وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

وقال الجصاص : قرأ ابن عبّاس والحسن و ...

وأرجلكم .. بالخفض ، وتأوّلوها على المسح (١).

وقال القاسمي : .. ولا يخفى أنّ ظاهر الآية صريح في أنّ واجبها المسح كما قاله ابن عبّاس وغيره (٢).

وقال القسطلاني : .. وأمّا ما روي عن علي وابن عبّاس وأنس رضي اللّٰه عنهم فقد ثبت الرجوع عنه (٣).

ومن قول القسطلاني (فقد ثبت الرجوع عنه) نعلم أنّ مذهب ابن عبّاس كان المسح قطعا ، لأنّ الرجوع إلى الغسل فرع ثبوت المسح على القدمين ، ويبقى ادّعاء الرجوع محلّ بحث ونظر ، ونحن سنثبت بطلان القول برجوعه بعد البحث الدلالي.

هذا ، وقد حكى كثير من أهل العلم ـ غير من ذكرناهم ـ نسبة المسح إلى ابن عبّاس ، كالسرخسي (٤) وابن العربي (٥) والرازي (٦) والشوكاني (٧) والقرطبي (٨) وأبي حيّان الأندلسي (٩) والقاضي ابن عطيّة الأندلسي (١٠) والبغوي (١١) وابن جزي الكلبي (١٢) وغيرهم.

__________________

(١) أحكام القرآن ، للجصاص ٢ : ٣٤٥.

(٢) تفسير القاسمي ٦ : ١١١.

(٣) إرشاد الساري ١ : ٢٤٩ وأما دعوى رجوع ابن عبّاس وغيره إلى الغسل فسنوضح بطلانه لاحقا.

(٤) المبسوط ١ : ٨.

(٥) أحكام القرآن لابن العربي ٢ : ٥٧٧.

(٦) التفسير الكبير ١١ : ٤٥٢.

(٧) فتح القدير ٢ : ١٨.

(٨) الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢.

(٩) البحر المحيط ٣ : ٤٥٢.

(١٠) المحرر الوجيز ٢ : ١٦٢.

(١١) تفسير البغوي (معالم التنزيل) ٢ : ١٦.

(١٢) التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ١٧٠.

١٤١

ومن كلّ ما قدّمنا يعلم صراحة أنّ مذهب ابن عبّاس المسح لا غير ، وأن ما روي عنه من الغسل لا يمكن له أن يعارض ما ثبت عنه من المسح ، لأنّه لا يعدو أن يكون إمّا منكرا وإمّا شاذا على ما سنثبته لك في البحث الدلالي الآتي ، ومن المعلوم عند أهل العلم بأنّ الرّواية المنكرة والشاذة لا يمكنها أن تقاوم الصحيح المحفوظ.

١٤٢

البحث الدلالي

بعد أن درسنا وضعيّة الأحاديث الغسليّة عند ابن عبّاس سندا ، لا بدّ من مناقشتها متنا ودلالة ، فنقول مستعينين بالله :

إنّ الصفحات السابقة أوضحت لنا أنّ الطرق ـ الغسليّة الخمسة ـ عن ابن عبّاس قد رجعت إلى طريقين ، فأربعة منها تتحد بزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عبّاس ، وهذه الطرق إلى زيد ، إمّا ضعيفة بنفسها بحيث لا يمكن الاحتجاج بها ، وإمّا ممّا تحتاج إلى تابع صحيح يرفعها إلى درجة الحسن والصحيح ، وهذا ما لم نجده.

وأمّا الخامس منها ـ أي طريق سعيد بن جبير ـ ففيه عبّاد بن منصور الضعيف.

ولمّا ثبت ضعف طريق سعيد بن جبير إلى ابن عبّاس بقي البحث عن طرق زيد بن أسلم إليه ، وحيث إنّ زيدا هذا كان قد عنعن روايته عن عطاء وهو ممن يدلّس! ولم يثبت أنّه صرّح بالسماع عن عطاء ، سقطت روايته عن الحجيّة.

وعلية فيكون مرجع الروايات الغسليّة إلى ابن عبّاس إلى طريق واحد وهو منكر ، فلا يمكن لهذه الرواية الواحدة المنكرة أن تعارض الروايات الصحيحة والسيرة الثابتة عن ابن عبّاس في المسح.

ولو تنزلنا وقلنا بصحّة روايات زيد فهي شاذّة بالنّسبة للمحفوظ والمشهور عن ابن عبّاس في المسح ، إذ اتّفق جميع أهل العلم على عدم إمكان الاحتجاج بالشاذّ مقابل الثابت المحفوظ. هذه خلاصة ما مرّ من البحث السندي.

وأمّا البحث الدلالي فإنّ المتتبع لمرويّات زيد بن أسلم عن عطاء الغسليّة ، يشاهد الاضطراب واضحا فيها ، إذ ورد في إسناد أبي داود الأوّل ـ خبر هشام بن سعد ـ قوله : «قبض قبضة أخرى من الماء فرشّ على رجله اليمنى وفيها النعل ، ثمّ مسحها بيديه ، يد فوق القدم ويد تحت النعل ، ثمّ صنع باليسرى كذلك ..».

وأخرج الحاكم بسنده إلى هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم قوله (.. أنّه

١٤٣

أغرف غرفة ، فرشّ عل رجله اليمنى وفيها النعل ، واليسرى مثل ذلك ، ومسح بأسفل النعلين) (١).

وأخرج الطبراني بسنده إلى روح بن القاسم ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن ابن عبّاس : أنّه أخذ بيده ماء فنضحه على قدميه ، وعليه النعلان (٢).

وأخرج البخاري بسنده إلى سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن ابن عبّاس أنّه رشّ على رجله اليمنى حتّى غسلها ، ثمّ أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله ـ يعني اليسرى.

