غير واحد من العلماء كابن الصلاح في المقدمة : ٢٣٨ ، والنووي في التقريب : ١٤.

(٦) مقدمة ابن الصلاح : ٢٣٨.

(٧) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني على البخاري) : ١٤ ، وتدريب الراوي : ١٨٦. انظر العلل ٥ / ٧٥٨ الملحق بـ (الجامع) للترمذي ، وشرح ابن رجب ١ : ٣٤٠ ، والباعث الحثيث ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٨) الخلاصة في أصول الحديث : ٨٨.

٨١

الضبط ، بل يكتب حديثهم ويختبر) (١).

وقال السيوطي : لأنّ هذه العبارة لا تشعر بالضبط فيعتبر حديثه (٢).

والمقصود من النظر والاعتبار : هو البحث عن راو ثقة ضبط يروي عن زيد بن أسلم ـ كما في مقامنا ـ مثل أو نحو ما رواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم.

أو يبحث عن طريق آخر رواته غير رواة الطريق الأول يتصفون بالوثاقة والضبط يروون عن تابعي آخر غير عطاء بن يسار عن ابن عبّاس مثل هذا الحديث أو نحوه أو قريبا منه.

والغرض من عملية الاعتبار هذه هو متابعة الحديث ـ الّذي ليس بحجة لسوء ضبط رواته أو لأنّه مرسل السند ـ بحديث آخر صحيح أو غيره له إمكانية لأن يرفعه إلى مرتبة الحجية.

وفيما نحن فيه لم نعثر على خبر راو ثقة ضبط يروي ذلك ، اللّٰهم إلّا ما جاء عن محمد بن عجلان وعبد العزيز الدراوردي وهشام بن سعد ، وهؤلاء لا يمكن الاحتجاج بهم ، لأنّ ما رواه محمد بن عجلان لا يمكن الاستناد إليه والاعتماد عليه ، لكون ابن عجلان غير ضابط ومدلّسا كما سيتّضح لك ذلك عند كلامنا عن طريق النسائي الأوّل.

وأمّا رواية عبد العزيز الدراوردي فهي ساكتة عن حكم الرجلين في الوضوء أهو الغسل أم المسح (٣).

وأمّا رواية هشام بن سعد فهي الأخرى غير صحيحة وسيتّضح ذلك في طريق أبي داود ـ الإسناد الثاني ـ من أنّها ـ في نفسها ـ تحتاج إلى تابع لتصحيحها.

نعم ، إنّ ابن حجر حينما ذكر سليمان بن بلال في المطعونين من رجال الصحيح ـ لقول ابن أبي شيبة ـ دافع عنه بقوله : «وهو تليين غير مقبول ، فقد اعتمده الجماعة» ،

__________________

(١) فتح المغيث ١ : ٣٩٥ وط ٣٤٠.

(٢) تدريب الراوي : ١٨٦ وط اخرى ١ : ٣٤٣.

(٣) أنظر (الإسناد الرابع) كذلك.

٨٢

ولنا على كلام ابن حجر عدة ملاحظات :

الأولى : إنّ هذه الدعوى تحكّم على الباقين من أهل العلم ـ ممن هم من غير الجماعة ـ وسلب لأدوارهم في إبداء النظر ، فلو احتجّ الجماعة براو طعن فيه يحيى بن سعيد القطّان أو العجلي أو أحمد بن حنبل أو يحيى بن معين أو ابن عدي أو الساجي أو الذهبي أو غيرهم ، فإنّه يلزم منه ـ على ضوء قول ابن حجر ـ أنّ طعنهم لغو لا اعتبار به ، وهذا ما لا يلتزم به ابن حجر نفسه.

الثانية : لو تنزّلنا وقبلنا قول ابن حجر فإنّ اعتماد الجماعة على راو يكون حجّة على الجماعة لا على غيرهم ، اللّٰهم إلّا أن يقال أنّ الأمّة قد أجمعت على الاحتجاج بما اعتمده الجماعة فقط ، وهذا ما لا يقول به ابن حجر ، بل يلزم منه القول أنّ هؤلاء الأعلام كـ (يحيى بن سعيد القطان والعجلي وأحمد و ..) وغيرهم كانوا قد خالفوا إجماع الأمّة.

أضف إلى ذلك أنّ الإجماع لا يقوم بالجماعة (البخاري ، مسلم ، الترمذي ، أبو داود ، النسائي ، ابن ماجة) فقط ، بل يشمل غيرهم من أساطين العلم وأئمّة النظر على أنّ الرواة الذين احتجّ بهم الجماعة وخالفهم الباقون من أهل العلم كثيرون ، ولو شئنا لأفردنا في ذلك كتابا.

الثالثة : إنّ دعوى ابن حجر منتقضة بعدّة رواة قد صرّح ابن حجر نفسه باعتماد الجماعة عليهم والاحتجاج بهم ، مع أنّ النسائيّ ـ وهو أحد الجماعة ـ قد جرحهم كـ (شريك بن عبد اللّٰه بن أبي نمر) الذي قال عنه النسائي : ليس بقوي (١) ، ومثله قوله في حاتم بن إسماعيل

__________________

(١) أنظر تهذيب الكمال ٢ : ٤٧٥ وهامش ص ٤٧٧ ، ديوان الضعفاء ١ : الترجمة ١٨٧٧ ، المغني في الضعفاء ١ : الترجمة ٢٧٦٣ ، ميزان الاعتدال ٢ : الترجمة ٣٦٩٦ ، ضعفاء ابن الجوزي ٢ : ٤٠ ، الضعفاء للعقيلي ٢ : ١٩٣ ، ومقدمة فتح الباري : ٤٠٨.

٨٣

المدني (١) ، وبريد بن عبد اللّٰه بن أبي بردة (٢) ، وغيرهم.

والعجيب أنّ ابن حجر نفسه لم يوثّق شريكا وحاتما رغم معرفته بأنّهم ممن اعتمدهم الجماعة ، وهذا لعمري تهافت بيّن ، فقد قال في شريك : صدوق يخطئ (٣) ، وقال في حاتم : صدوق يهم (٤).

