وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

موجب للغسل ، وعلى الحائض أن تحضر ثلاثا من النساء يقفن على رأسها حين اغتسالها.

وأمّا الوضوء ، فيغسل المتوضئ أولا يديه ، وإذا كان من أصحاب الأعمال اليدوية فيغسل يديه إلى المرفقين والساعدين ثلاث مرات ، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا ثم يغسل وجهه ويمسح أذنيه ويغسل رجليه ثلاثا ، ويتلون التوراة في الصلاة باللسان ..» (١)

استنتاج

تحصل ممّا سبق : أنّ عرب شبه الجزيرة كانوا قد تأثروا بالحضارات المجاورة قبل الإسلام ، وبما أنّ اليهود كان لهم تاريخ ديني قديم عند بعض تلك الأمم ، فكانوا هم الأشد والأقدر تأثيرا على عرب الجزيرة.

ويمكن عزو سر استقطاب اليهود للعرب هو روايتهم الحكايات العجيبة في الكون والحياة عن أنبيائهم ، فمن البديهي أن يتأثر هؤلاء بأحبار اليهود لما حكوه لهم من قصص عجيبة وحكايات غريبة ، وليس من السهل ـ بعد مجي‌ء الإسلام ـ أن يتخلص هؤلاء من هذا التأثير عليهم ، إذ وقفت على نصوص لبعض الصحابة في ذلك.

ويضاف إليه هو اجتهاد بعض هؤلاء الصحابة بمحضر الرسول ، لأنّ بعض هؤلاء كانوا قد سمعوا عظيم الثواب في امتثال العبادات الإسلامية ، فأفرطوا في الإقبال عليها إلى حد الرهبانية التي نهى الإسلام عنها ، وكان هؤلاء بعملهم هذا قد خرجوا عن حدود الامتثال والتعبد الصحيح إلى الرهبنة المنهي عنه في الإسلام وهو الاجتهاد مقابل النص.

وقد يكون هذا أحد الأسباب التي أوقعت هؤلاء البعض في خلطهم للأصول والمفاهيم الشرعية ، إذ أنّ هذا الاعتقاد سيدعوهم لإدخال ما ليس من الدين فيه.

وعلى ضوء ما تقدم نقول : من غير المستبعد أن يكون عبد اللّٰه بن عمرو

__________________

(١) خطط الشام ، لكرد علي ٦ : ٢١٩.

٥٠١

ابن العاص ، ـ وأمثاله من الذين اجتهدوا على عهد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وراء فكرة الوضوء الثلاثي الغسلي ، لوقوفنا على إصراره لصيام الدهر ، وقيام الليل وتطويله ، واعتزال النساء ، وختم القرآن في كل ليلة و ..

فهذا الصحابي وأمثاله قد يكونوا أحبوا التقرب إلى اللّٰه فرأوا التعمق في العبادة هو الطريق الأمثل إلى هذا القرب الإلهي فغسلوا أرجلهم بدل المسح ، لسماعهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (أفضل الأعمال أحمزها)!! مخالفين بذلك نص الرسول ونهيه على الرهبنة في الإسلام ، وإنّ الإسلام هو التسليم لا الاجتهاد الحر.

وقد يكونوا اجتهدوا على أنّ الغسل يكفي عن المسح ، لأنّه الأقرب إلى النفس ، متجاهلين أنّ الأحكام الشرعية أمور توقيفية لا يجوز فيها الزيادة والنقيصة ، بل الواجب فيها التعبد بما نزل به الوحي وعمل به الرسول.

وإنّا سنوضح لاحقا بأنّ الغسل ليس هو سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لعدم إجماع الصحابة عليه ، بل إنّ اختلافهم في النقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثبوت المسح عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله من صحابة كبار أمثال ابن عباس ، وعلي بن أبي طالب ، ورفاعة بن رافع و .. لمؤشر على ذلك.

ومما يحتمل في الأمر كذلك هو تأثرهم بعمل اليهود ، لما عرفنا عن وضوئهم.

وعلى ضوء ما مر نرجح كون عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص من دعاة فكرة الوضوء الثلاثي الغسلي ، للأسباب التالية.

أولا : لملاءمة الغسل لنفسيته المتعمقة في الدين.

ثانيا : لتأثره ـ كبقية المتأثرين بأهل الكتاب وقصص اليهود ـ ، فقد مر قول الذهبي : (وأمعن النظر في كتبهم ، واعتنى بذلك).

ثالثا : عثوره على زاملتين من اليهود وحكايته عنها ، فربّما يكون الوضوء الثلاثي الغسلي قد أخذ منهم ، لعمل اليهود به ، فلا يستبعد أن يكون موجودا في الزاملتين كذلك.

منبهين على أنّ في كلام عائشة وبعض الصحابة أشد ممّا قلناه (١) ، وسيتضح

__________________

(١) انظر مقالنا المطبوع في تراثنا العددان ٥٥ و ٥٦ باسم (السنّة بعد الرسول) ص ٦٤ وما بعده.

٥٠٢

بعض آفاقه في نسبة الخبر إلى عثمان بن عفان.

