وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

المناقشة

وفي هذه الطرق سفيان الثوري وهو من الأئمة الحفاظ ، المشهورين في صناعة الحديث حتى لقب بأمير المؤمنين في الحديث (١) ، ولم نعثر على من طعن فيه بشي‌ء.

قال وكيع عن شعبة : سفيان أحفظ مني (٢).

وقال عبد الرحمن بن مهدي : كان وهيب يقدم سفيان في الحفظ على مالك (٣).

وقال يحيى بن سعيد القطان : ليس أحد أحب اليّ من شعبة ولا يعدله أحد عندي ، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان (٤).

وقال سفيان بن عيينة : أصحاب الحديث ثلاثة : ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه ، والثوري في زمانه (٥).

وقال بشر بن الحارث ، عن عبد اللّٰه بن داود : ما رأيت أفقه من سفيان (٦) ، وقال الخطيب في تاريخ بغداد : كان إماما من أئمة المسلمين وعلما من أعلام الدين ، مجمعا على أمانته بحيث يستغني عن تزكيته ، مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد. (٧).

وأمّا محمد بن بشار العبدي فهو ممن تكلّم فيه ، وإليك أهم أقوالهم :

قال أبو عبيد الآجري : سمعت أبا داود يقول : كتبت عن بندار نحوا من خمسين الف حديث ، وكتبت عن أبي موسى شيئا ، وهو أثبت من بندار ، ثم قال : لو لا سلامة ، في بندار ترك حديثه (٨).

أقول : وكلام الآجري هنا يشعر أنّ الأخذ منه متوشح بالاحتياط ، فتأمل في عبارته.

__________________

(١) من قبل شعبة وسفيان بن عيينة ، وأبو عاصم ، ويحيى بن معين ، وغير واحد من العلماء (انظر في ذلك تهذيب الكمال ١١ : ١٦٤).

(٢) تهذيب الكمال ١١ : ١٦٥.

(٣) تهذيب الكمال ١١ : ١٦٥.

(٤) تهذيب الكمال ١١ : ١٦٦.

(٥) تهذيب الكمال ١١ : ١٦٦.

(٦) تهذيب الكمال ١١ : ١٦٧.

(٧) تاريخ بغداد ٩ : ١٥١.

(٨) تهذيب الكمال ٢٤ : ٥١٤.

٤٦١

وقال عبد اللّٰه بن محمد بن يسار : سمعت أبا حفص عمرو بن علي يحلف أنّ بندارا يكذب فيما يروي عن يحيى (١).

وعلّق الذهبي على هذا القول بقوله (.. كذّبه الفلاس (٢) ، فما أصغى أحد إلى تكذيبه أحد) ، لتيقنهم أنّ بندارا صادق أمين (٣).

وهذا خلط وخبط من الذهبي ، إذ متى كان تيقن الآخرين من العلماء بصدق راو ما حجة على من كذّبه منهم ، فلو كان الأمر كذلك لما جاز لعالم أن يبدي برأيه أمام الآخرين ، فالمسألة ليست تصويب في المجالس الپرلمانيه ، بل المسألة مسألة اجتهاد ـ تحت ضوابط القرآن والسنّة ـ مباح لكل من يقدر عليه ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنه لاحق للذهبي ـ وهو لم يعاصر الفلاس أو غيره ممن وثّق بندارا ـ أن ينتصر لأحد بلا دليل ملموس ، فغاية ما استند إليه الذهبي في انتصاره لمن وثّق هو عدم إصغاء الآخرين للفلاس ، وهو كما ترى.

وقال عبيد اللّٰه الدورقي : كنا عند يحيى بن معين فجرى ذكر بندار ، فرأيت يحيى لا يعبأ به ويستضعفه ، ورأيت القواريري لا يرضاه ، وكان صاحب حمام (٤).

وقال عبد اللّٰه بن المديني : سمعت أبي وسألته عن حديث رواه بندار عن ابن مهدي عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد اللّٰه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «تسحروا فان السحور بركة» فقال : هذا كذب ، حدثني أبو داود موقوفا وأنكره أشد الإنكار (٥).

وقال أبو حاتم : صدوق (٦).

وقال النسائي : صالح لا بأس به (٧) وقال أبو الفتح الأزدي : بندار قد كتب الناس عنه وقبلوه ، وليس قول

__________________

(١) تاريخ بغداد ٢ : ١٠٣.

(٢) هو أبو حفص عمرو بن علي الذي حلف بأن بندارا يكذب.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ : ٤٩٠ الترجمة ٧٢٦٩.

(٤) تهذيب الكمال ٢٤ : ٥١٦ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٤٩٠.

(٥) تهذيب الكمال ٢٤ : ٥١٥ ، تاريخ بغداد ٢ : ١٠٣.

(٦) تهذيب الكمال ٢٤ : ٥١٧ ، وميزان الاعتدال ٣ : ٤٩٠.

(٧) تهذيب الكمال ٢٤ : ٥١٧.

