وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

هو المسح كوظيفة للقدمين.

الإسناد السادس

قال عبد اللّٰه : حدثني أبي ، حدّثنا محمد بن فضيل (١) ، عن الأعمش ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزّال بن سبرة ، قال : أتي على رضي اللّٰه عنه بكوز من ماء وهو في الرحبة ، فأخذ كفا من ماء فمضمض واستنشق ، ومسح وجهه وذراعيه ورأسه ، ثمّ شرب وهو قائم ، ثمّ قال : هذا وضوء من لم يحدث ، هكذا رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل (٢).

المناقشة

يغمز هذا الطريق بالأعمش ، وقد تقدم الكلام عنه فلا نعيده ، وبمحمّد بن فضيل الذي لم يتّفق أهل العلم على توثيقه.

قال عثمان بن سعيد الدارمي ، عن يحيى بن معين : ثقة (٣).

وقال حرب بن إسماعيل ، عن أحمد بن حنبل : كان يتشيّع ، وكان حسن الحديث (٤).

وقال أبو زرعة : صدوق من أهل العلم (٥).

وقال أبو حاتم : شيخ (٦).

وقال أبو داود : كان شيعيّا محترقا (٧).

وقال النسائي : ليس به بأس (٨).

وعلى أيّ حال ، فإن هذا الطريق صحيح باعتبار المتابعات الصحيحة عليه

__________________

(١) هو محمد بن فضيل بن غزوان الضبّي ، مولاهم ، أبو عبد الرحمن الكوفي ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٢٦ : ٢٩٣ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٤٠٥ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ١٧٣) وغيرها من المصادر.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٧٨.

(٣) تهذيب الكمال ٢٦ : ٢٩٧.

(٤) الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٢٦٣.

(٥) الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٢٦٣.

(٦) الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٢٦٣.

(٧) تهذيب الكمال ٢٦ : ٢٩٧.

(٨) تهذيب الكمال ٢٦ : ٢٩٧.

٣٠١

لا بنفسه.

ج ـ ما رواه حبّة العرني عنه

الإسناد

قال ابن جرير الطبري : حدّثني محمد بن عبيد المحاربي (١) ، قال : حدّثنا أبو مالك الجنبي (٢) ، عن مسلم (٣) ، عن حبّة العرني (٤) ، قال : رأيت عليّ بن أبي طالب رضي اللّٰه عنه شرب في الرحبة قائما ، ثمّ توضّأ ومسح على نعليه ، وقال هذا وضوء من لم يحدث هكذا رأيت رسول اللّٰه صنع (٥).

المناقشة

يغمز في هذا الطريق من عدة جهات :

الأولى : من جهة أبي مالك الجنبي ، فهو وإن لم يجرح بما يسقط الاحتجاج به مطلقا إلّا أنّ أهل العلم ليّنوه إلى مرتبة تكون أحاديثه حسانا لا صحاحا : فقد قال أحمد بن حنبل : صدوق (٦).

وقال البخاري : فيه نظر (٧).

__________________

(١) هو المحاربيّ ، أبو جعفر النحاس الكوفي ، روى له أبو داود والترمذي والنسائي (انظر تهذيب الكمال ٢٦ : ٧٠ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٣٣٢ ، الثقات لابن حبان ٩ : ١٠٨) وغيرها من المصادر.

(٢) هو عمرو بن هاشم ، أبو مالك الجنبي الكوفي ، روى له أبو داود والنسائي (انظر تهذيب الكمال ٢٢ : ٢٧٢ ، تهذيب التهذيب ٨ : ١١١ ، التاريخ الكبير للبخاري ٦ : الترجمة ٢٧٠٢) وغيرها من المصادر.

(٣) هو مسلم بن كيشان الضبّي الملائي البرّاد ، أبو عبد اللّٰه الكوفي الأعور ، روى له الترمذي وابن ماجة (انظر تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٣٠ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ١٣٥ ، التقريب ٢ : ٢٤٦ ، التاريخ الكبير لبخاري : ٧ الترجمة ١١٤٥) وغيرها من المصادر.

(٤) هو حبة بن جوين بن علي العرني البجلي ، أبو قدامة الكوفي ، روى له النسائي (انظر تهذيب الكمال ٥ :٣٥١ ، تهذيب التهذيب ٢ : ١٧٦ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٧٤) وغيرها من المصادر.

(٥) تفسير الطبري ٦ : ٨٦.

(٦) تهذيب الكمال ٢٢ : ٢٧٤ ، التاريخ الكبير للبخاري : ٦ الترجمة ٢٧٠٢.

(٧) تهذيب الكمال ٢٢ : ٢٧٤ ، التاريخ الكبير للبخاري : ٦ الترجمة ٢٧٠٢.

٣٠٢

وقال أبو حاتم : ليّن الحديث يكتب حديثه (١).

وقال النسائي : ليس بالقويّ (٢).

وقال أبو أحمد بن عديّ : صدوق إن شاء اللّٰه (٣) ، وقال أيضا : إذا حدّث عن ثقة فهو صالح الحديث (٤).

الثانية : من جهة مسلم الأعور ، الذي تكلّم فيه أئمة الرجال بما يوجب ضعفه وعدم إمكان الاحتجاج به ، فقد قال إسحاق بن منصور ، عن يحيى بن معين : لا شي‌ء (٥).

وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث (٦).

وقال أبو حاتم : يتكلّمون فيه ، وهو ضعيف الحديث (٧).

وقال البخاري : يتكلّمون فيه (٨).

وقال أبو داود : ليس بشي‌ء (٩) ، وقال الترمذيّ : يضعف (١٠).

وقال النسائي : ليس بثقة (١١).

وقال أبو حاتم ابن حبّان : اختلط في آخر عمره وكان لا يدري ما يحدّث به (١٢).

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : غير ثقة (١٣).

وقال ابن حجر : ضعيف.