وعليه فلا يستبعد أن يكون عثمان بن عفان وعبد اللّٰه بن عمرو بن العاص هما اللذان أخذا بالوضوء الثلاثي الغسلي من اليهود اجتهادا منهم بأنّه الأطهر والأنقى ، لعدم ثبوت الغسل عن رسول اللّٰه ـ لما تقدم ـ ، ولكون الروح الاجتهادية الموجودة عندهم قد تكون هي التي دعتهم لاتخاذ هكذا قرار في الوضوء.

والمتأمل فيما حكاه الأستاذ كرد علي من وضوء اليهود يقف على مسائل لم يتفق المسلمون عليها ، كلزوم الغسل على من لمس الحائض ، أو غسل المتوضئ يديه قبل الوضوء ، أو مسح الأذنين وغيرها ، وهذه المسائل موجودة اليوم في فقه بعض المذاهب الإسلامية ، وقد تكون قد دخلت من اليهود في الأحكام الشرعية ، واختلطت مع مسائل إسلامية أخرى فأخذت صورتها اليوم.

فإنّ تصريح ابن عبّاس بأنّه لا يجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح ثم مخالفته لنقل الربيع عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا ما نراه عن بعض التابعين وقوله : إنّ القرآن نزل بالمسح لكن السنّة جرت بالغسل ، كل هذه ترشدنا إلى وجود نهجين في الشريعة ، أحدهما يتعبد بالنصوص ـ قرآنية أم حديثية ـ والآخر يجتهد في معرفة الأحكام من عند نفسه.

هذا وإنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتخوف على أمته من شيوع هذه الروح الاجتهادية عندهم ، إذ كان يأمرهم مرارا بلزوم التعبد بأقواله ونصوصه ، ولو تأملت فيما قاله رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطاب لمّا أتاه بجوامع التوراة : والذي نفسي بيده لو أنّ موسى عليه‌السلام أصبح فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين.

ولفظة (وتركتموني لضللتم) تعني وبوضوح إنّ عدم الأخذ عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الابتعاد عن الدرب والطريقة المستقيمة ، لأنّ طاعة اللّٰه تتجلى في اتباع سنة نبيه وهو ما أمرنا به رب العالمين ، لا في اجتهادات الصحابة.

وإنّ اجتهادات الصحابة المخالفة لظهور القرآن يبعدنا عن سنة الرسول لا محالة.

ونحن قد وضحنا في كتابنا منع تدوين الحديث آفاق وجذور انقسام المسلمين إلى نهجين.

٥٠٣

١ ـ التعبد المحض

٢ ـ الرأي والاجتهاد

وأكدنا فيه بأنّ الفقه الحاكم كان يأخذ بالاجتهاد قبال النص بعكس التعبد المحض الذي لا يرتضي إلّا التحديث عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قام الوزير اليماني بدراسة تتبع فيها أحاديث معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ـ وهم من النهج الحاكم ـ توصل من خلالها إلى أنّ الأحاديث المروية عن هؤلاء وحدة مترابطة تصب في هدف محدد واحد.

وتلخص مما سبق : إنّ الوضوء الغسلي هو الأقرب إلى نفسية عبد اللّٰه ابن عمرو بن العاص وإن لم يصح إسنادها إليه ـ حسب ما قدمنا ـ طبق ضوابط المحدثين ، وإنّ المسح كان ممّا يعمل به عبد اللّٰه في عهد رسول اللّٰه لما حكاه عنه (كنا في غزوة فأرهقنا.)

وقد مر عليك قول الأعلام بأنّ هذا النص أدل على المسح من دلالتها على الغسل ، وبذلك فقد عرفنا أنّ المسح هو ما عمل به الصحابة على عهد رسول اللّٰه ومنهم عبد اللّٰه بن عمرو ، أمّا الغسل فهو أمر طارى‌ء حدث بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولظروف شرحناها مفصلا. وقد كانت للدولة الأموية يد في ذلك.

ولرب سائل يقول : إن اتحاد بعض الأحكام ـ بين اليهودية والإسلام ـ في الشريعة لا يعني اتخاذ هذه الأحكام منهم ، فقد تكون مشرّعة وممضاة من قبل الإسلام كذلك ، لعلمنا بأنّ الإسلام قد أقرّ أحكام كثيرة كانت في الأديان السابقة ، ومنها شريعة موسى عليه‌السلام ، فقد يكون الوضوء من تلك الأحكام الممضاة من قبل الشارع؟ وبعد هذا لا يجوز حصر الوضوء الغسلي باليهود ، إذ أنّه إسلامي كذلك ، لإمضاء اللّٰه ورسوله له؟

الجواب :

إنّ ما قلتموه صحيح ، لو ثبت صدور الغسل عن اللّٰه ورسوله ـ حسب القواعد العلميّة ـ لكنك قد عرفت سابقا بأنّ مرويات الغسل مرجوحة بالنسبة إلى مرويات المسح من جميع الجهات ، وسيأتي عليك في البحث القرآني بأنّ القرآن هو أدل على المسح من الغسل ، وعليه يكون المحفوظ عن الشرع هو المسح لا الغسل ، لكون

٥٠٤

أسانيد الغسل مغلوبة كما وكيفا حسب ما تقدم تفصيله.