وأخرج النّسائي بسنده إلى الدراوردي ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء عن ابن عبّاس خبر الوضوء ، وليس فيه ذكر للقدمين.

وأخرج الطحاوي بسنده إلى الدراوردي أيضا عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ابن يسار ، عن ابن عبّاس ، قال : توضأ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ مل‌ء كفّه ماء فرشّ به على قدميه وهو متنعّل (٣).

فالّذي رواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء إذن لا يتفق مع ما أخرجه البخاري عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم ، لأنّ الموجود في خبر هشام «رشّ على رجله اليمنى وفيها النّعل ثمّ مسحها بيديه ، يد فوق القدم ويد تحت النعل» ، وأمّا خبر سليمان بن بلال ففيه «ثمّ أخذ غرفة من ماء فرشّ على رجله اليمنى حتى غسلها» فالمسح غير الغسل في لغة العرب.

والروايات كلّها ـ عدا رواية البخاري ـ إن لم تكن ظاهرة في مسح الرجلين بماء جديد ، فهي ليست ظاهرة في غسلهما ، ولذلك حاول بعض الأعلام جاهدين صرف هذا الظهور وحمله على الغسل بوجوه بعيدة واحتمالات متكلفة.

والحاصل : فإن هناك اضطراب في هذا الحديث ـ ذي الطريق الواحد ـ كما بيّنا ،

__________________

(١) المستدرك للحاكم ١ : ١٤٧.

(٢) المعجم الأوسط ١ : ٢٢ / الحديث ٧١٨. ولروح خبر آخر ـ كما مرّ في الإسناد الرابع لمرويات ابن عبّاس المسحيّة ـ قد روى فيه عن ابن عبّاس المسح ، وهو إسناد حسن كما في زوائد ابن ماجة ، فكيف يمكن الجمع بين النقلين عن ابن عباس ، يا ترى؟!

(٣) شرح معاني الآثار ١ : ٣٥ / الحديث ١٥٨.

١٤٤

وهذا الاضطراب يستشعر بملاحظة متونه المتضاربة المتنافية الّتي لا يمكن ترجيح بعضها على بعض ، كالآتي :

فأما أوّلا : فلأن ما أخرجه أبو داود من أن ابن عبّاس رشّ على رجله اليمنى وفيها النعل ثمّ مسحها بيديه ، يد فوق القدم ويد تحت النعل ، أمر لا يمكن تصوّره ، لكون مسح ابن عبّاس رجله اليمنى بكلتا يديه يتنافى مع كون يده الأخرى تحت النّعل ، لأن يده الثانية إذا كانت تحت النعل ، فكيف تسنى له أن يمسح قدمه بكلتا يديه؟!!!.

اللّٰهم إلّا أن يقال : إن هذا مبتن على المجاز ، فيكون المقصود من أن يده الثانية تحت النعل ، أي تحت موضع النعل ، وهو أسفل القدم وباطنها! فان قيل هكذا ، قلنا : إنّ الأصل هو الحقيقة ، ولا يقال بالمجاز إلّا بدليل أو قرينة حالية أو مقالية والجميع مفقود في المقام.

فأما أوّلا : إنّ القيد الأخير في خبر هشام «يد فوق القدم ويد تحت النعل» و «ومسح بأسفل النعلين» والّذي في روايتي أبي داود والحاكم ، فهو حكم لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام ، لأنّ الثّابت عندهم هو عدم جواز المسح على ظاهر النعلين ـ بما هما نعلين ـ فكيف بأسفلهما؟!!.

ولذلك صرّح ابن حجر في الفتح ، وصاحبا عون المعبود وبذل المجهود ، بأنّ هذه الرواية إن لم تحمل على التجوّز عن القدم فهي شاذة (١).

وثانيا : إنّ ما رواه أبو داود والحاكم والطبراني جميعا عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، من أن ابن عبّاس رشّ ثمّ مسح ، يخالف ما ذكره البخاري من أنّه رشّ حتّى غسل ، وهو اضطراب واضح في النقل عن زيد بن أسلم.

وثالثا : إنّ رواية أبي داود والحاكم والطبراني والطحاوي ذكرت : أنّ قدمي ابن عبّاس ـ حكاية عن صفة قدمي النّبي في الوضوء ـ كانتا في النعل ، وأما رواية البخاري فهي خالية عن ذكر النعلين ، وهذا الاختلال في متن رواية طريقها واحد ـ وهو زيد بن أسلم عن عطاء عن ابن عبّاس ـ يسقطها عن الحجية.

__________________

(١) انظر عمدة القاري ٢ : ٢٦٤ ، وعون المعبود ١ : ١٥٩ ، وبذل المجهود ١ : ٣٤١.

١٤٥

ورابعا : إنّ ما رواه النّسائي من رواية الدراوردي هو رواية خالية من حكم الرجلين ، وهي لا تتفق مع ما روي عن ابن عبّاس من مسحه ما تحت النعلين تارة ، وغسله للقدمين أخرى ، ومسحه لهما ثالثة و .. كما أنّها لا تتفق مع ما أخرجه الطحاوي عن الدراوردي أيضا من أنّ ابن عبّاس نقل هذا الوضوء عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رشّ على قدميه وهو متنعّل» فلم يذكر فيها مسح ولا غسل!! وهذا لعمري عين الاضطراب الّذي يعنيه علماء الدراية في بحوثهم.