الثالثة : من جهة حبّة العرني ، فقد قال عباس الدوري ، عن يحيى بن معين : حبة

__________________

(١) الجرح والتعديل ١ الترجمة ١٤٧٨ ، تهذيب الكمال ٢٢ : ٢٧٤.

(٢) تهذيب الكمال ٢٢ : ٢٧٤.

(٣) الكامل ، لابن عدي ٥ : ١٤٣.

(٤) الكامل ، لابن عدي ٥ : ١٤٣.

(٥) تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٣٢ ، الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٨٤٤.

(٦) تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٣٢ ، الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٨٤٤.

(٧) الجرح والتعديل ٨ الترجمة ٨٤٤.

(٨) التاريخ الكبير للبخاري : ٧ الترجمة ١١٤٥ ، وتاريخه الصغير ٢ : ٩٣ ، وضعفائه الصغير الترجمة ٣٤٣.

(٩) تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٣٣.

(١٠) تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٣٣.

(١١) تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٣٤.

(١٢) المجروحين لابن حبان ٣ : ٨.

(١٣) تهذيب الكمال ٢٧ : ٥٣٤ ، عن أحوال الرجال الترجمة ٤٧.

٣٠٣

العرني ليس بثقة (١).

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : غير ثقة (٢).

وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش : ليس بشي‌ء (٣).

وقال النسائي : ليس بالقويّ (٤).

وقال صالح بن محمد البغدادي : حبّة العرني من أصحاب علي ، شيخ وكان يتشيع ، ليس هو بمتروك ولا ثبت ، وسط (٥).

وقال أحمد بن عبد اللّٰه العجلي : كوفيّ ، تابعيّ ، ثقة (٦).

وقال يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه : ما رأيت حبّة العرني قط إلّا يقول :سبحان اللّٰه والحمد للّٰه ولا إله إلّا اللّٰه واللّٰه أكبر ، إلّا أن يكون يصلّي أو يحدّثنا (٧).

وذكره أبو موسى المدني في الصحابة (٨).

وقال ابن عدي في الكامل : ما رأيت له منكرا جاوز الحدّ إذا روى عنه ثقة ، وقد أجمعوا على ضعفه إلّا أنه مع ذلك يكتب حديثه (٩).

وقال ابن حجر : صدوق له أغلاط ، وكان غاليا في التشيّع (١٠).

وقال المزي : كان من شيعة علي ، وشهد معه المشاهد كلّها (١١).

وقال الذهبي : حبّة هو الذي روى أنّ مع عليّ في صفين ثمانين بدريا وهذا محال (١٢).

هذه أهم الأقوال التي وردت في حبّة العرني ، وها أنت ترى أنّ تليينه يأتي لكونه من شيعة علي ومن الّذين شهدوا معه جميع المشاهد ، ولأنّه روى أنّ هناك

__________________

(١) تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٢ ، ٣٥٣.

(٢) تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٢ ، ٣٥٣.

(٣) تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٢ ، ٣٥٣.

(٤) تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٢ ، ٣٥٣.

(٥) تاريخ بغداد ٨ : ٢٧٦.

(٦) تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٣.

(٧) تاريخ بغداد ٨ : ٢٨٦ ، تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٣.

(٨) هامش تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٣.

(٩) الكامل في الضعفاء ٢ : ٤٣٠ ، ميزان الاعتدال ١ : ٤٥٠ الترجمة ١٦٨٨.

(١٠) تقريب التهذيب ١ : ١٤٨.

(١١) تهذيب الكمال ٥ : ٣٥٢.

(١٢) ميزان الاعتدال ١ : الترجمة ١٦٨٨.

٣٠٤

ثمانون بدريا في صفين مع عليّ بن أبي طالب.

والحاصل : فإنّ هذا الطريق وعلى أسوأ التقارير لو قيل بضعفه فإنّه ممّا يمكن المتابعة عليه لتصحيحه بما تقدّم من الأحاديث المسحيّة الصحيحة.

وأما المسح على النعلين ، فهو يعني المسح على القدمين ، أمّا على تفسير الشيعة فواضح وأمّا على تفسير أهل السنّة ، فلأن معنى «هذا وضوء من لم يحدث» عندهم هو الوضوء على طهارة ـ كما أشرنا سابقا ـ وهذا يؤدي عندهم إلى أنّ فرض الرجلين هو المسح أيضا ، فالشيعة إذن تتفق كلمتها مع السنة في أن الرواية يستفاد منها ومن غيرها المسح على القدمين ولكنهم اختلفوا في تفسير معنى الحدث في قول علي : هذا وضوء من لم يحدث.

وسيأتي قريبا توضيح معنى هذا العبارة بشي‌ء من التفصيل.

د ـ ما رواه أبو مطر عنه :

الإسناد

قال عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل : حدثني أبي ، حدثنا محمد بن عبيد (١) ، حدثنا مختار (٢) ، عن أبي مطر ، قال : بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين علي في المسجد على باب الرحبة جاء رجل ، فقال : أرني وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو عند الزوال ـ فدعا قنبر ، فقال : ائتني بكوز من ماء ، فغسل كفيه ووجهه ثلاثا وتمضمض ثلاثا ، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثا ، وغسل ذراعيه ثلاثا ، ومسح رأسه واحدة ، فقال : داخلها من الوجه وخارجهما من الرأس ، ورجليه إلى الكعبين ثلاثا ، ولحيته تهطل على صدره ، ثمّ حسا حسوة بعد الوضوء ، ثمّ قال : أين السائل عن وضوء

__________________

(١) يحتمل كونه محمد بن عبيد بن أبي أميّة الطنافسي ، أبو عبيد اللّٰه الكوفي الأحدب ، مولى إياد ، ثقة ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٢٦ : ٥٤ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٤٣٦ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٣٢٧) وغيرها من المصادر.

(٢) هو مختار بن نافع التيمي ، أبو إسحاق التمار الكوفي ، روى له الترمذي (انظر تهذيب الكمال ٢٧ : ٣٢٠ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ٦٩ ، التاريخ الكبير للبخاري : ٧ الترجمة ١٦٧٩) وغيرها من المصادر.