هذه من جهة السند ، أمّا من جهة الدلالة فإنّ إصرار الصحابة الماسحين على المسح ونبذهم لمقولة الغسل ليوحى إلى ضياع معالم الدين ، فإنّ تباكي أنس بن مالك وقوله : ضيّعتم كل شي‌ء وحتى الصلاة ليؤكد هذه الحقيقة.

وعليه يسوغ للباحث الموضوعي المتعقل أن يحتمل احتمالا ـ بشكل لا يخلو من نحو اعتبار ـ وخصوصا حينما لم يقف على شرعية الغسل عن رسول اللّٰه أن يقول بأنّ الوضوء الغسلي لا يتفق مع تشريع اللّٰه ورسوله. لأنّ اعتراض حبر الأمة (ابن عباس) على الربيع ، وتخطئة خادم الرسول (أنس بن مالك) للحجاج ، واستدلال صهر الرسول وزوج بنته الإمام علي بالرأي ـ من باب الإلزام ـ وقوله (.. لكان باطن القدم أولى بالمسح من ظاهره) ليرشدنا إلى سقم الروايات الغسلية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل إنّ هذه الاعتراضات والأقوال تضعّف ما ادعاه البعض من إجماع الصحابة والتابعين على الغسل ، بل إنّها تؤكد صدور العكس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ ما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغسل قد كثر في عهد الأمويين بالذات ، وهذا ما نثبته بالأرقام في القسم الثاني من بحثنا الروائي.

نعم قد أجمعت المذاهب الأربعة على الغسل ، وأنت تعلم بأنّ إجماع هؤلاء لا يمكن أن يرجح على ما جاء عن عهد الصحابة وثبوت اختلافهم في الوضوء.

وإنّ الباحث المحقق يعرف بأنّ الغسل جاء لا حقا وتبعا لمواقف الخلفاء (الأمويين والعباسيين) وإنّ الناس أبو إلّا ذلك ، لقرب الغسل إلى الرأي والاستحسان.

وبعد هذا فلا يحق لنا ولا لغيرنا أن يدعي إجماع الأمة على الغسل أو المسح ـ أو القول بأنّ الغسل هو سنة رسول اللّٰه لا غير ـ لثبوت اختلاف الصحابة في ذلك ، ولمعرفته بعدم ثبوت الغسل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن جعل القائل المدعي دليلا هو مصادرة بالمطلوب حسب تعبير الأصوليين ، ولا يمكن قبوله والركون إليه لعدم ثبوته عندنا.

وعليه فيكون ما ادعيناه هو الأقرب إلى نفسية عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ـ وإن كانت روايات الغسل عنه ضعيفة سندا ـ وذلك لامتلاكه روحية الاجتهاد قبال النص ، وعثوره على زاملتين من اليهود ، وتحديثه بها ، ولما شرحناه من ملابسات أخرى في هذه الدراسة.

٥٠٥
٥٠٦

مناقشة مرويات الربيع بنت المعوذ بن عفراء

سندا ودلالة ونسبة

المناقشة السندية لخبرها

البحث الدلالي

نسبة الخبر إليها

٥٠٧
٥٠٨

أخرج أصحاب السنن والمسانيد أحاديث للربيع بنت المعوذ بن عفراء الأنصارية ، رواها عنها عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، والطرق إلى عبد اللّٰه كثيرة ، أهمها ما رواه سفيان بن عيينة ومعمر بن راشد ، وروح بن القاسم عنه.

الأسانيد

فأمّا ما رواه سفيان :

فقد أخرجه الحميدي في مسنده ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني عليّ بن الحسين إلى (الربيع بنت) المعوذ بن عفراء أسألها عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يتوضأ عندها ، فأتيتها فأخرجت إلىّ إناء يكون مدا أو مدّا وربع بمدّ بني هاشم ، فقالت : بهذا كنت أخرج لرسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله الوضوء فيبدأ فيغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلهما الإناء ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثا ثلاثا ، ويغسل وجهه ثلاثا ، ثمّ يغسل يديه ثلاثا ثلاثا ، ثمّ يمسح رأسه مقبلا ومدبرا ، ويغسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، قالت : وقد جاءني ابن عمتك (وفي نسخة : ابن عم لك) ، فسألني عنه فأخبرته ، فقال : ما علمنا في كتاب اللّٰه إلّا غسلتين ومسحتين ـ يعنى ابن عباس (١).

وفي مسند أحمد : قال عبد اللّٰه ، حدثني أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال حدثني عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ ابن عفراء ، فسألتها عن وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخرجت له ـ يعني إناء يكون مدّا أو نحو مدّ وربع ـ قال سفيان : كأنه يذهب إلى الهاشمي ـ قالت : كنت أخرج له الماء في هذا فيصب على يديه ثلاثا ، وقال مرة يغسل يديه قبل أن يدخلهما ، ويغسل وجهه

__________________

(١) مسند الحميدي ١ : ١٦٤.