والإنصاف إنّ الاستدلال بما رواه زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن ابن عبّاس في الغسل من أشكال المشكلات سندا ومتنا ، ولعلّه الّذي حدا بابن حجر وغيره من الأعلام أن يتردّدوا بما رواه أبو داود في الإسناد الأوّل عن هشام بن سعد ، لأنّ شدّة الاضطراب في المتن جعلتهم يتوقفون عن البتّ بضرس قاطع في معناها ، بل جدّوا في تأويلها والقول بأنّ جملة (وضع يده الأخرى تحت النعل) هي استعمال مجازي للكلمة ، أريد منه باطن القدم ، فلو كانوا جازمين بما يقولون لما تردّدوا في كلامهم.

وعليه تكون الروايات الغسليّة عن ابن عبّاس مضطربة متنا ، وهذا الاضطراب مما يستشعر من كلام ابن حجر حيث قال : (.. وأمّا قوله (تحت النعل) فإن لم يحمل على التجوّز عن القدم ، وإلّا فهي رواية شاذّة ، وراويها هشام بن سعد لا يحتجّ بما تفرّد به ، فكيف إذا خالف) (١).

نعم ، إنّ البيهقي نقل خبر هشام والروايات الغسليّة عن ابن عبّاس ، ثمّ قال : (.. فهذه الروايات اتفقت على أنّه غسلهما ، وحديث الدراوردي يحتمل أن يكون موافقا ، بأن يكون غسلهما في النّعل ، وهشام بن سعد ليس بالحافظ جدا فلا يقبل منه ما يخالف فيه الثقات الإثبات ، كيف وهم عدد وهو واحد) (٢).

وعلّق ابن التركماني على قول البيهقي ، بقوله :

«.. قلت : حديث هشام أيضا يحتمل أن يكون موافقا لها ، بأن يكون غسلهما في النعل ، فلا وجه لإفراده بأنّه خالف الثقات.

__________________

(١) فتح الباري ١ : ١٩٤.

(٢) السنن الكبرى ، للبيهقي ١ : ٧٣.

١٤٦

فإن قال : إنّما أفرده لأنّ في حديثه قرينة تمنع من التأويل بالغسل ، وهي قوله (ومسح بأسفل الكعبين) (١).

قلنا : قد جمعت بينهما في باب المسح على النعل وأوّلت الحديثين بهذا التأويل حيث قلت : ورواه عبد العزيز وهشام عن زيد ، فحكيا في الحديث رشّا على الرجل وفيه النعل ، وذلك يحتمل أن يكون غسلهما في النعل.

ثمّ قلت : والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير ، فأحد الأمرين يلزمك إمّا جمعهما بهذا التأويل في كتاب المعرفة في هذا الباب ، بخلاف ما فعل هاهنا (٢) ..»

وهذا البحث من الأعلام في وجه دلالة خبر هشام يؤكد اضطرابه ، ونحن لا نرى وجها لكلام ابن التركماني بعد أن عرفنا توقّف ابن حجر والبيهقي وغيرهما في الخبر ، وهم أدقّ من ابن التركماني رواية وأكثر إحاطة بوجوه التأويل والتفسير!!.

والحاصل : فإنّه لم يعد بخاف عليك أن ما رواه زيد بن أسلم مضطرب متنا ، لاختلاف متون الروايات الّتي رواها عنه الرواة ، وهذا الاضطراب كاف في التوقف عن الاحتجاج بها.

ثمّ لما عارضت هذه الروايات رواية المسح الّتي هي أصح سندا وأصرح دلالة ، كان لا مفرّ من الحكم بكونها مرجوحة من جميع الجهات ، ولذا قلنا : أن ما رواه زيد بن أسلم لا يعدو أن يكون شاذا أو منكرا ، وبخاصة لو لاحظنا أن سيرة ابن عبّاس المقطوع بها هي المسح لا الغسل.

كان هذا مجمل القول في متون الروايات الغسليّة.

والآن مع الروايات المسحيّة عن ابن عبّاس ، فنجمل القول فيها بعدة نقاط :

الأولى : اتفاق النصوص المسحيّة في صراحة المسح عن ابن عبّاس ـ بخلاف الغسليّة ـ إذ المسحيّة كلّها تشير إلى حقيقة واحدة ، وهي أنّ الوضوء ما هو إلّا

__________________

(١) هذا غلط من ابن التركماني ، فإن الّذي في الرواية «ومسح بأسفل النعلين».

(٢) الجوهر النقي «المطبوع بهامش السنن الكبرى ، للبيهقي) ١ : ٧٢.

١٤٧

غسلتان ومسحتان ، وإن كان في بعضها زيادة «ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين» (١).

وفي نقل هذه الزيادة عن ابن عبّاس إشارة إلى أنّ مخالفيه كانوا من أصحاب الرأي والاستحسان ، ولأجله قرّب لهم الأمر طبقا للرأي الّذي يتبنّونه ويعتقدون به ، ومثله الحال بالنسبة إلى استدلاله بالقرآن واعتراضه على الربيع بما نسبت من وضوء إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي أنّ ابن عبّاس استدلّ على صحة كلامه بثلاثة أدلّة :

١ ـ القرآن الكريم ، لكونه الأصل الأول في التشريع الإسلامي ، وهو ما أراد الخلفاء حصر الاستدلال به ، فقال للربيع ـ وفقا لما دعوا له من الاستدلال ـ : لا أجد في كتاب اللّٰه إلّا مسحتين وغسلتين.

٢ ـ السنّة النّبويّة ، فإنّ رفضه لنقل الربيع يرشدنا إلى أن ابن عبّاس لا يقبل نسبة هذا المنقول إلى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكونه هو قد عاصره صلى‌الله‌عليه‌وآله وبات في بيته ورأى وضوءه وصلى معه وشمله دعاؤه و ..

٣ ـ إلزامهم بما يعتقدون به من وجوه التأويل والتفسير والرأي ، مع تأكيدنا على أنّ ابن عبّاس كان لا يرتضي الرأي بل يتعبد بالنصوص القرآنية والحديثية ، وأنّ تمسكه بهذه الجملة جاء من باب إلزام الآخرين بما يعتقدونه ويقولونه.