٤٦٢

يحيى بن معين والقواريري مما يجرحه ، وما رأيت أحدا ذكره إلّا بخير وصدق (١).

أقول : إذا كان التكذيب بهذه الصورة لا يجرحه فأي شي‌ء يجرحه في الدنيا؟

وحاصل القول في بندار هو عدم إمكان الاحتجاج به لأنّ الجرح والتكذيب ـ بالشكل المتقدم ـ يقدم على التعديل.

وخلاصة القول : في هذا الطريق ، أنّه يطعن فيه من عدة جهات :

الاولى : من جهة ابن المثنى الذي قال النسائي عنه : لا بأس به ، كان يغير في كتابه ، وقول صالح بن محمد الحافظ : صدوق اللهجة ، وإنّ في عقله شي‌ء ، وقول أبي حاتم : صالح الحديث ، صدوق.

وهذه الأقوال المتقدمة ـ في مرويات علي بن أبي طالب ـ تقتضي في نفسها عدم إمكان الاحتجاج به من دون متابعة.

الثانية : من جهة ابن بشار ـ بندار ـ المارة ترجمته قبل قليل.

الثالثة : من جهة محمد بن جعفر المعروف بغندر كما وضحناه سابقا.

وهذه الطعون ـ وإن كانت طعون ـ لكنّها لم تكن الأساسية فيه ، لوجود تابع صحيح إلى منصور بن المعتمر من رواية مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور ، وحق الطعن فيه بما بعد منصور ، فقد قدمنا إليك سابقا أنّ أبا يحيى الأعرج مما لا يمكن الاحتجاج بمروياته من دون تابع صحيح ، لأنّه قد تكلّم فيه ، وأحسن شي‌ء قيل فيه ما قاله ابن حجر من أنّه مقبول.

وعلى أي حال فإنّ القول بأنّ الطريق الأول حسن غير بعيد ، ولكن لا يمكن الاحتجاج به من دون تابع يجعله يرتقي إلى تلك المرتبة. هذا من جهة السند ، إلّا أنّ الالتزام به من جهة الدلالة لمن أشكل المشكلات : إذ لا دلالة فيه على الغسل لا من قريب ولا من بعيد ، بل يمكن أن يقال أنّه ينفع دليلا على المسح ، على ما سيأتي توضيحه لاحقا.

__________________

(١) تاريخ بغداد ٢ : ١٠٤ ، تهذيب الكمال ٢٤ : ٥١٦.

٤٦٣
٤٦٤

عبد اللّٰه بن عمرو وروايات المسح

٤٦٥
٤٦٦

ما رواه يوسف بن ماهك عن عبد اللّٰه بن عمرو

الإسناد الأول

قال البخاري : حدثنا موسى (١) ، قال : حدثنا أبو عوانة (٢) ، عن أبي بشر (٣) ، عن يوسف بن ماهك (٤) ، عن عبد اللّٰه بن عمرو قال : تخلف النبي عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته.

ويل للأعقاب من النار مرّتين أو ثلاثة (٥).

المناقشة

ذكر الذهبي موسى بن إسماعيل في ميزان الاعتدال ونقل قول ابن خراش فيه :(صدوق وتكلم فيه الناس) (٦) ، وكلام ابن خراش فضلا عن كونه مبهم فهو مجمل لا ينهض لمقاومة توثيقات الإعلام.

أمّا أبو عوانة فقد مر عليك (في مرويات علي ابن أبي طالب الغسلية) الكلام فيه.

أمّا أبو بشر فهو ثقة على ما هو صريح يحيى بن معين ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ،

__________________

(١) هو موسى بن إسماعيل ، أبو سلمة التبوذكي تقدمت ترجمته في مرويات عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم الغسلية.

(٢) هو الوضاح بن عبد اللّٰه اليشكري ، تقدمت ترجمته في مرويات علي بن أبي طالب الغسلية.

(٣) هو جعفر بن إياس ، ابن أبي وحشية اليشكري ، أبو بشر الواسطي ، بصري الأصل ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٥ : ٥ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٤٦٥ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٨٣) وغيرها.

(٤) هو يوسف بن ماهك بن بهزاد الفارسي المكي ، مولى قريش ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٣٢ : ٤٥١ سير أعلام النبلاء ٥ : ٦٨ ، تهذيب التهذيب ١١ : ٤٢١) وغيرها من المصادر.

(٥) صحيح البخاري ١ : ٥٢ باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين.

(٦) ميزان الاعتدال ٤ : ٢٠٠ الترجمة ٨٨٤٦.

٤٦٧

وأحمد بن عبد اللّٰه العجلي ، والنسائي بحكاية إسحاق بن منصور وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي عنهم (١).

وقال ابن سعد : ثقة كثير الحديث (٢).

وضعّف شعبة حديث أبي بشر عن حبيب ومجاهد ، قال صالح بن أحمد بن حنبل عن علي بن المديني : سمعت يحيى بن سعيد يقول كان شعبة يضعّف أحاديث أبي بشر عن حبيب بن سالم (٣).

