وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

اعتبارا ـ بالنظر البدوي ـ وهي معارضة بما روي عنه في المسح فقد رأينا من الضروري بيان وجه التعارض بينهما وكيفية الجمع ـ إن أمكن ـ فنقول :

من الطبيعي نكران ثبوت الغسل والمسح عن علي معا ، وذلك لإيماننا بأنّ حكم الأرجل هو تعييني لا تخييري وقد وقفت سابقا على نصوص الصحابة والتابعين واختلافهم في الوضوء بين غاسل وماسح.

وإنّ قبولنا بصدورهما عنه عليه‌السلام يلزمنا قبول كونه مخطئا في أحد الفعلين ـ الغسل أو المسح ـ ومترددا في أحدهما ، وكلاهما بعيد ، لأنّ ما روي عن علي في الوضوء ـ سواء في الغسل أو المسح ـ إنّما كان في الكوفة وفي خصوص رحبتها وأيام خلافته ، وبعد صلاة الغداة ، والعادة تقتضي باستحالة صدور كلا الفعلين عن شخص كعلي الذي هو أول الناس إسلاما وأسبقهم إيمانا وصلاة مع رسول اللّٰه وأشدهم قربا وقرابة له ، في واقعة واحدة.

بل كيف لا يعرف علي الوضوء الصحيح لمدة تقرب من ثلاثين سنة؟ وهو الذي قال فيه رسول اللّٰه (إنّه أذن واعية)؟

بل كيف يفعلهما معا في حين نعلم أنّ حكم الوضوء تعييني لا تخييري؟

نعم هناك من قال بلزوم الجمع بين الغسل والمسح احتياطا ، أو الأخذ بأحدهما تخييرا ، إلّا أنّه شذوذ من القول لم يعتد به أهل الإسلام كما وضحناه.

فإذا فهمت ذلك فاعلم :

أنّ الأسانيد الغسليّة عن علي تتوجه عليها عدة إشكالات لا يمكن الإجابة عنها أهمها : أنها مرجوحة سندا. بخلاف الأسانيد المسحيّة التي هي راجحة والتي لا يتوجه عليها إشكال محكم.

وكذلك فإنّ المرويات الغسليّة يلاحظ ـ مع الدقة ـ أنّها مضطربة في متونها.

بخلاف المسحيّة التي هي صريحة الدلالة والمعنى فيه.

ولما كان أهم سند روي عن علي في الغسل هو ما رواه خالد بن علقمة عن عبد خير. وهو معارض لما روي عنه في المسح فكان لا بد من بيان ما هو الأرجح من المقام ، فنقول

٢٨١

إنّ ما رواه خالد بن علقمة عن عبد خير في الغسل مرجوح بالنسبة لما رواه السدّي وابن عبد خير عنه ، وواضح أن رواية اثنين نفس المتن بلا زيادة أو نقيصة أولى بالحفظ والقول بالرجحانيّة من رواية واحد.

أضف إلى ذلك فإن رواية عبد خير نفسها في المسح مؤيدة ومعضدة بما رواه النزّال بن سبرة عن علي في المسح والتي هي على شرط البخاري كما سيأتي تفصيله قريبا.

مع إنك قد عرفت أنّ ما روي عن خالد بن علقمة إنما كان بواسطة الحلواني الخلّال ، والخلّال هذا مما يتوقف في مروياته حسب ما تقدم.

ولعلك تقول :

إنّ ما رواه خالد بن علقمة عن عبد خير مما يتابع عليه برواية عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن علي وبما رواه أبو إسحاق السبيعي عن عبد خير وبما رواه غيرهما عن علي.

فان قيل هكذا قلنا : لم تصنع شيئا ، لأن ما روي عن علي في المسح ـ حتى لو تناسينا أنه أرجح سندا وأوضح دلالة ـ فهو مما يتابع عليه أيضا بأبي إسحاق السبيعي عن عبد خير عن علي وبحبة العرني وبغيرهما هذا شي‌ء.

والشي‌ء الآخر وهو الأهم : هو أننا لم نعثر على رواية غسلية عن علي يمكن الوقوف عندها إلّا ما رواه الخلّال بسنده عن خالد بن علقمة عن عبد خير ، وهي مما يتوقف فيها ويتأمل عندها كما علمت.

وهذا بخلاف ما روي عن علي في المسح ، فهناك أكثر من إسناد صحيح فيه ، وإنّ بعضها على شرط البخاري.

فعلى أيّ الأحوال تبقى أسانيد الغسل مرجوحة أمام أسانيد المسح بلا كلام حسب القواعد العلميّة.

فإذا كانت رواية خالد بن علقمة مرجوحة سندا صارت شاذة في مقابل ما روي عن عبد خير بواسطة ابن عبد خير والسدّي عنه وفي مقابل ما رواه النزّال بن سبرة عن علي بن أبي طالب بأسانيد فيها كل مشروط الصحيح بل بعضها على شرط

٢٨٢

البخاري.

وإذا صارت شاذة أو منكرة سقطت حجيتها كما هو مقرر في محله ، وبخاصة لو لاحظنا مجموع الأسباب التالية :

١ ـ أنّ خالد بن علقمة لم يعرف عنه بل لا توجد له رواية في كل كتب الإسلام المعتمدة إلا عن عبد خير عن علي.

٢ ـ إنّ خالد بن علقمة لم يرو عن عبد خير ـ في الأحكام الشرعية ـ إلّا في بضع عشر رواية كلها في خصوص الوضوء الغسلي عن علي وفي فترة خلافته في رحبة الكوفة بعد الصلاة وهي صلاة الغداء على التعيين كما هو صريح رواية المزي. (١)

وهذا يعني أن خالد بن علقمة لم يرو إلّا رواية واحدة طيلة حياته وتختص بحادثة فريدة.

٣ ـ إنّ الشيخان (البخاري ومسلم) لم يحتجا به في صحيحهما بل لم يرويا له ولا رواية واحدة ، مع أنّ الصناعة تقتضي ـ من باب الأكمل الأولى ـ أن يذكر ما رواه خالد في صدر باب الوضوء البياني لما في علي من خصائص القرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي لم تتوفر لغيره من الصحابة.

