وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

عبد اللّٰه بن زيد وروايات المسح

٤٠١
٤٠٢

المطالع في كتب السنن والأخبار يشاهد مجموعة روايات قد حكت المسح عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم الأنصاري ، ونحن بإتياننا لتلك الروايات نواصل البحث مع القراء.

أ ـ ما رواه عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن عبد اللّٰه

الإسناد الأول

قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن عبد اللّٰه بن زيد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرّتين ومسح برأسه ورجليه مرّتين (١).

المناقشة

قد عرفت حال رجال هذا السند سابقا ، وهم ثقات ، سوى عمرو بن يحيى الموثّق من قبل النسائي والترمذي وأبي حاتم وابن سعد ، والمضعّف من قبل ابن معين والدار قطني وابن المديني!!

الإسناد الثاني

قال الدار قطني : أخبرنا جعفر بن محمد الواسطي (٢) ، أخبرنا موسى بن إسحاق (٣) ، أخبرنا أبو بكر (٤) ، أخبرنا ابن عيينة ، بهذا الإسناد ـ أي

__________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ١ : ١٦ ، كنز العمال ٩ : ٤٥١ رقم ٢٦٩٢٢.

(٢) هو جعفر بن محمد الواسطي ، شيخ الدار قطني (انظر تهذيب الكمال ٥ : ١٠٥ ، وتهذيب التهذيب ٢ : ١٠٦ ، وتاريخ بغداد ٧ : ١٧٩).

(٣) الظاهر انّه موسى بن إسحاق بن عبد اللّٰه بن موسى ، أبو بكر الأنصاري ، الخطمي (انظر تاريخ بغداد ١٣ : ٥٣).

(٤) هو الإمام أبو بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف المعروف تقدمت ترجمته في مرويات ابن عباس المسحية.

٤٠٣

الإسناد المتقدم ـ مثله (١).

المناقشة

رجال هذا الطريق ثقات أيضا ـ سوى عمر بن يحيى المتقدّم ـ فالواسطي ثقة حسب قول الخطيب في تاريخه : «كان ثقة» ، وموسى بن إسحاق ثقة على ما هو صريح عبد الرحمن بن أبي حاتم ، حيث قال : كتبت عنه وهو ثقة صدوق» (٢).

وقال البغدادي : كان عفيفا دينا فاضلا (٣).

وقال احمد بن حنبل : كان فصيحا ثبتا في الحديث (٤).

ب ـ ما رواه عباد بن تميم عن عمه [عبد اللّٰه]

الإسناد

قال الطحاوي : حدثنا روح بن الفرج (٥) ، قال : حدثنا عمرو بن خالد (٦) ، قال : حدثنا ابن لهيعة (٧) ، عن أبي الأسود (٨) ، عن عبّاد بن تميم (٩) ، عن عمه [عبد اللّٰه] : أنّ

__________________

(١) سنن الدار قطني ١ : ٨٢.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٥٣.

(٣) تاريخ بغداد ١٣ : ٥٣.

(٤) تاريخ بغداد ١٣ : ٥٣.

(٥) هو روح بن الفرج القطان ، أبو الزنباع المصري ، من موالي آل الزبير بن العوام (انظر تهذيب الكمال ٩ :٢٥٠ ، تهذيب التهذيب ٣ : ٢٩٧).

(٦) هو عمرو بن خالد بن فروخ الحنظلي ، أبو الحسن الجزري الحراني (انظر تهذيب الكمال ٢١ : ٦٠١ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٤٢٧ ، تهذيب التهذيب ٨ : ٢٥).

(٧) هو عبد اللّٰه بن لهيعة بن عقبة الحضرمي الاعدولي ، أبو عبد الرحمن المصري ، روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة (انظر تهذيب الكمال ١٥ : ٤٨٧ ، تهذيب التهذيب ٥ : ٣٧٣ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ١٠) وغيرهما من المصادر.

(٨) هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي الأسدي ، أبو الأسود المدني ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٢٥ : ٦٤٥ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ١٥٠ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٣٠٧) وغيرها من المصادر.

(٩) هو عباد بن تميم بن غزيّة الأنصاري ، ابن أخي عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم ، وكان تميما ـ أخا عبد اللّٰه بن زيد ـ لامه وقيل لأبيه ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ١٤ : ١٠٧ ، تهذيب التهذيب ٥ : ٩٠ ، الجرح والتعديل ٦ : الترجمة ٣٩٨).

٤٠٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ ومسح على القدمين ، وأنّ عروة كان يفعل ذلك (١).

المناقشة

روح بن الفرج ثقة ، على ما هو صريح الدار قطني (٢) والمزي (٣) وابن حجر (٤) وغيرهم.

وأما عمرو بن خالد ، فهو ممّن وثّقه ابن معين (٥) وابن حجر (٦) والعجلي (٧) ، وقال الحاكم عن الدار قطني : ثقة حجة (٨).

وقال مسلمة في الصلة : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات (٩) ، ولم نعثر على قول يجرحه بشي‌ء.

وأمّا ابن لهيعة ، فهو ممّن لا يحتجّ به ، لتردّد الرجاليّين فيه بين الجرح والتليين المفسّرين.