٣٠٥

رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كذا كان وضوء نبيّ اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

المناقشة

يضعّف هذا الطريق من جهتين :

الأولى : من جهة مختار بن نافع ، لجرح غالب أهل العلم له.

فقد قال أبو زرعة : واهي الحديث (٢).

وقال البخاري (٣) ، والنسائي (٤) ، وأبو حاتم (٥) : منكر الحديث.

وقال النسائي في موضع آخر : ليس بثقة (٦).

وقال ابن حبان : كان يأتي بالمناكير عن المشاهير حتى يسبق إلى القلب أنّه كان المتعمّد إلى ذلك (٧).

وقال ابن الحكم أبو أحمد : ليس بالقويّ عندهم (٨).

وقال ابن حجر في التقريب : ضعيف (٩).

الثانية : من جهة أبي مطر ، وذلك لجهالته.

قال المزيّ : أبو مطر ، ولا يعرف اسمه (١٠).

وقال الذهبي : أبو مطر الجهني ، عن علي عليه‌السلام ، وعنه مختار مجهول (١١).

وقال ابن حجر : أبو مطر عن سالم بن عبد اللّٰه بن عمر في القول عند الرعد (١٢).

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ١٥٨.

(٢) تهذيب الكمال ٢٧ : ٣٢٢.

(٣) الضعفاء الصغير للبخاري : ٢٢٧ ترجمة ٣٥٧.

(٤) تهذيب الكمال ٢٧ : ٣٢٢.

(٥) الجرح والتعديل ٨ : الترجمة ١٤٤٠.

(٦) تهذيب الكمال ٢٧ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(٧) تهذيب الكمال ٢٧ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(٨) تهذيب الكمال ٢٧ : ٣٢٣.

(٩) تقريب التهذيب ٢ : ٢٣٤.

(١٠) تهذيب الكمال ٣٤ : ٢٩٨.

(١١) ميزان الاعتدال : ٤ الترجمة ١٠٦١٠.

(١٢) روى أبو مطر عن سالم عن عبد اللّٰه بن عمر عن أبيه ، قال : كان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. (أخرجه البخاري في الأدب المفرد : ٧٢١ ، والترمذي ح ٣٤٥٠ والنسائي في اليوم والليلة).

٣٠٦

وعنه الحجّاج بن أرطاة وعبد الواحد بن زياد ، والصحيح عن عبد الواحد عن حجاج عنه ، ذكره ابن حبان في الثقات (١).

وقال في التقريب : أبو مطر ، شيخ الحجّاج بن أرطاة ، مجهول من السادسة (٢).

نعم ، ذكره ابن حبّان في الثقات (٣) ، وتوثيقه لا يمكن الاعتماد عليه لإدخاله كثيرا من المجاهيل في كتابه الثقات.

وأمّا احتجاج الترمذيّ به فلا يعني أنّه مكشوف الحال عنده ، لكون الترمذي متساهلا جدا في التصحيح والتحسين ، فكم من ضعيف أو مستور الحال احتجّ به ، أو روى له ، فلا يعبأ أهل العلم باحتجاج الترمذي في خصوص هكذا موارد.

والحاصل :

إنّ هذا الطريق لا يمكن الاحتجاج به إلّا على فرض دلالته على المسح ، لوجود أكثر من تابع صحيح له مما رواه عبد خير أو النزّال بن سبرة عن علي عليه‌السلام. ولمتابعة حبّة أيضا.

ه ـ ما رواه معقل الجعفي عنه :

الإسناد

قال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا محمد بن أبي إسماعيل عن معقل الجعفي ، قال : بال علي في الرحبة ثمّ توضأ ومسح على نعليه (٤).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١٢ : ٢٢٨.

(٢) تقريب التهذيب ٢ : ٤٧٢.

(٣) الثقات لابن حبان ٧ : ٦٦٤.

(٤) طبقات بن سعد ٦ : ٢٣٩.

٣٠٧

و ـ ما رواه الحصين عنه :

الإسناد

قال ابن سعد : أخبرنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا حنش بن الحارث عن قابوس بن حصين بن جندب عن أبيه ، قال : رأيت عليا يبول في الرحبة حتى أرغى بوله ، ثمّ يمسح على نعليه ويصلي. (١)

المناقشة

نحن بغض النظر عن البحث السندي لهذين الحديثين اللّذين أخرجهما ابن سعد في طبقاته يمكننا تصحيحهما بالمتابعات المتقدمة ، وهذا لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ولكننا نقول ـ ومن جهة الدلالة ـ : أن المسح هنا لا ينبغي أن يتردد في أنّه محمول على مسح القدمين ، إذ قد مرّ عليك سابقا أن النّعل العربي لا يمنع من تحقق المسح الشرعي ، ومرّ عليك أيضا في الإسناد السادس من أسانيد عبد خير وغيره من الأسانيد أنّ عليا قال : لو لا أنّي رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل .. لرأيت أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ، وهذا القول ظاهر في أن ما مسح عليه علي إنّما هو القدم لا النعل وإن كانت الرواية قالت إنّ عليا توضأ ومسح على النعلين ، فلو كان الممسوح عليه هو النعل لصار قول علي : «.. لو لا ..» لغوا ، وهذا محال في حق علي وهو رأس الفصاحة وسنامها بعد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ كيف يذكر ظاهر وباطن القدمين مع أنّه مسح على النعلين؟!.

إذن فلا بد من حمل المسح على النعلين أنّه إنّما كان على القدمين لا غير.

__________________

(١) طبقات بن سعد ٦ : ٢٤١.