فإن قلت : من المسلم إنّ عدم إخراج الشيخين لراو لا يقتضي الطعن فيه ، فما أكثر الرواة الإثبات الثقات ممن لم يخرج لهم الشيخان شيئا.

ومن المسلم أيضا إنّ عدم إخراج الشيخين لرواية لا يلزم منه عدم صحتها.

قلنا : صحيح ما قلتموه ، ولكن الذي دعانا إلى هذا القول هو أن الحافظ ابن حجر قال عنه بأنه صدوق (٢). مع أنّ مقتضى الصناعة أن يكون ثقة ، لأنّه ممن وثقه النسائي وابن معين. وقال أبو حاتم : شيخ ، ومعلوم أنّ قول أبي حاتم لا يعارض توثيق ابن معين والنسائي. فاذن عدول ابن حجر عن توثيقه إلى مرتبة المدح الذي هو دون الوثاقة يشعر بأن هناك سبب قادح في عده من الثقات المحتج فيهم. فانتبه لذلك جيدا.

والحاصل : فإنّ ما رواه خالد بن علقمة عن عبد خير في الغسل أحسن ما يقال

__________________

(١) رواها المزي بإسناده إلى خالد بن علقمة في تهذيب الكمال ٨ : ١٣٥.

(٢) تقريب التهذيب ١ : ٢١٦.

٢٨٣

فيه أنه شاذ أو منكر في مقابل ما رواه السدّي وابن عبد خير عن عبد خير في المسح الذي هو مستفيض في حقيقته.

ولأجل ذلك كله رأينا لا مناص من أن نفسّر سبب صدور ما روي عن خالد بن علقمة عن عبد خير في الغسل ، وفي المقام عدة احتمالات :

الاحتمال الأول :

أن يكون ما روي عن خالد بن علقمة عن عبد خير في الغسل ، خطأ وصوابه أنّه مروي عن أبي حية الوادعي الهمداني عن علي ، إلّا أنّ الرواة توهموا أنّه خالد بن علقمة ، لاشتراكهم في الكنية وكونهم من همدان.

ومما يؤيد هذا الاحتمال أنّ كل من خالد بن علقمة وأبي حية ليست لهما في كتب الحديث ـ مما روي في الأحكام ـ إلّا رواية الوضوء الغسلي عن علي.

وكذلك فان خالد بن علقمة وادعي همداني وكنيته أبو حية أيضا حسب ما قلناه ، وهو يوافق أبي حية الوادعي الهمداني راوي الوضوء الغسلي عن علي بن أبي طالب.

وعليه فقد يكون منشأ التوهم هو ما احتملناه ، وذلك لاشتراك أبي حية الوادعي مع كنية خالد بن علقمة وإنّ هكذا التباس له كمال الأثر في اختلاط الأسانيد ، وهو متضح لأهل الفن والتحقيق.

الاحتمال الثاني :

أن يكون خالد بن علقمة مصحف عن مالك بن عرفطة في خبري (أبي عوانة ، وزائدة) وأن شعبة جاء ليصحح لأبي عوانة خطاه ، وذلك لما رواه أبو داود ، قال ، : قال أبو عوانة يوما : حدثنا مالك بن عرفطة عن عبد خير ، فقال له عمرو الاعصف : رحمك اللّٰه يا أبا عوانة ، هذا خالد بن علقمة ، ولكن شعبة مخطئ فيه ، فقال أبو عوانة : هو في كتابي (خالد بن علقمة) ولكن قال لي شعبة : هو مالك بن عرفطة.

وقال أبو داود : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن مالك بن عرفطة ، قال أبو داود : سماعه قديم.

قال أبو داود : حدثنا أبو كامل ، قال حدثنا أبو عوانة عن

٢٨٤

خالد بن علقمة ، وسماعه متأخر (١).

وهذا النص قد يكون ظاهرا في أنّ أبا عوانة لم يسمع ما تقدم من مالك بن عرفطة أو خالد بن علقمة مباشرة مع إنّه كان معاصرا لهما وأنّ ما رواه عن خالد بن علقمة كما في الإسنادين الأول والثاني من مرويات عبد خير الغسليّة قد يكون موجود في كتابه وقد يكون أتى به متوهما أنّه هو الصحيح وحسب قول أبي داود (حدثنا أبو عوانة عن خالد بن علقمة وسماعه متأخر).

وعليه فيكون قول أبي عوانة ، قال لي شعبة : هو مالك بن عرفطة جاء للتصحيح لا التحديث إذ لو كان نقل شعبة جاء للتحديث لقال أبو عوانة : هكذا حدثني به شبعة ، لانه لو كان مطمئنا بنقله ومتثبتا لما استسلم لكل من يصحح له ، وهو يرشدنا إلى أنّ ما يرويه أبو عوانة لا يمكن الاعتماد عليه بشكل عام وبخاصة فيما نحن فيه من دون دليل يدل على كونه متقن الرواية فيما يرويه.

ويمكن تعميم هذا الاحتمال إلى خبر زائدة كذلك ، والذي رواه الحسن بن علي الخلال عن الحسين بن علي بن عن زائدة عن خالد بن علقمة عن عبد خير ، فقد يكون قد تابع من سبقه عن هذا الخطإ ، فرواه بسندهم عن خالد بن علقمة دون بحث وتمحيص مع أنّ الصواب فيه هو مالك بن عرفطة حسب ما مر عليك في كلام شعبة لأبي عوانة.

فان تخطئة شعبة ، لأبي عوانة ـ يشعر بأن أبي عوانة قد سمع الحديث من ذلك البعض على أنّه خالد ، وحينما اطلع شعبة على نقلهم له جاء ليصحح له بأنه مالك بن عرفطة لا خالد بن علقمة ، فقد يكون الخلال أيضا قد تابع الأعلام على خطئهم ويؤيد هذا الاحتمال هو ما عرفناه سابقا عن الخلال وأنّه مما يتأمل في مروياته ، فلا يستبعد أن يتابع غيره على هذا الخطأ.

الاحتمال الثالث :

أن ما روي عن خالد بن علقمة عن عبد خير في الغسل معلول متنا.

__________________

(١) انظر هامش تهذيب الكمال ٨ : ١٣٥.