وقال المفضل بن غسان الغلابي ، عن أحمد بن حنبل : كان شعبة يقول : لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم ، وكان شعبة يضعّف حديث أبي بشر عن مجاهد (٤).

وقال حنبل بن إسحاق ، عن أبي عبد اللّٰه أحمد بن حنبل ، قال يحيى : قال شعبة : لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم ، وكان شعبة يضعّف حديث أبي بشر عن مجاهد (٥).

وقال ابن عدي في الكامل : حدّث عنه شعبة وهشيم وغيرهما بأحاديث مشاهير وغرائب وأرجو أنه لا بأس به (٦).

وقد نقل ابن حجر في هدى الساري بعض تلك الأقوال ، وختمه بقوله : احتج به الجماعة لكن لم يخرج له الشيخان من حديثه عن مجاهد ولا عن حبيب بن سالم (٧).

وأمّا يوسف بن ماهك فهو ثقة على ما هو صريح يحيى بن معين برواية إسحاق بن منصور وعثمان بن سعيد الدارمي عنه (٨).

وقال النسائي : ثقة (٩).

وقال ابن خراش : ثقة عدل (١٠).

__________________

(١) تهذيب الكمال ٥ : ٧.

(٢) الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٧ : ٢٥٣.

(٣) تهذيب الكمال ٥ : ٧.

(٤) تهذيب الكمال ٥ : ٧.

(٥) تهذيب الكمال ٥ : ٧.

(٦) الكامل في الضعفاء ٢ : ١٥٢.

(٧) هدى الساري : ٣٩٣.

(٨) تهذيب الكمال ٣٢ : ٤٥٣ ، وانظر الجرح والتعديل ٩ : الترجمة ٩٦١.

(٩) تهذيب الكمال ٣٢ : ٤٥٣.

(١٠) تهذيب الكمال ٣٢ : ٤٥٣.

٤٦٨

وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات (١).

والحاصل : إنّ هذا السند مخدوش بأبي عوانة.

الإسناد الثاني

قال البخاري : حدثنا أبو النعمان ـ عارم بن الفضل ـ (٢) ، قال : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد اللّٰه بن عمرو ، قال : تخلف عنّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا (٣).

المناقشة

ويخدش هذا الطريق بأبي عوانة كذلك ، أمّا أبو النعمان فهو ثقة على ما هو صريح الذهلي (٤) وأبو حاتم (٥) والعجلي (٦) وغيرهم.

إلّا أنّ عارم مع ذلك قد خلّط بأخرة على ما هو صريح كثير من أهل العلم ، كابن حبان (٧) والدار قطني (٨) وابن حجر (٩) وأبو داود (١٠) والبخاري (١١) وغيرهم ،

__________________

(١) الثقات لابن حبّان ٥ : ٥٤٩.

(٢) هو محمد بن الفضل السدوسي ، أبو النعمان البصري ، وعارم ليس اسمه بل صفة وصف بها ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال ٢٦ : ٢٨٧ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٦٥ ، تهذيب التهذيب ٩ : ٤٠٢) وغيرها من المصادر.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٢٣ باب من رفع صوته بالعلم.

(٤) تهذيب التهذيب ٩ : ٤٠٥

(٥) الجرح والتعديل ٨ : الترجمة ٢٦٧ ، تهذيب الكمال ٢٦ : ٢٩١.

(٦) الثقات ، للعجلي : ٤١١.

(٧) المجروحين ٢ : ٢٩٤.

(٨) ميزان الاعتدال ٣ : الترجمة ٨٠٥٧.

(٩) تقريب التهذيب ٢ : ٢٠٠.

(١٠) الضعفاء ، للعقيلي ٤ : ١٢١.

(١١) التاريخ الكبير ، للبخاري ١ : الترجمة ٦٥٤.

٤٦٩

والحق إنّ اختلاطه لا يضر بما رواه في مقامنا ، وذلك لأنّه يروى هنا عن أبي عوانة ، وروايته عنه قبل اختلاطه قطعا ، لأنّه اختلط بعد سنة عشرين ومائتين على ما هو صريح أبي حاتم (١) ، وأبو عوانة مات سنة سبع وأربعين ومائة على ما هو صريح دحيم ويحيى بن معين وغيرهما (٢).

وهذا يعنى أنّه سمع منه قبل اختلاطه بسنين عدة.

ومهما يكن فإنّ هذا الطريق ، مخدوش بأبي عوانة وبأبي بشر ، حسب ما قدمنا.

الإسناد الثالث

قال مسلم : حدثنا شيبان بن فرّوخ (٣) وأبو كامل الجحدري (٤) ، جميعا عن أبي عوانة ، قال أبو كامل : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك عن عبد اللّٰه بن عمرو ، قال : تخلف عنّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفر سافرناه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى «ويل للأعقاب من النار» (٥).

المناقشة

شيبان بن فروخ ممن تكلم فيه ، فقد قال فيه أبو زرعة : صدوق (٦).