٣٠٨

البحث الدلالي

بعد أن عرضنا الروايات المسحيّة ، وخصوصا الصحاح منها في مرويات عبد خير والنزّال بن سبرة ، نقول :

إنّ الصفحات السابقة أوضحت لنا عدم صمود الروايات الغسليّة عن عليّ بن أبي طالب أمام ما صح عنه من مرويات المسح ، إذ كان أحسن ما فيها إسناد عبد خير عن عليّ ، وقد أثبتنا ضعفها في الغسل ـ وأنّها معلولة ـ وقوتها في المسح ، فتقدم روايته للمسح عن علي و.

وإذا تنزلنا وقلنا بقوّة رواية الغسل فهي معارضة برواية المسح عنه ، ولو تعارضتا تساقطتا ، فلا تبقى رواية غسلية حجة بعدها إذن ، وعند ذلك تبقى روايات النزال بن سبرة المسحيّة هي الصحيحة في الباب ، فالأسانيد الأربعة الأوائل بعضها صحيحة بنفسها وبعضها صحيحة بغيرها.

وكذا الحال بالنسبة إلى متونها ، فهي ظاهرة وصريحة الدلالة على المسح ، وأمّا جملة : «وذكر رأسه ورجليه» في خبر البخاري ، فهي الأخرى دالة على مسح القدمين ، وإن كان الراوي لم يصرّح بحكم الرأس والرجلين فيهما ، لأنّ الفصل في كلامه «وذكر رأسه ورجليه» عمّا في الوجه واليدين ، يعني تغيّر الحكم فيهما ، وقد أراد الكرمانيّ الإجابة عن هذا الإشكال فقال :

إن قلت : لم فصل الرأس والرجلين عمّا تقدم ولم يذكرهما على وتيرة واحدة؟

قلت : حيث لم يكن الرأس مغسولا بل ممسوحا فصله عنه ، وعطف الرجل عليه ، وإن كانت مغسولة على نحو قوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ) أو كان لا بس الخفّ فمسحه أيضا (١).

وهذا التأويل من الكرماني باطل ولا يسكن إليه قلب الحر ، لعدة جهات :

__________________

(١) شرح الكرماني على صحيح البخاري ١ :

٣٠٩

الأولى : إنّ المورد هو بيان صفة وضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلا معنى لإجماله في هذا المورد ، وكذا الحال بالنسبة إلى الراوي ، فلو كان قد اطمأنّ بأنّ عليا غسل رجليه لحكى الوضوء عنه كما حكى عن عثمان وغيره من أنّه مسح رأسه ثمّ غسل رجليه ، وحينما لم يوضح الحكم فيهما بل تركهما مجملين عرفنا أنّ حكمه هو المسح ، وهو يخالف حكم اليدين والوجه بقرينة فصلهما عما قبلهما.

الثانية : إنّ اضطراب الكرمانيّ في كلامه يعرّفنا بأنّ الفصل ممّا يؤكد المسح ولا معنى لتأويله ، والتردّد بمثل قوله : (.. أو كان لابس الخف فمسحه)!! الثالثة : لو قبلنا جدلا أنّ قراءة النصب تدلّ على غسل الرجلين ، فإننا نقول أنّ من غير المعقول تصوّر الإجمال في السنّة وبيان مراد الرسول ، إذ اللازم حكاية ما يصدر عنه واضحا صريحا لا مبهما ومجملا ، وإلّا لما كانت للإجابة فائدة.

الرابعة : إنّ ممّا يخطّئ نقل البخاري (وذكر رأسه ورجليه) هو ما ورد في المتون المنقولة بالأسانيد الأخرى عن النزال ، وخصوصا السند الأوّل منها ، ففيه تصريح بأنّ حكم الرجلين هو المسح لا غير ، وهذا دليل قويّ لإثبات مدّعانا وبطلان رأي الكرماني وغيره.

الخامسة : بما أنّ الحكّام قد استقبحوا المسح ، فلا يستبعد أن يكون هذا النص من البخاري وما جاء في النصوص الأخرى عن غيره من الإضافة والتغيير قد جاء لإرضاء الحاكم ، أو أنّهم استقبحوه لكراهته له!! ثمّ إنّ الأدهى من ذلك هو أنّ البخاري لم يتعرض إلى جملة (هذا وضوء من لم يحدث) الثابتة في نهاية الحديث ، والتي تقتضي مسح القدمين على أي نحو فسّرت.

قال ابن حجر وهو في معرض الحديث على السند الثاني : .. وقد ثبت في آخر الحديث قول علي : هذا وضوء من لم يحدث.

وقال القسطلاني في إرشاد الساري : وقد ثبت في آخر الحديث قول علي رضي اللّٰه عنه : وهذا وضوء من لم يحدث.

وقال العيني في عمدة القاري : وقد ثبت في آخر الحديث قول عليّ رضي اللّٰه عنه : هذا وضوء من لم يحدث. وفي أحكام القرآن قريب منه فراجع.

والذي يشدد عجبنا أنّ الطحاوي أخرج عن شعبة كالذي أخرجه النسائي وفي

٣١٠

ذيله «هذا وضوء من لم يحدث» وقال بعده : وليس في هذا الحديث عندنا دليل على أنّ فرض الرجلين هو المسح ، لأنّ فيه أنّه قد مسح وجهه ، وكان ذلك المسح هو غسل ، فقد يحتمل أن يكون مسحه برجله غسلا أيضا».

ونحن وإن كنا سنبين بطلان دعواه هذه في الجزء الثالث من كتابنا إن شاء اللّٰه ، لكننا نقول هنا : إنّ حمل المسح في الوجه واليدين على الغسل ، استظهار صارف عن معنى المسح فيهما ، بخلاف حمله على ذلك في الرجلين ، وهما محل النزاع فيكون ادعاؤه مصادرة صريحة.

تفسير قوله «هذا وضوء من لم يحدث»

وردت هذه الجملة في الإسناد الرابع من طرق عبد خير ، وكذا في بعض أسانيد النزال بن سبرة ، وقد اختلف الأعلام في معناها ، فقال بعض : إنّ المقصود منها هو توضيح حكم الوضوء للمكلّفين وأن المسح على القدمين جائز لمن حافظ على الوضوء ولم يحدث حدثا ناقضا له ، وأما الذي أحدث بما يوجب الوضوء مرة أخرى من خروج ريح أو بول أو غائط أو نحوها ـ فوظيفته غسل القدمين لا المسح.