٢٨٥

وهو أن الرواة أخطأوا في الرواية عن عبد خير وأبي حية ، فرووا عنهما بالمعنى فاختلط لفظ الحديث فحسبوا توهما ما كان مجملا مبينا ، وتوهموا أيضا ما كان مختصا بعضو أنه يجري على جميع الأعضاء ويؤيد هذا الاحتمال وجود هذه الروايات المجملة :

١ ـ قال النسائي : أخبرنا موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي أنه دعا بوضوء فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى ففعل هذا ثلاثا ثمّ قال : هذا طهور نبيكم (١).

٢ ـ قال بن حاجة : حدثنا أبو بكر بن شيبة. حدثنا شريك عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي أن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد (٢).

٣ ـ قال عبد اللّٰه بن احمد بن حنبل : حدثنا محمد بن عبد اللّٰه ابن عمار. حدثنا القاسم الجرمي عن سفيان عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ ثلاثا ثلاثا (٣).

٤ ـ قال الدارمي : أخبرنا أبو الوليد الطيالسي. حدثنا زائدة.

حدثنا خالد بن علقمة الهمداني حدثني عبد خير ، قال : دخل علي الرحية بعد ما صلى الفجر ، قال : فجلس في الرحبة ثمّ قال لغلام له : ائتني بطهور ، قال : فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست ، قال عبد خير ونحن جلوس ننظر اليه ، فأدخل يده اليمنى فملأ فمه فمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى ، فعل هذا ثلاث مرات ثمّ قال : من سره أن ينظر إلى طهور رسول اللّٰه فهذا طهوره (٤).

__________________

(١) سنن النسائي ١ : ٦٧ باب بأي اليدين يستنثر.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ١٤٢ ح ٤٠٤ باب المضمضة والاستنشاق من كف واحد.

(٣) مسند أحمد ١ : ١١٥ مسند علي.

(٤) سنن الدارمي ١ : ١٧٨ باب المضمضة.

٢٨٦

٥ ـ وقال الدارمي أيضا : أخبرنا أبو نعيم. حدثنا حسن بن عقبة المرادي أخبرني عبد خير بإسناده نحوه (١).

٦ ـ روى عبد اللّٰه بن احمد بن حنبل عن أبي إسحاق عن أبي حية ، قال : قال علي من سره أن ينظر إلى وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلينظر اليّ ، قال : فتوضأ ثلاثا ثلاثا ثمّ مسح برأسه (٢).

ولا يخفى عليك أنّ الأسانيد هنا إلى خالد بن علقمة أقوى اتصالا وامتن طريقا بخلاف الأسانيد إليه في تلكم المرويات في الوضوء البياني الغسلي المفصل عن علي.

وهذا أمر واضح لأهل الخبرة.

والذي نريد قوله هنا : هو أن الرواة كانوا لا يرون ضيرا في أن يرووا بالمعنى وأن لا يتحددوا بلفظ الرواية الخاص.

وفيما نحن فيه فإنه روي عن علي أنه حكى تارة وضوء رسول اللّٰه وتارة طهوره.

وتارة روى عنه أنه ذكر وضوء رسول اللّٰه ثلاثا ثلاثا ، وأنت ترى أن المقصود من الجميع هو المضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلاثا ثلاثا ، وهذا لا خلاف بين المسلمين في استحبابه ، الا أن الكلام يقع حول التثليث ، إذ واضح من هذه الروايات أنّ التثليث المروي عن علي انما هو في خصوص الاستنشاق والاستنثار والمضمضة ، فتوهم الرواة فيما بعد أن هذا التثليث سار على جميع أعضاء الوضوء ويؤيد ذلك ما تقدم من رواية رقم (٦) إذا فيها أن أبا حية قال : فتوضأ علي ثلاثا ثلاثا ثمّ مسح برأسه ، ومعلوم أن «ثمّ» هنا تفيد معنى التعقيب والتراخي ، بمعنى أن مسح الرأس شي‌ء لا علاقة له بالوضوء الذي يقصده أبو حية ، فإنه لا يقصد من الوضوء إلا المضمضة والاستنشاق والاستنثار ..

على أننا ننبهك بأننا لا نريد الاستدلال بهذه الرواية على شي‌ء سوى أن الرواة قد يصطلحون على بعض أفعال الوضوء ولو كانت مستحبة بأنها وضوء وهذا يمكن الاستدلال عليه برواية أبي حية هذه كما هو واضح.

__________________

(١) سنن الدارمي ١ : ١٧٨ باب المضمضة.

(٢) مسند أحمد ١ : ١٤٢ مسند علي.

٢٨٧

كما يمكن الاستدلال عليه برواية رقم (١) وهو أن عليا دعا بوضوء فلم يفعل غير المضمضة والاستنشاق والاستنثار ، فقال : هذا طهور نبيكم ، ومعلوم أن الطهور هو الوضوء في اصطلاح الشرع.

وكذا يمكن الاستدلال عليه برواية رقم (٢) أن علي قال : أن رسول اللّٰه توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد.

وأنت ترى أن لسان الرواية مصرح بأن المضمضة ثلاثا والاستنشاق ثلاثا من كف واحد هو وضوء.

ولو تأملت في الرواية رقم (٤) ورقم (٥) لوجدت قرب هذا الاحتمال ، لأنهما وخاصة الرواية رقم (٤) هي بعينها رواية الخلال عن زائدة الا أنها هنا من رواية الطيالسي عن زائدة ، وهي أيضا قريبة جدا ـ من جهة المتن ـ مما روي عن خالد بن علقمة في الغسل الذي تقدم الحديث عنه سابقا والذي قلنا عنه بأنه معلول سندا ومتنا. بل يمكننا أن نقول أن ما رواه الطيالسي بسنده إلى خالد بن علقمة هو عين ما رواه الخلال ـ الذي هو مرجوح الاحتجاج لو قيس بالطيالسي ـ بسنده إلى خالد بن علقمة ، سندا ومتنا ، سوى أن ما رواه الخلال فيه زيادة غسل الأعضاء الأخرى.