وعلى أحسن التقادير من الممكن القول بأنّ اعتماد الجماعة على راو يجعله مرجّحا ومؤيّدا لحسن حاله لا أنّه يكون دليلا تسلب معه آراء الباقين من الأئمّة!!.

والّذي يزيدنا قناعة بقلّة ضبط سليمان وعدم إمكان الاعتماد عليه ، هو ما فعله بعض علماء الجرح والتعديل معه ، إذ قرنه بمن هو سيئ الحفظ ، قليل الضبط .. وهذه قرينة قويّة على أنّ ضبطه ليس بذاك المعتمد ، فأبو زرعة قرنه بهشام بن سعد ، حيث قال : سليمان بن بلال أحبّ إليّ من هشام بن سعد (٥).

وقيل ليحيى بن معين : سليمان بن بلال أحبّ إليك أو الدراوردي؟؟ فقال سليمان (٦). والدراوردي هذا لم نعثر على قول يمدح ضبطه على ما سيأتي بيانه لاحقا.

والمتتبّع لمفردات علم الرجال يعلم أنّ المقارنات بين راويين تشعر بوجود شبه بين المقارن والمقارن به ، والمقارنة بين سليمان وهشام أو بين سليمان والدراوردي إنّما حاصلها الإشارة إلى قلّة ضبط سليمان ، فراجع كتب الرجال لتعرف حقيقة الحال.

إذا استبان لك ما تقدم نقول : إنّ هذا الطريق ليس على شرط البخاريّ ، لأنّ البخاري ـ على ما حكي عنه ـ كان قد اشترط في صحيحه أن يتّفق العلماء على وثاقة

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٣٩٣.

(٢) مقدمة فتح الباري : ٣٩٠.

(٣) تقريب التهذيب ١ : ٣٥١.

(٤) تقريب التهذيب ١ : ١٣٧.

(٥) الجرح والتعديل ٤ : الترجمة ٤٦٠ ، تهذيب الكمال ١١ : ٣٧٦ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٤٢٧. وهشام ابن سعد متكلّم في ضبطه على ما سيأتي بيانه في الإسناد الثاني.

(٦) تهذيب الكمال ١١ : ٣٧٤ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٤٢٦.

٨٤

الراوي وضبطه وملاقاته لمن يروى عنه ، وسليمان هو ممن لم يتّفق العلماء على وثاقته ، إذ قال عنه ابن حنبل وابن أبي شيبة : لا بأس به ، وقال أبو حاتم : متقارب ، وإنّ هذه التعابير تشعر بعدم توفّر شريطة الضبط فيه ، وهي كافية للقول بأنّ خبر سليمان ليس على شرط البخاري ، فقد قال الحافظ أبي الفضل بن طاهر : إنّ شرط البخاري أن يخرج الحديث المتّفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الإثبات ، ويكون إسناده متصلا (١)!! على أن سليمان بن بلال مع ذلك ثقة عند كثير من الأئمّة ، فقد وثقه ابن معين ويعقوب ابن شيبة والنسائي وابن سعد (٢) وابن حبان حيث ذكره في كتاب الثقات (٣).

أقول : مع ذلك فإن سليمان ممّن ينظر في حديثه ، وهذا لا يمنع أن يكون ثقة في نفسه ، فإن تليين أبي حاتم وأحمد بن حنبل وابن أبي شيبة وكذا قول الذهلي فيه بأنّه كثير الرواية مقارب الحديث (٤). لا يمنع من أن يكون ثقة في نفسه حتّى ولو كان لين الحديث مقاربة.

إن قلت : أنّ التعديل والتوثيق يقدّم على التليين ـ كما في مقامنا ـ فمن اللغو النظر في حديث سليمان مع الاتفاق على تقديم التعديل! قلنا : هذا صحيح ، إلا أننا بسطنا القول في سليمان ـ كما رأيت ـ وفي أمثاله ـ كما سيأتي ـ لوجود مرويات أخرى عن ابن عباس في الوضوء المسحي قوية ، لها إمكانية التعارض مع رواية سليمان هذه ، فبيان حال سليمان هنا ينفع في الترجيح ، كما سيأتي مفصلا ، أضف إلى ذلك ، أنّ الرواة اختلفوا في الرواية عن زيد بن أسلم ـ كما سيتضح لك ـ فلا بد إذن من إعمال المرجّحات للوقوف على الأصح.

الثانية : من جهة زيد بن أسلم ، فإنّ الاحتجاج به مشكل جدا ، لأنّه كان قليل الحفظ ، على ما هو صريح سفيان بن عيينة ، فقد قال : كان صالحا ، وكان في حفظه

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٧ ، تدريب الراوي ١ : ١٢٤.

(٢) انظر تهذيب الكمال ١١ : ٣٧٤ تجد أقوالهم هناك.

(٣) الثقات ، لابن حبان ٦ : ٣٨٨.

(٤) تهذيب الكمال ١١ : ٣٧٥.

٨٥

شي‌ء (١).

والذي يليّن بقلّة الحفظ لا يمكن الاحتجاج به على ما هو بناء أهل العلم كابن الصلاح (٢) والنووي (٣) وأبي حاتم (٤) وابن كثير (٥) والطيبيّ (٦) والسخاوي (٧) والسيوطي (٨) والجرجاني (٩) وغيرهم.

وقد صرح هؤلاء العلماء بأنّ أهل هذه المرتبة هم أدون مرتبة من «صدوق» ، و «لا بأس به» التي مرت عليك في سليمان.

أضف إليه أنّ زيدا قد عنعن روايته هذه عن عطاء وهو ممن يدلّس ، فقد ذكر ابن عبد البر في مقدّمة التمهيد ما يدلّ على أنّه كان يدلّس (١٠) ، وقال ابن حجر : روى عن ابن عمر رضي اللّٰه عنهما في ردّ السّلام بالإشارة.