وذهب آخرون إلى أنّ معناها الأحداث في الدين لما شرحوه في بحوثهم ، لكننا قبل ترجيح أحد الرأيين لا بدّ لنا من الإشارة إلى أن كلمة (يحدث) من المشتركات اللفظية ، فيمكن إطلاقها على الناقض للطهارة كما يمكن إطلاقها على الابتداع في الدين ، ولا تخالف في الظهور والإطلاق على كلّ واحد منهما.

فممّا يدلّ على الأوّل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا وضوء إلّا من حدث) ونحوها.

وعلى الثاني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (من أحدث في المدينة حدثا فعليه لعنة اللّٰه).

وقوله (كل محدثة في الدين بدعة) وغيرها.

وعلى ذلك فإن تعيين أحد المعنيين يستوجب الوقوف على القرائن والشواهد في

٣١١

الباب ، فإنّ قوّت القرائن إرادة معنى الناقضيّة فهو ، وإن دلّت على إرادة الأحداث في الدين فنأخذ به ، فلا محيص عن أن نبحث على ما يعيّن لنا المراد من اللفظ ، وقد تتبعنا القرائن والشواهد ، فرأيناها كالتالي :

الأوّلي : إنّ جملة «هذا وضوء من لم يحدث» لم ترد على لسان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله

[أو أحد من الصحابة غير عليّ بن أبي طالب وعمر بن الخطاب] (١) ، وهذا يدلّنا على عدم فصل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بين حكم المحدث وغيره ، لكون الوضوء من الأمور المبتلى بها في الحياة اليوميّة ومما يتوقف عليه الكثير من العبادات والقربات الإلهيّة ، فلو كان حقا هناك فصل في حكم هذه المسألة للزمه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيّنه ويوضّحه للمسلمين لكونه رسول رب العالمين والمبلّغ لأحكامه تعالى ، فعدم بيانه لهذا الحكم يرشدنا إلى عدم ثبوت هذا الحكم في الشرع المبين ، إذ أنّ ترك بيان مثل هذا الأمر ـ وضوء المحدث ، ووضوء غيره ـ يعني كتمان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض أحكام اللّٰه تعالى والعياذ بالله.

أو إحراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بإيجاب إتيانهم بأمور «كغسل الرجلين» مع إمكانهم أدائها بطرق شرعية سهلة لمن حافظ على وضوئه الغسليّ «كمسح الرجلين»!! وعليه فعدم وجود مرفوع إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو موقوف على صحابي آخر غير علي وعمر فيه هذه الجملة ، يرشدنا إلى عدم صحّة ما افترضوه في كلامه عليه‌السلام من كونه متعلقا بوضوء من لم يحدث حدث الطهارة.

الثانية : من الثابت في الشرع لزوم نسبة الأحكام إلى اللّٰه ورسوله ، فتراهم يقولون : سمعت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال كذا ، أو خطبنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد فقال ، أو : فعلنا كذا بمحضر الرسول ولم يمنعنا ، أو : إلا أريكم وضوء نبيكم ، أو غير ذلك ممّا جرت به سيرتهم في رفع الأحكام إلى الشارع المقدس ، والوضوء لم يخرج عن هذه القاعدة العامة الشرعية ، ولو تتبّعت المرويات فيه لرأيت أنّ من روى فيه قد رفع حديثه إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن لنا سؤال وهو : لما ذا لم يرفع الإمام علي جملة «هذا وضوء من لم يحدث» إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حين نجده ـ في نفس الرواية ـ يرفع قضية شرب فضلة الوضوء وهو قائم إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقول : هكذا رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل ، أو : إنّي

__________________

(١) سيأتي الحديث عن رواية عمر تحت عنوان ما رواه «الصحابة الرواة للمسح».

٣١٢

رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل كما فعلت ، فما يعني هذا؟ ولما ذا أوقف الجملة الأولى «هذا وضوء من لم يحدث» على نفسه ورفع الثانية إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله «هكذا رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل»؟! ألا يدلّنا هذا على أنّ جملة «هذا وضوء من لم يحدث» ليس لها دلالة على الناقضيّة ، بل فيها إشارة إلى أمر خارجيّ يتعلّق بإحداث من قبله في الوضوء؟ إذ تراه ينسب الشرب قائما إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو ليس بأهم من بيان حكم من لم يحدث ـ ويوقف جملة «من لم يحدث» على نفسه ، مع معرفتنا بأنّ الفرض الأصلي هو بيان أحكام الوضوء ، والشرب من قيام أمرّ متفرع عنه ، فعلى أي شي‌ء يدلّ هذا ، ألا يدل على التخالف بين الفهمين؟.

الثالثة : إنّ رفع الإمام كلامه في قضية الشرب قائما إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوضّح لنا وجود فكر سائد عند جمع من الناس ، مفاده عدم جواز الشرب قائما ، لقوله : (إنّ ناسا يكرهون أن يشربوا وهم قيام ..)

فالإمام لمّا رأى اعتقاد هؤلاء بعدم جواز شرب فضلة الوضوء واعتباره (١) شرعا عاما عندهم بادعاء نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الشرب واقفا ، جاء ليوضح لهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع نهيه عن الشرب قائما قد أجاز شرب فضلة الوضوء بالخصوص ، وهذا هو التقييد بعد الإطلاق ، فالناس بنسبتهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المنع من شرب فضلة الوضوء ، أتوا بأشياء منكرة وأدخلوا في الدين ما ليس منه ، وهو الإبداع والأحداث المنهيّ عنه بعينه ، فالإمام أراد بفعله إبعادهم عمّا تصوروه وأنّ ذلك من الإبداع والإحداث في الدين ، فلا يجوز لهم جعله شريعة يتعبدون بها.