والحاصل : فإنه يحتمل قويا أن ما رواه خالد بن علقمة عن عبد خير وما رواه أبو حية عن علي هو الوضوء بمعنى المضمضة ثلاثا والاستنشاق ثلاثا والاستنثار ثلاثا وقد يكون غسل الأكف ثلاثا أيضا مع ذلك ، الا أن الرواة فيما بعد لم يفهموا المقصود من كلمة الوضوء والطهور ، فظنوا أنّ الثلاثة غير مقتصرة على مستحبات الوضوء هذه بل هي سارية إلى كل الأعضاء.

وهذا الاحتمال لعمري وجيه وبخاصة لو لاحظنا أن المرويات البيانية المفصلة في الغسل عن علي مضطربة المتون وغير متحدة مع أن الراوي عن على. واحد.

فبعض الروايات تصرح بأن جميع الأعضاء مشمولة لحكم الثلاث وبعضها تصرح أن بعض الأعضاء مشمولة لهذا الحكم وبعضها مرة مرة ، فالاختلاف في حكم

٢٨٨

الثلاث لدليل أو مؤيد لما قلنا وهو أن منشأ اشتباه الرواة هو قضية الثليث الواردة على لسان علي فيما تقدم من الروايات.

وها نحن نعيد القول عليك ، لننبهك أننا لم نحتمل هذه الاحتمالات في ما روى عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي هكذا هراء وتحكما ، لأننا قد وضحنا لك سابقا أن ما روي عن خالد بن علقمة عن عبد خير في الغسل مرجوح سندا كما تقدم عليك تفصيله وأن ما روي عن عبد خير في المسح هو الراجح حسب الصناعة ، أضف إلى ذلك أن المسألة لم تقتصر على التعارض المروي عن عبد خير في الغسل والمسح ، لأن هناك ما هو على شرط صحيح البخاري مروي عن النزال بن سبرة عن علي في المسح ، وهذا يؤكد رجحانية المسح بلا كلام.

ونحن أيضا ذكرنا لك سابقا أننا في مقام التعارض الابتدائي فيما روي عن علي في الغسل والمسح ، لم نعالج الا الروايات المتعارضة الصحيحة والمعتبرة ، لأنها هي العمدة في المقام ، وتركنا الروايات الغسليّة وكذا المسحيّة الضعيفة ، لأنها لا تنفع كثيرا في مقام الترجيح : لأن كل من الغسل والمسح فيه عدة مرويات ضعيفة وإن كان قد يكون ذكرها ـ من جهة فنية ـ أولى.

ومهما يكن من شي‌ء :

لما كانت المرويات الغسليّة مرجوحة ويستعبد صدورها بشكل قوي عن علي حسب قواعد أهل العلم ، رأينا من الضروري بيان احتمالات صدورها فذكرنا لك هذه الاحتمالات الثلاثة.

وعلى ما تقدم فان ما روي عن علي في الغسل إمّا معلول سندا بأن كانت الرواية عن أبي حية الوادعي الهمداني فرويت عن خالد بن علقمة ، أو أن تكون الرواية عن مالك بن عرفطة فرويت عن خالد بن علقمة.

وأما أنها معلولة متنا كما توضح عليك.

وقد يمكن أن تجتمع العلتان معا.

هذا ولا بد أن تعلم أيضا أنه لا يوجد أدنى احتمال لأن تكون أسانيد الروايات المسحيّة معلولة وأن اسم بعض الرواة مصحف عن آخر كما هو الحال في الأسانيد

٢٨٩

الغسليّة ، وإن كذا فان متون المرويات المسحيّة ليس فيها احتمال الاضطراب في ألفاظها الذي أدى إلى اختلاف فهم الرواة لمضامينها ، فرووها كما تقدم.

ب : ما رواه النزال بن سبرة عنه

الإسناد الأوّل

قال أبو داود (١) : حدّثنا شعبة (٢) ، قال : أخبرني عبد الملك بن ميسرة (٣) ، قال : سمعت النزال بن سبرة (٤) يقول : صلّى عليّ الظهر في الرحبة ثمّ جلس في حوائج الناس حتى حضرت العصر ، ثمّ أتي بكوز من ماء فصبّ منه كفا فغسل وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه ، ثمّ قام فشرب فضل الماء وهو قائم ، وقال : إنّ ناسا يكرهون أن يشربوا وهم قيام ، ورأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل مثل الذي فعلت ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث (٥).

المناقشة

وهذا الطريق صحيح على شرط البخاري ، ورجاله كلهم ثقات عدول ، ضابطون ، وقد تقدم الكلام عنهم سوى أبي داود ، وأبو داود من أساطين فنّ الحديث

__________________

(١) هو سليمان بن داود بن الجارود ، أبو داود الطيالسي ، البصري ، احتج به جل أهل العلم إن لم نقل كلهم (انظر تهذيب الكمال ١١ : ٤٠١ ، تهذيب التهذيب ٤ : ١٨٢ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٧٨) وغيرها من المصادر.

(٢) هو شعبة بن الحجّاج بن الورد العتكي ، الأزدي ، أبو بسطام الواسطي ، مولى يزيد بن المهلب ، احتج به الجماعة وغيرهم وهو من مشهورين الثقات (انظر تهذيب الكمال ١٢ : ٤٧٩ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٣٣٨ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٢٠٣) وغيرها من المصادر.

(٣) هو عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري ، أبو زيد الكوفي الزراد ، احتج به الجماعة وغيرهم وهو من الثقات (انظر تهذيب الكمال ١٨ : ٤٣١ ، التاريخ الكبير للبخاري : ٥ الترجمة ١٤٠٠ ، تهذيب التهذيب ٦ : ٤٢٦) وغيرها من المصادر.

(٤) هو النزال بن سبرة الهلالي العامري الكوفي ، احتج به البخاري وأبو داود والنسائي وهو تابعي كبير ، ثقة ، وقيل إنّ له صحبة (تهذيب الكمال ٢٩ : ٣٣٥ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ٤٢٣) وغيرها من المصادر.

(٥) مسند أبي داود الطيالسي : ٢٢ ح ١٤٨ ط دار المعرفة / بيروت.

٢٩٠

ومن كبار الحفّاظ ، وهو أشهر من أن يعرف في قوة الرواية وسعة الحفظ.

قال علي بن المديني : ما رأيت أحدا أحفظ من أبي داود الطيالسي (١).

وقال عمرو بن علي : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : أبو داود الطيالسي ، أصدق الناس (٢).