الثانية : كثرة الرواة الّذين رووا عن ابن عبّاس المسح ، فقد روى ذلك عنه الربيع بنت المعوذ (٢) وعكرمة (٣) وجابر (٤) ويوسف بن مهران (٥).

وأغلب هؤلاء من تلامذة ابن عبّاس ، وبينهم من دوّن عنه أحاديثه ، بعكس رواة الغسل عنه ، فهم أقلّ عددا وليسوا ممّن اختصّ بابن عبّاس ، إذ عرفت انحصار رواية الغسل عنه بعطاء بن يسار وسعيد بن جبير ، وسعيد وإن كان من المدونين لحديث ابن عبّاس لكنّا بيّنا ضعف الطريق إليه بوجود عبّاد بن منصور فيه ، وهو

__________________

(١) مصنف عبد الرزاق ١ : ١٩ ح ٥٤.

(٢) كما مرّ عليك في الأسانيد الغسليّة عن ابن عبّاس وشهادة الربيع بأنّ مذهب ابن عبّاس هو المسح.

(٣) كما في الإسناد الأول من الروايات المسحيّة عنه.

(٤) كما مرّ في الإسناد الثاني من الروايات المسحيّة عنه.

(٥) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤.

١٤٨

والمضعّف عند الجميع ، وحينما سقطت رواية سعيد بن جبير بقي طريق عطاء بن يسار ، وهذا لم يختص بابن عبّاس ولم يدوّن عنه ، بعكس رواة المسح حسب ما عرفت.

الثالثة : سعى أهل الاجتهاد والرأي ـ من خلال رسم أصول الجرح والتعديل ـ لتضعيف رواة الوضوء المسحي ، لا لكونهم قد رووا الوضوء المسحيّ حسب ، بل لروايتهم أحاديث غريبة منكرة لم يألفوها في كتبهم وصحاحهم!!.

نعم ، إنّهم قد ضعفوا أئمّة حفاظا كانت الجماعة (أصحاب الصحاح والسنن) قد روت لهم في موارد أخرى ، واعتبروا روايتهم لهذه الأحاديث جرحا لهم لكونها منكرة وغريبه بنظرهم!! فمثلا لو لحظت الإسناد الأول من الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس ، لرأيت رواته أئمّة حفاظا ، قد روى لهم أئمّة الصحاح والسنن ، والطريق هو «عبد الرزاق ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنّه سمع عكرمة يقول :قال ابن عباس ..»

فعبد الرزاق قد احتج به الجماعة (١) ـ على ما تقدّم ـ وهكذا ابن جريح (٢) ، ومثله عمرو بن دينار (٣) وعكرمة (٤).

وبما أنّ الجماعة قد رووا لهؤلاء وثبت لكلّ واحد منهم ملازمة طويلة لمن يروي عنه ـ مع أنّ بينهم من هو أعلم بعلم ابن عبّاس من غيره ـ فلما ذا لم ترو هذه الرواية وأمثالها في صحاح القوم؟!.

ألم يقع هؤلاء في أسانيد الصحاح والمسانيد في مواطن أخرى؟! فلم يخرّج البخاري عن سليمان بن بلال ـ الّذي تحتاج روايته إلى تابع ـ ولا يخرّج خبر ابن عبّاس (لا أجد في كتاب اللّٰه إلّا مسحتين وغسلتين) بالإسناد المتقدّم ، مع أن رواته أئمّة حفّاظ وقد أخرج لهم في مواطن أخرى؟!! واحتج بهم بشكل ليس معه ريب؟!!.

الرابعة : إنّ الباحث في النصوص المسحيّة عن ابن عبّاس يعرف أنّها نصوص

__________________

(١) انظر تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧.

(٢) انظر تهذيب الكمال ١٨ : ٣٣٨.

(٣) انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٦٤.

(٤) فقد روى له مسلم مقرونا بغيره ثمّ رجع ، واحتج ، به الباقون (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٦٤)

١٤٩

استنكارية فيها إشارة إلى موقف ابن عبّاس الاعتراضي على ثقل الاتّجاه المقابل ، ومثله الحال بالنسبة إلى خبر ابن عقيل ، فإنّ عليّ بن الحسين حينما أرسله إلى الربيع لم يكن لأخذ الحكم عنها ، بل جاء ليسألها عن ادعائها لوضوء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف بهم ـ وهم أهل بيت النبوّة ـ لا يعرفون ما تحكيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! نعم ، جاءها كي يثبت ، لها مخالفة ما تدّعيه للثابت المقطوع عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث تواترت الأخبار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يتوضأ بالمدّ ويغتسل بالصاع ، وهذا لا يتطابق مع ترويه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد فهمت الربيع غرض ابن عقيل الاستنكاري فقالت له : (وقد جاءني ابن عمّ لك) تعني به ابن عباس ، فلمّحت بقولها إلى أنّ الطالبيين لا يرتضون نقلها لمخالفته ما عرفوه من سيرة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الحكيم.

فابن عقيل أكّد إشكاله وسؤاله بصورة أخرى فقال ، فقلت لها : فبأي شي‌ء كان الإناء؟.

قالت : قدر مدّ أو مدّ وربع.

فجملة (فبأي شي‌ء كان الإناء) أراد بها ابن عقيل بيان أمرين :

أوّلهما : إرشادها إلى سقم رؤيتها ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان يمسح رأسه مقبلا ومدبرا ، ويغسل رجليه ثلاثا لاحتاج إلى أكثر من مدّ ، لعدم كفاية المدّ لغسل تمام أعضاء الوضوء ، وهذا التشكيك من ابن عقيل هو الّذي حدا بالربيع أن تزيد في قدر المدّ!! فقالت : قدر مدّ بالهاشمي أو مدّ وربع.