٥٠٩

ثلاثا ، ويمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا ويغسل يده اليمنى ثلاثا واليسرى ثلاثا ويمسح برأسه ، وقال : مرّة أو مرتين مقبلا ومدبرا ، ثمّ يغسل رجليه ثلاثا ، وقد جاءني ابن عم لك فسألني ـ وهو ابن عباس ـ فأخبرته ، فقال لي : ما أجد في كتاب اللّٰه إلّا مسحتين وغسلتين (١).

وامّا ما رواه معمر

فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، عن الربيع ، أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله غسل قدميه ثلاثا ثمّ قالت لنا : إنّ ابن عباس قد دخل عليّ فسألني عن هذا (الحديث) فأخبرته ، فقال : يأبى الناس إلّا الغسل ، ونجد في كتاب اللّٰه المسح ـ يعني القدمين ـ (٢).

وامّا ما رواه روح بن القاسم

فقد أخرج ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، عن عبد اللّٰه ابن محمد بن عقيل ، عن الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، قالت : أتاني ابن عباس فسألني عن هذا الحديث ـ تعني حديثها الذي ذكرت أنها رأت النبي توضأ ، وأنّه غسل رجليه ـ قالت : فقال ابن عباس : أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح (٣)

المناقشة

رواة الطرق السابقة كلهم ثقات ، إلّا عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، فقد لينه بعض أهل العلم (٤) ، إلّا أنّهم لم يمسوه في أصل عدالته أو صدقه ، لأنّ تليينهم جاء لسوء

__________________

(١) مسند أحمد ٦ : ٣٥٨ وانظر السنن الكبرى للبيهقي كذلك ١ : ٧٢.

(٢) المصنف لعبد الرزاق بن همام ١ : ٢٢ ح ٦٥ وعنه في كنز العمال.

(٣) المصنف لابن أبي شيبة ١ : ٣٧ ح ٩٩ وعنه في كنز العمال.

(٤) ولنا في نسبة الخبر إلى الربيع بعض الكلام عن أمثال هذه التلينات ومدى حجيتها ، وأسبابها.

٥١٠

حفظه وقلّة ضبطه وإليك أهم أقوالهم فيه :

قال يعقوب : وابن عقيل صدوق ، وفي حديثه ضعف شديد جدا (١).

وقال أبو معمر القطيعي : كان ابن عيينة لا يحمد حفظه (٢).

وقال الحميدي عن سفيان : كان ابن عقيل في حفظه شي‌ء فكرهت أن ألقه (٣).

وقال أبو بكر بن خزيمة : لا احتج به لسوء حفظه (٤).

وقال الترمذي : صدوق ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل ، قال محمد بن إسماعيل : وهو مقارب الحديث (٥).

وقال أحمد بن عبد اللّٰه العجليّ : مدني تابعي جائز الحديث (٦).

وقال ابن حجر : حديثه ليّن ، ويقال : تغيّر بأخرة (٧).

وقال الحاكم : عمّر فساء حفظه ، فحدّث على التخمين ، وقال في موضع آخر : مستقيم الحديث (٨).

وقال أبو أحمد ابن عديّ روى عنه جماعة من المعروفين الثقات ، وهو خير من ابن سمعان ، ويكتب حديثه (٩).

وقال عمرو بن علي : سمعت يحيى وعبد الرحمن جميعا يحدّثان عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، والناس يختلفون فيه (١٠).

وقال الفسوي : صدوق ، في حديثه ضعف (١١).

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٢) الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٣) الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٤) الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٥) الجرح والتعديل ٥ : الترجمة ٧٠٦ ، تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(٦) تهذيب الكمال ١٦ : ٨٣ عن الثقات للعجلي الورقة ٣١.

(٧) تقريب التهذيب ١ : ٤٤٧.

(٨) تقريب التهذيب ٦ : ١٥.

(٩) الكامل في الضعفاء ٤ : ١٢٩.

(١٠) تهذيب الكمال ١٦ : ٨١.

(١١) سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٠٥.

٥١١

هذه هي أهمّ الأقوال الواردة فيه ، وقد رأيت أنّ علّة التليين لا تتعدّى سوء حفظه وإلّا فهو في نفسه ثقة صدوق ، وقد احتجّ به بعض أساطين العلم كأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن إبراهيم.

وعليه فقد اتضح من مجموع كلمات العلماء أنّ عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ممّن يتابع عليه ، وذلك لأنّه لم يجرح بما يمسّ بوثاقته وصدقه ، بل تليينه جاء لسوء حفظه ، وهذا الضعف قد يتدارك ـ بواسطة القرائن وغيرها ـ فترتقي مرويّاته من درجة الضعف إلى درجة الحسن ، وقد مرّ عليك (في مرويات عبد اللّٰه بن عباس المسحية) إسناد ابن ماجة عن الربيع الّذي حكم عليه بأنّه طريق حسن (١) ، وهذا يقتضي أنّ ما أسنده عبد الرزاق عن الربيع ـ وكذا البيهقي عنها هنا ـ حسن أيضا لاتّحاد العلّة في الجميع ، إذ أنّ جميع رواة هذه الأسانيد ـ سوى عبد اللّٰه ـ ثقات حفّاظ ، بل إنّ بعضهم أئمّة! وإليك القرائن الّتي يمكن بمجموعها أن ترقى هذه الأسانيد إلى درجة الحسن.