نعم ، روى الطبراني في الكبير ، عن المقدام بن داود سماعا منه ، عن أسد بن موسى سماعا منه ، عن ابن لهيعة سماعا منه ، عن أبي الأسود ، عن عباد بن تميم ، عن أبيه.

لقوله : حدّثنا المقدام بن داود ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود ، عن عبّاد بن تميم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ ، فبدأ

__________________

(١) شرح معاني الآثار ١ : ٣٥ ح ١٦٢.

(٢) انظر سنن الدار قطني ٢ : ١٧١ ـ ١٧٢.

(٣) تهذيب الكمال ٩ : ٢٥٠.

(٤) تهذيب التهذيب ٣ : ٢٩٧.

(٥) انظر هامش تهذيب الكمال ٢١ : ٦٠٣.

(٦) تقريب التهذيب ٢ : ٦٩.

(٧) ثقات العجلي : ٣٦٣ ترجمة ١٢٥٦.

(٨) تهذيب التهذيب ٨ : ٢٦.

(٩) تقريب التهذيب ٢ : ٦٩ ترجمة ٥٧١.

٤٠٥

فغسل وجهه وذراعيه ، ثمّ تمضمض واستنشق ، ثمّ مسح برأسه (١).

وعلق أبو عمر الفهري القرطبي في كتابه «الاستيعاب» ـ على ما رواه عباد في الوضوء ، وأنه قال : رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ ويمسح بالماء على رجليه (٢) ـ بقوله : وهو حديث ضعيف الإسناد لا تقوم به حجّة.

وأنت ترى سخف دعواه ، ويكفيك دليلا على ذلك قول ابن حجر في الإصابة بعد أن صرح بوثاقة رجال رواية عباد بن تميم عن أبيه أو عمّه ـ والذي سيأتي لاحقا ـ قال : وأغرب أبو عمر فقال : أنّه ضعيف (٣).

وقال الشوكاني : أخرج الطبراني ، عن عباد بن تميم عن أبيه ، قال : رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ ويمسح على رجليه (٤).

وقال ابن حجر : روى البخاري في تاريخه ، وأحمد [في مسنده] ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي عمر ، والبغوي ، والبارودي وغيرهم ، كلهم عن طريق أبي الأسود عن عبّاد ابن تميم ، عن أبيه قال : رأيت رسول اللّٰه يتوضأ ويمسح الماء على رجليه (٥).

وفي كنز العمال : عن مسند تميم بن زيد ـ أبو عباد ـ عن عباد بن تميم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وضّأ ومسح بالماء على لحيته ورجليه (٦).

وبهذا ، فقد عرفنا أنّ عبادا كان قد روى لنا الوضوء المسحي عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريقين.

الأول : عن طريق عمّه عبد اللّٰه.

والثاني : عن طريق أبيه تميم بن زيد.

والسند الأخير منه هو صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وإنك ستعرف ذلك

__________________

(١) المعجم الكبير ، للطبراني ٢ : ٦٠ ح ١٢٨٥.

(٢) الاستيعاب ١ : ١٨٥ (المطبوع بهامش الإصابة).

(٣) الإصابة ١ : ١٨٥ وانظر مسند أحمد : مسند المدنيين.

(٤) عمدة القاري ٢ : ٢٤٠ ، وخبر الطبراني موجود في المعجم الكبير ٢ : ٦٠ ح ١٢٨٦ وصحيح ابن خزيمة ١ : ١٠١.

(٥) الإصابة ١ : ١٨٥.

(٦) كنز العمال والمعجم الكبير ٢ : ٦٠ ح ١٢٨٦.

٤٠٦

حين بحثنا عن روايات عبّاد المسحية (١) إن شاء اللّٰه تعالى.

وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو عدم رواية عباد حديثا عن عمّه في الوضوء الثلاثي الغسلي ، وهذا يعضد كون المروي عن عبد اللّٰه هو المسح ، لرواية عباد عنه ذلك ، ولروايته مثل ذلك عن أبيه تميم ..

البحث الدلالي

قد عرفت فيما مضى أنّ النصوص الواردة عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم مختلفة لفظا ، فتارة يقول الراوي : «فمسح برأسه فأقبل وأدبر» وأخرى لم تره يقيد المسح بقيد ما ، لقوله : «ثمّ أدخل يده في الإناء فمسح برأسه» أو «ثمّ أدخل يده فمسح رأسه» أو «ثمّ أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه».

ولهذه النصوص الثلاث الأخيرة دلالة على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ ماء جديدا لمسحه ، لقول الراوي «ثمّ أدخل يده ..» وفي آخر «فمسح بماء غير فضل يده» (٢).

أما النص الأول فليس فيه هذا المعنى ، لمسحه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرأس مقبلا ومدبرا بعد أن أتمّ غسل الذراعين ، ببلل يديه.

نعم ، هناك نص عن الربيع بنت معوّذ يخالف ما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه أخذ ماء جديدا لرأسه ، والسند هو : أخبرنا محمد بن هارون أبو حامد ، أخبرنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا عبد اللّٰه بن داود ، سمعت سفيان بن سعيد ، عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، عن الربيع بنت معوذ ، قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتينا فيتوضأ ، فمسح رأسه بما فضل في يديه من الماء ومسح هكذا ، ووصف ابن داود قال : بيديه من مؤخر رأسه إلى مقدمه ، ثمّ

__________________

(١) ضمن رواه المسح من التابعين.