وعليه فيمكن أن يكون الإمام عليّ قد أراد بفعله أن يوضّح أمرين قد خفيا على بعض المسلمين :

الأوّل : إنّ غسل القدمين ليس بشرعيّ وأنّه وضوء من أحدث في الدين ، بخلاف المسح الذي هو وضوء من لم يحدث.

الثاني : جواز شرب فضلة الوضوء وهو قائم ، ومن يعتقد بعدم جوازه فقد أبدع

__________________

(١) انظر الناسخ والمنسوخ : ٢٥٨.

٣١٣

وأحدث في الدين.

فالإمام قد أوقف الأمر الأوّل على نفسه ، لوقوفه على حقيقة تاريخية وبدعة ظاهرة جاءت بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبل خلافته ، ورفع الأمر الثاني ـ وهو الشرب واقفا ـ إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليزيل عن الناس ما تصوّروه خطأ من عدم جواز فعل ذلك.

الرابعة : إنّ القول بكون جملة «هذا وضوء من لم يحدث» حكما لمن لم ينقض وضوءه بحدث!

يدعونا للقول بوجود حكمين لمتعلّق واحد.

١ ـ حكم وضوء من أحدث غسل الرجلين.

٢ ـ حكم وضوء من لم يحدث جواز المسح على القدمين.

وهذا لغو وباطل ، ولو صحّ للزم أن يدلّ عليه دليل من الذكر الحكيم أو السنّة المطهّرة ، ولجاء في كلام الصحابة ، وحيثما لم نجد ذلك عرفنا أنّ مقصود الإمام هو الابتداع والإحداث في الدين ، وأنّه قصد بكلامه من سبقه في طرح هذه الرؤية المغلوطة وهو الخليفة عثمان بن عفان!

الخامسة : لا يشك أحد من المسلمين بان الوضوء مندوب في الشريعة سواء أحدث أم لم يحدث ، الا أن بعض المسلمين في الصدر الأول تصور ضرورة الوضوء لكل صلاة ، فقد روى عبد الرزاق بسنده عن حطّان بن عبد اللّٰه الرقاشي ، قال : كنا مع أبي موسى الأشعري في جيش على ساحل دجلة إذا حضرت الصلاة ، فنادى مناديه للظهر ، فقام الناس إلى الوضوء فتوضوا ، فصلى بهم ثمّ جلسوا حلقا ، فلما حضرت العصر نادى منادي العصر ، فهب الناس للوضوء أيضا ، فأمر مناديه فنادى : إلا ، لا وضوء الا على من أحدث ، قد أوشك العلم أن يذهب ، ويظهر الجهل حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل (١) وروى أيضا بسنده عن المسدد بن مخرمة ، قال لابن عباس .. عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج فتوضأ ، قال ابن عباس : هكذا يصنع الشيطان ، إذا جاء فآذنوني ، فلما أخبروه قال : ما يحملك على ما تصنع؟

قال : إن اللّٰه يقول (إذا قمتم إلى ..)

__________________

(١) مصنف عبد الرزاق ١ : ٥٥ ح ١٥٩.

٣١٤

قال ابن عباس : ليس هكذا إذا توضأت فأنت طاهر ما لم تحدث (١).

وروي أيضا عن ابن جريح أنّه سئل عطاء : الوضوء لكل صلاة؟

قال عطاء : لا.

قلت : فإنه يقول (إذا قمتم ..)

قال عطاء : حسبك الوضوء الأول ، لو توضأت للصبح لصليت الصلاة كلها به ما لم أحدث.

قلت : فيستحب أن أتوضأ لكل صلاة؟

قال : لا (٢).

فهذه النصوص تؤكّد وجود فكرة خاطئة يحملها بعض المسلمين ، وهي الذهاب إلى لزوم الوضوء لكل صلاة أو القول باستحباب ذلك ومحبوبيته ، وهذا القول يدعوهم أن يجعلوا للوضوء عنوانين :

أحدهما : التوضؤ بسبب الحدث الناقض للطهارة ، وثانيهما : التوضؤ على الطهارة ومن غير حدث باعتباره سنة!! فأبو موسى الأشعري وضّح سقم هذه الفكرة وأن التركيز على شي‌ء اسمه وضوء من لم يحدث بهذا الشكل أمر لا علاقة له بالشريعة ، ويزيد الأمر وضوحا لو تأملنا في ذيل كلام أبي موسى «أو شك العلم أن يذهب ويظهر الجهل حتى يضرب الرجل امه بالسيف من الجهل» فلما ذا قال لهم هذا؟! ألأنّ أبا موسى ينهاهم عن شي‌ء مشروع؟ وهذا غير معقول لكونه صحابي كبير! بل لما ذا؟! التفشي الجهل بينهم؟ فعدم ردّ واحد منهم عليه ليكشف عن قبولهم بخطئهم.

بل أن جسامة القضية هي التي دعت أبي موسى أن يقول مقولته لانه فشا فيهم الجهل إلى حد يؤدي بهم إلى أن يضرب أحدهم امه بالسيف! ومثله الحال بالنسبة لابن عباس ووصفه لوضوء عبيد بن عمير : بأنه من صنع الشيطان ، فلا يعقل

__________________

(١) مصنف عبد الرزاق ١ : ٥٧ ح ١٦٧.

(٢) مصنف عبد الرزاق ١ : ٥٧ ح ١٦٥.

٣١٥

أن يصف ابن عباس فعل مسلم مباح بأنه من صنع الشيطان؟ إذا هناك أمر من وراء الكواليس.

فلم يبق لنا بعد كل هذا إلّا أن نقول : إنّ ما فعله عبيد إنما كان بدعة لا يتماشي مع ثوابت الوضوء في الإسلام.

ومن اجله وقف ابن عباس امامه لاعتقاده بكون هذا الأمر أحدوثة ، وهذا هو الذي أجاز له أن يصف فعل ظاهره الندب بأنه من صنع الشيطان لوقوفه على تبنى اشخاص لهذا الرأي وخلق منه اتجاه في التشريع الإسلامي.