١ ـ روى هذا الحديث عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ثلاثة من إثبات أهل العلم.

فالأول : سفيان بن عيينة على ما في إسناد الحميدي والبيهقي و ..

والثاني : معمر بن راشد الأزدي ، على ما في إسناد عبد الرزاق.

والثالث : روح بن القاسم ، على ما في إسناد ابن ماجة وأبي بكر بن أبي شيبة ، والذي قال عنه الذهبي : قد وثقه الناس ، فرواية ثلاثة أعلام كهؤلاء عنه بمتون متّفقة بلا زيادة فيها ولا نقيصة ، لقرينة قويّة على صدور قول ابن عباس المتقدّم للربيع.

٢ ـ ظاهر كلام الترمذي هو الاحتجاج بما يرويه عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، لو اتفقت مروياته مع مرويات الثقات لأنّه كان قد صدّر باب (ما جاء في مسح الرأس مرّة) بما رواه محمد بن عجلان ـ الضعيف ـ عن عبد اللّٰه ابن عقيل عن الربيع ، وقال بعد ذلك : «والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم» ، ومعنى كلامه هو احتجاجه بمرويّات

__________________

(١) انظر ص : من هذا المجلد.

٥١٢

الضعفاء لو وافقت ما رواه الثقات ، أي أنّ هذه الروايات تكون حسنة بغيرها. فلو كانت رواية ابن عجلان عن عبد اللّٰه بن عقيل معتبرة ـ بنص الترمذي ـ مع أنّ فيها ابن عجلان الضعيف ، فهذه الرواية أولى بالعمل لكون الجرح هنا في عبد اللّٰه وحده.

٣ ـ إنّ الّذي رواه عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل في هذه الأسانيد عن ابن عباس هو الأقرب للواقع ، لموافقته للروايات الصحيحة المسحية عن ابن عباس ولأقوال العلماء الجازمة بأنّ مذهب ابن عباس هو المسح على القدمين لا غير والّذي مرّ عليك في مرويات عبد اللّٰه بن عباس المسحيّة.

نعم ، إنّهم يطلقون على روايات ابن عقيل وجابر الجعفي وأمثالهم أنّها منكرة ، لكي لا يأخذ الناس بها ، وسيتضح لك من بحوثنا إنّ النكارة عند القوم على أقسام ، وهي هنا غير النكارة الحقيقية ، فالنكارة عندهم ـ في بعض صورة ـ هي رواية شي‌ء لا يرتضونه ، وليس معناه عدم صحة تلك الروايات ، إذ إنّك ستلاحظ وجود متابعات وشواهد كثيره تدل على صحة تلك الأخبار المدعاة فيها النكارة ، وفي نسبة الخبر إلى الربيع إشارة إجمالية إلى جذور هذه المسألة ودواعي هكذا نسب.

البحث الدلالي

إنّ قول ابن عباس للربيع بنت المعوذ (أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب اللّٰه إلا المسح) يوقفنا على أمور :

الاولى : وقوع هذا القول منه لها ما بين سنة ٤٠ إلى ٦٠ للهجرة ، لأنّ قوله «أبى الناس» لا يحصل إلّا بعد شيوع هذا الوضوء بينهم ، وهذا لم يحصل إلّا في الزمن المتأخر ، لأنّا قد وضحنا سابقا ـ في مدخل الدراسة ـ عدم اختلاف الأمة في الوضوء على عهد الرسول والشيخين ، وأنّ الخلاف قد ظهر في عهد عثمان بن عفان بالخصوص ، ورجّحنا فيه كون عثمان من الماسحين ـ في الست الأوائل من عهده ـ وأنّ قوله (إنّ ناسا) المطروح في صدر الدراسة كان المنعطف في هذا الأمر ، لأنّ الأمة كانت لا ترضى به ولا بوضوئه ، بل أدى اختلافهم معه إلى إباحة دمه وقتله ، فلا يصح أن يكون ـ إباء الناس إلا الغسل!! ـ في تلك الفترة من تاريخ الإسلام ، بل إنّ هذا التضاد بين الخليفة عثمان والأمة هو الذي دعاه أن يشهد بعض الصحابة على

٥١٣

وضوئه ويحمد اللّٰه على موافقتهم له.

إذا يكون اللقاء الأوّل بينها وبين الطالبيين ، هو ما دار بين ابن عباس والربيع في سنة ٤٠ إلى ٦٠ ، وقد حددنا الخبر بهذه الفترة لوجود حالة الانفتاح واللين بين الصحابة ـ في عهد معاوية ـ ولاضطهاد ابن عباس في الزمن المتأخر ـ وبعد مقتل الحسين بالذات ـ وتخلية عن الإفتاء.

أمّا اللقاء الثاني فكان بين الربيع وعبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ـ بعد مقتل الإمام الحسين ـ لأنّ إرسال على بن الحسين ابن عمه عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل لا يمكن تطبيقه إلّا في هذه الفترة ، لأنّ عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل كان قد توفي سنة ١٤٥ وهو من الطبقة الرابعة من التابعين ، وعلى بن الحسين توفي سنة ٩٢ وهو من الطبقة الثانية ، فلا يتصور ولادة عبد اللّٰه إلّا في العهد الأموي ، كان هذا بعض الشي‌ء عن تاريخ النص والاسرار الكامنة فيه.