(٢) انظر مسند أحمد ٤ : ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ، والترمذي ١ : ٢٦ ، ٣٥ عن حبان بن واسع عن أبيه عن عبد اللّٰه بن زيد عاصم.

٤٠٧

ردّ يديه من مقدم رأسه إلى مؤخره (١).

وعن الحسين بن إسماعيل ، أخبرنا زيد بن أحزم ، أخبرنا عبد اللّٰه بن داود ، أخبرنا سفيان ، عن عبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، عن الربيع بنت معوذ : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ ومسح رأسه ببلل يديه (٢).

فهذه النصوص تراها متعارضة فيما بينها ، فالبعض منها تذهب إلى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ببلل يديه ، والأخرى بماء غير فضل يده!! فنتساءل : أيّهما هو الأقرب إلى سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله والثابت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فلو كان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مسح بفضل يديه و «ببلل يديه» فما الموجب لإدخال يده صلى‌الله‌عليه‌وآله في الإناء تارة أخرى ومسح رأسه به؟! وهل المسح يحتاج إلى أخذ ماء جديد ، أم ان ذلك هو من لوازم الغسل؟ وهل ان المسح يقتضي الاستيعاب حتى يصح كلام عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم؟! قال ابن حزم : المسح في اللغة التي نزل بها القرآن هو غير الغسل بلا خلاف ، والغسل يقتضي الاستيعاب والمسح لا يقتضيه (٣).

هذا أولا.

وامّا ثانيا : الملاحظ في غالب مرويات عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم أن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غسل وجهه ثلاثا ، ويديه مرّتين مرّتين ومسح برأسه فأقبل بهما وأدبر ، وغسل قدميه.

وهذا النقل يخالف ما حكاه غيره من الصحابة عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنهم لو ذكروا التثليث لكان في جميع الأعضاء ، وهكذا المرة والمرّتين ، وليس فيما نقلوه ما يشابه نقل ابن عاصم!! فنتساءل : ما هو حكم اليدين هل هو ثلاثا أم ثنتين؟! فلو قيل بصحة النقلين ، فيكون معناه : أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بفعله هذا تصحيح كلا النقلين عنه ومعناه : ان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله غسل ذراعيه تارة ثلاث مرات واخرى

__________________

(١) سنن الدار قطني ١ : ٨٧ ح ٢ باب المسح بفضل اليدين.

(٢) سنن الدار قطني ١ : ٨٧ ح ١ باب المسح بفضل اليدين.

(٣) المحلى ٢ : ٥٢.

٤٠٨

مرّتين.

فلو صح هذا نتساءل : لما ذا اختصّ عبد اللّٰه بن زيد بهذا النقل عنه دون الصحابة؟

ولو كان الاستيعاب من شروط الغسل لا المسح! فلم مسح رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأسه مقبلا ومدبرا؟

ألم يكن الغسل هو تطهير العضو بالماء وازالة الوسخ عنه والمسح هو إمرار يده عليه فقط؟

ولو صحّ هذا الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم لا نرى الأعلام يعملون به كأبي حنيفة القائل بجواز مسح الرأس بثلاث أصابع ، والثوري بإجزاء مسح بعض الرأس ولو شعرة واحدة ، وحد أصحاب الشافعي بشعرتين وبإصبع وببعض إصبع ، وقال الأوزاعي والليث بإجزاء مسح مقدم الرأس فقط ومسح بعضه كذلك ، ومثله قول داود : يجزي من ذلك ما وقع عليه اسم مسح ، وكذلك بما مسح إصبع أو أقل (١).

فلو كان هذا مذهب الأعلام ، فعلام حملوا خبر الاستيعاب للرأس مقبلا ومدبرا عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! وعلى أيّ شي‌ء يدلّ ذاك؟! ولو صحّ ما جاء عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم في الأخبار السابقة ، فكيف يمكن تطابقه مع ما نقله عباد بن تميم عن عمّه عبد اللّٰه بن زيد ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أتي بثلثي مدّ ماء فتوضأ ، فجعل يدلك ذراعيه (٢).

فلو صح ما قاله محقّق صحيح ابن حبان من أن إسناده صحيح ، وصحّ ما جاء عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنه كان يتوضأ بالمدّ ويغتسل بالصاع ، فكيف يمكن تطابق تلك النقول مع ما يحكيه عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم!! وبهذا فقد عرفت أنّ أخبار عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم مضطربة في نفسها ومع غيرها ، ومخالفة لروايات الآخرين من الصحابة ، ومجملة الدلالة على المقصود ، ومعارضة لأخبار مسحية أخرى جاءت عنه ، ومخالفة لصريح القرآن المجيد حسب ما ستعرف لاحقا إن شاء اللّٰه تعالى.

__________________

(١) انظر المحلى ٢ : ٥٢.

(٢) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بليان ٣ : ٣٦٤.

٤٠٩
٤١٠

نسبة الخبر إليه

إنّ أوّل ما يطالعنا حول وضوء هذا الصحابي ، هو وجود نقلين لوضوئه ، (مسحي ثنائي) و (غسلي ثلاثي) ، وقد تبين خلال البحث الأنف أنّ الوضوء المسحي هو الراجح صدوره عنه.