وقال أبو حاتم : كان يرى القدر واضطر الناس إليه بأخرة (٧).

__________________

(١) الجرح والتعديل ٨ : ٢٦٧.

(٢) تهذيب الكمال ٣٠ : ٤٥٢.

(٣) هو شيبان بن أبي شيبة الحبطى ، مولاهم ، أبو محمد الأبلى ، روى له مسلم وأبو داود والنسائي (انظر تهذيب الكمال ١٢ : ٥٩٨ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٣٧٤ ، التاريخ الكبير للبخاري ٤ : الترجمة ٢٧١١) وغيرها.

(٤) هو فضيل بن حسين البصري ، أبو كامل الجحدري ، روى له البخاري تعليقا ، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي (انظر تهذيب الكمال ٢٣ : ٢٦٩ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ١١١ ، تهذيب التهذيب ٨ : ٢٩٠) وغيرها من المصادر.

(٥) صحيح مسلم ١ : ٢١٤ ح ٢٧ باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما.

(٦) تهذيب الكمال ١٢ : ٦٠٠ ، المغني في الضعفاء ١ : ٧٥ الترجمة ٢٨٠٥.

(٧) الجرح والتعديل ٤ : الترجمة ١٥٦٢ ، المغني في الضعفاء ١ : ٤٧٥ الترجمة ٢٨٠٥.

٤٧٠

وقال ابن حجر : صدوق يهم ، رمي بالقدر (١).

وعلى هذا فالاحتجاج به مشكل في هذا الطريق من هذه الجهة ، إلّا أنّ أبو كامل الجحدري تابع هذا الطريق وهو ثقة فلا يضر إذن كلام من تكلم فيه مع وجود تابع ثقة كهذا في هذا الطريق.

وأبو كامل وثقة غير واحد من أئمة أهل العلم.

قال أبو حاتم ، قال علي بن المديني : أبو كامل ثقة (٢).

وقال ابن حجر في التقريب : ثقة (٣).

وقال أحمد بن حنبل : أبو كامل بصير بالحديث ، متقن ، يشبه الناس وله عقل سديد لا يتكلم إلّا أن يسأل (٤).

وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات (٥).

ومع ذلك فهذا الطريق يخدش بأبي عوانة ويعلّ بأبي بشر.

__________________

(١) تقريب التهذيب ١ : ٣٥٦.

(٢) الجرح والتعديل ٧ : الترجمة ٤٠٩.

(٣) تقريب التهذيب ٢ : ١١٢.

(٤) تهذيب الكمال (الهامش) ٢٣ : ٢٧١.

(٥) الثقات لابن حبّان ٩ : ١٠.

٤٧١

خلاصة البحوث السندية

قد عرفت ـ فيما مرّ ـ حال الأسانيد عن عبد اللّٰه بن عمرو غسلا ومسحا وأنّها ترجع في حقيقتها إلى ثلاثة أسانيد ، اثنان منهما غسلية والثالث مسحي ، أمّا الاثنان الغسليّة فهما :

١ ـ ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :

وقد وضحنا سابقا أقوال الأعلام فيه ، وأنّ جده هنا مردد بين جده الأدنى : محمد بن عبد اللّٰه بن عمرو ابن العاص ، وبين جده الأعلى : عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، فلو كان المقصود من جده هو محمد فسيكون السند مرسلا ، لأنّه لم يدرك النبي ، ولو كان المعني به عبد اللّٰه بن عمرو فإنّه على القول بصحة سماع شعيب من جده عبد اللّٰه فهو مما يتوقف فيه ، وذلك لأنّ بعض الأعلام وإن استظهر صحة سماع شعيب من جده ـ عبد اللّٰه ـ لكنهم لم يصححوا هذا السند ، لعدم تصريحه بأنّ الجد في السند هو عبد اللّٰه ، فقال الدار قطني : لعمرو بن شعيب ثلاثة أجداد الأدنى منهم محمد ، والأوسط عبد اللّٰه ، والأعلى عمرو ، وقد سمع ـ يعنى شعيبا ـ من الأدنى محمد ولم يدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع جده عبد اللّٰه ، فإذا بيّنه وكشفه فهو صحيح حينئذ ..).

أمّا إذا أجمله ـ كما في مقامنا ـ فإنّه يبقى مردد يجب التوقف عنده.

وعلى أي حال فمجرد احتمال كون المعني بالجد هو محمد يسقطه عن الاحتجاج والاستدلال ، لثبوت عدم صحة سماعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

على إنّنا حكينا لك سابقا قول ابن حبّان وغيره ممن لم يثبت لديهم ولم يصححوا سماع شعيب من جده عبد اللّٰه بن عمرو ، وخصوصا حينما وقفنا على وجود أبي عوانة في سند أبي داود ، ويعلى في سند النسائي ، الملينين من قبل علماء الرجال.

٤٧٢

وعلى هذا : فالسند منقطع وضعيف ولا يمكن الاحتجاج به ، وخصوصا بعد معرفتنا بكون عمرو بن شعيب ناصبي ، والناصبي لا يأخذ بقوله عند جميع أئمة الدراية والرجال.