وقال النعمان بن عبد السلام : ثقة مأمون (٣).

وقال أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي : ما رأيت أحدا أكبر في شعبة من أبي داود (٤).

وقال أحمد بن عبد اللّٰه العجلي : بصريّ ثقة ، وكان كثير الحفظ (٥).

وقال عثمان بن سعيد الدارمي : سألت يحيى بن معين ـ يعني عن أصحاب شعبة ـ قلت : فأبو داود أحبّ إليك أو حرمي؟ فقال : أبو داود صدوق ، أبو داود أحبّ اليّ ، قلت : فأبو داود أحب إليك أو عبد الرحمن بن مهدي؟ فقال : أبو داود أعلم به (٦).

وقال النسائي : ثقة من أصدق الناس لهجة (٧).

وقال ابن حجر : ثقة حافظ ، غلط في أحاديث (٨).

وقال ابن عديّ : ثقة يخطئ ، ثمّ قال : وما هو عندي وعند غيري إلّا متيقّظ ثبت (٩).

وقال ابن سعد : ثقة كثير الحديث ، ربّما غلط (١٠).

ونحن مع هذه الأقوال لنا أن نقول : أنّ الغلط من الحافظ إمّا أن يكون ملكة فيه ، وإمّا لا ، وأبو داود لم يتّهمه أحد بأنّه كان كثير الخطأ أو كان متغيّرا أو سيئا

__________________

(١) تاريخ بغداد ٩ : ٢٧ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٨٢ ، تهذيب الكمال ١١ : ٤٠٥.

(٢) تاريخ بغداد ٩ : ٢٨ ، تهذيب الكمال ١١ : ٤٠٥.

(٣) تاريخ بغداد ٩ : ٢٨ ، تهذيب الكمال ١١ : ٤٠٥.

(٤) تاريخ بغداد ٩ : ٢٧ ، تهذيب الكمال ١١ : ٤٠٦.

(٥) تهذيب الكمال ١١ : ٤٠٦.

(٦) تهذيب الكمال ١١ : ٤٠٦.

(٧) تهذيب الكمال ١١ : ٤٠٧.

(٨) تقريب التهذيب ١ : ٢٢٣.

(٩) الكامل ، لابن عدي ٣ : ٢٨١.

(١٠) الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٧ : ٢٩٨.

٢٩١

للحفظ أو غير ذلك ، وغاية ما أخذ عليه أنّه يخطئ في أحاديث! فلو التزم بتضعيف من كانت هكذا حاله من الأئمّة لكان أول من يقال بتضعيفه هو الإمام البخاري ، لأنّه يشترك مع أبي داود بكثرة الرواية وسعة الحفظ ، وهذا النوع من الغلط.

فالبخاري كان يسمع الحديث في البصرة ويحدّث به في الشام اعتمادا على حفظه ، وهذا يؤدّي إلى الغلط قطعا.

والحاصل : فإن مثل هذا الغلط يتوقع ممّن كان واسع الحفظ ، كثير الرواية ، فغلطه ناشئ من سعة ما يحفظ لا من سوء الحفظ أو قلّة الضبط.

ونحن لا نريد هنا الحكم بإمكان الاحتجاج به واقعا أو عدمه ، بل الذي نريد قوله : هو أنّ أهل العلم من أهل السنة والجماعة إمّا أن يحتجّوا بكلام محدّث كالطيالسي ، مع ملاحظة أنّ الغلط من هكذا محدّث ليس ملكة فيه وإنما هو غلط عاديّ ناشئ من سعة حفظه ، وإمّا أن لا يحتجّوا به ، فإن التزموا الأوّل فلا بدّ من الأخذ بهذه الرواية وأمثالها ، وإن التزموا الثاني فعليهم أن يسقطوا الاحتجاج بكلّ الأئمة وأساطين الحديث ، لأنّه ما منهم أحد إلّا وقد غلط في أحاديث ليست بالقليلة! ومهما يكن فإن أهل العلم قد احتجوا بأبي داود وممّا يدلّ أن هذا الحديث ليس من تلك الأحاديث الّتي يقال : أنّ أبا داود أخطأ فيها ، أنّ ابن عدي لم يذكر في كاملة هذا الحديث ، فراجع.

أما ما يمكن قوله كجرح في أبي داود فهو : عدم إخراج البخاريّ له أصلا في جامعه ، بل كلّ ما فيه أنّه روى له في الأدب واستشهد به في تفسير قوله تعالى (قُمْ فَأَنْذِرْ) في القراءة خلف الإمام (١) ، وهذا يعني أنّه لا يحتجّ به! فنجيبهم بقول الذهبي حيث قال : ولم يخرج البخاريّ لأبي داود شيئا لأنّه سمع من عدّة من أقرانه ، فما احتاج إليه (٢).

ونضيف إليه : إنّ عدم إخراج البخاريّ لمحدّث ما لا يستلزم عدم الاحتجاج به كما هو واضح.

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٦٧٧.

(٢) سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٨٣.

٢٩٢

وهذا الحديث صحيح على شرط البخاريّ كما قدمنا.

الإسناد الثاني

قال البخاري : حدثنا آدم (١) ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن ميسرة : سمعت النزّال بن سبرة يحدّث عن علي رضي اللّٰه عنه أنه صلّى الظهر ، ثمّ قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة ، حتى حضرت صلاة العصر ، ثمّ أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه ، وذكر رأسه ورجليه ، ثمّ قام فشرب فضله وهو قائم ، ثمّ قال : إنّ ناسا يكرهون الشرب قائما ، وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صنع مثل ما صنعت (٢).

المناقشة

هذا الطريق صحيح على شرط البخاري وغيره كما هو واضح فلا يحتاج إلى مزيد بيان.

الإسناد الثالث

قال عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل : حدثني أبو خيثمة (٣) ، وحدّثنا إسحاق بن إسماعيل ، قالا : حدثنا جرير (٤) ، عن منصور (٥) ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة ، قال : صلّينا مع علي رضي اللّٰه عنه

__________________

(١) هو آدم بن أبي إياس الخراساني المروزي ، أبو الحسن العسقلاني ، احتج به البخاري وباقي الجماعة سوى مسلم ، وثقه أئمة الرجال ولم نعثر على تجريح أو حتى تليين فيه (انظر تهذيب الكمال ٢ : ٣٠١) وغيره من المصادر.