الثانية : إنّ ما نقلته الربيع عن ابن عباس وقوله (أبى الناس إلا الغسل) يفهمنا بأنّه كان يريد من كلامه الاستدلال بثلاثة أشياء على شرعية المسح :

الأول : استدلاله بالقرآن وأنّه لم يجد فيه غير المسح.

الثاني : استدلاله بالسنة النبوية ، وينتزع ذلك من رفضه لنقل الربيع واعتراضه عليها ، وهذا يفهم بأنّه كان لا يقبل نقلها ، حيث لم يرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد فعل ذلك ، وهو الذي بات عنده وصلى معه ورأى وضوءه وشمله دعاؤه.

الثالث : استدلاله بالرأي إلزاما منه لهم فقوله : «ألا ترى سقوط التيمم في الرأس والرجلين» يفهم بأنّه كان يريد أن يلزمهم بما الزموا به أنفسهم!

الثالثة : إنّ النص السابق ـ وغيره ـ يرشدنا إلى تخالف الطالبيين مع الربيع والنهج الحاكم في الوضوء ، لأنّ إرسال على بن الحسين عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، إلى الربيع ، ومجي‌ء عبد اللّٰه بن عباس وعبد اللّٰه بن محمد بن عقيل إليها ، لا يعني أنّهم جاءوا ليأخذوا الوضوء عنها ، بل يرشدنا إلى أنّ موقفهم كان اعتراضي ، ومعناه أنهم لم يأتوها مستفهمين بل مستنكرين؟! إذ لا يعقل أنّ لا يعرف ابن عباس حكم الوضوء وهو الذي بات عنده وصلى معه.

أو أن لا يعرف علي بن الحسين وضوئه حتى يرسل ابن عمه ليسئل الربيع عنه

٥١٤

ـ وهو بذاك العمر وهو من أئمة المسلمين وفقهاء أهل البيت.

وكذا الحال بالنسبة إلى عبد اللّٰه فلا يعقل أن لا يعرف الوضوء وهو من أهل بيت الرسول وهو ابن زينب الصغرى وخاله محمد بن الحنفية وابن عمه السجاد.

الرابعة : إنّ نص الربيع وما نقلته عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله

في مسح الرأس مقبلا ومدبرا لم يرد إلّا في رواية عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم ومعاوية ، ونحن قد تكلمنا عن ملابسات هذا الخبر وكيفية نسبته إلى عبد اللّٰه حين مناقشتنا لمروياته واحتملنا أن يكون الغسل منسوب إليه ، لكونه من مغموري الصحابة وأنّ الخلفاء كانوا يحتاجون إلى أنصاري يروى لهم الوضوء فوقع اختيارهم عليه ، وهذا الاحتمال لا يستبعد طرحه هنا كذلك ، لأنّ الربيع لم تكن بتلك المرأة المعروفة في تاريخ الإسلام وهي أنصارية فلا يستبعد أن يكونوا قد ـ نسبوا لها هذا ، أو أنّهم ـ اقنعوها بأنّ الغسل سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فنقلت الخبر اجتهادا من عند نفسها لكن بصورة الحس والمشاهدة ، أو أنّها اجتهدت فيما رأته عن الرسول وتصورت أنّ ما فعله كان على نحو السنة ، لأنّ ما حكته ينقض بعضه بعضا ، وإنا سنوضح سقم رأيها بعد قليل في نسبة الخبر إليها.

الخامسة : إنّ نصوص الربيع في الوضوء عن رسول اللّٰه تخالف ما اشتهر عنه فيه ، فإنها قد روت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه مسح رأسه ما اقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة ، وجاء عن بقية الصحابة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح رأسه ثلاثا ، وجاء عنها ـ في سنن ابن ماجة ـ قولها : توضأ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فمسح رأسه مرتين (١) ، وهذا يخالف ما جاء عن عثمان وعلي وسلمة بن الأكوع بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح رأسه مرة (٢).

وقد جاء في الجامع للترمذي عنها أنّ رسول اللّٰه بدأ بمؤخر رأسه ثمّ بمقدمه ، كلتيهما ظهورهما وبطونهما.

وهذا يخالف ما جاء عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم حيث قال : بدأ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقدم رأسه ثمّ ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدء منه.

وفي سنن الدار قطني : قال العباس : هذه المرأة (ويعنى بها الربيع) حدثت عن

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٠ ح ٤٣٨.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٠ ح ٤٣٥ ، ٤٣٦ ، ٤٣٧.

٥١٥

النبي أنّه بدأ بالوجه قبل المضمضة والاستنشاق ، وقد حدّث أهل بدر منهم عثمان وعلي رضي اللّٰه عنهما أنّه بدأ بالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه والناس عليه (١).

وهناك مقاطع أخرى في خبرها تخالف به نقولات الصحابة.

فبأي النقولات نأخذ وما هي سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ نترك ذلك للقاري كي يحكم فيه؟.

__________________

(١) الدار قطني ١ : ٩٦ ح ٥.