٢ ـ ما رواه منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن أبي يحيى الأعرج عن عبد اللّٰه.

٣ ـ وأمّا الثالثة المسحيةفهي : ما رواه يوسف بن ماهك عن عبد اللّٰه ابن عمرو بن العاص في المسح.

وقد قلنا بأنّ هذا الطريق مخدوش بأبي عوانة إلّا أنّ مرتبة ضعف أحاديث أبي عوانة مما تتدارك بالاعتبار والشواهد ، وهي ليست كأخواتها التي سبقت. وإذا اتفق الشيخان (مسلم والبخاري) على إخراجه ، فتصير حجة على من يعتقد بهذا المبنى!!

البحث الدلالي

بعد أن اتضح لديك عدم إمكان الاحتجاج بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، لا بد من الكلام عن دلالة مرويات أبي يحيى الأعرج (مصدع) على المطلوب ، وهل أنّها تدل على الوضوء بالمنطوق أم بالمفهوم؟ ولو كانت دلالتها بالمفهوم ، فإلى أي حد يمكن به إثبات المدّعى؟

الحق : أنّ روايات أبي يحيى الأعرج مجملة من جهة بيان الوضوء ، فهي لم تبين أي شي‌ء منه ، غاية ما فيها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ويل للأعقاب (أو العراقيب) من النار.

فالإجمال واضح في رواياته لعدم صراحتها في شي‌ء ، وقد ادعى البعض الاضطراب في متونها كذلك ، لأنّ بعض الطرق عن أبي يحيى الأعرج تذكر أنّ سبب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو : «أنّ قوما تعجلوا عند العصر فتوضئوا وهم عجال ، ولمّا رأى أعقابهم تلوح لم يمسها ماء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل للأعقاب من النار». وهذا المتن هو من رواية جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد اللّٰه بن عمرو ،

٤٧٣

وهذا غير ما رواه وكيع عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى ، الذي ليس فيه سوى : أسبغوا الوضوء.

أمّا في رواية سفيان وعبد الرحمن عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى هو مجي‌ء قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويل للأعقاب ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح.

وفي رواية غندر (محمد بن جعفر) عن شعبة عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبصر قوما يتوضئون لم يتمّوا الوضوء فقال : أسبغوا ويل ..

وفي رواية أبي كريب عن عبد اللّٰه عن إسرائيل عن منصور عن هلال عن أبي يحيى .. أنّه قال ويل للأعقاب ، لأنّه رأى أقدامهم بيضاء من أثر الوضوء.

وأنت تعلم بأنّ رواية وكيع عن سفيان .. هي أرجح مما رواه غندر وجرير بن عبد الحميد عن أبي يحيى.

وكذا تعلم بأنّ فيما رواه وكيع عن سفيان عن منصور هو وجود جملة (أسبغوا الوضوء) ، وهذه الجملة لا دلالة لها على غسل الرجلين.

أمّا ما رواه سفيان وعبد الرحمن عن سفيان عن منصور ففيها جملة (وأعقابهم تلوح) وهذه الرواية ساكتة عن معنى اللّوح ـ وإن كانت قد وضحت في رواية جرير عن منصور عن أبي هلال عن أبي يحيى بأنّ أعقابهم تلوح لم يمسها ماء لكنّها لم تكن هي العلة : لاحتمال أن يكون اللّوح في الأقدام جاء لوجود نقطة يابسة لم تغسل في الرجل ، وقد تكون لأجل وجود نجاسة ظاهرة في الأعقاب ، أو لأوساخ ظاهرة لا يمكن الوقوف معها على النجاسة في الرجل إلّا بعد رفعه ، وقد تكون تلوح لكونها مغسولة.

ومع وجود هذه الاحتمالات المتساوية في القوة لا مجال لترجيح أحدها على الآخر ، وبذلك تبقى الرواية على إجمالها ولا يمكن الاستفادة منها في الاستدلال.

ولنرجع إلى ما احتملناه من أنّ النبي قد يكون رآها مغسولة فنهى عنها ، لعدم وجود حكم من الشارع للأعقاب بالخصوص لا غسلا ولا مسحا ، فما احتملناه وإن كان بعيدا عن فهم الآخرين إلّا أنّ له وجها معقولا ، وخصوصا لو لاحظنا ما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد اللّٰه عن إسرائيل عن منصور : إنّ القوم توضئوا

٤٧٤

فجاء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله فرأى أقدام بيضا من أثر الوضوء.

وهذا النص يعنى أنّ الأقدام كانت مغسولة بما فيها الأعقاب والعراقيب ، لقول الراوي : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رآها بيضا ، والبياض يتناسب مع كونها مغسولة. ولا يمكن القول بأنّ جملة (فرأى أقدامهم بيضاء) تعني أنّ الأقدام كانت مغسولة دون العراقيب ولأجله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل للعراقيب من النار ، لأنّ الإطلاق (أقدامهم) لا يفهم منه العقلاء إلّا الاستيعاب حتى للعراقيب ، ويدل عليه ما استدل عليه مفسرو أهل السنّة والجماعة لقوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) هو استيعاب الغسل حتى للعراقيب.