(٢) صحيح البخاري ٧ : ١٤٣ باب الشرب قائما ، أحكام القرآن ، للجصاص ١ : ٣٤٧.

(٣) مر ترجمته في الإسناد الخامس من مرويات عبد خير المسحية صفحة ٢٧٥.

(٤) هو جرير بن عبد الحميد الضبي ، أبو عبد اللّٰه الرازي ، القاضي ، روى له الجماعة (تهذيب الكمال ٤ : ٥٤٠ ، الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٧ : ٣٨١ ، تاريخ بغداد ٧ : ٢٥٣ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٧٥) وغيرها من المصادر.

(٥) هو منصور بن المعتمر السلمي ، أبو عتاب الكوفي ، روى له الجماعة (تهذيب الكمال ٢٨ : ٤٥٦ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٤٠٢ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ٣١٢) وغيرها من المصادر.

٢٩٣

الظهر ، فانطلق إلى مجلس يجلسه في الرحبة فقعد وقعدنا حوله ، ثمّ حضرت العصر فأتي بإناء ، فأخذ منه كفا فتمضمض واستنشق ، ومسح بوجهه وذراعيه ومسح رأسه ومسح رجليه ، ثمّ قام فشرب فضل إنائه ، ثمّ قال : إني حدّثت أنّ رجالا يكرهون أن يشرب أحدهم وهو قائم ، إني رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل كما فعلت (١).

المناقشة

رجال هذا الطريق ثقات بلا كلام ، وفيه جميع شروط الصحيح : فأمّا أبو خيثمة ، فقد قال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين : ثقة (٢). وقال علي بن الحسين الجنيد الرازي ، عن يحيى : يكفي قبيلة (٣).

وقال أبو حاتم : صدوق (٤).

وقال أبو عبيد الآجريّ : قلت لأبي داود : أبو خيثمة حجّة في الرجال؟ قال :ما كان أحسن علمه (٥).

وقال النسائي : ثقة مأمون (٦).

وقال الحسين بن فهم : ثقة ثبت (٧).

وقال أبو بكر الخطيب : كان ثقة ثبتا حافظا متقنا (٨).

وأمّا جرير فقد وثّقه غالب العلماء :فقال أحمد بن عبد اللّٰه العجليّ : كوفي ثقة (٩).

وقال النسائي : ثقة (١٠).

وقال ابن حراش : صدوق (١١).

وقال أبو القاسم الكلائي : مجمع على ثقته (١٢).

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ١٥٩.

(٢) تهذيب الكمال ٩ : ٤٠٤ ، تاريخ بغداد ٨ : ٤٨٢.

(٣) تهذيب الكمال ٩ : ٤٠٤ ، الجرح والتعديل ٣ الترجمة ٢٦٨٠.

(٤) تهذيب الكمال ٩ : ٤٠٤ ، الجرح والتعديل ٣ الترجمة ٢٦٨٠.

(٥) تهذيب الكمال ٩ : ٤٠٥ ، تاريخ بغداد ٨ : ٤٨٣.

(٦) تهذيب الكمال ٩ : ٤٠٥ ، تاريخ بغداد ٨ : ٤٨٣.

(٧) تهذيب الكمال ٩ : ٤٠٥ ، تاريخ بغداد ٨ : ٤٨٣.

(٨) تهذيب الكمال ٩ : ٤٠٥ ، تاريخ بغداد ٨ : ٤٨٣.(٩) تهذيب الكمال ٤ : ٥٥٠.

(١٠) تهذيب الكمال ٤ : ٥٥٠.(١١) تهذيب الكمال ٤ : ٥٥٠.

(١٢) تهذيب الكمال ٤ : ٥٥٠.

٢٩٤

وقال ابن حجر في التقريب : ثقة صحيح الكتاب (١).

وقال أبو يعلى الخليلي في الإرشاد : ثقة متّفق عليه مخرّج في الصحيحين (٢).

وجاء في السنن للبيهقي قوله : (نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ) (٣). وهذا عجيب من البيهقي حيث لم نعثر على تصريح لأحد من القدماء بأنّه سيّئ الحفظ ، وكيف يصرّح البيهقي بهكذا تصريح وبينه وبين جرير أمدا بعيدا ، ومن دون دليل.

ولقد أجاد ابن حجر حيث قال : .. ولم أر ذلك لغيره. أي لم أر غير البيهقي قد قال بهذه الدعوى ـ ثمّ إنّ العقيلي قال : قال أحمد بن حنبل : لم يكن جرير الرازي بالذكي في الحديث ، كان اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول ، حتى قدم عليه بهز فقال له : هذا حديث عاصم ، وهذا حديث أشعث ، فعرفها فحدث بها الناس (٤).

فإن ثبت هذا عنه فهو غير ضارّ به فيما نحن فيه ، لأنّه لم يطعن أحد في روايته عن منصور.

وأمّا منصور ، فهو ثقة على ما هو صريح غير واحد من أهل العلم :

قال العجلي : كوفي ثبت في الحديث (٥).

وقال أبو حاتم : الأعمش حافظ يخلّط ويدلّس ، ومنصور أتقن لا يخلّط ولا يدلّس (٦).

وقال أبو زرعة : سمعت إبراهيم بن موسى يقول : أثبت أهل الكوفة منصور ، ثمّ مسعر (٧).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : سمعت يحيى يقول : منصور أثبت من الحكم

__________________

(١) تقريب التهذيب ١ : ١٢٧.

(٢) انظر هامش تهذيب الكمال ٤ : ٥٥١.

(٣) انظر مقدمة فتح الباري : ٣٩٢.

(٤) الضعفاء الكبير ، للعقيلي ١ : ٢٠٠.

(٥) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٤.

(٦) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٣ ، الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٧٧٨.

(٧) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٣ ، الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٧٧٨.

٢٩٥

ابن عتيبة ، ومنصور من أثبت الناس (١).

وقال وكيع : قال سفيان : إذا جاءت المذاكرة جئنا بكلّ أحد ، وإذا جاء التحصيل جئنا بمنصور بن المعتمر (٢).