والذي يؤيّد هذه النتيجة المتوصل إليها ، وجود أكثر من شاهد ومؤشّر يجعلنا نطمئن بوضوئه المسحي ، وأن نشك فيما روي عنه من الوضوء الغسلي.

فهذا الصحابي هو من خزرج الأنصار ، الذين عرفوا بمواقفهم المشرفة تجاه النبي في حياته وتجاه أهل بيته في حياته وبعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقد قدّم الخزرج من الأنصار ثمانية شهداء من مجموع أربعة عشر شهيدا في بدر (١) ، وقدّموا في معركة أحد سبعين شهيدا وأربعين جريحا في حين استشهد أربعة من المهاجرين فقط (٢) ، وكان في غزوة بني المصطلق ثلاثون فارسا من المسلمين عشرون منهم من الأنصار (٣) ، وحين انهزم المسلمون في بداية وقعة حنين كان النداء موجّها إلى الأنصار ، ثمّ على بني الحارث بن الخزرج الذين كانوا صبرا عند اللقاء (٤) ، وقد كانت الأنصار في كل ذلك إلى جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ضد قريش وعتاتها ، وقد تجلى ذلك واضحا في وقعة الخندق (الأحزاب) حيث دافعوا عن مدينتهم بحفر الخندق ، وأكبروا موقف علي في قتله عمرو بن ودّ ومن عبر معه الخندق ، كما تجلّى الصراع وبغض قريش للأنصار في فتح مكة ، حيث اعتبرت قريش أنّ أطول الباع في هزيمتها أمام النبي إنما كان للأنصار.

وهذا هو الذي يفسر لنا سر تسليط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الضوء على الأنصار ، والأمر

__________________

(١) الأنصار والرسول ، لإبراهيم بيضون : ٢٦ عن خليفة بن خياط ١ : ٢٠.

(٢) الأنصار والرسول ، لإبراهيم بيضون : ٣٢ عن المغازي : ٣٠ ، ابن سعد ، عزوات : ٤٣.

(٣) الأنصار والرسول ، لإبراهيم بيضون : ٣٤.

(٤) المغازي النبوية : ٩٢ ، ومغازي الواقدي ٣ : ٨٩٩.

٤١١

بمحبتهم والاهتمام بأمرهم. فجاء عن النبي ـ على ما رواه البراء عنه ـ في الأنصار قوله : «لا يحبهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق ، من أحبهم فقد أحب اللّٰه ، ومن أبغضهم فقد أبغضه اللّٰه (١)».

وعن أبي سعيد الخدري قوله : إنا كنا لنعرف المنافقين نحن معاشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب (٢) ، إذ ان علي بن أبي طالب كان محكا للأنصار لكون الحق يعرف به وببغضه يتشخص أهل الباطل ، وبواسطته يتميز الايمان عن النفاق ، وذلك لدليل على أن أرضية الفكر الإيماني للأنصار ومنحى الاعتقاد عندهم قد وقف على معرفة علي بن أبي طالب. فهم قد آووا ونصروا النبيّ وقاتلوا معه ، ثمّ مع أهل البيت ، فقد يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عني بدعائه ـ الآتي ـ هذه الأدوار : «اللّٰهمّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار» (٣)» وأنت تعلم بأنّ الحكم في (الأنصار) قد ترتب على الصفة المشتقّة منه وهي النصرة ، ومعناه : أنّه دعا لهم لنصرتهم له وأن الذي يبغضهم لهذه الصفة فهو كافر ، أمّا هذا فلا يجري في علي بن أبي طالب : لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل الحكم على ذات علي وباسمه دون أي قيد ، وهذا يوضح الفارق بينهما وإن كانا قد اجتمعا على ارضيه واحدة وهي أن حبّهم إيمان وبغضهم نفاق.

فجاء عن انس قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حب الأنصار آية الإيمان وبغضهم آية النفاق (٤)».

وعن أبي هريرة : «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الأخر (٥)».

وعن النووي في شرح مسلم : إنّ من عرف مرتبة الأنصار ، وما كان منهم في نصرة دين الإسلام ، والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين ، وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام ، وحبهم النبي وحبه إياهم ، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثار للإسلام ، وعرف من علي بن أبي طالب قربه من

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٨٥ ح ١٢٩ كتاب الأيمان.

(٢) الترمذي ٥ : ٦٣٥ ورواه الخطيب عن أبي ذر بلفظ آخر (كنز العمال ١٣ : ١٠٦).

(٣) صحيح مسلم ٤ : ١٩٤٨ ح ٢٥٠٥ باب فضائل الأنصار.

(٤) مسلم ١ : ٨٥ كتاب الأيمان.

(٥) مسلم ١ : ٨٦ ح. ١٣ كتاب الأيمان.

٤١٢

رسول اللّٰه وحب النبي له ، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه فيه ، ثمّ أحب الأنصار وعليا لهذا. كان ذلك من دلائل صحة إيمانه ، وصدقه في إسلامه ، لسروره بظهور الإسلام ، والقيام بما يرضى اللّٰه سبحانه وتعالى ورسوله ، ومن أبغضهم كان بضد ذلك ، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته واللّٰه اعلم (١).