وما جواب عطاء بنفي الاستحباب الا ليؤكد على هذه الحقيقة كذلك.

ولم يقف ردع التابعين لهذه الفكرة الخاطئة عند عطاء حتى شمل سعيد بن المسيب كذلك ، فقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده عن سعيد بن المسيب أنّه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء. (١)

فلو تساءلنا : أحقا أن وضوء غير المحدث اعتداء؟ مع ثبوت إباحته عند كل المسلمين ، أم أن وراء هذه المقولة شي‌ء آخر؟

لكان جوابنا : أنّ سعيد بن المسيب لا يعنى بقوله : إنّ الوضوء المندوب هو اعتداء ، بل كان يريد الإشارة إلى أنّ التعمق في الدين والتعدي عما شرعه اللّٰه هو الابتداع وهذا ما يريده هؤلاء لأنه التزام بما لم يلزمنا اللّٰه ورسوله به ، وهو فعل أهل الجهل حسب وصف أبي موسى الأشعري لهم ولكونه فهم متأخر من عهد التشريع ـ وأنت ترى ـ أن موقف سعيد بن المسيب لا يقل في الشدة عن موقف أبي موسى وابن عباس وغيرهما ، وقد ذكرنا لك بان هذه النصوص والشدة والحدة التي فيها كافية للدلالة على أنّ هناك نهج اسمه (وضوء من لم يحدث) ، بدءا بأهل الجهل في زمن أبي موسى الأشعري إلى يومنا هذا.

أقول وبعد كل ما مر من أنّ وضوء من لم يحدث هو من صنع الشيطان ، وأنّه من أهل الجهل ، وأنّه اعتداء في الدين وأنّه ليس بمستحب إذ وقفت على نص الإمام على وشربه الماء واقفا وإتيانه بالمسح بعد أنّ بال وحين كان طاهرا.

__________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ١ : ٣٤ ح ٢٩٥ ، تفسير طبري ٦ : ٧١.

٣١٦

فمن هنا يمتنع أن يفسر الحدث الوارد في قول على «هذا وضوء من لم يحدث» بما قالوه لان تفسيرهم لكلام الإمام يجعلنا أن نقول بوجود وضوءين أحدهما لمحدث والآخر لغيره ، وهذا لم يثبت.

هذا وإنّ فكرة التقسيم هذه ظهرت متأخرا ولم ترد على لسان الصحابة ـ لا صغارهم ولا كبارهم ـ ولا حتى على لسان التابعين ، بعكس موقف النفي والتخطئة والذي ورد على لسان الصحابة والتابعين ، وهذا يكشف على أنّ الوضوء النبوي واحد ـ مع الحدث وبدونه ـ ، وهو الأخر يكشف على ان الذاهبين إلى القول السابق هم الذين اعتدوا على الأحكام بالزيادة فيه وهم الذين رماهم أبو موسى الأشعري بالجهل ، وابن عباس بأنه من صنع الشيطان.

وهل تتصور خفاء مثل هذا الأمر على صحابه أمثال علي بن أبي طالب وهو باب علم رسول اللّٰه أو خفائه على ابن عباس وهو حبر الأمة أو أبي موسى الأشعري وأنس ابن مالك أو على ابن المسيب و ..

فاستبان مما تقدم إنّ قول على ابن أبي طالب (هذا وضوء من لم يحدث) لا يفيد ما يدّعونه بل هو صريح بنظرنا في الاحداث في الدين وذلك بعد إبطالنا دلالتها على الناقضية ، وإليك كلام ابن عمر كدليل آخر ، فقد أخرج الطبري بسنده عن أبي غطيف قال : صليت مع ابن عمر الظهر فاتى مجلسا في دار. فجلس وجلست معه فلما نودي بالعصر دعا لوضوء فتوضأ ثمّ خرج إلى الصلاة ثمّ رجع إلى مجلسه فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ ، فقلت : أسنة ، ما أراك تصنع؟

قال [يعنى ابن عمر] : لا وإن كان وضوئي لصلاة الصبح كاف للصلوات كلها ما لم أحدث (١).

فإذا لم يكن هذا الوضوء سنة فهل تصدق أن يأتي صحابي كعلي ويعلم الناس ما هو ليس بسنة؟! والذي يظهر لنا من مجموع الروايات أنّ بذرة الخلاف وارتكاز أمثال هذا الفكرة انما كان موجودا ومنذ عهد رسول اللّٰه عند بعض الصحابة فقد أخرج الطبري بسنده

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ : ٧٣.

٣١٧

عن سفيان بن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه قال : صلى رسول اللّٰه الصلوات كلها بوضوء فقال له عمر : يا رسول اللّٰه صنعت شيئا لم تكن تصنع ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عمدا فعلته يا عمر (١).

فيشعر هذا النص بان رسول اللّٰه كان يتخوف من اتخاذ بعض الصحابة حالة الوضوء لكل صلاة من دون حدث سنة يلتزم بها ، ولهذا قال لعمر : عمدا فعلته.

وروى ابن جرير بسنده عن عبيد اللّٰه بن عبد اللّٰه بن عمر أنه سئل عن وضوء عبد اللّٰه بن عمر لكل صلاة ـ طاهرا أو غير طاهر ـ فقال : قالت : أسماء ابنة زيد بن الخطاب ، إنّ عبد اللّٰه بن زيد بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثنا أنّ النبي أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء الا من حدث (٢).

فهذا النص يوضح أنّ الوضوء لكل صلاة كان مما أمر به النبي ونسخ دفعا للمشقة ، فقد يكون بعض الصحابة أدخلوا هذا الأمر في التشريع اجتهادا واستحسانا من أنفسهم له أو أنهم لم يقفوا على نسخه.