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سألت أبي عن منصور بن المعتمر ، قال : ثقة (٣).

وقال بسر بن المفضل : لقيت سفيان الثوري بمكّة ، فقال : ما خلّفت بعدي بالكوفة آمن على الحديث من منصور بن المعتمر (٤).

وقال سفيان أيضا : رأيت منصورا ، وعبد الكريم الجزري ، وأيوب السختياني ، وعمرو بن دينار ، هؤلاء الأعين الّذين لا شكّ فيهم (٥).

وقال عبد الرحمن بن مهدي : لم يكن بالكوفة أحفظ من منصور (٦).

والحاصل : فإنّ هذا الطريق صحيح على شرط البخاري كما هو واضح.

الإسناد الرابع

قال النسائي : أخبرنا عمرو بن يزيد (٧) ، قال : حدّثنا بهز بن أسد (٨) ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، قال : سمعت النزّال بن سبرة قال : رأيت عليا رضي اللّٰه عنه صلى الظهر ثمّ قعد لحوائج الناس ، فلمّا حضرت العصر أتي بتور من ماء فأخذ منه كفّا فمسح به وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه ، ثمّ أخذ فضله فشرب قائما ، وقال : إنّ ناسا يكرهون هذا ، وقد رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعله ، وهذا وضوء من لم يحدث (٩).

__________________

(١) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٣ ، الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٧٧٨.

(٢) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٣.

(٣) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٣ ، الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٧٧٨.

(٤) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٠.

(٥) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٠.

(٦) تهذيب الكمال ٢٨ : ٥٥٠.

(٧) هو عمرو بن يزيد ، أبو بريد الجرمي البصري ، احتج به النسائي (تهذيب الكمال ٢٢ : ٣٠٠ ، تهذيب التهذيب ٨ : ١٢٠ ، الجرح والتعديل ٦ الترجمة ١٤٩٢) وغيرها من المصادر.

(٨) هو بهز بن أسد العميّ ، أبو الأسود البصري ، احتج به الجماعة وغيرهم (تهذيب الكمال ٤ : ٢٥٧ ، تهذيب التهذيب ١ : ٤٩٧ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ١٩٢) وغيرها من المصادر.

(٩) سنن النسائي ١ : ٨٤ ، مسند أحمد ١ : ١٥٣ ، أحكام القرآن للجصاص ١ : ٣٤٧.

٢٩٦

المناقشة

رجال هذا الطريق ثقات ، وقد تقدم الكلام عن شعبة وعبد الملك بن ميسرة والنزال وأنهم من الثقات المشهورين بالعدالة.

وأمّا بهز بن أسد فهو الآخر من الإثبات ، إذ لم يتعرّض له أحد بمغمز أو جرح ، والكلّ على تعديله وتوثيقه ، وإليك أهم أقوال الأئمّة فيه.

قال أحمد بن حنبل : إليه المنتهى في التثبّت (١).

وقال يحيى بن معين : ثقة (٢).

وقال جرير بن عبد الحميد : اختلط عليّ حديث عاصم الأحول ، وأحاديث أشعث بن سوار ، حتى قدم علينا بهز فخلّصها لي ، فحدّثت بها (٣).

وقال أبو حاتم : إمام ، صدوق ، ثقة (٤).

وقال النسائي : ثقة (٥).

وقال يحيى بن سعيد القطّان : صدوق ثقة (٦).

وقال محمد بن سعد : بهز بن أسد من بلعم من أنفسهم ، وكان ثقة كثير الحديث حجة (٧).

وقال القطّان : ما رأيت رجلا خيرا من بهز (٨).

وأمّا عمرو بن يزيد الجرمي ، فهو الآخر ثقة ولم نعثر على جرح أو ذم يوجب سقوط روايته.

فقد قال النسائي : ثقة (٩).

__________________

(١) تهذيب الكمال ٤ : ٢٥٨.

(٢) تهذيب الكمال ٤ : ٢٥٨ ، تهذيب التهذيب ١ : ٤٩٧.

(٣) تهذيب الكمال ٤ : ٢٥٨ ، تهذيب التهذيب ١ : ٤٩٧.

(٤) تهذيب الكمال ٤ : ٢٥٨ ، تهذيب التهذيب ١ : ٤٩٧.

(٥) تهذيب الكمال ٤ : ٢٥٩ ،

(٦) تهذيب التهذيب ١ : ٤٩٧ ، وتهذيب الكمال ٤ : ٢٥٩.

(٧) الطبقات الكبرى لابن سعد ٧ : ٢٩٨.

(٨) تهذيب الكمال ٤ : ٢٥٩.

(٩) تهذيب الكمال ٢٢ : ٣٠١.

٢٩٧

وقال أبو حاتم : صدوق (١).

وقال ابن حجر في التقريب : صدوق (٢).

وذكره ابن حبّان في الثقات ، وقال : ربّما أغرب (٣).

والاحتياط يقتضي القول بأنّ سندا فيه عمرو بن يزيد يحتاج لأن يتابع عليه ، خاصة مع قول ابن حبان : ربما أغرب ، وأقوال الباقين فيه التي تشعر بعدم شريطة الضبط كقولهم «صدوق ، كما عرفت.

نعم ، إنّ هذا الطريق صحيح عند النسائي لتوثيقه له ، وقولنا (يحتاج لأنّ يتابع عليه) جاء حسب مبنى الآخرين ، وحيث إنّ هذا الطريق له تابع صحيح ممّا رواه البخاري في السند الثاني فهو صحيح بغيره ، وخصوصا لو عرفنا بأنّ الثابت عند الفقهاء والمفسرين أنّ مذهب علي بن أبي طالب هو مسح الرجلين لا غسلهما.

الإسناد الخامس

قال عبد اللّٰه : حدّثني أبي ، حدثنا محمد بن جعفر (غندر) (٤) ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزّال بن سبرة أنّه شهد عليا رضي اللّٰه عنه صلى الظهر ، ثمّ جلس في الرحبة في حوائج الناس ، فلمّا حضرت العصر أتي بتور فأخذ حفنة ماء فمسح يديه وذراعيه ووجهه ورأسه ورجليه ، ثمّ شرب فضله وهو قائم ، ثمّ قال : إنّ ناسا يكرهون أن يشربوا وهم قيام ، وإنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله صنع مثلما صنعت ، وهذا وضوء من لم يحدث (٥).

