وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

قالا : فإنّ ابن عمك أتمّها وأنّ خلافك إياه عيب.

قال الراوي : فخرج معاوية إلى العصر فصلاها أربعا (١).

ومن هذا القبيل نرى اعتلاء صرخة الرفض الفقهي من أبي قتادة الأنصاري ، حيث واجه خالد بن الوليد في تعريسه بأم تميم زوج مالك بن نويرة ، قائلا له مستنكرا : هذا عملك؟! فزبره خالد ، فغضب أبو قتادة ومضى ، وكان أبو قتادة قد شهد لمالك بالإسلام ، ومن بعد تلك الفاجعة عاهد اللّٰه أن لا يشهد مع خالد حربا أبدا (٢).

وغضب أبو قتادة ومضى حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر حتى كلّمه عمر (٣).

وكذلك نرى في حكم الجدّة اسم محمّد بن مسلمة الأنصاري (٤) أو عبد الرحمن بن سهل الأنصاري (٥) يعترض على أبي بكر في فقهه في الجدّة ويصحّح له خطأه فيه.

ولمّا تسلم عمر أزمّة الأمور ، وراح يمدّ خطاه الاجتهادية ما امتدت ، تبلور واتّضح الخلاف الفقهي بين «الأنصار والمتعبّدين» وبين عمر زعيم «قريش والمجتهدين» ، فزاد عدد الأرقام زيادة ملحوظة في معارضة فقه الخليفة الثاني من الأنصار على وجه الخصوص.

فقد أراد عمر بن الخطّاب أن يقيد الذّمّي من المسلم ، فنهاه معاذ بن جبل الأنصاري (٦) ، فاستجاب لقوله ثم قال : «لو لا معاذ لهلك عمر» (٧).

وكان عمر يجنح لإقادة النبطي من المسلم ويصر على ذلك فنهاه

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ٩٤ ، فتح الباري ٢ : ٤٥٧ ، نيل الأوطار ٣ : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٤٣.

(٣) تاريخ الطبري ٣ : ٢٤٢ ، شرح النهج ٤ : ١٨٧ ط قديم.

(٤) الموطأ ١ : ٣٣٥ ، مسند أحمد ٤ : ٢٢٤.

(٥) الموطأ ١ : ٣٣٥ ، الاستيعاب ٢ : ٧٤٠٠ الإصابة ٢ : ٤٠٢.

(٦) جمع الجوامع للسيوطي ٧ : ٣٠٤.

(٧) السنن الكبرى ٧ : ٤٤٣ ، التمهيد : ١٩٩ ، كنز العمال ٧ : ٨٢ ، فتح الباري ١٢ : ١٢٠ ، الإصابة ٣ : ٤٢٧.

٤٢١

زيد بن ثابت الأنصاري (١).

وقد خطّأ زيد عمر في مسألة إرث الجدّ وشرح له الحكم عن طريق تقريب مراتب الورثة من خلال التشبيه بالشجرة (٢) ، بعد أن طلب منه عمر موافقته على رأيه فأبى زيد.

وحين استأذن رجل من الأنصار على عمر ، وكان عمر يجهل حكم الاستئذان بعث الأنصار أصغرهم سنّا ـ وهو أبو سعيد الخدري ـ ليشهد عند عمر أنّ ذلك سنة رسول اللّٰه (٣) ، وتنفّر أبىّ بن كعب من حالة عمر هذه فقال له : يا بن الخطّاب لا تكونن عذابا على أصحاب رسول اللّٰه (٤).

وقدّم شاب من الأنصار لعمر ماء مع عسل فأبى عمر ، محتجا بقوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ ..) فاحتجّ عليه الشاب الأنصاري بأنّها نزلت في الكفار لا في أهل القبلة (٥).

ونهى عمر بن الخطّاب صلاة ركعتين بعد العصر ، إلّا أنّ أنس بن مالك الأنصاري وأبا سعيد الخدري الأنصاري وأبا أيّوب الأنصاري ظلّوا يصلونهما مخالفة لفقه عمر ، والتزاما بفقه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك روى إباحة ـ إن لم نقل استحباب ـ هاتين الركعتين أبو أيّوب الأنصاري والنعمان بن بشير الأنصاري ، والأسود بن زيد الأنصاري ، وأبو الدرداء الأنصاري (٦) ، وإن رواية هؤلاء جواز الصلاة لا يعني أنّهم وفي جميع المفردات كانوا من نهج التعبد المحض ، فقد تخلف بعض هؤلاء عن الأصول في مفردات اخرى.

وعارض عمر بن الخطّاب في تحريمه للمتعة جمهورا من الصحابة منهم جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري الذي قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام

__________________

(١) كنز العمال ٧ : ٣٠٣ ، السنن الكبرى ٨ : ٣٢.

(٢) السنن الكبرى ٦ : ٢٤٧.