وبهذا فقد عرفنا بأنّ أقوى الأسانيد الغسلية هي مجملة غير واضحة ، وهي ليست صريحة في بيان المطلوب والدلالة على الغسل ، لكن الأسانيد المرجوحة منها هي أكثر بيانا ، فما يعنى هذا؟ وبأيّهما يؤخذ؟! بقي الكلام عن مرويات يوسف بن ماهك ، وهذه الروايات وإن كانت مجملة أيضا ـ في بيان تفاصيل الوضوء ـ إلّا أنّها صريحة في زاوية واحدة منها ، وهي : أنّ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأجمعهم مسحوا أقدامهم في الوضوء ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينههم عن المسح بل ذكّرهم بأمر إضافي وهو ويل للأعقاب من النار ، قالها مرتين أو ثلاثا.

أي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّ فعلهم [أي المسح] ثمّ أرشدهم إلى أمر إضافي وهو لزوم الحيطة من الأعقاب لكونها معرضة للنجاسة ، وإنّ وجود النجاسة في البدن أو الثوب وخصوصا في الرجل يدعو إلى الهلكة ، وقد كان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أكّد بأنّ أكثر عذاب أهل القبور من رذاذ البول ، وهذا يتفق مع كون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (ويل للأعقاب من النّار) هو تنبيه على وجوب طهارة العقب من النجاسة الخبثية.

فلو كان المسح باطلا لقال لهم : لا تمسحوا ، ومن مسح فوضوؤه باطل ، وحيث لم ينههم عن المسح ، بل أقرّ فعلهم بالسكوت ثمّ التنويه والإرشاد على أمر يجب مراعاته للماسحين ، وهو الحيطة من رذاذ البول وما يتعلق بالأعقاب من النجاسة.

عرفنا بأن جملة (ويل للأعقاب من النار) بنفسها لا تدل على الغسل الواجب للرجل.

ونحن كنّا قد وضحنا سابقا أنّ روايات يوسف بن ماهك عن عبد اللّٰه بن عمرو

٤٧٥

هي من طريق أبي عوانة عن أبي بشر ، وقد كان هذا الطريق مخدوش بأبي عوانة ، فلو فرضنا أنّه معارض بما رواه منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى الأعرج عن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ، فنحن نرجح ما رواه أبو عوانة على ذلك الطريق لمجموع الجهات الآتية :

الاولى : إنّ متون جميع طرق أبي عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد اللّٰه بن عمرو متحدة لا زيادة فيها ولا نقص ، بخلاف ما رواه أبو يحيى الأعرج فإنّ متونها مجملة مضطربة.

الثانية : هناك عدد من الحفاظ ، وهم مشايخ البخاري ومسلم وغيرهما كموسى التبوذكي ، وشيبان بن فروخ ، وأبو كامل الجحدري وعارم بن الفضل ، وعفان بن مسلم الصفار وحتى محمد بن جعفر (غندر) كلهم قد رووا عن أبي عوانة عين ما يرويه الآخر ، بخلاف تلك المرويات فإنّ الرواة اختلفوا في الرواية عن منصور.

الثالثة : إنّ البخاري لم يخرج في الوضوء عن عبد اللّٰه بن عمرو إلّا ما رواه أبو عوانة وهذه ميزة أو مرجح لما في المقام.

الرابعة : إنّ رواية أبي عوانة متفق عليها حيث أخرجها الشيخان (البخاري ومسلم) بخلاف رواية أبي يحيى والتي هي من إفراد مسلم ، ولا يخفى عليك أنّ المتفق عليه عند الشيخين. يترجّح على ما يتفرد به أحدهما ، كما فيما نحن فيه.

وقد يقال : أنّ هناك مرويات وشواهد في هذه المسألة كويل للأعقاب من النار ، التي رويت عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا بحد ذاته دليل على عدم تفرد عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص في هذه القضية.

قلنا : سنبين في البحث القرآني لهذه الدراسة أنّ مرويات (ويل للأعقاب) وإن ثبت صدورها عن رسول اللّٰه فهي غير دالة على شي‌ء من أفعال الوضوء بالخصوص ، بل إنّها تدل على أمر خارجي وهو لزوم طهارة الأعقاب ، علما بأنّ روايات عبد اللّٰه بن عمرو ليس فيها تصريح سوى رواية يوسف بن ماهك عنه ، الدالة على المسح على الأقدام لقوله : (فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار) ونؤكد القول وللمرة الثانية : بأنّا لم نعثر على شي‌ء في تلك الروايات يشير

٤٧٦

إلى تصريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوب الغسل بل إنّهم استفادوا من جملة (ويل للأعقاب من النار) للدلالة على الغسل ، ولا دلالة فيها على المطلوب.