وقال أيضا حدّثني أبي ، حدّثنا عفّان (٦) ، حدثنا شعبة (٧) ، أنبأنا

__________________

(١) الجرح والتعديل ٦ الترجمة ١٤٩٢.

(٢) تقريب التهذيب ٢ : ٨١.

(٣) الثقات لابن حبان ٨ : ٤٨٨ ، تهذيب الكمال ٢٢ : ٣٠١.

(٤) تقدم الحديث عنه ، في الإسناد الرابع من مرويات علي بن أبي طالب الغسليّة.

(٥) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٣٩.

(٦) هو عفان مسلم بن عبد اللّٰه الصفار ، أبو عثمان البصري ، احتج به الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ١٦٠ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٢٣٠ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٤٢) وغيرها من المصادر.

(٧) مرت ترجمته في الإسناد الأول من مرويات علي بن أبي طالب المسحيّة.

٢٩٨

عبد الملك بن ميسرة ، قال : سمعت النزّال بن سبرة ، قال : سمعت عليا رضي اللّٰه عنه ، فذكر معناه إلّا أنّه قال : أتي بكوز (١).

المناقشة

إنّ طريق عبد اللّٰه بن أحمد الثاني صحيح على شرط البخاري ، وأمّا الأوّل فهو صحيح بغيره لوجود أكثر من تابع له.

وبما أنّا قد بسطنا القول عن رجال الطريقين سوى عفّان بن مسلم (٢) فلا بد من الإشارة إلى أقوال الرجاليّين فيه :

قال أبو حاتم : عفّان إمام ثقة متقن متين (٣).

وقال يعقوب بن شيبة ، : سمعت يحيى بن معين يقول : أصحاب الحديث خمسة : مالك ، وابن جريح ، والثوري ، وشعبة ، وعفان (٤).

وقال أيضا : كان ثقة ثبتا متقنا صحيح الكتاب ، قليل الخطأ والسقط (٥).

وقال يحيى بن معين : عفّان أثبت من عبد الرحمن بن مهدي (٦).

وقال حسن الزعفراني : رأيت يحيى بن معين يعرض على عفان ما سمعه من يحيى بن سعيد القطان (٧).

وقال عبد الخالق بن منصور : سئل يحيى بن معين عن عفّان وبهز أيهما أوثق؟

فقال : كلاهما ثقتان. فقيل له : إنّ ابن المديني يزعم أنّ عفّان أصحّ الرجلين؟

فقال : كانا جميعا ثقتين صدوقين (٨).

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٣٩.

(٢) هو عفان بن مسلم بن عبد اللّٰه الصفار ، أبو عثمان البصري ، احتج به الجماعة (تهذيب الكمال ٢٠ : ١٦٠ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٢٣٠ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٤٢) وغيرها من المصادر.

(٣) الجرح والتعديل ٧ الترجمة ١٦٥.

(٤) تهذيب الكمال ٢٠ : ١٧٠ ، تاريخ بغداد ١٢ : ٢٧٦.

(٥) هامش تهذيب الكمال ٢٠ : ١٧٠.

(٦) تهذيب الكمال ٢٠ : ١٧١ ، تاريخ بغداد ١٢ : ٢٧٥ ، ٢٧٦.

(٧) المصدر نفسه.

(٨) تهذيب الكمال ٢٠ : ١٦٩ ، تاريخ بغداد ١٢ : ٢٧٤.

٢٩٩

فهذه النصوص تدعونا للقول باتّفاق أهل العلم على الاحتجاج به وإن كان سليمان بن حرب قد شذّ عنهم بقوله : واللّٰه لو جهد جهده ـ يعنى عفان ـ أن يضبط في شعبة حديثا واحدا ما قدر ، كان بطيئا ، ردي‌ء الحفظ ، بطي‌ء الفهم (١).

فكلام سليمان بن حرب لا يقلّل من مكانة عفّان شيئا ، لانفراده بذلك ، ولأنّ عفّان راجح على سليمان بن حرب.

نعم ، أورده ابن عديّ في كاملة والذهبي في ميزانه وابن حجر ضمن المطعونين من رجال صحيح البخاري ، إلّا أنّهم قد دافعوا عنه والتزموا بكونه ثقة ، وبعد هذا فلا يؤثّر فيه قول شاذّ كقول سليمان.

قال ابن عديّ : عفّان أشهر وأوثق وأصدق ، وأوثق من أن يقال فيه شي‌ء ممّا ينسب إلى الضعف (٢).

وقال الذهبيّ : عفّان أجلّ وأحفظ من سليمان (٣).

وقال ابن حجر : والكلام في إتقانه كثير جدّا (٤).

والحاصل : إنّ الطريق الثاني صحيح على شرط البخاري ـ كما هو واضح.

وأمّا جملة «فمسح يديه وذراعيه ووجهه ورأسه ورجليه» فيحمل الأوّلان منه أي «فمسح يديه وذراعيه ووجهه» على الغسل يقينا لإجماع المسلمين على أنّ فرضهما الغسل وأنّ المسح لا يجزي فيهما ، وأمّا المسح على الرأس والرجلين فهو على معناه الحقيقي وعلى قول كل من الشيعة والسنّة ، فأمّا على قول الشيعة فواضح ، وأمّا على قول أهل السنّة ، فلأنّهم فسّروا جملة : هذا وضوء من يحدث ، بأنّه وضوء على طهارة يكتفى ـ على ضوئه ـ بالمسح على القدمين ، وإن كان فرضها الأوّلي هو الغسل.

وسيأتيك عن قريب توضيح معنى هذه الجملة وأنّ المقصود منها ليس الّذي فهمه أعلام أهل السنّة.

وعلى كل حال : فالّذي ينبغي أن يقال هنا : هو أنّ المستفاد من مرويات النزّال

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٨١ ، الكامل في ضعفاء الرجال ٥ : ٣٨٤. مقدمة فتح الباري : ٤٢٥.

(٢) الكامل ، لابن عدي ٥ : ٣٨٥.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ : ٨١.

(٤) مقدمة فتح الباري : ٣٨٥.

٣٠٠