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٦٩٤ ، صحيح البخاري ٣ : ٨٣٧ ، مسند أحمد ٣ : ١٩.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١٦٩٦.

(٥) شرح النهج ١ : ٦١.

(٦) طرح التثريب في شرح التقريب ٢ : ١٨٦.

٤٢٢

على عهد رسول اللّٰه وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (١) ، كما عارضه أبو سعيد الخدري (٢) ، وأبيّ بن كعب في قراءته فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل (٣) ، وكان عمر قبل ذلك أراد أن ينهى عن متعة الحج فحاججه أبيّ فأضرب عمر عن ذلك (٤).

ويبدو أنّ عمر التفت إلى أنّه يحكم في المدينة ـ التي هي معقل الأنصار ـ وأنّ المعارضين لفقهه يزدادون يوما بعد آخر ، فلذلك وجد المخرج من هذا الصراع الفقهي المتفاقم. بأن صرّح في خطبته في الجابية قائلا ، من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإنّي له خازن (٥). فامتصّ عمر ردة الفعل الفقهي الأنصاري بجعله هذه المحاور الثلاثة لمن أراده من الأنصار حلّا لأزمته تلك.

وهكذا برزت أسماء لامعة من الأنصار تناهض فقه الخليفة عمر بن الخطّاب فإذا أضيف إليها المتعبدين من غير الأنصار ، كعلي وابن عباس وابن مسعود وعمار بن ياسر ، تشكّلت جبهة فقهية عريضة من «الأنصار والمتعبدين» تضادّ «القرشيين والمجتهدين».

ولعل خير شاهد في هذا المجال ، هو أن نرى عمرا يشيّع الوفد الأنصاري إلى أطراف المدينة من أجل أن يأمرهم بإقلال الحديث ، الحديث الّذي لا يتوائم مع سير الفقه القرشي الاجتهادي.

ومثل ذلك ما نرى من أسماء المحبوسين بالمدينة. الممنوعين من التحديث ففيهم من الأنصار : أبو مسعود وأبو الدرداء وحذيفة بن اليمان (٦) ، ومن المتعبدين أبو ذر

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٣٩٥ ، فتح الباري ٩ : ١٤١.

(٢) عمدة القارئ ٨ : ٣١.

(٣) تفسير الطبري ٥ : ٩.

(٤) مسند احمد ٥ : ١٤٣ ، والدر المنثور ١ : ٢١٦.

(٥) الأموال : ٢٢٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٢٧١.

(٦) حذيفة عبسي ، وانما سمّي حذيفة بن اليمان للجوئه إلى الأنصار وانضمامه إلى قبائل اليمن ، فهو بهذا الاعتبار معدود في عداد الأنصار.

٤٢٣

الغفاري وعبد اللّٰه بن مسعود الهذلي وعقبة بن عامر الجهني.

وأمّا المعارضون لفقه عثمان فكثر لكن الحق أنّ معارضته الفقهية لم تقتصر على الأنصار ، بل كانت المعارضة من كليهما ، كما كان ذلك في معارضته السياسية والمالية والادارية ، لأنّ عثمان ـ وهو المعني بالوضوء هنا ـ أراد صياغة مشروع أمويّ سياسي فقهي ، فنجح في بعض وأخفق في بعض.

لقد كان أوّل تحرّك قرشي اجتهادي صدر في بداية خلافة عثمان ، هو رأي عمرو بن العاص بدرء الحدّ عن عبيد اللّٰه بن عمر رغم إجماع المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله ، إلّا أنّ المعارضة سرعان ما انخفض صوتها ، ولم يبق إلّا صوت علي ثابتا ـ حتّى فرّ منه ابن عمر أيّام خلافته ـ ، وصوت محمود بن لبيد الأوسي الأنصاري ، وزياد بن لبيد البياضي الأنصاري ، الذي بقي يعرّض بعبيد اللّٰه بالشعر ، فنهاه عثمان ، فقال في ذلك :

أبا عمرو عبيد اللّٰه رهن

فلا تشكك بقتل الهرمزان

فإنك إن غفرت الجرم عنه

و أسباب الخطإ فرسا رهان

أتعفو إذ عفوت بغير حقّ

فمالك بالذي تحكي يدان (١)

وقدم عثمان الخطبة على صلاة العيدين ، خلافا لسنة رسول اللّٰه الثابتة في الصلاة ثمّ الخطبة ، وكان أبو سعيد الخدري ، وجابر الأنصاري ، والبراء بن عازب ، وأنس بن مالك ، كلّهم ممّن رووا خلاف ما فعل عثمان ، واستمرّ مروان بن الحكم الأموي القرشي على نهج عثمان ، فراح ليصعد على المنبر قبل الصلاة فجذبه أبو سعيد الخدري ، فجذبه مروان وارتفع فخطب ، فقال أبو سعيد : غيّرتم واللّٰه (٢).

وعلّم أبيّ بن كعب الخليفة عثمان حكم رجل طلّق امرأته ثمّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة (٣).