ولا أدري كيف فهم الأعلام دلالتها على الغسل مع وضوح كونها مجملة جدا.

والإنصاف إنّ هذه الرواية لا يمكن الركون إليها من الناحية الاستدلالية وفي كلام إعلامهم ما يشير إلى هذا وإليك بعض أقوالهم :

قال النووي :

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ويل للأعقاب من النار) ، فتواعدهما بالنار لعدم طهارتها ولو كان المسح كافيا لما تواعد على ترك غسل عقبيه ، وقد صح من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ رجلا قال :

يا رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف الطهور .. ثم عقّب النووي الرواية بقوله : هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره بأسانيدهم الصحيحة واللّٰه أعلم (١).

وكلام النووي يشعر بأنّ «ويل للأعقاب من النار» لا تكفي للدلالة على وجوب غسل الرجلين لقوله : (وقد صح من حديث عمرو بن شعيب). وهذا يعني أنّه فسّر المجمل (ويل للأعقاب) بما هو مبين له وهو حديث عمرو بن شعيب ، ومنه نستشعر بأنّ (ويل للأعقاب) مجملة حتى عند النووي ، هذا شي‌ء.

والشي‌ء الآخر هو أنّ قوله (ولو كان المسح كافيا لمّا تواعد على ترك غسل عقبيه) يدل على مشروعية المسح ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما لم ينههم وقد رآهم قد مسحوا فهو تقرير منه صلى‌الله‌عليه‌وآله على مشروعية المسح ، أمّا قوله (ويل للأعقاب) فليس نهيا عن المسح بل إرشاد إلى الحيطة في الأعقاب ، لأنّها معرضة للنجاسة ، فتوعدهم بالنار لإمكان بطلان صلاتهم لو لم يغسلوا تلك الأعقاب النجسة.

وهناك أمر ثالث أشار إليه النووي وهو صحة إسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، فإنّا نتعجب منه كيف يحكم بصحة الإسناد إلى عمرو بن شعيب وقد عرّفناك بأنّ الحكم بصحة تلك الأحاديث أمر لا يساعد عليه البحث العلمي.

__________________

(١) شرح صحيح مسلم للنووي (٣ ـ ٤) : ١٣١ ح ٩ ، قاله في معرض شرحه لحديث عائشة.

٤٧٧

فرواية أبي داود مخدوشة بأبي عوانة ، فضلا عن عمرو بن شعيب والتردد في جده ، أمّا رواية النسائي فهي الأخرى مخدوشة بيعلى بن عبيد الطنافسي الذي صرح يحيى بن معين بضعف حديثه في خصوص سفيان ـ كما فيما نحن فيه ـ وكذا بعمرو بن شعيب والتردد في جدة.

ولا أدرى كيف يحكم النووي بصحة حديث عمرو بن شعيب وأنت ترى حاله؟

لا أحسب أنّ النووي فعل ذلك إلّا لاعتقاده بعدم إمكان الاحتجاج بويل للأعقاب لكونها مجملة ، فلجأ إلى ما يبينها (وهي رواية عمرو بن شعيب) وإن كانت ضعيفة جدا.

قال ابن حزم ـ بعد ذكره رواية مصدع في مسلم ـ : فكان هذا الخبر ـ ويعني به رواية مصدع (أبي يحيى الأعرج) عن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ـ زائدا على ما في الآية وعلى الأخبار التي ذكرنا ، وناسخا لما فيها ولما في الآية ، والأخذ بالزائد واجب (١).

وقد كان ابن حزم قد وضّح قبله دلالة الآية على المسح سواء قرئت بالخفض أم الفتح ، وهي على كل حال عطف على الرءوس ، إمّا على اللفظ وإمّا على الموضع كما هو صريحه (٢).

أمّا قوله (وعلى الأخبار التي ذكرنا) فكان يعني بها روايات الصحابة التي دلت على مسح الرجلين كرواية علي ورفاعة بن رافع وابن عباس و ..

ومثله قوله (وناسخا لما فيها ولما في الآية) فكان يعني بها أنّ رواية مصدع ناسخة للآية الدالة على المسح ولأخبار المسح الصريحة.

لكن هذا الكلام غير صحيح لعدم وقوع النسخ في الوضوء في الشريعة المحمدية كما سيتّضح لاحقا ، إذ لو كان النسخ واقعا فعلا لكان أول من علمه علي وابن عباس وأنس ، في حين نرى هؤلاء قد رووا المسح عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعلوا به ، فلو كان المسح قد نسخ لما فعله صحابة أمثال هؤلاء. ولما اشتهر عنهم بأنّ مذهبهم المسح.

أضف إلى ذلك إنّ جمعا من التابعين قد ذهبوا إلى المسح قولا وفعلا ، فلو كان

__________________

(١) المحلى ٢ : ٥٧.

(٢) انظر المحلى ٢ : ٥٦ وفيه عدة روايات وأقوال صريحة في المسح على القدمين.

٤٧٨

النسخ ثابتا عندهم لما فعلوا ذلك.