قال ابن عبيد : قلت لإنسان سله أسمعه من ابن عمر؟

فسأله فقال : أما إني فكلمني وكلمته .. وفي هذا الجواب إشعار بأنّه لم يسمع هذا بخصوصه منه ، مع أنّه مكثر عنه فيكون قد دلسه (١١).

أضف إلى ذلك أنّ زيدا ممن روى عن أبي سعيد الخدري ومحمود بن لبيد وأبي أمامة ما لم يسمع منهم (١٢) مع ملاحظة أنّه ممن عاصرهم قطعا ، وهذا يعني أنّه

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٣ : ٣٩٧.

(٢) مقدمة ابن الصلاح : ٢٣٩.

(٣) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني على البخاري) : ١٥.

(٤) حكاه عنه ابن الصلاح في المقدمة : ٢٣٩.

(٥) اختصار علوم الحديث : ٩٣.

(٦) الخلاصة في أصول الحديث : ٨٨.

(٧) فتح المغيث ١ : ٣٩٥ وط اخري ١ : ٣٤١.

(٨) تدريب الراوي ١٨٦.

(٩) ظفر الأماني بشرح مختصر الجرجاني : ٤٩٢.

(١٠) تهذيب التهذيب ٣ : ٣٩٧ عن التمهيد لابن عبد البر.

(١١) تعريف أهل التقديس : ٣٧.

(١٢) تهذيب التهذيب ٣ : ٣٩٧.

٨٦

دلس عن أربعة من الصحابة.

والّذي عليه جمهور أهل التحقيق من أئمّة الحديث أنّ المدلّس لو عنعن فإنّه لا يقبل منه ، وروايته ساقطة عن الحجية على ما هو صريح الحاكم (١) والطيبي (٢) وابن كثير (٣) والنووي (٤) والعراقي (٥) والسخاوي (٦) والسيوطي (٧) وابن الصلاح (٨) والجرجاني (٩). وغيرهم (١٠).

قال العراقي في ألفيّته :

وصحّحوا وصل معنعن سَلِم

من دَلسِهِ راويه واللقا عُلِم

(١١) وحاصل كلام العراقيّ أنّ العلماء حكموا على الحديث المعنعن بالصحّة لو سلم راويه من التدليس وعلم لقاؤه أو سماعه ممّن حدّث عنه ، وإلّا فلا يعتمد عليه.

فإن قلت : إنّ الحديث المعنعن الذي يرويه مدلّس ، إنّما هو ليس بحجّة في غير الصحيحين ، وأما في الصحيحين فهو حجة ، لأنّه محمول على الاتّصال والسماع من جهة أخرى ، فقد قال النووي :

__________________

(١) معرفة علوم الحديث : ٣٤.

(٢) الخلاصة في أصول الحديث : ٧١.

(٣) اختصار علوم الحديث : ٤٦.

(٤) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني) ١ : ٧.

(٥) فتح المغيث ١ : ١٧٩ وط اخرى ١ : ١٥٥.

(٦) فتح المغيث ١ : ١٧٩ وط اخرى ١ : ١٥٥.

(٧) تدريب الراوي ١١٣ وط أخرى ١ : ٢١٤.

(٨) مقدمة ابن الصلاح : ١٥٢.

(٩) ظفر الأماني بشرح مختصر الجرجاني ، للكنوي : ٣٩٤.

(١٠) كالقاسمي في قواعد الحديث : ١٢٧.

(١١) قوله «واللقا علم» قيد لإخراج المرسل عن غيره ، لأنّ المرسل هو أن يحدّث الراوي عمّن لم يعاصره ويلقاه كأن يروي التابعيّ عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا التدليس فهو أن يحدّث عمّن لقيه أو عاصره في حين لم يسمع ذلك منه ، فلقاء الراوي أو معاصرته لمن يحدّث عنه وعدمه هو المائز بين الحديث المرسل والمدلّس ، فلا يخفى عليك ذلك.

٨٧

«واعلم أنّ ما كان في الصحيحين عن المدلّسين بـ «عن» ونحوها (١) فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى ، وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقين جميعا ، فيذكر رواية المدلّس بـ «عن» ثمّ يذكرها بالسماع» (٢).

قلنا : هذا باطل ولا يفيد أيضا في المقام ، لأنّنا لم نعثر على تصريح لزيد بن أسلم بالسماع عن عطاء في جميع مرويّات صحيح البخاري ، بل وحتّى في غيره من الكتب المعتمدة ، والّذي يشهد على بطلان دعوى النووي وغيره (٣) ما صرّح به ابن حجر من أنّ الحديث المعنعن المرويّ في صحيح البخاري إذا رواه مدلّس ، ولم يصرّح ذلك المدلّس بالسماع في موضع آخر من الصحيح ، فحديثه ساقط عن الاعتبار والحجيّة ، وإليك نص كلامه :

«.. فحكم من ذكر من رجاله ـ أي صحيح البخاري ـ بتدليس أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة ، فإن وجد التصريح بالسماع اندفع الاعتراض وإلّا فلا» (٤).

وهذا النص صريح في سقوط طريق البخاريّ هذا عن الحجيّة ، إذ قدّمنا إليك بأنّنا لم نعثر على تصريح لزيد بن أسلم بالسماع عن عطاء فيه.

نعم ، هناك ما يشير ظاهره إلى أن زيدا قد صرح بالسماع عن عطاء في رواية أخرجها مسلم في كتاب المساقاة وهي :

قال مسلم : حدثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، سمعت زيد بن أسلم ، أخبرنا عطاء بن يسار ، عن أبي رافع مولى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : استسلف بكرا .. الحديث (٥).

__________________

(١) كأن يقول الراوي : حدّثني زيد أن عمرا قال كذا ، فهذا الحديث يسمّى بالمؤنّن ، وحكمه حكم المعنعن ـ في الحكم عليه بالاتصال والانقطاع ـ «انظر مقدمة ابن الصلاح : ١٥٣ تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني) : ٨ ، فتح المغيث ١ : ١٨٤ وط اخرى ١ : ١٦١ ، ١٥٥ ، تدريب الراوي ١١٥ وط أخرى ١ : ٢١٧».