وأمّا فقه الإمام علي فإننا بدراسة مفصلة لفقه الصحابة حصلنا على نتيجة مفادها التقارب الشديد في المسائل المختلف فيها بين فقه علي والأنصار ، والتنافر بين

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ٥ : ٤١ ، الغدير ٨ : ١٣٤.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١١١ ، صحيح مسلم ١ : ٢٤٢ ، مسند احمد ٣ : ١٠ ، ٢٠ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٩٢.

(٣) السنن الكبرى ٧ : ٤١٧.

٤٢٤

هذا الفقه والفقه القرشي ، اتباع الاجتهاد ، منعة التدوين والتحديث ، حتى أنّه ليكاد يقف الفقهان على طرفي نقيض في المسائل المختلف فيها ، وهذا ما يؤكّد أنّ الحالة الفقهيّة الأنصاريّة العامّة تنتظم وتتفق في كثير من الأحيان مع السلك العلوي التعبدي ، وتتنافر مع الفقه القرشي الاجتهادي ، ولذلك قل ما نجد نزاعا فقهيّا بين أنصاريّ وبين الإمام علي طيلة عمر الإمام علي ، بخلاف الحزب القرشي الاجتهادي ، فقد وقع الخلاف الفقهي بين علي وبينهم حتّى طفح الكيل. فصرّح علي بذلك في كثير من كلماته وخطبه مع المفردات الفقهيّة المسجّلة في المصادر الناصّة على قيام الاختلاف على أشدّه بين الفقه العلوي التعبّدي ، وبين الفقه الاجتهادي القرشي.

واتّسع الخرق حين انتزى معاوية على الأمّة ، فراح يؤسّس ما شاء من فقه عثماني أموي كما وضحناه وسنشير إليه بعد قليل ، غير أنّ اللّافت للنظر هو أنّ معاوية كانت تخالفه الأنصار منذ كان واليا على الشام لعمر وعثمان ، وحتّى استلامه الملك ، وقد كان الصحابيّ النقيب الجليل عبادة بن الصامت الأنصاري رأس حربة الأنصار في مخالفة نهج معاوية الفقهي ففي حين كان معاوية يتعاطى الربا ولا يرى به بأسا ، أصرّ عبادة بن الصامت على معارضته ذلك الفقه المنحرف ، قائلا : أشهد أنّي سمعت رسول اللّٰه يقول ذلك ، وقال : إنّي واللّٰه ما أبالي أن لا أكون بأرض يكون بها معاوية (١). وحاول معاوية إقناعه بالانصراف عن رأيه الفقهي التعبدي بحرمة الربى ، قائلا له : اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره ، فقال عبادة : بلى وإن رغم أنف معاوية (٢) ، وذهب عبادة إلى المدينة منصرفا عن الشام ، وأخبر بذلك عمر فأمره بالرجوع إلى الشام وقال له : لا إمرة عليك (٣). دون أن يردع معاوية عن رأيه الفقهي بالقوة المعهودة عن عمر.

واعترض على معاوية في معاملاته الربوية أبو الدرداء ـ وهو من الأنصار ـ أيضا ، قائلا : سمعت رسول اللّٰه عن مثل هذا فقال : إلّا مثلا بمثل ، فقال معاوية : ما أرى

__________________

(١) انظر سنن النسائي ٧ : ٢٧٧ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٧٨.

(٢) تاريخ دمشق ٧ : ٢١٢.

(٣) تاريخ دمشق ٧ : ٢١٢.

٤٢٥

بهذا بأسا ، فقال له أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول اللّٰه وهو يخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها (١).

وغزا عبد الرحمن بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ـ ومعاوية أمير على الشام ـ فمرّت به روايا خمر لمعاوية ، فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها ، فناوشه الغلمان ، حتى بلغ شأنه معاوية ، فقال : دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله ، فقال عبد الرحمن : كلا واللّٰه ما ذهب عقلي ولكن رسول اللّٰه نهانا أن ندخل بطوننا واسقيتنا خمرا (٢).

ومزّق عبادة بن الصامت الأنصاري مرّة أخرى روايا تحمل الخمر وهي في طريقها إلى الشام ، فأرسلوا إلى أبي هريرة في أن يكلم عبادة ، فإنه لا يتركهم ولا يترك عيبهم ، فكلمه أبو هريرة ، فأجابه عبادة بما كانوا بايعوا عليه رسول اللّٰه في بيعة العقبة من أن لا يكتموا حقّا (٣).

ولشدّة معارضات عبادة الفقهية أرحله معاوية بأمر عثمان من الشام إلى المدينة ، وأبدى عثمان ـ الاجتهادي ـ تذمّره منه قائلا : ما لنا ولك يا عبادة؟! فقام عبادة وخطب بين الناس قائلا : إنّي سمعت رسول اللّٰه أبا القاسم يقول : إنّه سيلي أموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى ، فلا تضلوا بربكم ، فو الذي نفس عبادة بيده إنّ فلانّا ـ يعني معاوية ـ لمن أولئك (٤).