فإنّها انتبهت إلى عدم إمكان إيفاء المدّ من الماء بمسح الرأس كلّه مقبلا ومدبرا مع غسل الرجلين وبقية الأعضاء ثلاثا ، فأتت بتلك الزيادة كي تعذر نفسها!!.

وثانيهما : إنّ ابن عقيل أراد أن يرى الإناء الّذي كانت تصبّ فيه الماء لرسول اللّٰه كي يوضّح لها على ضوئه بأنّ ما تقوله لا يلائم ما ـ تفرضه من حجم الماء الّذي فيه ـ ، لأنّ الماء الموجود في هذا الظرف الصغير لا يمكنه غسل الرجلين ثلاثا!! أي أن ابن عقيل أراد أن يوضح لها كذب كلامها على وجه الدّقّة والتحقيق لا الحدس والتخمين!! وسيأتيك بسط الكلام في البحث الدلالي لمرويات عثمان بن عفّان وأنّ وضوءه

١٥٠

لا يلائم الثابت المقطوع عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه كان يتوضأ بالمدّ ويغتسل بالصاع.

كان هذا مجمل القول في الروايات المسحيّة عن ابن عبّاس ، وقد عرفت أنّها ترجّح على الغسليّة ، بكثرة الطرق ، ووحدة النّص وعدم الاضطراب فيها و .. بعكس الطرق الغسليّة.

والّذي يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ جمعا من تلامذة ابن عبّاس كانوا قد دوّنوا أحاديثه ، منهم : ابن أبي مليكة (١) والحكم بن مقسم (٢) وسعيد بن جبير (٣) وعلي بن عبد اللّٰه بن عبّاس (٤) وعكرمة (٥) وكريب (٦) ومجاهد (٧) ونجدة الحروري (٨) وعمرو بن دينار (٩) ولم نر بين هؤلاء اسم عطاء بن يسار ـ راوي الغسل عن ابن عبّاس ـ ولم يصحّ طريق سعيد بن جبير إلى ابن عبّاس لوجود عباد بن منصور فيه ، بعكس الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس فقد ثبت ذهاب عكرمة إلى المسح ، ونقل عمرو بن دينار : أنّه سمع عكرمة يقول : قال ابن عبّاس : (الوضوء غسلتان ومسحتان) ، وهما ممّن اختصّوا بابن عبّاس ورووا أحاديثه في المدوّنات.

قال سفيان : قال لي عمرو بن دينار : ما كنت أجلس عند ابن عبّاس ، ما كتبت عنه إلّا قائما.

نقل ابن عيينة عن سفيان قوله : ما أعلم أحدا أعلم بعلم ابن عبّاس

__________________

(١) مقدمة صحيح مسلم : ١٣ ، صحيح البخاري الرهن ٦ ، الشهادات ٢٠ ، مسند أحمد ١ : ٢٤٣ ، ٣٥١ ، السنن الكبرى ٦ : ٨٣.

(٢) فتح المغيث ٢ : ١٣٨.

(٣) العلل ١ : ٥٠ ، الطبقات لابن سعد ٦ : ١٧٩ ، تقييد العلم : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، تاريخ أبي زرعة : ١١٩ ـ أ.

(٤) الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ٢١٦.

(٥) الفهرست ، لابن النديم : ٣٤.

(٦) الطبقات الكبرى ٥ : ٢١٦.

(٧) الفهرست : ٣٣.

(٨) مسند أحمد ١ : ٢٢٤ ، ٢٤٨ ، ٢٩٤ ، ٣٠٨ ، مسند الحميدي ١ : ٢٤٤ ، صحيح مسلم ، الجهاد ١٣٧ ـ ١٤١ ، الإصابة ٢ : ٢٣٤.

(٩) تاريخ الفسوي ٣ : ٥ ب ، تاريخ أبي زرعة ٧٨ ب كما في الدّراسات للأعظمي ١ : ١١٨.

١٥١

رضي اللّٰه عنه من عمرو بن دينار ، سمع ابن عبّاس وسمع أصحابه.

فاستبان إذن أنّ خبر المسح هو الأرجح نسبة إلى ابن عبّاس بخلاف الغسل ، ويؤكّده جردنا لرواة أسانيد الغسل والمسح عنه ـ في نسبة الخبر إليه ـ إذ ترى غالب الّذين رووا عن ابن عبّاس المسح ـ وفي جميع الطبقات ـ كانوا من أصحاب المدونات ، بعكس رواة الغسل فلم يكن فيهم إلّا سعيد بن جبير ـ الّذي لم يثبت الطريق إليه ، لوجود عبّاد بن منصور المضعف عند الجميع في خبر ـ وسليمان بن بلال ومحمد بن عجلان وعبد اللّٰه بن إدريس ، وهؤلاء كانوا من المدونين إلّا أنّهم من المدونين في عصر التدوين ـ أي بعد عمر بن عبد العزيز ـ فلا أهميّة لمدوناتهم ، بعكس رواة المسح ، فإنّهم أئمّة متقدّمين ، كعلي بن الحسين (زين العابدين) ، وعكرمة ، وعمرو ابن دينار ، وعبد اللّٰه بن محمد بن عقيل ، وجابر بن زيد وغيرهم ، فهؤلاء قد دوّنوا الحديث قبل عصر التدوين الحكومي ، ولذلك تكون لمدوّناتهم قيمة أكثر ومنزلة أعظم.

وبهذا اتضح أنّ الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس هي أقوى سندا ودلالة ، وقد رويت بطرق متعدّدة وفي جميع الطبقات عن المدوّنين ، وهذا يؤكّد أنّ استقرار الوضوء المسحي ثبت بجهود المدوّنين القدماء على مر الأجيال.