(٢) مقدمة شرح صحيح مسلم ، للنووي ١ ـ ٢ : ١٤٦.

(٣) كالقاسمي في قواعد التحديث : ١٣٧.

(٤) مقدمة فتح الباري : ٣٨٢.

(٥) صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٤ ح ١١٩.

٨٨

فإن قلت : هذا دليل على سماعه من عطاء فلا يضر كونه مدلسا؟

قلنا : يدفعه أن هذا ليس بدليل ، أما أولا ، فلأن مسلما إنما أخرج هذا الحديث بهذا الطريق متابعة لا أصلا ، ويدلّ على ذلك أنّه قال في إخراج الأصل.

حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح ، أخبرنا ابن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي رافع ، أن رسول اللّٰه استسلف من رجل بكرا .. الحديث (١).

وهذا يعني أن الحجّة وأصل الحديث عند مسلم هو ما أخرجه بسنده إلى مالك بن أنس عن زيد بملاحظة أن سلسلة السند إلى زيد في هذا السند إثبات أفذاذ ..

وأما ثانيا : فلأنّ تصريح زيد بـ «أخبرنا» في هذا الطريق مما يخدش ثبوته عنه ، وذلك لأنّه ـ كما رأيت ـ من رواية «خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، عنه» ، وكل من خالد بن مخلد ومحمد بن جعفر (غندر) ـ وبخاصة الثاني ـ متكلّم في حفظه وضبطه ، بل هو البليد الأبله كما تقدم الحديث عنه.

وأما ثالثا : فلأنّه يستبعد الوثوق بسماعه في رواية واحدة رواها عنه راو قليل الحفظ والذي هو غندر ، مع أن له مئات من الروايات رواها عن عطاء في الكتب الستة وغيرها لم يصرح ولا بواحدة منها بالسماع. وعليه فلا ثبوت لسماعة من عطاء على ما هو الحق.

ولا يفوتنا أن نذكر أنّ الإمام أحمد بن حنبل قد روى في مسنده «عن أبي سلمة الخزاعي ، عن ابن بلال» مثل ما رواه البخاري في صحيحة سندا ومتنا (٢) ، إلّا أن أحمد روى أيضا بسنده المتقدم «عن ابن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن عباس» حديثا قال عنه : أنّه نحو الحديث السابق (٣).

ومع ذلك فهذا الحديث لا يمكن الاحتجاج به بالمرّة ، لأنّ يعقوب هذا مجهول الحال والهوية بالاتفاق على ذلك من علماء الرجال.

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٤ ح ١١٨.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ١ :

(٣) مسند أحمد بن حنبل ١ :

٨٩

الإسناد الثاني :

قال أبو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة (١) ، حدثنا محمد بن بشر (٢) ، حدّثنا هشام بن سعد (٣) ، حدثنا زيد [بن أسلم] ، عن عطاء بن يسار ، قال : قال لنا ابن عباس :أتحبون أن أريكم كيف كان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء ، فاغترف غرفة بيده اليمنى ، فتمضمض واستنشق ، ثمّ أخذ أخرى فجمع بها يديه ، ثمّ غسل وجهه ، ثمّ أخذ أخرى فغسل بها يده اليمنى ، ثمّ أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى ، ثمّ قبض قبضة من الماء ثمّ نفض يده ثمّ مسح بها رأسه وأذنيه ، ثمّ قبض قبضة أخرى من الماء فرشّ على رجله اليمنى وفيها النعل ثمّ مسحها بيديه ، يد فوق القدم ويد تحت النعل ، ثمّ صنع باليسرى مثل ذلك (٤).

__________________

(١) هو عثمان بن محمد بن إبراهيم ، مولاهم ، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي ، وثقه العجلي وابن معين ، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه : صدوق ، وقال ابن حجر : ثقة حافظ شهير ، له أوهام (انظر تهذيب الكمال ١٩ : ٤٧٨ الترجمة ٣٧٥٧ ، تاريخ بغداد ١١ : ٢٨٧ الجرح والتعديل ٦ : الترجمة ٩١٣ ، تهذيب التهذيب ٧ : ١٤٩) وغيرها من المصادر.

(٢) هو محمد بن بشر العبدي ، أبو عبد اللّٰه الكوفي ، قال ابن الجنيد : لم يكن به بأس ، وقال ابن حجر : ثقة حافظ ، وقال الذهبي : وثقه يحيى بن معين (انظر تهذيب الكمال ٢٤ : ٥٢٠ الترجمة ٥٠٨٨ ، تقريب التهذيب ٢ : ١٤٧ ، أعلام النبلاء ٩ : ٢٦٦ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٦ : ٣٩٤ ، التاريخ الكبير للبخاري ١ : الترجمة ٨٧) وغيرها من المصادر.

(٣) هو هشام بن سعد المدني ، أبو عباد ، ويقال : أبو سعيد ، مولى آل أبي لهب ، ليّنه بعض أهل العلم باعتبار ضبطه على ما هو ظاهر أقوالهم (انظر تهذيب الكمال ٣٠ : ٢٠٥ الترجمة ٦٥٧٧ ، الجرح والتعديل ٩ : الترجمة ٢٤١ ، ميزان الاعتدال ٤ : الترجمة ٩٢٢٤ ، الضعفاء لابن الجوزي ٢ ـ ٣ : ١٧٤ ، المغني في الضعفاء ٢ : الترجمة ٦٧٤٨ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٣٤٤ والجمع بين رجال الصحيحين لابن القيسراني ٢ : ٥٥٠) وغيرها من المصادر ، اخرج له البخاري في التعليقات ، واحتج له مسلم.

(٤) سنن أبي داود ١ : ٣٤ ح ١٣٧ ، باب الوضوء مرتين.

٩٠

المناقشة

في هذا الطريق عثمان بن أبي شيبة ، وهو وإن وثّقه غير واحد من أهل العلم إلّا أنّ البعض الآخر منهم ليّنوه ، ويبدو أنّ علّة تليينه هو ما حكي عنه من التصحيف في القرآن الكريم.