وقد اشترك الأنصار مع آل البيت في كونهم من المنبوذين عند قريش ، لما قتلوا من صناديدهم ورؤسائهم ، فاشتركوا هم وعلي في كفة مقابلة لكفة القرشيين المغلوبين ، ولذلك سعى القرشيون لإعادة مجدهم بعد فتح مكة ، وحاولوا الوقوف أمام المدّ الأنصاري المعاضد لعلي في مواقفه وما أن توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى بدت تلك النبرة عالية في أنّ قريشا هي الأحق بالخلافة من الأنصار ، بعد أن أبعدوا عليا عن الخلافة بمختلف الوجوه والمعاذير.

فقد صرح عمر بن الخطاب قائلا : إنّ عليا والزبير ومن معهما تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة ، وتخلّفت عنا الأنصار بأسرها (٢) واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر (٣) ، ونادت الأنصار في ذلك اليوم : لا نبايع إلّا عليا (٤).

وإنّ سعدا بن عبادة ما طالب بالخلافة إلّا بعد أن رآهم قد صرفوها عن علي (٥) ، وحين وقف علي إلى جانب الأنصار قالوا : لا نبالي بمن عادانا ما دام علي معنا.

هذا وحسبك أنّ سعدا لم يبايع قط وصار إلى الشام وقتل هناك (٦).

ولما تسلّم أبو بكر الخلافة ، لم يف للأنصار بمقولته : (نحن الأمراء وأنتم

__________________

(١) شرح مسلم ، للنووي ١ ـ ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ١١١ ، الطبري ٢ : ٤٤٦ ، مسند احمد ١ : ٥٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٤ : ٣٢٧ وانظر أسماء كبار الأنصار المتخلفين في الاحتجاج للطبرسي ١ : ٧٥.

(٤) الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٥ والغدير ٧ : ٧٨.

(٥) كشف المحجة : ١٧٣ ـ ١٨٩ ط النجف.

(٦) مروج الذهب ٢ : ٣٠١.

٤١٣

الوزراء) (١) فابعدهم عن الولايات حتى صرح شاعر الأنصار قائلا :

يا للرجال لرائع الاخبار

ولما أراد القوم بالأنصار

لم يدخلوا منّا زعيما واحدا

يا صاح في نقض ولا إمرار

وقطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية ، فعقد أحد عشر لواء لخالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ، والمهاجر بن أبي أمية ، وخالد بن سعيد ـ وعزله قبل أن يسير (٢) ـ وعمرو بن العاص ، وحذيفة بن محصن الغلفاني أو الغفاري ، وعرفجة بن هرثمة ، وشرحبيل بن حسنه ، ومعن بن حاجز ، وسويد بن مقرّن ، والعلاء بن الحضرمي (٣).

وجعل يزيد بن أبي سفيان أميرا على الشام (٤) ، وأمّر الوليد بن عقبه (٥) ولمّا ولّي أبو بكر قال له أبو عبيدة : إنا أكفيك المال. وقال عمر : أنا أكفيك القضاء ، وكان عامله على مكة عتّاب بن أسيد ، وعلى الطائف : عثمان بن أبي العاص ، وعلى صنعاء : المهاجر بن أبي أمية ، وعلى حضرموت : زياد بن لبيد الأنصاري ، وعلى خولان : يعلى بن منية ، وعلى زبيد ورمع : أبو موسى الأشعري ، وعلى الجند : معاذ بن جبل ، وعلي البحرين : العلاء بن الحضرمي ، وبعث جرير بن عبد اللّٰه إلى نجران ، وعبد اللّٰه بن ثور إلى جرش ، وعياض بن غنم إلى دومة الجندل ، وكان بالشام أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، وكل منهم على جند ، وعليهم خالد بن الوليد (٦).

وهذه التركيبة الإداريّة والسياسيّة والعسكريّة لخلافة أبي بكر ليس فيها أثر واضح للأنصار ، بل أغلبيتهم الساحقة من قريش ومن القبائل الأخرى ، بل الكثير منهم من أعداء الإمام علي والأنصار ، أو قل من أصحاب الرأي والاجتهاد ، المنافرين

__________________

(١) أنساب الاشراف ١ : ٥٨٤.

(٢) انظر ابن الأثير ٢ : ٤٠٢ وذلك بعد اخباره عمر بتخلف خالد عن بيعته وتأييده لعلي يوم السقيفة.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ٣٤٦.

(٤) الكامل في التاريخ ٢ : ٤٢٠ وفيه ٢ : ٤٠٤ «وجعل لعمرو بن العاص عملا وليزيد بن أبي سفيان عملا».

(٥) الكامل ٢ : ٣٥٧.

(٦) مروج الذهب ٢ : ٣٠٢

٤١٤

لأصحاب التعبد المحض ، حتى أنّ الأنصار تخلّفت عن خالد في مسيره لقتال مالك بن نويرة (١) ، ثم لحقوا به مخافة الفرقة.

واعترض أبو قتادة على خالد في قتله مالكا ـ وشهد فيمن شهد أنّ مالكا ، وأصحابه قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا (٢) ـ واقسم أن لا يغزو مع خالد غزوة قط.