وعليه فيكون ادعاء النسخ أمر مشكوك فيه ، إذ لو كان لعلمه هؤلاء الصحابة والتابعين ، ونضيف إليه : إنّ القول بنسخ الكتاب القطعي بخبر الواحد الظني مما يضحك الثكلى ، وخبر مصدع هو خبر واحد ، بل إنّ جميع أخبار الغسل هي هكذا ، كما سيأتي تفصيله لاحقا.

وقد تبين مما تقدم : أنّ ابن حزم قد اعترف بكون المسح هي سيرة المسلمين في الصدر الأول. وأنّه المنزل من قبل اللّٰه في القرآن العظيم ، وأنّه فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما رواه عن جمع من الصحابة أمثال : علي بن أبي طالب وابن عباس ورفاعة بن رافع وأنس بن مالك وغيرهم.

قال ابن حجر ـ وهو في معرض شرح رواية موسى التبوذكي عن أبي عوانة في البخاري :

(قوله : ونمسح على أرجلنا) انتزع منه البخاري أنّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل ، فلهذا ذكره في الترجمة (١) (ولا يمسح على القدمين) ، وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها ، وفي إفراد مسلم (فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء) فتمسك بهذا من يقول بإجزاء المسح ويحمل الإنكار على ترك التعميم ، لكن الرواية المتفق عليها أرجح ، فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل ، فيحتمل أن يكون معنى قوله (لم يمسها الماء) أي ماء الغسل جمعا بين الروايتين ..) (٢).

ولعمري أنّ ابن حجر قد أنصف هنا في عدة أمور :

الاولى : الذهاب إلى أنّ رواية أبي عوانة عن يوسف بن ماهك هي أرجح من رواية مصدع عن عبد اللّٰه بن عمرو ، لكون الاولى متفق عليها بخلاف رواية مصدع التي تفرد بها مسلم.

__________________

(١) ويعني بالترجمة عنوان الباب في البخاري (غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين) ، وقد علق ابن حجر على (قوله : باب غسل الرجلين) : كذا للأكثر وزاد أبو ذر ولا يمسح على القدمين.

(٢) فتح الباري ١ : ٢١٣.

٤٧٩

الثانية : إنّ دلالة مرويات عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص ـ بعد الجمع بينهما ـ محتملة الدلالة ، وهذا يفهم من قوله المتقدم «فيحتمل أن يكون ..» فلو كانت دلالتها قطعية أو معتبرة لصرح بها كما هو عادته.

الثالثة : إنّ قوله (انتزع منه البخاري) يشعر ـ بل يكشف ـ عن عدم إقرار ابن حجر التام على هذا الانتزاع من البخاري ، فإنّ ابن حجر احتمل في المقام ـ كما وضحنا لك ـ ولكنّ البخاري كان قد انتزع ، وواضح جدا لأهل النظر أنّ الانتزاع والاحتمال اجتهاد يمكن الخطأ فيه.

وبعد هذا نتعجب من ابن حجر كيف جمع بين رواية مصدع المرجوحة وبين رواية يوسف بن ماهك الراجحة ـ المتفق عليها بما لا سبيل إلى قوله ـ ونحن قد أوقفناك سابقا على أنّ بعض روايات مصدع مخدوشة من جهتين :

١ ـ من جهة مصدع

٢ ـ من جهة جرير بن عبد الحميد ،

فكيف يتصور بعدها إمكان معارضة هذا الخبر بما اتفق عليه الشيخان حتى تصل النوبة إلى أن يجمع بينهما ، أو أن يصير نتيجة الجمع بينهما هو الغسل؟!! والذي يهون الخطب : إنّ ما قاله ابن حجر هو مجرد احتمال ، فلو كان كذلك فنحن نحتمل قباله احتمال آخر وهو الذي مر عليك ، لأنّ روايات يوسف بن ماهك صريحة في المسح على القدمين ، وروايات مصدع مجملة الدلالة ، فيمكن إرجاع روايات مصدع المجملة إلى روايات يوسف بن ماهك التي فيها صراحة في المسح ، ويحمل جملة (ويل للأعقاب من النار) على أنّه إشارة إلى أمر خارج عن حقيقة الوضوء من قريب ، وهذا الجمع هو الذي تقتضيه قواعد الجمع بين المتعارضين ، وهو إرجاع المجمل للمبين لا التخبط كما فعله ابن حجر ، فاحتمالنا يرجّح على احتمال ابن حجر ، بل يمكننا القول بأنّ احتمال ابن حجر هو خطأ واضح ، لأنّه أرجع الأحاديث المجملة إلى رواية المسح ثم استنتج منها الغسل!! وهذا من أسخف الاستدلال.

أمّا ما ادعاه من أنّ (ويل للأعقاب) نهي عن مسح الرجلين ، فهي دعوى بلا دليل ، بل الدليل عليها لا لها ، لأنّ ابن حزم وابن رشد وغيرهم عدّوا هذه الرواية

٤٨٠