والإنصاف أن علّة هذا التليين غير معقولة ، إذ من البعيد جدا أن يصحّف إمام حافظ تصحيفا لا يصدر عن صبيان المكاتب (١).

وهل يعقل أن يقرأ ابن أبي شيبة وأمثاله (ألم) الاستفهامية من سورة الفيل (ألف ، لام ، ميم) مقطّعة كما تقرأ في أوّل سورة البقرة؟

فمما يحتمل ـ وهو ما قاله الذهبي عنه ـ أنّه كان مزّاحا حتّى فيما يتصحّف من القرآن (٢).

وعلى أسوأ تقدير فإنّه يمكن الاحتجاج به في المتابعات والشواهد ، فتأمل! لكنّ التحقيق هو أنّ هذا الطريق مخدوش من جهتين أخريين :

الأولى : وجود هشام بن سعد فيه ، حيث لم يوثّقه أحد من الرجاليين ، وفي نفس الوقت لم نعثر على من جرحه بما يوجب ترك حديثه مطلقا ـ حتى مع النظر ـ وأكثر أهل العلم مدحوه بما هو دون الوثاقة ، وقليل منهم لينه لينا يتدارك بالاعتبار.

قال العجلي : جائز الحديث ، حسن الحديث (٣).

وقال أبو زرعة : شيخ محلّه الصدق (٤).

وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتجّ به (٥).

__________________

(١) هذا ما قاله ابن كثير في الدفاع عن ابن أبي شيبة (انظر اختصار علوم الحديث : ١١٦).

(٢) تذكرة الحفاظ ٢ : ٤٤٤ ، ميزان الاعتدال ٣ : الترجمة ٥٥١٨.

(٣) تهذيب الكمال ٣٠ : ٢٠٧ عن ثقاته الورقة ٥٥.

(٤) الجرح والتعديل ٩ : الترجمة ٢٤١.

(٥) تهذيب الكمال ٣٠ : ٢٠٥ ، الجرح والتعديل ٩ : الترجمة ٢٤١.

٩١

وقال يحيى بن معين : صالح ليس بمتروك الحديث (١).

وقال ابن عدي : مع ضعفه يكتب حديثه (٢).

وقال يحيى بن معين في موضع آخر : ليس بالقوي (٣).

وقال النسائي تارة : ليس بالقوي (٤) ، وتارة أخرى : ضعيف (٥).

والمتحصل من مجموع هذه الكلمات :

إن هشاما لا يحتج به من دون نظر ومتابعة ، وإلى هذا أومأ ابن حجر في فتح الباري ، فراجع (٦).

الثانية : وجود زيد بن أسلم فيه ، وقد مرّ عليك أنّه قد عنعن عن عطاء ، وهو ممن يدلّس. وبذلك يكون السند محكوم عليه بالانقطاع من هذه الجهة.

الإسناد الثالث

قال النسائي : أخبرنا مجاهد بن موسى (٧) ، قال : حدثنا عبد اللّٰه بن إدريس (٨) ، قال : حدثنا ابن عجلان (٩) ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ،

__________________

(١) الجرح والتعديل ٩ : الترجمة ٢٤١.

(٢) ميزان الاعتدال ٤ : الترجمة ٩٢٢٤.

(٣) تهذيب الكمال (الهامش) ٣٠ : ٢٠٧.

(٤) تهذيب الكمال (الهامش) ٣٠ : ٢٠٨.

(٥) ميزان الاعتدال ٤ : ٢٩٩ ، الترجمة ٩٢٢٤.

(٦) فتح الباري ١ : ١٩٤.

(٧) هو مجاهد بن موسى الخوارزمي ، أبو علي نزيل بغداد ، وثّقه ابن معين وقال عنه : ثقة ، لا بأس به ، وقال النسائي : بغدادي ثقة (انظر تهذيب الكمال ٢٧ : ٢٣٦ الترجمة ٥٧٨٤ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ٤٩٥ ، تقريب التهذيب ٢ : ٢٢٩) وغيرها من المصادر.

(٨) هو الزعافري أبو محمد الكوفي ، وثقة ابن معين والنسائي وأبو حاتم ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ١٤ : ٢٩٤ الترجمة ٣١٥٩ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٦ : ٣٨٩ ، الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٤٤ ، تاريخ بغداد ٩ : ٤١٥) وغيرها من المصادر.

(٩) هو محمد بن عجلان القرشي ، أبو عبد اللّٰه المدني ، مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن مناف ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٢٦ : ١٠١ ، والجرح والتعديل ٨ : الترجمة ٢٢٨ وتهذيب التهذيب ٩ : ٣٤٢) وغيرها من المصادر.

٩٢

عن ابن عباس ، قال : توضأ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فغرف غرفة فمضمض واستنشق ، ثمّ غرف غرفة فغسل وجهه ، ثمّ غرف غرفة فغسل يده اليمنى ، ثمّ غرف غرفة فغسل يده اليسرى ، ثمّ مسح برأسه وأذينة باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه ، ثمّ غرف فغسل رجله اليمنى ، ثمّ غرف غرفة فغسل رجله اليسرى (١).

المناقشة

ويخدش هذا السند من جهتين :

الأولى : من جهة محمد بن عجلان ، الذي ورد فيه ما يورث عدم الاحتجاج به ، لأنّ مالكا أجاب من سأله عنه بقوله : لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ـ يعني به الحديث والرواية ـ ولم يكن عالما (٢).

وقال ابن يونس : قدم ـ ابن عجلان ـ مصر وصار إلى الإسكندرية ، فتزوّج بها امرأة فأتاها في دبرها ، فشكته إلى أهلها ، فشاع ذلك ، فصاحوا به فخرج منها (٣).

قال الحاكم : أخرج له مسلم في كتابه ثلاثة عشر حديثا كلها شواهد ، وقد تكلّم المتأخّرون من أئمّتنا في سوء حفظه (٤).