ولما آلت الخلافة إلى عمر بن الخطّاب فكان غالب ولاته شخصيّات قرشيّة اجتهاديّة منافرة لعلي والأنصار ، حتى أنّ عمر أراد أن يستعمل عبد اللّٰه بن عباس ـ بعد هلاك عامل حمص ـ لكنّه صرّح لابن عباس بخوفه من اجتماع الناس إليهم ، فلم يولّه عمل حمص ، مضافا إلى رفض ابن عباس ذلك العمل المقرون بهذا الهاجس وتلك الريبة من التعبديين وأصحاب علي (٣).

والذي نريد أن نعرضه هنا هو أنّ الذين اعتمدهم عمر طيلة فترة خلافته هم شريحة معارضة للأنصار ولعلي ، فقها وسياسة ، فقد كانوا يتراوحون بين هذه الأسماء ، وهم : أبو عبيده بن الجراح. سعد بن أبي وقاص ، عتبة بن غزوان ، النعمان بن مقرن المثنّى بن حارثة الشيباني ، المغيرة بن شعبة ، أبو موسى الأشعري ، عتاب بن أسيد ، يعلى بن منية ، عثمان بن أبي العاص ، العلاء بن الحضرمي ، حذيفة بن محصن ، عياض بن غنم ، ربعي بن الأفكل ، عرفجة بن هرثمة ، عتبة بن فرقد ، أبو مريم الحنفي ، شريح بن الحارث الكندي ، كعب بن سور الأزدي ، عمرو بن العاص ، معاوية بن أبي سفيان (٤) ، وولّى عمارا سنة ٢١ ه‍ على الكوفة ثم عزله بوشاية جرير بن عبد اللّٰه البجلي وولى جبير بن مطعم ثم عزله وولّى المغيرة بن شعبه بدله (٥) ، وكان من جملة عمّاله

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٤٠٣.

(٢) الكامل ٢ : ٣٥٨.

(٣) انظر مروج الذهب ٢ : ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٤) انظر الكامل في التاريخ ٢ : ٤٢٧ و ٤٥١ و ٤٨٨ و ٤٨٩ و ٥٢٦ و ٥٥٤ و ٥٥٥ ـ ٧٠ ، ٣ : ٢٠ و ٢١ و ٣٨. حوادث سني ١٣ ـ ٢٣.

(٥) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠ ـ ٢١.

٤١٥

على المدائن سلمان الفارسي (١) ، واستعمل النعمان بن مقرن لقبال أصفهان وبعث معه الزبير بن العوام وعمرو بن معديكرب وحذيفة وعبد اللّٰه بن عمرو.

ولمّا قتل عمر في سنة ٢٣ ه‍ ، كان عمّاله كالاتي : نافع بن عبد الحرث الخزاعي على مكة ، سفيان بن عبد اللّٰه الثقفي على الطائف ، يعلى بن منية على صنعاء ، وعلى الجند عبد اللّٰه بن أبي ربيعة ، المغيرة بن شعبة على الكوفة ، أبو موسى الأشعري على البصرة ، عمرو بن العاص على مصر ، عمير بن سعد على حمص ، معاوية بن أبي سفيان على دمشق ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي على البحرين وما والاها (٢).

وحين فشل جيش المسلمين في معركة الجسر بسبب سوء التدبير الحربي وهلك من المسلمين أربعة آلاف شخص غرقا وقتلا ، سمع عمر بذلك فحث الناس على الجهاد ، واستعمل على مقدمته طلحة بن عبيد اللّٰه. وعلى ميمنته الزبير بن العوام ، وعلى مسيرته عبد الرحمن بن عوف. وأشار عبد الرحمن على عمر أن يولي سعد بن أبي وقاص وأشار عثمان بعلي ، فطلبوا ذلك من علي فكرهه ، ثم أمرّ عمر عليهم سعد بن أبي وقاص (٣).

وقد كان المسلمون إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شي‌ء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف (٤).

وهذه التركيبة في خلافة عمر بن الخطّاب تكاد تخلو من الأنصار ومن بني هاشم ومن عيون أصحاب نهج التعبد والأنصار ، وبعكسه يحتل فيها القرشيون والمجتهدون المقام الأوّل ويختصّون بحصّة الأسد منه.

وأما عثمان بن عفان ، فإنّه لم يقتصر على إبعاد الأنصار عن واجهة الأحداث فقط ، بل راح يقرّب أقرباءه ويوليهم المناصب ويغدق على من تابعه الأموال : فمن الذين حباهم عثمان وقربهم هم :

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٠٥.

(٢) الكامل ٣ : ٧٧.

(٣) انظر مروج الذهب ٢ : ٣٠٧.

(٤) الكامل في التاريخ ٢ : ٤٥٠.

٤١٦

الحكم بن أبي العاص ، مروان بن الحكم ، الحارث بن الحكم بن أبي العاص (أخو مروان وصهر الخليفة من ابنته عائشة) ، سعيد بن العاص بن أمية ، الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة (أخا عثمان من أمه) ، عبد اللّٰه بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ، أبو سفيان ، عبد اللّٰه بن سعد ابن أبي سرح (أخو عثمان من الرضاعة) ، الزبير بن العوام ، طلحة بن عبيد اللّٰه التيمي ، عبد الرحمن بن عوف الزهري ، سعد بن أبي وقاص ، يعلى بن أمية بن خلف (١).