١٥٢

وقفة مع رجوع ابن عبّاس إلى الغسل

وردت نصوص ادّعي فيها ـ إشارة أو تصريحا ـ رجوع ابن عبّاس ـ وغيره ـ إلى غسل القدمين ـ بعد أن كان يذهب إلى مسحها ـ وإليك تلك النصوص :

الإسناد الأوّل (١)

قال ابن أبي شيبة (٢) : حدثنا ابن المبارك (٣) ، عن خالد (٤) عن عكرمة ، عن ابن عبّاس أنّه قرأ (وأرجلكم) ، يعني رجع الأمر إلى الغسل.

المناقشة

١ ـ في رجال هذا الطريق أبو بكر بن أبي شيبة ، وهو أحد الأئمّة بصناعة الحديث ، قوي الحافظة فيه ، سرّاد له.

قال عمرو بن علي : ما رأيت أحفظ من ابن أبي شيبة ، قدم علينا مع علي ابن المديني ، فسرد للشيباني أربع مائة حديث حفظا وقام.

وقال أبو عبيد ـ وهو القاسم بن سلام ـ انتهى الحديث إلى أربعة : إلى أبي بكر ابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، فأبو بكر أسردهم له ، وأحمد أفقههم فيه ، ويحيى أجمعهم له ، وعليّ أعلمهم به.

٢ ـ وخالد بن مهران الحذّاء ، الّذي وردت لأهل العلم فيه عدّة أقوال ، إليك

__________________

(١) المصنف لابن أبي شيبة ١ : ٢٢.

(٢) هو عبد اللّٰه بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي ، أبو بكر بن أبي شيبة روى له الجماعة سوى مسلم ، (انظر تهذيب الكمال ١٦ : ٣٤ وسير أعلام النبلاء ١١ : ١٢٢).

(٣) هو عبد اللّٰه بن المبارك بن واضح ، التميمي ، مولاهم ، أبو عبد اللّٰه المروزي روى له الجماعة وغيرهم (انظر تهذيب الكمال ١٦ : ٥ ، وسير أعلام النبلاء ٨ : ٣٣٦).

(٤) هو خالد بن مهران الحذاء ، أبو المنازل البصري ، مولى قريش ، روى لها الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٨ : ١٧٧ ، وسير أعلام النبلاء ٦ : ١٩٠).

١٥٣

أهمها :

قال أبو بكر الأثرم ، عن أحمد بن حنبل : ثبت (١).

وقال إسحاق بن منصور ، عن يحيى بن معين ، وأبو الرحمن النسائي : ثقة (٢).

وقال ابن حجر : ثقة يرسل (٣).

وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتجّ به (٤).

وقال العقيلي : حدثنا عبد اللّٰه بن أحمد ، قال حدثني أبي ، قال : قيل لابن عليّة في هذا الحديث ، فقال : كان يرويه فلم نكن نلتفت إليه ، ضعف أمره ـ يعني خالد الحذّاء (٥).

وقال يحيى بن آدم : قلت لحماد بن زيد : ما لخالد الحذّاء في حديثة؟ قال : قدم علينا قدمة من الشام فكنّا أنكرنا حفظة (٦).

وقال : عمر بن سليمان : سمعت أبي ذكر خالد الحذّاء فقال : ما عليه لوضع ما صنع طاوس ، كان يجلس فإذا أتي بشي‌ء أخذه وإلّا سكت (٧).

وقال عباد بن عباد : أراد شعبة أن يضع من خالد الحذّاء ، فأتيته أنا وحمّاد بن زيد ، فقلت له : مالك أجننت! أنت أعلم. وتهدّدناه فأمسك (٨).

وقال عبد اللّٰه بن نافع القرشي ـ مولى لآل عمر ـ أبو شهاب : قال لي شعبة : عليك بحجاج من أرطاة ومحمد بن إسحاق ، فإنّهما حافظان ، واكتم عليّ عند البصريين في خالد وهشام (٩).

وقال عثمان بن سعيد الدارمي : قلت ليحيى بن معين : داود (١٠) أحبّ إليك

__________________

(١) تهذيب الكمال ٨ : ١٨٠ ، الجرح والتعديل ٣ : الترجمة ١٥٩٣.

(٢) تهذيب الكمال ٨ : ١٨٠ ، الجرح والتعديل ٣ : الترجمة ١٥٩٣.

(٣) تقريب التهذيب ١ : ٢١٩.

(٤) تهذيب الكمال ٨ : ١٨٠ ، الجرح والتعديل ٣ : الترجمة ١٥٩٣ ، تهذيب التهذيب ٣ : ١٢١ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ١٩١.

(٥) الضعفاء للعقيلي ٣ : ٥ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ١٩٢.

(٦) الضعفاء ، للعقيلي ٣ : ٤.

(٧) سير أعلام النبلاء ٦ : ١٩١.

(٨) الضعفاء ، للعقيلي ٣ : ٤ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ١٩١.

(٩) الضعفاء ، للعقيلي ٣ : ٤ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ١٩١.

(١٠) انظر تهذيب الكمال ٨ : ٤٦١.

١٥٤

أو خالد؟ قال : داود ـ يعني ابن أبي هند ـ (١) وقال محمد بن سعد : استعمل على القبة ودار العشور بالبصرة ، وتوفّى في خلافه أبي جعفر المنصور (٢).

