سببٌ ثالث :
ولقد كان هذا العمل ( أي الاشتغال برعي الاغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال ) فرصة جيدة لأن يتمكن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من النظر في خلق السماوات والتطلع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها ، وبالتالي الامعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود اللّه تعالى ، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته.
ان قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنها منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الايمان والتوحيد منذ بدء فطرتها ، وخلقتها ، ولكنهم مع ذلك لا يرون انفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق ، والتفكر في الآيات الالهية ، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الايمان ، ويبلغون اسمى درجات اليقين ، وبالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت السماوات والأرضين.
لقد دفع وضع ( محمَّد ) المعيشي الصعب « أبا طالب » سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً بالشهامة ، وعلو الطبع ، وإباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه ، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.
ومن هنا اقترح على ابنه أخيه « محمَّد » العمل والتجارة بأموال « خديجة بنت خُويلد » الّتي كانت امرأة تاجرة ، ذات شرف عظيم ، ومال كثير ، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم اياه بشيء تجعله لهم منه.
فقد قال أبو طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها اكثر الناس وهي تبحث عن رجل أمين ، فلو جئتها فوضعتَ نفسَك عليها لأسرعتْ اليك ، وفضَّلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك.
ولكن إباء رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلوّ طبعه ، منعاه من الإقدام