ولم نجد من المنخرطين في سلك ، عثمان من الأنصار إلّا أقل من القليل كزيد بن ثابت وحسان بن ثابت.

وكان ولاته وعماله من أمثال : المغيرة بن شعبه ، وسعد بن أبي وقاص ، والوليد بن عقبة ، وعبد اللّٰه بن أبي سرح ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد اللّٰه بن عامر بن كريز (ابن خال عثمان) ، وسعيد بن العاص (٢) ، وغيرهم من الأمويين القرشيين أتباع الاجتهاد والرأي.

ولذلك انتفض عليه أهل المدينة وأهل مصر وأهل الكوفة ، وفيهم عيون الأنصار وقادتهم ، حتى قتلوه في عقر داره.

وأمّا الإمام علي بن أبي طالب ، فإنّه في خلافته أعاد للأنصار ولأنصار التعبد المحض دورهم الأصيل الذي يمثل سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدون دوافع ولا نوازع ، فقد كان معه من أعلام الأنصار أبو أيّوب الأنصاري ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبو قتادة الأنصاري وغيرهم (٣) ، وتخلف عنه جماعه قليلون من الأنصار ، قال ابن الأثير : ثم جاءوا إلى علي وبايعوا (٤) ، ولم يتخلّف عنه إلّا نفير يسير ممن لهم مطامع معلومة ومآرب دنيوية.

وكان ولاة علي بن أبي طالب في فترة خلافته القليلة هم : عثمان بن حنيف الأنصاري ، وعمارة بن شهاب الثوري ـ وكانت له هجرة ـ ، وعبيد اللّٰه بن عباس ،

__________________

(١) انظر الغدير ٨ : ٢٨٦.

(٢) انظر تاريخ الطبري أحداث سنة ٢٤ ـ ٣٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٢١.

(٤) الكامل في التاريخ ٢ : ٣٥٤.

٤١٧

وقيس بن سعد الأنصاري ، وسهل بن حنيف الأنصاري ، وقرظة بن كعب الأنصاري ـ الذي أمره عمر بالإقلال من الحديث ـ ، وقثم بن العباس ، وعبد اللّٰه بن العباس ، ومحمد بن أبي بكر ، وخليد بن قرة اليربوعي ، ومالك الأشتر ، وأبو أيوب الأنصاري (١) ، ولما سار علي إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري (٢).

وبعد استشهاد الإمام علي ظل الأنصار أوفياء للإمام الحسن ، وعلى رأسهم زعيمهم وصاحب رايتهم على عهد رسول اللّٰه ، قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري ، وبقي معه رهطه من الأنصار ، إلى أن صالح الإمام الحسن معاوية ، فكان قيس والأنصار آخر من أغمد السيف عن معاوية.

وبقي الصراع والعداء بين معاوية والأنصار قائما مستمرّا ، وذلك بسبب مواقف الأنصار المناهضة للحزب القرشي ، قال الدكتور إبراهيم بيضون : ..

وهكذا كانت العلاقة بين معاوية والأنصار متأثرة بذلك التراكم الذي شابهها ، ابتداء من الهجرة ووقعة بدر ، ومرورا بيوم الدار (مقتل عثمان) وأيام صفين ، حتى سقوط الدولة الراشدية التي كان آخر المقاتلين عنها قيس بن سعد (٣).

ويبدو عداء الأمويين للأنصار من خلال إرسال معاوية لبسر بن أرطاة القرشي لإخضاع الحجاز لسيطرته ، قائلا له : «سر حتى تمرّ بالمدينة ، فاطرد أهلها ، وأخف من مررت به ، وانهب مال كل من أصبت له مالا» (٤) ، ويقول له في شأن القرشين «وسر إلى مكة فلا تعرض فيها لأحد» (٥).

وبلغ العداء ذروته بين الأنصار والقرشيين والأمويين في وقعة الحرّة ، التي أبيحت فيها المدينة ثلاثة أيام ، تلك المعركة التي كان عبد اللّٰه بن حنظلة الغسيل الأنصاري زعيمها البارز ، والذي قتل معه عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم ـ صاحب حديث الوضوء ـ ضدّ الحكم الأموي ، والتلاعب بالدين ، فقد قتل عبد اللّٰه بالحرّة في

__________________

(١) انظر الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠١ و ٢٦١ و ٣٥٠ و ٣٧٤ و ٣٩٨.

(٢) الكامل ٣ : ٣٥.

(٣) الأنصار والرسول : ٦٠.

(٤) أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي : ٤٥٣ ـ ٤٥٤.

(٥) الطبري ٦ : ٨٠.

٤١٨

سنة ٦٣ ه‍ وهو ابن سبعين سنه (١) ، وقتل معه ابناه خلّاد وعليّ.

فقد كان عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم إذن من المخالفين للدولة الأموية والمقتولين بسيفهم ، وقد جاد بنفسه محاولا رفع الإبداع والظلم الذي حاق بالدين ، بالمسلمين ، وهذا ما يجعله ـ بالطبع ـ هدفا لسهام الأمويين لتشويهاتهم له فقها وسياسة وموقفا ، كما سترى ، وهو ما يجعلنا نتوقف في شأن كل ما ينسب إليه من آراء تؤيّد الموقف والرأي الفقهي والسياسي الأموي.