واستمرّت المعارضة الفقهية حتّى ملك معاوية ، فخطب فادّعى الأفضلية لأبي بكر وعمر وعثمان ، ثم فضل نفسه على من بعده ، فكذبه عبادة بن الصامت وقرعه بالحجة الواضحة ، فأمر معاوية به فضرب (٥).

وأجاز اجتهاد معاوية ـ القرشيّ ـ الجمع بين الأختين بملك اليمين!! فاعترض

__________________

(١) الموطأ : ٥٩ ، سنن النسائي ٧ : ٢٧٩ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٨٠.

(٢) الإصابة ٢ : ٤٠١ ، الاستيعاب ٢ : ٥٤٠١ أسد الغابة ٣ : ٢٩٩.

(٣) تاريخ دمشق ٧ : ٢١١.

(٤) مسند احمد ٥ : ٣٢٥ ، تاريخ دمشق ٧ : ٢١٢.

(٥) تاريخ دمشق ٧ : ٢١٣.

٤٢٦

عليه النعمان بن بشير الأنصاري (١) ، ولا ننس أنّ مثل هذا الرأي كان قد صدر عن عثمان قبله.

ولما وصلت النوبة إلى يزيد بن معاوية ، تبدّل الخلاف الفقهي والعقائدي والسياسي من مجرّد معارضته فقهية إلى مواجهة مسلحة صارخة بين الأنصار والمتعبدين من جهة ، وبين الأمويين القرشيين والمجتهدين من جهة أخرى.

وتوحدت جبهة الهاشميين والأنصار المتعبدين ضدّ مشروع معاوية القاضي باستخلاف يزيد فلمّا كتب معاوية إلى سعيد بن العاص واليه على المدينة يأمره بأخذ البيعة ، قال الراوي : فأبطأ الناس (الأنصار وهم عظم سكان المدينة) عنها .. لا سيما بني هاشم .. وكتب سعيد بن العاص إلى معاوية : .. وإنّي أخبرك أنّ النّاس عن ذلك بطاء ، لا سيما أهل البيت من بني هاشم ، فإنّه لم يجبني منهم أحد (٢).

وكان محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري من وفد أهل المدينة ، قال لمعاوية حين استشهارهم في بيعة يزيد : إنّ كل راع مسئول عن رعيته ، فانظر من تولّي أمر أمة محمد؟! فأخذ معاوية بهر (٣).

واضطر معاوية لاقناع أهل المدينة والأنصار أو اخضاعهم لبيعة يزيد أن يرحل رحلتين من الشام إلى المدينة ، الأولى في سنة ٥٠ ه‍ ، استعمل فيها أسلوب اللين والمخادعة والترغيب ، والثانية في سنة ٥١ ه‍ ، استخدم فيها أسلوب العنف والإجبار والترهيب ، وكان معه الف فارس ، وهدّد معاوية وقال : لأقتلنّهم إن لم يبايعوا. هذا ، وكان أهل المدينة يكرهون يزيد (٤).

فنتيجة لكل هذا وصلت الأمور إلى ذروتها في زمن حكم يزيد ، فحدثت وقعة الحرّة ، حيث لم تخضع المدينة المنوّرة بزعاماتها الأنصارية للمسار الأموي ، حتّى أنّ زعيمهم عبد اللّٰه بن حنظلة الغسيل قال : واللّٰه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء ، إنّه رجل ينكح الأمهات والبنات والأخوات ، ويشرب

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٣٧.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٤ ـ ١٤٦.

(٣) الكامل ٣ : ٢١ ـ ٢١٦. العقد الفريد ٢ : ٣٠٢ ـ ٣٠٤.

(٤) تاريخ دمشق ٦ : ١٥٥.

٤٢٧

الخمر ، ويدع الصلاة ، واللّٰه لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت للّٰه فيه بلاء حسنا (١). وصرّح بمثل هذا جماعة من قيادات الأنصار صحابة وتابعين.

وفي هذا الانشقاق بين الأنصار والمتعبدين من جهة ، وبين قريش والمجتهدين من جهة أخرى ، يقف عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم في خضم الأحداث في صفوف المتعبدين ، غير شاذّ عن جماعة الأنصار في خطوطها العريضة.

شهد هو وأمّه أمّ عمارة ـ نسيبة بنت كعب ـ أحدا (٢) ، وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في موقفها يوم أحد : لمقام نسيبة اليوم خير من مقام فلان وفلان (٣) ، وإنّ النبي قال في ذلك اليوم في حقّهم : «رحمة اللّٰه عليكم أهل البيت (٤)» فيظهر أنّهم من المتعبدين الملتزمين بالدفاع عن الدين.