والّذي يتحصل من هذه الأقوال أنّ سبب الكلام في خالد هو سوء حفظه ، ويحتمل أن يكون خالد غير محمود الحال وغير نقيّ السريرة عند أهل البصرة لعمله عند السلطان ، لأنّ الثابت بين الأتقياء والمحدّثين الزهاد أنّهم يمقتون من هو قريب من السلطان ، وعليه فيحتمل أن يكون قربه إليهم ـ فضلا عن سوء حفظه ـ هو الّذي دعا شعبة لان يطلب من عبد اللّٰه بن نافع كتمان أمره مع خالد.

هذا وإنّ شعبة كان قد قرن خالدا بهشام بن حسّان (٣) ، والأخير متكلّم في حفظة ، وهذه قرينة أخرى على صحّة دعوى سوء حفظ خالد.

والعجيب أن الذهبي علّق على كلام شعبة مع عبد اللّٰه بن نافع القرشي بقوله : هذا الاجتهاد من شعبة مردود لا يلتفت إليه (٤) ..

وكلامه هذا واضح البطلان ، لأنّ الذهبي هو المجتهد في المقام لا شعبة ، لأنّ احتمال اجتهاد شعبة في أمر خالد وهشام بعيد ، وليس بوجيه ، فهو إنّما حكم عليهما بعد لقياه لهما ، وهذا يعني أنّه حكم عليهما عن حس ويقين لا عن اجتهاد وحدس وتخمين كما هو عند الذهبيّ! ولقد أجاد الحافظ ابن حجر حينما أفاد بقوله : «.. والظاهر أنّ كلام هؤلاء فيه من أجل ما أشار إليه حمّاد بن زيد من تغيّر حفظه بأخرة ، أو من أجل دخوله في عمل السلطان» (٥). على أنّ ابن حجر ادعى التغير بأخرة مع أن الأقوال كما رأيتها مطلقة من حيث سوء حفظه ، إذ لم يدل دليل على تحديد تاريخ تغيره!!.

__________________

(١) تهذيب الكمال ٨ : ١٨٠.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٧ : ٢٥٩.

(٣) انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ١٨١.

(٤) سير أعلام النبلاء ٦ : ١٩١.

(٥) تهذيب التهذيب ٣ : ١٢٢.

١٥٥

وسنتكلّم عن قيمة هذا النصّ وأمثاله في البحث السندي والدّلالي لاحقا.

الإسناد الثاني

قال أبو عبيدة (١) ، حدّثنا هشيم (٢) ، قال : أخبرنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس أنّه قرأها (وأرجلكم ..) بالنصب ، وقال : عاد إلى الغسل (٣).

المناقشة

١ ـ القاسم بن سلام ، أبو عبيد الفقيه ، القاضي ، الأديب المشهور ، صاحب التصانيف المشهورة ، لم يتعرض له أحد بجرح ما.

٢ ـ هشيم بن بشير ، وهو وإن كان محدّثا كبيرا إلّا أنّه يؤخذ عليه تدليسه وإرساله الخفي ، فضلا عن تلبّسه بأشياء من السلطان! قال عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن خالد الطحان وهشيم ، فقال : خالد أحب إلينا ، لم يتلبّس من السلطان شيئا (٤).

وقال العجليّ : هشيم واسطيّ ثقة كبير الحديث ، ثبتا ، وكان يدلس كثيرا (٥).

وحسبك أن ترجع إلى علل أحمد بن حنبل لترى كثرة الرواة الذين دلّس عنهم.

وإن قيمة هذا الإسناد وأمثاله سيظهر لك في البحث السنديّ والدلالي لاحقا إن شاء اللّٰه تعالى.

__________________

(١) هو القاسم بن سلّام البغدادي ، ذكره البخاري في القراءة خلف الإمام وأبو داود في تفسير أسنان الإبل (انظر تهذيب الكمال ٢٣ : ٣٥٤ ، تاريخ بغداد ٢ : ٤٠١ ، الطبقات لابن سعد ٧ : ٣٥٥) وغيرها.

(٢) هو هشيم بن بشير السّلميّ ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٣٠ : ٢٧٢ ، تهذيب التهذيب ١١ : ٥٩ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ٢٧٨ التاريخ الكبير ، للبخاري ٨ : الترجمة ٦٨٦٧) وغيرها.

(٣) الطهور ، لأبي عبيد : ٣٩٢.

(٤) العلل ومعرفة الرجال ١ : ٦٤٣.

(٥) الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٧ : ٣١٣.

١٥٦

الإسناد الثالث

أخرج الطحاوي بسنده إلى سعيد بن منصور (١) ، قال : سمعت هشيما يقول : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس أنّه قرأها كذلك ، وقال : عاد إلى الغسل (٢).

المناقشة

فيه سعيد بن منصور ، وهو ثقة ، ولم يليّن بشي‌ء سوى ما ورد عن الحميدي ـ صاحب المسند ـ وسليمان بن حرب (٣) من أنّه يخطئ في الشي‌ء بعد الشي‌ء من رواية ما يروي عن سفيان (أي ابن عيينة) (٤).

والكلام عن هذا الإسناد سيتضح لاحقا.

الإسناد الرابع

أخرج الطحاوي بسنده إلى عبد الوارث (٥) ، عن علي بن زيد (٦) ، عن يوسف بن مهران (٧) ، عن ابن عبّاس ، مثل ما تقدم من أنّه قرأها بالنصب (٨).

__________________

(١) هو سعيد بن منصور الخراساني ، أبو عثمان المروزي ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ١١ : ٧٧ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٨٦ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٨٩) وغيرها.

(٢) شرح معاني الآثار ١ : ٤٠.

(٣) انظر تهذيب الكمال (الهامش) ١١ : ٨١.

(٤) انظر تهذيب الكمال (الهامش) ١١ : ٨١.

(٥) هو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان ، التميمي ، العنبري ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ١٨ : ٤٧٨ ، تهذيب التهذيب ٦ : ٤٤١ ، والتاريخ الكبير للبخاري ٦ : الترجمة ١٨٩١) وغيرها من المصادر.