وقال ابن حجر : أخرج له مسلم في المتابعات ولم يحتجّ به (٥).

ونقل الذهبي عن البخاري أنّه ذكر ابن عجلان في الضعفاء (٦).

وقال البخاري : «قال يحيى القطان : لا أعلم إلّا أنّي سمعت

__________________

(١) سنن النسائي ١ : ٧٤ باب مسح الأذنين مع الرأس وما يستدل به على أنهما من الرأس.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ : ٦٤٤ الترجمة ٧٩٣٨.

(٣) تهذيب الكمال ٢٦ : ١٠٧ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٣٤٢.

(٤) ميزان الاعتدال ٣ : ٦٤٤ الترجمة ٧٩٣٨.

(٥) تهذيب التهذيب ٩ : ٣٤٢.

(٦) ميزان الاعتدال ٣ : ٦٤٥.

٩٣

ابن عجلان يقول : كان سعيد المقبري يحدّث عن أبيه عن أبي هريرة ، وعن رجل ، عن أبي هريرة ، فاختلط فجعلهما عن أبي هريرة ، كذا في نسختي بالضعفاء للبخاري.

وعندي في مكان آخر : إنّ ابن عجلان كان يحدّث عن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وعن رجل عن أبي هريرة ، فاختلط عليه فجعلهما عن أبي هريرة.

قلت : فهذا أشبه ، وإلّا لكان الغمز من القطان يكون في المقبري ، والمقبري صدوق ، إنّما يروي عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وعن أبي هريرة نفسه ، ويفصل هذا من هذا ..

إلى أن ينهى الذهبي كلامه عن ابن عجلان بقوله «.. وقد روي عنه عن أنس ، فما أدري هل شافه أنسا أو دلّس عنه» (١)!! وعليه فالبخاري لم يحتج في صحيحه بحديثه وإن كان قد روى له بعض الشي‌ء استشهادا وتعليقا (٢). ومثله فعل مسلم.

وأما كلام الإمام مالك ـ آنف الذكر ـ فيمكن أن يفيدنا في الدلالة على سوء حفظه ، لأنّ قوله «لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالما» يعني أنّه ليس أهلا للرواية والتحديث ، فهذا يرشدنا إلى سوء حفظ ابن عجلان وعدم ضبطه ، إذ ثبت عنه أنّه قد روى عن أناس لم يسمع منهم ، كروايته عن النعمان بن أبي عيّاش مع أنّه لم يسمع منه (٣) وصالح مولى التؤمة (٤) و ..

وهذه النصوص تدل على أنّه كان مرسلا أو مدلّسا ، وقد وقفت على تصريح الذهبي بقوله «لا أدري هل شافه أنسا أو دلّس عنه». فالذهبي رغم دفاعه عن الرواة

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٦٤٤ ـ ٦٤٧ الترجمة ٧٩٣٨.

(٢) انظر تهذيب الكمال ٢٦ : ١٠٨.

(٣) هذا قول الدار قطني في العلل ٣ الورقة ١٧٩.

(٤) المراسيل ، لابن حبّان : ١٩٤.

٩٤

لم يوثق ابن عجلان بل قال عنه : «إمام صدوق ، مشهور» (١) وهذه العبارة ـ مشهور ، صدوق ـ تشعر بعدم شريطه الضبط كما تقدّم ، ويؤيد ما قلناه ما جاء عن الذهبي في مكان آخر من الميزان : ابن عجلان متوسّط في الحفظ (٢) ، بل صرح ابن حجر بسوء حفظه (٣).

وقال أبو زرعة عن ابن عجلان في أحد النقلين عنه : صدوق وسط (٤).

أضف إلى ذلك أنّ ابن عجلان قد أتى بأمور تخالف المروءة ، وقد وقفت على قصته مع من تزوجها في مصر!! هذا ، وإن العقيلي (٥) والذهبي والبخاري ـ كما تقدم ـ (٦) وغيرهم أوردوه في الضعفاء.

يضاف إلى كل ذلك أنّ ابن عجلان قد عنعن روايته هنا عن زيد بن أسلم ، مع انّا لم نقف على تصريح له بالسماع عنه. في مكان آخر ، وهذا ما يسقط روايته عن الحجية.

والحاصل : فإن الاحتجاج به ـ على أحسن الأقوال ـ ممكن ولكن مع الاعتبار ، خصوصا لو علمنا بما كرّم اللّٰه به ابن عجلان ، من إبقائه في بطن أمه أربعة أعوام حتى نبتت أسنانه (٧)!!!

الثانية : من جهة زيد بن أسلم على ما تقدم عليك في الأسانيد السابقة.

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٦٤٤.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ : ٦٤٥.

(٣) مقدمة فتح الباري : ٣٥١.

(٤) تهذيب التهذيب ٩ : ٣٤٢.

(٥) الضعفاء ، للعقيلي ٤ : ١١٨.

(٦) المغني ٢ : الترجمة ٥٨١٦ وديوان الضعفاء الترجمة ٣٨٧٧.

(٧) انظر ميزان الاعتدال وتهذيب الكمال وغيرها في «ترجمة ابن عجلان».

٩٥

الإسناد الرابع

قال النسائي : أخبرنا الهيثم بن أيوب الطالقاني (١) ، قال : حدثنا عبد العزيز ابن محمد (٢) ، قال : حدثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، قال : رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ فغسل يديه ثمّ تمضمض ، واستنشق من غرفة واحدة وغسل وجهه وغسل يديه مرّة مرة ومسح برأسه وأذنيه مرّة.

قال عبد العزيز : وأخبرني من سمع ابن عجلان يقول في ذلك : وغسل رجليه (٣).

المناقشة

وهذا الطريق مخدوش من جهتين :

الأولى : من جهة عبد العزيز ، فقد ليّنه غير واحد من أهل العلم ، قال النسائي :ليس بالقويّ (٤).

وسئل أحمد بن حنبل عنه ، فقال : كان معروفا بالطلب ، وإذا حدّث من كتابه فهو صحيح ، وإذا حدّث من كتب الناس وهم ، وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ ، وربّما قلب حديث عبد اللّٰه بن عمر يرويه عن عبيد اللّٰه بن عمر (٥).