وقد قتل مسيلمة الكذاب أخاه حبيب بن زيد وقطّعه (٥) ، وقتل عبد اللّٰه مسيلمة الكتاب ، أو شارك وحشيّا في قتله (٦) ، غير أنّ معاوية ادعى زورا وكذبا أنّه هو الذي قتل مسيلمة ، ليسلب عبد اللّٰه بن زيد هذه الفضيلة في قتل المدّعي للنبوّة ، وذلك القتل من معاوية لم ينقل عن غير معاوية ، فلا يكاد يخفى القصد من وراء ادعائه هذا ، الذي حاول المزّي أن يبرّره بأنه يحتمل ان يكون معاوية شارك في قتل مسيلمة (٧).

وقد كان من الصحابة الذين استشهدوا ضد الأمويين في واقعة الحرّة ، فقد ذكر في قيادات الحرة الذين استشهدوا فيها ، هو ومعقل بن سنان الأشجعي ، وعبد اللّٰه بن حنظلة الغسيل الأنصاري (٨).

__________________

(١) تاريخ دمشق ٧ : ٣٧٢.

(٢) تهذيب الكمال ١٤ : ٥٣٩.

(٣) مغازي الواقدي

(٤) تهذيب الكمال ١٤ : ٥٣٩.

(٥) تهذيب الكمال ١٤ : ٥٣٩.

(٦) تهذيب الكمال ٥ : ٢٢٣.

(٧) انظر تهذيب الكمال ١٤ : ٥٣٩.

(٨) شذرات الذهب ١ : ٧١ ،

٤٢٨

ولم يقتصر على التضحية بنفسه ، بل قتل معه ابناه خلّاد وعلي (١) في تلك الوقعة المريرة.

وتكاد المصادر تتفق على أنّه قتل في وقعة الحرة التي كانت آخر ذي الحجة سنة ٦٣ ، وهو ابن سبعين سنة (٢).

عبد اللّٰه بن زيد والوضوء

بعد هذه المقدمة التي عرفنا على ضوئها أمورا كثيرة في تاريخ التشريع الإسلامي ، وتعرفنا كذلك على تخالف الأنصار مع المهاجرين فقها وسياسا ، لا بد من الإشارة إلى أهداف القرشين في الوضوء بالخصوص ، فإنّهم من جهة كانوا يريدون مشاركة الأنصار في شرعية هذا الوضوء الجديد ، لكونهم شريحة مهمة في الإسلام ، ومن جهة أخرى كان لا يمكنهم نسبة ذلك الوضوء إلى أعيان الأنصار كأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وغيرهما ببساطة ، لأنّ النّاس كانوا قد وقفوا على وضوء هؤلاء ، وإن نقل شي‌ء يخالف وضوئهم سيخطّا من قبل الآخرين فرأوا من الأنسب أن ينسب الوضوء الثلاثي الغسلي إلى صحابي أنصاري مغمور كعبه اللّٰه بن زيد ، لا يكون محورا للتساؤل ولا محطا لأن تتوجه انظار المسلمين إليه ، فمع إمكان نسبة الوضوء وأمثاله لأمثال عبد اللّٰه بن زيد من صغار الصحابة المغمورين ومع تحقق الفرض به لا داعي لأن ينسب ذلك إلى كبار الصحابة.

ونحن لو وقفنا على موقف أنس بن مالك الأنصاري مع الحجاج بن يوسف الثقفي لعرفنا تخالف موقف هذا الأنصاري مع ما ما ينقل عن عبد اللّٰه بن زيد الأنصاري في الوضوء.

ومثله الحال بالنسبة إلى جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري الذي جاء عنه أنه كان يمسح على قدميه (٣).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ : ٢٢٣ عن ابن سعد.

(٢) تهذيب الكمال ١٤ : ٥٤٠ ، تهذيب التهذيب ٥ : ٢٢٣

(٣) عمدة القاري ٢ : ٢٤٠.

٤٢٩

وأنت ترى أنّ مواقف هؤلاء الأعاظم من الأنصار كان المسح لا الغسل ، وهو يوضح لنا سر انتساب الغسل إلى عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم المغمور دون غيره.

والعجب أنّهم يعدّونه صاحب حديث الوضوء مع أنّه كان له من العمر. حين وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٧ عاما فقط ، ولم يعطوا هذا اللقب لغيره من كبار الصحابة وقديمي الصحبة وأقرباء النبي وخاصته.

في حين نعلم أنّ الصلاة افترضت قبل الاسراء (١) ، وقد افترضت الصلاة على النبي بعد نزول الوحي ، وحين افترضت على رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه جبرئيل وهو بأعلى مكة ، فهمز بعقبة في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين ، فتوضأ جبرئيل ورسول اللّٰه ينظر إليه ، ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول اللّٰه كما رأى جبرئيل توضأ (٢).

وفي هذا الصدد قال محقق سيرة ابن هشام : فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض مدني بالتلاوة ، لأنّ آية الوضوء مدنية (٣).