جئنا بهذه التقدمة التاريخيه للإشارة إلى أنّ التخالف السياسي قد يؤدي إلى التخالف الفقهي ، بمعنى : إنّ الاتجاه الحاكم ـ نظرا لموقعيته وظروفه ـ قد يصرّ على تطبق مفردة خاصة لما يرى فيه من مصلحة. وهذا ليس بدعا في التاريخ ـ لما قدمناه لك من شواهد في هذه الدراسة ـ وقد كان في نسبة الخبر إلى ابن عباس تفسير لظاهرة اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ، وفي نسبة الخبر إلى علي بن أبي طالب قد وضحنا دور القرشيين في الشريعة وأخذهم بالرأي والاجتهاد قبال النص ومخالفته نهج التعبد المحض معهم ، والآن مع بيان تخالف الأنصار مع المهاجرين فقها وسياسة.

وبكلامنا هذا لا نعني أنّ الأنصار كانوا جميعا من نهج التعبد المحض أو أنّهم لم يخالفوا عليا أو سنّة رسول اللّٰه قط.

وكذا لا نعني أنّ فقه القرشين يخالف النصوص في جميع الأحيان ، بل الذي نريد قوله أنّ أمر الاجتهاد والذهاب إلى أحكام أخرى مصلحة هي أقرب إلى الفهم القرشي من الأنصاري. لكون الأوّل هو الحاكم فلا بدّ من تطبيق رأيه ، أما الأنصاري فليست له مصلحة أو هدف في هذا التغيير ، وإن كان من بينهم من يذهب إلى آراء مخالفة للنصوص اجتهادا من عند نفسه.

وقد نقلنا سابقا نصوصا دالة في تبني الاتجاه الحاكم لمذهب الشيخين وغيرهم من الخلفاء فلا يستبعد بعد هذا أن يرجح الرأي الفقهي المنتزع من الاجتهاد على الرأي الفقهي المأخوذ من النص. وخصوصا حينما عرفنا دور الأمويين في تحريف الأحكام وتأكيدهم على فقه عثمان.

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٤ : ٥٤٠ ، تهذيب التهذيب ٥ : ٢٢٣ ، شذرات الذهب ١ : ٧١.

٤١٩

كانت هذه إلمامة بالزاوية السياسية والتركيبة الاجتماعية ، والتي يقابلها تقاطع آخر بين الأنصار والقرشيين من الناحية الفقهية ، وذلك ما أفرزته حالة تمسّك المدّ الأنصاري بمسلك التعبّد المحض ، وانجراف التيار القرشي وراء مسلك الاجتهاد والرأي على أنّ وجود متعبّدين ماحضين من القرشيين ، ووجود مجتهدين مرتئين من الأنصار لا يخرم الإطار العام للمسير الفقهي لكلا الاتجاهين ، وإذا توخّينا الدقة أكثر سمّينا الاتجاه الأوّل «الأنصار والمتعبدون» والثاني «قريش والمجتهدون» ، فمن شذّ من الأنصار دخل في حيّز «المجتهدين» ومن شذّ من القرشيين درج في المتعبّدين.

وبمعنى آخر : نحن لا نريد بقولنا هذا تصحيح فعل الأنصاري والقول بأنّ جميع أقواله وأفعاله مستوحاة من النص ، أو أنّهم جميعا يتّفقون مع علي بن أبي طالب ، لاجتماعهم معه على أرضية واحدة ، وكذا لا نريد القول بعكسه في القرشي ، بل الذي نريد قوله : أنّ المسلك العام للأنصار هو الأخذ بما عرفوه وعملوا به من سنة ونص وعدم ايمانهم بضرورة الاجتهاد في المفردات التي نزل بها الوحي ، بخلاف القرشي الذي يسعى لتحكيم رأى القريشيين وإعطاءه الشرعية. وإن كان هناك من شذّ من الطرفين عن مسيرهم العام ، إذ تلحظ الشذوذ في سيرة الواحد منهم ، فيأخذ الأنصاري مثلا بالنص في مفردة ويجتهد في أخرى ، وكذا القرشي فقد يجتهد في مفردة ويدافع عن النص في مفردة أخرى ، لكن الصبغة العامة والسيرة الغالبة عند الأنصاري هي اتباع ما عرفوه وجرت سيرتهم عليه وعدم تأثرهم بالجديد المستحدث ، بل وقوفهم أمامه في بعض الأحيان ، بخلاف القرشي الذي تأخذه العصبية لتحكيم رأي قرينه لأنّه يمس بكيانهم القبلي. وإليك مثالا على ذلك.

نحن نعلم أنّ عثمان بن عفان قد أتم الصلاة بمنى خلافا لسنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الشيخين وجاء عن معاوية أنّه لمّا قدم مكة حاجّا قصر بمنى في الظهر فنهض مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، فقالا : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عتبه به.

فقال لهما : وما ذاك؟

قالا : ألم تعلم أنّه (أي عثمان) أتم الصلاة بمكة؟

قال لهما : ويحكما! وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع أبي بكر وعمر.

٤٢٠