فنتساءل بعد هذا هل يعقل أن يكون هذا الحكم والذي رفعه اللّٰه عن امة النبي تفضلا أن يعمل به من قبل على بن أبي طالب وفي أيام خلافته في رحبة الكوفة ، والذي قال عنه النبي ما قال؟؟!

السادسة : من الثابت كون الإمام عليّ بن أبي طالب من قادة التعبد المحض ، إذ كان لا يرتضي الاجتهاد ، بل كان يجدّ لتصحيح ما فتقه من سبقه من الخلفاء ، بخلاف عثمان بن عفان الذي اجتهد في تقديم الخطبة قبل الصلاة في العيدين ، وإتمام الصلاة بمنى ، وعفوه عن عبيد اللّٰه بن عمر ، وغيرها .. ، وقد رماه الصحابة بالإحداث والإبداع ، فقال له طلحة : إنك قد أحدثت إحداثا لم يكن الناس يعهدونها (٣).

وقال الزبير في حقه : اقتلوه فقد بدّل دينكم (٤).

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ : ٧٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ : ٧٢.

(٣) أنساب الاشراف ٥ : ٢٩.

(٤) شرح نهج البلاغة ، بن أبي الحديد ٩ : ٣٦.

٣١٨

وقال سعد بن أبي وقاص : غيّر وبدّل (١).

وقالت عائشة : اقتلوا نعثلا فقد كفر (٢).

وقال ابن مسعود : ما أرى صاحبكم إلّا غيّر وبدّل (٣).

وقال عمار بن ياسر : قتلناه لإحداثه (٤).

وغيرها من النصوص التي مرت عليك وكان الإمام علي قد أنبأ بوقوع ذلك يوم الشورى حيث قال :«أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان ، وليحدثنّ البدع والأحداث ، ولئن بقي لأذكرنك ، وإنّ قتل أو مات ، ليتداولها بنو أميّة بينهم ، وإن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون».

هذا ، وقد كان الناس يكررون الطلب من عليّ بن أبي طالب أن يكلم الخليفة في إحداثاته المتكررة ، فدخل عليه وقال : إنّ الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، وو اللّٰه ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلّك على شي‌ء تعرفه ، إنك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شي‌ء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشي‌ء فنبلّغكه ، وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما صحبنا ، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك ، وأنت أقرب إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وشيجة رحم منهما .. إلى آخره.

فعلي بن أبي طالب حمل في الواقع مهمّة التصحيح على عاتقه فضلا عن إمامته وخلافته على المسلمين ، وبما أنّ الوضوء كان من الأحكام التي منيت بالتحريف على عهد عثمان بن عفان كان لزاما عليه عليه‌السلام أن يقيم أودها ويجبر كسرها ، وذلك بتوضيحه وضوء من لم يحدث في الرحبة! كانت هذه مجموعة القرائن التي يترجح بها إرادة معنى الإحداث والإبداع في الدين على إرادة الناقضية ، ومما يزيد هذا الاستظهار قوة هو عدم وجود حكم خاصّ

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٤٨.

(٢) الفتوح لابن الأعثم.

(٣) أنساب الاشراف ٥ : ٣٦ ، شرح النهج ٣ : ٤٣ ، حلية الأولياء ١ : ١٣٨.

(٤) كتاب صفين : ٣١٩ ، تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٠.

٣١٩

لغير المحدث في الإسلام ولا عند المسلمين للأدلّة التالية :

الأول : ثبت عن ابن عباس قوله (الوضوء غسلتان ومسحتان) و (أبي الناس إلّا الغسل) و (لا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح) ، وثبوت هذا عنه يؤكد على أنّ ما افترضه اللّٰه هو المسح لا غير ، دون تفصيل بين من يحدث وبين من لم يحدث! ثمّ إنّ جملة (أبي الناس) في الخبر الثاني عنه تشير إلى أنّ المعارضين للغسل كانوا تيّارا حكوميا أحبّوا الغسل لاحقا لما فيه من الإنقاء والنظافة ، واستجابوا لما دعت إليه الحكومة الأمويّة في أواخر عهد معاوية بن أبي سفيان حسب ما اتّضح في مدخل الدراسة ، ويكون قول ابن عباس (أبي الناس إلّا الغسل) عبارة أخرى عن الوضوء المحدث في زمن عثمان والذي امتدّ وبقي حتى العصر الأموي ، فحاربه ابن عباس أيضا ، ودلل على أنّ الوضوء الصحيح الذي ليس فيه إحداث وابتداع هو غسلتان ومسحتان لا غير.

ثمّ إنّنا نعلم أنّ القول بالمسح لغير المحدث متفرّع على القول بالغسل ، وذلك لأنّ القائلين بالغسل حينما لم يستطيعوا ردّ الروايات المستفيضة عن عليّ في أنّ مذهبه المسح ، عمدوا إلى تغيير معنى الإحداث الديني إلى الناقضية ، لكنّ نفي ابن عباس وجود حكم غسليّ للوضوء يصرّح بعدم وجود حكم اسمه «وضوء من لم يحدث» ـ بمعنى الناقضية ـ في الشريعة الإسلامية.

الثاني : قد ثبت في رواية المسي‌ء أن رفاعة بن رافع ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا يتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّٰه تعالى ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين).

وفي هذا دلالة على أنّ ما فرضه اللّٰه تعالى للمتوضئ هو مسح القدمين لا غير.

وذلك لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في مقام بيان ما فرضه اللّٰه من أحكام الوضوء للمسلمين عموما ، وللمسي‌ء الذي كان يجهلها خصوصا ، فلو كان ثمة رخصة أو شي‌ء اسمه وضوء من لم يحدث لبيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تعاليمه ولذكره له.

وأمّا جملة (حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّٰه) في هذه الرواية ففيها إشارة إلى دحض مسلك الرأي ، واستغلالهم مفهوم الإسباغ للإكثار من الغسلات ، وللتدليل على غسل الأرجل ، لما مرّ عليك من قول عائشة لعبد الرحمن (أسبغ الوضوء ، فإني

٣٢٠