__________________

(١) هو السّلمي ، أبو عمران الطالقاني ، وثقه النسائي وقال في موضع آخر : لا بأس به (انظر تهذيب الكمال ٣٠ : ٣٦٥ ، وتقريب التهذيب) وغيرهما من المصادر.

(٢) هو الدراوردي ، أبو محمد المدني ، مولى جهينة «انظر ترجمته في تهذيب الكمال ١٨ : ١٨٧ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ٣٦٦ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٦٣٣ ، تهذيب التهذيب ٦ : ٣٥٣ ، الضعفاء للعقيلي ٢ : ٢٠ ، تقريب التهذيب ١ : ٥١٢» وغيرها.

(٣) سنن النسائي ١ : ٧٣ باب مسح الأذنين.

(٤) تهذيب الكمال ١٨ : ١٩٤ ، المستخرج من مصنفات النسائي في الجرح والتعديل : ١٠٥ ترجمة ١٦٩.

(٥) تهذيب الكمال ١٨ : ١٩٣ ، الجرح والتعديل ٥ : ٣٩٥ وفي الأخير كان يقلب حديث عبد اللّٰه العمري فيرويه عن عبد اللّٰه بن عمر.

٩٦

وقال يحيى بن معين : ليس به بأس (١).

وقال أبو زرعة : سيئ الحفظ ، فربّما حدّث من حفظه الشي‌ء فيخطئ (٢).

وقال ابن سعد : ثقة ، كثير الحديث ، يغلط (٣).

وقال أبو حاتم : لا يحتجّ به (٤).

وعن أحمد أيضا : إذا حدّث من حفظه يهم ، ليس هو بشي‌ء ، وإذا حدّث من كتابه فنعم (٥).

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سئل أبي عن عبد العزيز ، فقال : محدث (٦).

وقال الذهبي : صدوق من علماء المدينة ، غيره أقوى منه (٧). وحكى الذهبي عن أحمد قوله : إذا حدّث من حفظه جاء ببواطيل (٨).

وقال الساجي : كان من أهل الصدق والأمانة إلّا أنّه كثير الوهم (٩).

وقال عياش بن المغيرة : جاء إلى أبي يعرض عليه الحديث فجعل يلحن لحنا منكرا ، فقال له أبي : ويحك إنّك إلى لسانك أحوج منك إلى هذا (١٠). وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال عنه : كان يخطئ (١١).

وقال ابن المديني : ثقة ثبت (١٢).

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٨ : ١٩٣ ، الجرح والتعديل ٥ : ٣٩٦ ، والذي فيه (صالح ، ليس به بأس).

(٢) الجرح والتعديل ٥ : ٣٩٦ ، تهذيب الكمال ١٨ : ١٩٤.

(٣) تهذيب الكمال ١٨ : ١٩٥.

(٤) سير أعلام النبلاء ٨ : ٣٦٧.

(٥) سير أعلام النبلاء ٨ : ٣٦٧.

(٦) تهذيب الكمال ١٨ : ١٩٤.

(٧) ميزان الاعتدال ٢ : ٦٣٣.

(٨) ميزان الاعتدال ٢ : ٦٣٤.

(٩) تهذيب التهذيب ٦ : ٣٥٥.

(١٠) تهذيب التهذيب ٦ : ٣٥٥.

(١١) الثقات ، لابن حبان ٧ : ١١٦.

(١٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٦٣٤.

٩٧

وقد ذكره العقيلي في ضعفائه (١) ، والذهبي في كتابيه المغني (٢) والميزان (٣).

وعليه فلا يمكن الاحتجاج بخبر الدراوردي لأنّه وإن قيل بوثاقته لكنه يجرح بسوء حفظه وكثرة أخطائه ، وهذان يسقطان الخبر عن الحجية.

الثانية : من جهة زيد بن أسلم على ما مر عليك.

ب : ما رواه سعيد بن جبير عنه الإسناد (٤)

قال أبو داود : حدثنا الحسن بن علي (٥) ، حدثنا يزيد بن هارون (٦) ، أخبرنا عبّاد بن منصور (٧) عن عكرمة بن خالد (٨) ، عن سعيد بن جبير (٩) ، عن ابن عباس رأى

__________________

(١) ضعفاء العقيلي ٣ : ٢٠ الترجمة ٩٧٧.

(٢) المغني ٢ : الترجمة ٣٧٥٣.

(٣) ميزان الاعتدال ٢ : ٦٣٤.

(٤) وهو الإسناد الخامس من أسانيد ابن عباس الغسليّة.

(٥) وهو مردد بين الواسطي والخلال (انظر ترجمة الواسطي في تهذيب الكمال ٦ : ٢١٥ ، وترجمة الخلال في تهذيب الكمال ٦ : ٢٥٩ الترجمة ١٢٥٠) وغيره من المصادر.

(٦) هو يزيد بن هارون بن زادي السلمي ، أبو خالد الواسطي (انظر تهذيب الكمال ٣٢ : ٢٦١ الترجمة ٧٠٦١ ، الجرح والتعديل ٩ : الترجمة ١٥٥٧) وغيرهما من المصادر.

(٧) هو عباد بن منصور الناجي ، أبو سلمة البصري (انظر تهذيب الكمال ١٤ : ١٥٦ ، الجرح والتعديل ٦ :الترجمة ٤٣٨ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ١٠٥ ، الضعفاء للعقيلي ٣ : ١٣٤ ، الضعفاء لابن الجوزي ٢ : ٧٦ ، تهذيب التهذيب ٥ : ١٠٣ ، ميزان الاعتدال ٢ : الترجمة ٤١٤١ ، الطبقات الكبرى ٧ : ٢٧٠) وغيرها من المصادر.