فلو صح هذا فلما ذا يختص عبد اللّٰه بن زيد بهذا اللقب دون غيره من الصحابة؟ وما يعنى هذا؟ نعم نحن لو تابعنا السير التاريخي للوضوء لعرفنا بصمات الفقه القرشي عليه.

إن التثليث في غسل الأعضاء وغسل الأرجل كان المدار الأوّل للاختلاف بين المسلمين في عهد عثمان بن عفان ، ثم تطوّر حتى رأينا ابن عمر يغسل رجليه سبع مرات وكان يعتبر الوضوء هو الإنقاء ، وأنّ أبا هريرة كان يطيل غرته بغسل ساقيه ، حتى وصل الأمر بمعاوية أن يتوضأ للناس ، فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر ، ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره ومن مؤخرة إلى مقدمه (٤).

والباحث لو تأمّل في الوضوءات البيانيّة عن رسول اللّٰه لم يشاهد زيادة (مسح الرأس مقبلا ومدبرا) عن أحد من الصحابة إلّا عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم والربيع

__________________

(١) انظر هامش سيرة ابن هشام ١ : ٢٦٠ عن السهيلي.

(٢) سيرة ابن هشام ١ : ٢٦٠.

(٣) انظر هامش سيرة ابن هشام ١ : ٢٦٠.

(٤) سنن أبي داود ١ : ١٢٤ / ٣١.

٤٣٠

بنت معوذ ، وحيث أنّ هذا الحكم كان يتوافق مع ما ذهب إليه معاوية بن أبي سفيان ولم يأت في الوضوءات البيانيّة الأخرى عن الصحابة فهذا مما يجعلنا نشكك فيه وخصوصا بعد أن عرفنا أنّ موقف الربيع بنت المعوذ كان موقفا أمويا ، وأن ابن عباس كان لا يرتضي حكايتها عن رسول اللّٰه.

ومثله الحال وجود نقلين عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم ليس في أحدهما : غسل الرجلين ومسح الرأس مقبلا ومدبرا وغسل الأعضاء ثلاثا وهذا ما يرجح أن يكون الوضوء الثنائي المسحي عنه هو الأرجح.

إنّ موضوع مسح الرأس قد تغير من أيام معاوية وأخذ يفقد حكمه حتى ترى فقهاء المذاهب الأربعة يجوزون غسل الرأس بدلا من مسحه ، وان كان من بينهم من يذهب إلى كراهتها (١).

وبما أنّ مستند هذا الحكم انحصر بعبد اللّٰه بن زيد بن عاصم والربيع ولم ينقل هذا القيد عن غيرهما عن رسول اللّٰه ، وحيث عرفنا أنّ معاوية كان وراء هذا الرأي ، فلا يستبعد بعد هذا أن تكون الربيع قد حكت ما يعجب معاوية وأنصاره ، أو أن ينسبوا إلى عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم مثله.

وبعد هذا يحق للمطالع أن يتساءل أو يشكّك في نسبة هذا الوضوء الثلاثي الغسلي لهذا الصحابي الشاب دون غيره من أعيان الصحابة ، وخصوصا بعد ان وقفنا على وجود وضوء ثنائي مسحي منقول ومروي عنه بلا اضطراب ولا خلل لا في المتن ولا في السند.

وبهذا فقد علمنا كلّ العلم كيف كان الأمويون ـ ومن بعدهم العباسيون ـ ينسبون كل ما يرتئونه إلى خصومهم الفقهيين والفكريين تدعيما لمزاعمهم.

والذي يؤكّد هذه الناحية هو إننا رأينا أن كل منقولات عبد اللّٰه بن زيد ابن عاصم عن النبي لا تتجاوز العشرين في المجاميع الحديثية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة ، ونحن وإن كنا لا ننكر صعوبة الإلمام بفقهه من خلالها فقط ، إلّا أننا بضميمة ما قدمنا يمكننا استلال الكثير من خلالها ، والتأكّد من أنّ الوضوء الثنائي المسحي

__________________

(١) انظر الفقه على المذاهب الأربعة ، للجزيري ١ : ٥٧.

٤٣١

أصحّ نسبة إليه وأقرب إلى نفسه ومساره الفقهي ، وإلى فقه الأنصار.