٥١٦

نسبة الخبر إليها

نحن كنا قد آلينا على أنفسنا ـ من أوّل الدراسة إلى هنا ـ الإشارة إلى بعض بحوثنا التأسيسية على سبيل الإجمال حين تفتقر الحاجة إليها ، وذلك لاعتقادنا بافتقار هكذا دراسات لمثلها ، لأنّ في دراسة ملابسات التشريع والمؤثرات التي أدّت إلى اختلاف المسلمين العطاء الفكري الكثير ، لكونه يوقفنا على العلل والأسباب ويفهمنا بواقع الاختلاف وجذوره وظروفه الحقيقية والموضوعية.

فنحن قد بيّنا أولا في نسبة الخبر إلى ابن عباس ظاهرة اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ، ثمّ اعقبناه ببيان معالم الرّي والاجتهاد في الأحكام الشرعية ودور القرشيين في هذا التحريف ـ في نسبة الخبر إلى علي بن أبي طالب ـ ثمّ أشرنا في نسبة الخبر إلى عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم إلى تخالف الأنصار مع القرشيين في الفقه والخلافة ، والآن مع بيان ظاهرة أخرى في هذا المضمار ، هي فاشية عند أئمة الجرح ، فإنّهم بعد أنّ عدّوا التشيع والنصب من الجروح ، نراهم يعدلون عن هذا في أغلب الأحيان ، فيأخذون جانبا ويذرون الآخر منه ، فمثلا نراهم يعدّلون قتلة علي وعمار و .. في حين يجرحون من روى في مثالب معاوية و ..!!

وهكذا الحال بالنسبة لرواة الفضائل ، فهم يجرحون رواة فضائل علي (١) ، ويعتبرون محبة غيره تعديلا (٢).

وهذا إن دلّ على شي‌ء فهو أدل على امتداد الاتجاهين في علم الرجال كذلك.

وإنّك لو راجعت البخاري مثلا لرأيته قد تجنب الأخذ عن جعفر الصادق ،

__________________

(١) كما مرّ عليك في ترجمة عبد الرزاق بن همّام وغيره ، انظر الأبواب الثلاث الأوّل من كتاب «العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل» لمحمد بن عقيل ، فقيه أسماء من جرحوهم من أهل البيت وبعض محبيهم وشيعتهم.

(٢) كما سيأتي عليك فيما قالوه عن بعض محبي معاوية ، وللمزيد انظر الأبواب الثلاث الأخيرة من كتاب «العتب الجميل» ففيه تعديلهم لأعداء أهل البيت والفساق!!

٥١٧

ومثله الحال بالنسبة إلى الإمام مالك ، فإنّه كان لا يروي عن الصادق حتى يضمه إلى آخر (١) ، وقال ابن سعد : كان كثير الحديث ، ولا يحتج به ويستضعف (٢).

في حين نراهما ينقلان عن بعض النواصب ومخالفي الإمام علي بالخصوص!! ،.

وقد عاتب العلامة أبو بكر بن شهاب ، البخاري لعدم روايته عن الصادق بقوله :

قضية أشبه بالمرزئة

هذا البخاري إمام الفئة

بالصادق الصديق ما احتج في

صحيحة واحتج بالمرجئة

ومثل عمران بن حطان أو

مروان وابن المرأة المخطئة

مشكلة ذات عوار إلى

حيرة أرباب النّهى ملجئة

وحقّ بيت يمّمته الورى

مغذّة في السير أو مبطئة

إنّ الإمام الصادق المجتبى

بفضله الآي أتت منبئة

أجلّ من في عصره رتبة

لم يقترف في عمره سيئة

قلامة من ظفر إبهامه

تعدل من مثل البخاري مائة

وقال الذهبي عنه : برّ صادق ، كبير الشأن ، لم يحتج به البخاري (٣).

قال علي بن المديني : سئل يحيى بن سعيد القطان عن الصادق فقال : في نفسي منه شي‌ء ومجالد أحب اليّ منه (٤).

فلا عجب بعد هذا أن يقدّم القطان مجالدا على الصادق ، ومجالد هو الذي قال عنه النسائي في الضعفاء والمتروكين : ضعيف (٥) ، وابن معين : لا يحتج به (٦) ، وأحمد

__________________

(١) هذا ما نقله مصعب عنه ، انظر تهذيب الكمال ٥ : ٧٦ تهذيب التهذيب ٢ : ١٥٦.

(٢) حكاه ابن حجر عنه في تهذيب التهذيب ٢ : ١٠٤.

(٣) ميزان الاعتدال ١ : ٤١٤ ترجمة ١٥١٩ ، تذكرة الحفاظ ١ : ١٦٦ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٥٥.

(٤) تهذيب التهذيب ٢ : ١٠٤.

(٥) الضعفاء والمتروكين : ٢١٣ الترجمة ٥٥٢.

(٦) ميزان الاعتدال ١ : ٤١٤ ، تاريخ الإسلام لعام ١٤١ ـ ١٦١ ص ٢٨٨. تهذيب التهذيب ٢ : ١٥٦ ، تهذيب الكمال ٢٧ : ٢١٩.

٥١٨

ابن حنبل : ليس بشي‌ء ، يرفع كثيرا مما لا يرفعه الناس (١).