(٨) فهو عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة .. القرشي المخزومي ، المكي ، وثقه يحيى بن معين وأبو زرعة والنسائي ، روى له الجماعة سوى ابن ماجة (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٤٩ الترجمة ٤٠٠٤ ، الجرح والتعديل ٧ : الترجمة ٣٤ ، الطبقات الكبرى ٥ : ٤٧٥ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٩٠ الترجمة ٥٧٠٩).

(٩) هو سعيد بن جبير بن هاشم الأسدي الوالبي ، أبو محمد الكوفي ، أحد الاعلام ، قتله الحجاج صبرا ، قال الذهبي عنه : ولما علم من فضل الشهادة ، ثبت للقتل ولم يكترث ، ولا عامل عدوه بالتقية المباحة له (انظر تهذيب الكمال ١٠ : ٣٥٨ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٢١ ـ ٣٤٠) وغيرهما من المصادر.

٩٨

رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ فذكر الحديث كلّه ثلاثا ثلاثا ، قال : ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة (١).

المناقشة

وهذا الطريق مخدوش من جهتين :

الأولى : من جهة الحسن بن علي ، وهو مردّد بين الواسطي والخلال الحلواني ، وبما أنّ النفوري قد صرح في بذل المجهود (٢) أنّه الخلال الحلواني فلن نتعرض لذكر حال الواسطي جريا مع ما صرّح به.

والخلال وثقه النسائي (٣) ، ويعقوب بن أبي شيبة (٤) ، والخطيب (٥) على ما حكاه المزي (٦) ، إلّا أنّه ورد فيه تليين ـ أو ما لازمة التجريح ـ من الإمام أحمد ابن حنبل وغيره.

فقد قال عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عنه؟ فقال : ما أعرفه بطلب الحديث ، ولا رأيته يطلب الحديث؟

وقال أيضا : لم يحمده أبي (٧).

وقال أيضا عن أبيه : تبلغني عنه أشياء أكرهها (٨).

وعن أبيه أيضا : أهل الثغر عنه غير راضين (٩) ..

وقال داود بن الحسين : سألت أبا سلمة بن شبيب عن علم الحلواني ، فقال : يرمى في الحش (١٠).

والحاصل : فإن الوثوق بمرويات الخلال ـ هكذا ببساطة ـ لا يخلو من

__________________

(١) سنن أبي داود ١ : ٣٢ ح ١٣٣ ، باب صفة وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) بذل المجهود ١ : ٣٢٥.

(٣) تهذيب الكمال ٦ : ٢٦٢ ، تاريخ الخطيب ٧ : ٣٦٦.

(٤) تهذيب الكمال ٦ : ٢٦٢ ، تاريخ الخطيب ٧ : ٣٦٦.

(٥) تهذيب الكمال ٦ : ٢٦٢ ، تاريخ الخطيب ٧ : ٣٦٦.

(٦) تهذيب الكمال ٦ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٧) تهذيب الكمال ٦ : ٢٦٢ ، تاريخ الخطيب ٧ : ٣٦٥ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٣٠٣.

(٨) تهذيب الكمال ٦ : ٢٦٢ ، تاريخ الخطيب ٧ : ٣٦٥ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٣٠٣.

(٩) تهذيب الكمال ٦ : ٢٦٢ ، تاريخ الخطيب ٧ : ٣٦٥ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٣٠٣.

(١٠) الحش : البستان ، والكنيف. وهو كناية عن عدم أخذهم به وجرحهم له.

٩٩

إشكالات ، لما تقدّم عليك من ذم بعض الأئمّة له بنحو يوجب التأمّل فيما يروي ، لأنّ المسألة لم تنحصر في ذم الإمام أحمد بن حنبل ولا في وصف ابن شبيب علمه بأنّه مما يرمى في الحش ، بل تعدت إلى أنّ فئة من الناس لا يرتضونه ولا يميلون اليه ، والذم الجمعي ليس كالذم الفردي ، لأنّ الأول يستبعد في حقه أن يقال فيه : أنّه ذم نشأ عن الغفلة وعدم الاطلاع التام على أحوال الخلال كما قد يحتمل في ذم فرد واحد له ، فعلى هذا لا يمكن القول بأنّه عدل ثقة مع عدم رضا أهل الثغر كلهم عنه ـ بما فيهم عقلاؤهم ومتشرّعوهم إلّا مع مجازفة واضحة.

وكذا القول بعدم وثاقته ـ طبق القواعد وبالنظر لتوثيقات من وثّقه ـ مشكل أيضا.

وأحسن الأمور أن يقال فيه : أنّه إذا روى شيئا فإنّه يتوقف وينظر فيه ، فإذا عارضه الثقات فإنّه لا يحتج بما يروي ، وإلّا فيحتج به مع النظر ، وقد يمكن الاحتجاج به عند عدم معارضة الثقات له حتّى من دون النظر والاعتبار عند حصول الظن المعتبر بمفادات ما يروي.

الثانية : من جهة عبّاد بن منصور ، وعباد هذا لم يوثقه أحد من الأئمّة ، فكلّهم بين جارح أو مليّن له. قال يحيى بن معين : ليس بشي‌ء (١) ، ضعيف (٢) ، أو ليس بشي‌ء في الحديث (٣).

وقال النسائي : ضعيف ، وقد كان أيضا قد تغيّر (٤).

وقال الساجي : ضعيف مدلس (٥).

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٤ : ١٥٨ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٣٧٦ الترجمة ٤١٤١.

(٢) الجرح والتعديل ٦ : ٨٦.

(٣) المجروحين ، لابن حبان البستي ٢ : ١٦٦.

(٤) الضعفاء والمتروكين ، للنسائي ، الترجمة ٤١٤ ، وفي تهذيب الكمال ١٤ : ١٦٠ «ضعيف ، ليس بحجة» ، وفي ميزان الاعتدال ٢ : ٣٧٦ «ضعفه النسائي» ، وفي تهذيب التهذيب ٥ : ١٠٤ «ليس بحجة».

(٥) ميزان الاعتدال ٢ : ٣٧٦ الترجمة ٤١٤١ جاء في نسخة منه (قال العلائي ، قال مهنا : سألت أحمد عنه فقال : كان يدلس).

١٠٠