فقد روي عبد اللّٰه بن زيد أنّه رأي النبي في المسجد واضعا احدى رجليه على الأخرى ، وروى استقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحول ردائه ، وروى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» ، وروى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا وضوء إلّا فيما وجدت الريح أو سمعت الصوت» ، وروى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ إبراهيم حرّم مكة ودعا لها حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ودعوت لهم في مدّها وصاعها مثل ما دعا به إبراهيم لمكة» ، وروى قضية توزيعه صلى‌الله‌عليه‌وآله الغنائم يوم حنين على المؤلّفة قلوبهم دون الأنصار وترضّي النبي لهم ، وروى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه وحقّ أهله : «رحمة اللّٰه عليكم أهل البيت» ، وروى أنّ النبي توضّأ مرّتين مرّتين ، وروى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تمضمض واستنشق من كف واحد ، وروي عنه كيفية وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وها نحن نرى أنّ جميع منقولاته هذه توافق نهج التعبد المحض ، وما رواه كبار الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس فيها ما يخالفهم إلّا في هذا الموضع المتنازع فيه وهو الوضوء ، فما هو سرّ ذلك؟! ولما ذا التأكيد على الوضوء الغسلي الماسح للرأس مقبلا ومدبرا بماء جديد دون سائر المفردات الفقهية الأخرى؟! وهل عجز الصحابة الكبار وقدماء الصحبة عن أن يبيّنوا حكم الوضوء الذي عرفت كيفيته منذ بدء نزول الوحي ، حتّى يفرد هذا الصحابي الشاب المعارض للاجتهاد والقرشين والأمويين فقها وسياسة ببيان الوضوء العثماني الأموي الاجتهادي؟! وبهذا قد تكون عرفت سبب تعريفه غالبا «بصاحب حديث الوضوء»؟! وأنّه يدل على مزعمة كالتي زعمت في عبد اللّٰه بن زيد الذي أرى الأذان؟! على أنّ رواية عبد اللّٰه بن زيد للوضوء مرّتين مرّتين ، فيه تعضيد للوضوء المسحي الذي لا يجيز التثليث ، كما أنّ روايته : «ان النبي توضّأ فجعل يدلك ذراعيه» تؤيد الوضوء الثنائي المسحي لأنّ المصرّح به ـ أي الدلك ـ يتوافق مع الوضوء بماء قليل ، لا بماء كثير وتثليث للغسلات وغسل للممسوحات ، لأنّ المدّ لا يكفي لذلك كما اكدنا ذلك مرارا.

وعليه : فالوضوء إمّا بمدّ أو ثلثي مدّ ـ كما في رواية ابن حبان عن عبد اللّٰه ـ وأنّ

٤٣٢

النقلين ـ الوضوء مرتين ، والدلك ـ لا يتطابق مع ما حكاه عبد اللّٰه بن زيد عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله في روايات أخرى من غسله لرجليه ثلاثا ومسحه للرأس مقبلا ومدبرا ، لأنّ المدّ يتفق مع غسل الأعضاء مرّة ومرّتين ثم مسح الرأس والرجلين ، لعدم بقاء ماء لغسل الرجلين إما افتراض وقوع ذلك مع تثليث غسل الأعضاء وخصوصا الرجل منه فبعيد جدا.

فنحن لو قلنا بصحة روايات عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم الغسليّة فستخالف ما جاء عنه : (أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ المرة والمرتين) أو (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى بثلثي مد ماء فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه) ، وحيث لا يمكن القول بصحة النقلين معا ، لزم الترجيح بينهما.

إنّ تخصيص الوضوء الثلاثي الغسلي بهذا الصحابي الأنصاري المعارض ليجعلنا في شك منه ، ويرجّح عندنا الوضوء الثنائي المسحي المنقول عنه عن النبي بدون كل هذه الملابسات ، بل بمعضدات من فقه الأنصار ومواقفهم السياسية بل من فقهه ومواقفه السياسية هو بالذات.

يبدو أن الأمويين استغلوا انزواءه وصغر سنّه حين وفاة النبي ، وعدم وجود الأدوار البارزة له والأضواء المسلطة عليه ، فاتخذوه وسيلة لكسب الأنصار والمتعبدين إلى جانب وضوئهم ـ العثماني الاجتهادي ـ ، وما ذلك من فعلات الأمويين ببعيد.

أضف إلى ذلك ، ما قدمناه من اضطراب روايات الغسل اضطرابا شديدا في السند ، وربما في المتن ، وخلوّ روايات المسح عن ذلك خلوّا تامّا ، مضيفين إليه وجود نقلين آخرين في الوضوء الثنائي المسحي عن عباد :

أحدهما عن أبيه تميم بن زيد المازني ، وقد جاءت في أغلب المصادر.

الثاني : عن عمه عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم وهو ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار.

وهذين النقلين يدعمان النقل المسحي عن عبد اللّٰه بن زيد ويوضحان تقاربه لفقه الأنصار ، لأن النقل الثاني عن عباد والذي أخرجه الطحاوي يؤيد ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه عن عبد اللّٰه أنّ النبي توضأ

٤٣٣

مرتين ومسح برأسه ورجليه ، وهذا يتفق مع ما روى عنه من (أنّ رسول اللّٰه توضأ المرة والمرتين) و (أنّ النبي توضأ بثلثي المد ـ أو المد ـ فجعل يدلك ذراعيه).

وفي المقابل ترى الوضوء بالمد أو ثلثي المد لا يتفق غسل الأرجل والأعضاء ثلاثا!! وبهذا فقد عرفنا ـ على ضوء هذا النص ـ ان الأنصار كانوا يذهبون إلى المسح للأمور التالية.