(٦) هو علي بن زيد بن جذعان ، القرشي ، التيمي ، أبو الحسين البصري (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٤ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٢٠٦ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٣٢٢) وغيرها من المصادر.

(٧) لعلّه البصري (انظر تهذيب الكمال ٣٢ : ٤٦٣ ، تهذيب التهذيب ١١ : ٤٢٤ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ٧ : ٢٢٢).

(٨) شرح معاني الآثار ١ : ٤٠.

١٥٧

المناقشة

١ ـ عبد الوارث ، وثّقه غير واحد من أئمة أهل العلم ، إلّا أنّه كان يرى القدر ويظهره (١).

وقال الذهبي ، قال يزيد بن زريع : من أتى مجلس عبد الوارث فلا يقربني (٢) ، وقال أيضا : (.. قدريّ متعصب ..) (٣).

وقال الساجي : الّذي وضع منه القدر فقط (٤) ، وقال أيضا : كان صدوقا متقنا ، ذمّ لبدعته (٥).

وقال عبد اللّٰه : لو لا الرأي لم يكن به بأس (٦).

وقد ذكره البخاريّ في ضعفائه الصغير (٧) ، والعقيليّ في ضعفائه الكبير (٨).

٢ ـ وأمّا علي بن زيد فهو ممن لا يحتجّ به على ما هو صريح كلام الأعلام :

قال ابن سعد : ولد أعمى ، كان كثير الحديث ، وفيه ضعف ، ولا يحتج به (٩).

وقال أحمد بن حنبل : ليس بالقوي (١٠) ، وقال أيضا : ليس بشي‌ء (١١) ، وقال ثالثة : ضعيف الحديث (١٢).

وقال عثمان بن سعيد الدارمي ، عن يحيى بن معين : ليس بذلك القوي (١٣).

وقال معاوية بن صالح ، عن يحيى بن معين : ضعيف (١٤).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٦ : ٤٤٣.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : الترجمة ٧ : ٥٣.

(٣) ميزان الاعتدال ٢ : الترجمة ٧ : ٥٣.

(٤) تهذيب التهذيب ٦ : ٤٤٣.

(٥) تهذيب التهذيب ٦ : ٤٤٣.

(٦) تهذيب التهذيب ٦ : ٤٤٣.

(٧) ضعفاء البخاري الصغير : الترجمة ٢٤٠.

(٨) الضعفاء ، للعقيلي ٣ : ٩٨.

(٩) الطبقات الكبرى لابن سعد ٧ : ٢٥٢.

(١٠) الجرح والتعديل ٦ : الترجمة ١٠٢١ ، وتهذيب الكمال.

(١١) الكامل في الضعفاء ٥ : ١٩٦.

(١٢) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٧.

(١٣) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٨ عن تاريخ الدارمي الترجمة ٤٧٣.

(١٤) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٨ عن الضعفاء الكبير للعقيلي ٣ : ٢٣١.

١٥٨

وقال النسائي : ضعيف (١).

وقال الجوزجانيّ : واهي الحديث ، ضعيف ، فيه ميل عن القصد ، لا يحتج بحديثه (٢).

وقال العجلي : يكتب حديثه وليس بالقوي (٣).

وعن ابن معين أيضا : إنّه ليس بحجّة (٤).

وقال أبو زرعة : ليس بالقويّ (٥).

وقال أبو بكر بن خزيمة : لا أحتجّ به لسوء حفظه (٦).

وقال سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد : حدثنا علي بن زيد ، وكان يقلّب الأحاديث (٧).

إلى أقوال أخرى مثل هذه.

وهذه الأقوال صارفة عن الأخذ بكلامه والاحتجاج به.

٣ ـ وأمّا يوسف بن مهران ، فلعلّه مجهول الحال غير معروف (٨) ، لكنّ أبا زرعة (٩) وابن سعد وثّقاه ، وجعله الأخير في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال عنه : كان ثقة قليل الحديث (١٠).

وقال ابن حجر : ليّن الحديث (١١).

ومهما يكن من شي‌ء فإنّ هذا الطريق لا يمكن تصحيحه بحال لضعفه بعلي بن زيد!.

__________________

(١) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٩.

(٢) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٨ ، عن أحوال الرجال الترجمة ١٨٥.

(٣) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٢٨ عن ثقات العجلي الورقة ٤٠.

(٤) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٢٨ عن تاريخ الدوري ٢ : ٤١٧.

(٥) الجرح والتعديل ٦ : الترجمة ١٠٢١ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٩.

(٦) تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٣٩.

(٧) الضعفاء الكبير للعقيلي ٣ : ٢٣٢.

(٨) حسب ما نقله أبي الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل فيه (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٦٣).

(٩) حسب ما نقله أبي الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل فيه (انظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٦٣).

(١٠) الطبقات الكبرى ٧ : ٢٢٢ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٦٤.

(١١) تقريب التهذيب ٢ : ٣٨٣.

١٥٩

الإسناد الخامس

أخرج الطحاوي بسنده إلى عبد الوارث بن سعيد ، ووهيب بن خالد (١) ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس أنّه قرأها كذلك (٢).

المناقشة

في هذا الطريق وهيب بن خالد الّذي وثّقه أهل العلم وروت له الجماعة ، أنّه تغير بأخرة (٣) ، ولعلّ سماعة من الحذاء كان بعد تغيّره!

__________________

(١) وهو وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي ، مولاهم ، أبو بكر البصري ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٣١ : ١٦٤ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ١٩٨ ، تهذيب ١١ : ١٦٩) وغيرها من المصادر.

(٢) شرح معاني الآثار ١ : ٤٠.

(٣) تقريب التهذيب ٢ : ٣٢٩.

١٦٠