وقال البخاري : كان يحيي بن سعيد يضعفه وكان ابن مهدي لا يروى عنه وكان ابن حنبل لا يراه شيئا ، يقول ليس بشي‌ء (٢).

وقال عمرو بن علي : سمعت يحيى بن سعيد يقول : .. ولو شئت أن يحملها لي مجالد كلها عن الشعبي عن سروق عن عبد اللّٰه فعل (٣).

وقد عاتب العلامة صارم الدين الوزير ـ من الزيدية ـ يحيى بن سعيد القطان بقوله :

رام يحيى بن سعيد

لك يا جعفر وصما

واتى فيك يقول

ترك الاسماع صمّا (٤)

فلا عجب بعد هذا أن يفعلوا هكذا مع أهل بيت النبوة إذ أنها كانت نتيجة طبيعية لسلسلة الأحداث التي مر بها تاريخ الإسلام ، ابتداء من سن لعن علي بن أبي طالب على المنابر ، ومرورا بسم الحسن وقتل الحسين ، حتى وصل الأمر إلى ترك الأخذ عن الصادق بحجة أنّه يروي مرسلا!! وللشيخ محمد أبو زهرة كلام جميل في الإمام الصادق قال فيه : ومن الغريب أننا نجد بجوار هؤلاء من محدثي القرن الثالث من يشكك في رواية الإمام الصادق ـ عترة النبي ـ ويتكلم في الثقة في حديثه (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلّٰا كَذِباً) ولكن التعصب المذهبي يعمي ويصم وليس في قول المغالين ولا في قول المشككين ما ينقص من مقام الإمام الصادق الجليل ، فلم ينقص من مقام جده علي بن أبي طالب كرم اللّٰه وجهه كذب الكذابين عليه ، كما لم يضر عيسى بن مريم عليه‌السلام افتراء المفترين عليه ، ما بين منكر لرسالته ومدع لألوهيته) (٥).

نعم إنهم قالوا في النسائي : أنّه آذى نفسه بكلامه في أحمد بن صالح المصري (٦)

__________________

(١) تهذيب الكمال ٢٧ : ٢٢٢.

(٢) تهذيب الكمال ٢٧ : ٢٢٢.

(٣) تهذيب الكمال ٢٧ : ٢٢٢.

(٤) انظر الفلك الدوار : ٤٢ وعنه في الرواة والشهود للدكتور المحطوري : ٢١٤.

(٥) الإمام الصادق ، لأبي زهرة : ٣٩.

(٦) ميزان الاعتدال ١ : ١٠٣ الترجمة ٤٠٦.

٥١٩

ولم يقولوا في يحيى بن سعيد القطان أنّه أذى نفسه بكلامه في الإمام الصادق!! ولم نرى يحيى بن معين ـ وهو إمام الجرح والتعديل ـ يقول في حريز بن عثمان والجوزجاني ـ وهم من النواصب ـ ما قاله في جارح أحمد بن حنبل : «ما أحوجه إلى أن يضرب ، وشتمه (١)»!! بل نراه يلين الشافعي لأمور واهية (٢) ، بل أنه لين بعضا لعدم روايته في فضائل معاوية وجرح آخر لروايته في فضائل علي؟!! وغيرها من النصوص الدالة على تخالف النهجين في الرجال كذلك! فقد نقل عن ابن معين أنّه سمع الإمام أبي الأزهر ـ الذي قال فيه الذهبي ـ : ثقة بلاد تردد ، يحدث عن عبد الرزاق الصنعاني حديثا في علي.

قال : من هذا الكذاب النيسابوري الذي حدّث بهذا عن عبد الرزاق؟ فقام أبو الأزهر ، فقال : هو ذا أنا ، فتبسم يحيى بن معين وقال : امّا أنك لست بكذاب ، وتعجب من سلامته ، وقال : الذنب لغيرك فيه (٣) يا ترى لما ذا صنع يحيى بن معين هكذا؟

نعم ، أنهم تكلموا في أحمد بن الأزهر النيسابوري لروايته عن عبد الرزاق عن معمر حديثا في فضائل علي ـ وحسب ادعاء بعضهم ـ يشهد القلب بأنه باطل ، والحديث ـ المعهود هو ـ عن معمر عن الزهري عن عبد اللّٰه بن عباس قال : نظر النبي إلى علي ، فقال : أنت سيد في الدنيا ، سيد في الآخرة ، حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب اللّٰه ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو اللّٰه ، فالويل لمن أبغضك (٤) فقد تكلموا في عبد الرزاق لروايته هذا الحديث الذي له شواهد ومتابعات كثيرة عليه.

فبما يمكننا أن نفسر هذه الظاهرة عند الرجاليين لو لم يصح ما قلناه.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٧٩ ـ ٨٢ ، وكذا في ميزان الاعتدال.

(٢) انظر هامش تهذيب الكمال ٢٤ : ٣٨٠.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٦٦ ، تهذيب الكمال ١ : ٢٦٠.

(٤) المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٨ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٣٣ ، تهذيب التهذيب ١ : ١١ ـ ١٣ ، تاريخ بغداد ٤ : ٤١.

٥٢٠