١ ـ لحكاية عباد المسح عن عمه عبد اللّٰه بن زيد وأبيه تميم.

٢ ـ لرواية تميم ـ أخ عبد اللّٰه ـ المسح عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في أغلب المصادر.

٣ ـ لما جاء عن عبد اللّٰه بن زيد في المسح وضعف ما نسب إليه في الغسل.

ونحن لو جمعنا وضوء هؤلاء الثلاثة مع ما جاء عن أنس بن مالك الأنصاري وجابر بن عبد اللّٰه الأنصاري لعرفنا أنّ المسح كان أقرب إلى فقه الأنصار من الغسل.

وعليه فالوضوء الغسلي لا يتفق مع العقل والنقل لعدم إمكان تطابقه مع المدّ أو ثلثيه ، ولمعارضته لأخبار مسحية اخرى عنه وعن ابن أخيه عباد وبطرق متكثرة دون أي اضطراب في ذلك ، وهذا ما يؤكد ما قلناه من فقه الأنصار ، وفقه عبد اللّٰه بن زيد الأنصاري وفقه تميم بن زيد الأنصاري وفقه أنس بن مالك الأنصاري وجابر بن عبد اللّٰه الأنصاري وفقه علي بن أبي طالب وعبد اللّٰه بن العباس وفقه الطالبيين. وهذا كله يقوي نسبة الوضوء الثنائي المسحي إلى عبد اللّٰه بن زيد وضعف ما يقابله من وضوء ثلاثي غسلي منسوب إليه.

ولا نغالي إذا قلنا أن القدماء ألمحوا إلى بعض هذا الأمر الذي قلناه ، وتنبهوا إلى الاختلاف المنقول عن عبد اللّٰه بن زيد. وأنّ نقطة التوقف في الاختلاف تكون عند عمرو بن يحيى. وحسبنا للتدليل على ذلك هذا النصّ عن مسند أحمد : حدثنا عبد اللّٰه ، حدثني أبي ، حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو بن يحيى ابن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري ، عن أبيه ، عن عبد اللّٰه بن زيد : أنّ النبي توضّأ.

قال سفيان : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن يحيى ـ منذ أربع وسبعين سنه ، وسألته بعد ذلك بقليل وكان يحيى أكبر منه ـ قال سفيان : «سمعت منه ثلاثة

٤٣٤

أحاديث : فغسل يديه مرتين ، ووجهه ثلاثا ، ومسح برأسه مرتين».

قال أبي : سمعته من سفيان ثلاث مرّات يقول : «غسل رجليه مرتين» وقال مرة : «مسح برأسه مرة» ، وقال مرتين : «مسح برأسه مرّتين» (١).

فالثابت عند سفيان هو صدور حكاية الوضوء النبوي عن عبد اللّٰه بن زيد ، وهذا ما لا كلام فيه ، لكنّ النص أعلاه ينبئنا عن حصول الارتباك وعدم الوحدة في النقل عند عمرو بن يحيى : فتارة يذكر غسل وجهه ثلاثا ، وتارة لا يذكره ، وتارة ينقل غسل يديه مرتين ، وأخرى لا ينقله ، وينقل المسح بالرأي مرّتين تارة ، وينقل المسح مرتين تارتين أخريين ، ومرّة أخرى المسح بالرأس مرّة ، ويخلو السمع الأوّل عن غسل الرجلين في حين ينقل السماع الثاني غسلهما مرتين.

وهكذا يقع الاختلاف والنقص والتفاوت الفاحش بين النقلين ، ولا مجال لافتراض هذا الاختلاف عن سفيان ، ولا يحيى بن سعيد ، فينحصر إلقاء العهدة على عمرو بن يحيى ، وذلك ما أثبتناه ، وقد قلنا بأنّ جرح ابن معين له وطعن ابن المديني فيه وتضعيف الدار قطني له كان مفسرا وانه بسبب قلة ضبطه ، وهذا الذي ذكرناه ـ فيما تقدم من الاضطراب السندي والمتني ـ جار في روايات الغسل حسب ، فإذا أضفت إلى ذلك معارضتها بروايات المسح ، الخالية عن كلّ هذا ، تبين بوضوح أرجحيّة الوضوء الثنائي المسحي عن عبد اللّٰه بن زيد بن عاصم ، واتضح مرجوحية ما نسب إليه من الوضوء الثلاثي الغسلي.

__________________

(١) الفتح الرباني بترتيب مسند احمد ٢ : ٣٦.

٤٣٥
٤٣٦

مناقشة مرويات

عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص

سندا ودلالة ونسبة

المناقشة السندية لمروياته الغسليّة

المناقشة السندية لمرويّاته المسحيّة

البحث الدلالي

نسبة الخبر إليه

٤٣٧
٤٣٨

عبد اللّٰه بن عمرو وروايات الغسل

٤٣٩
٤٤٠