بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

هذا ومما يتفرع على النفوذ من الثلث أمور :

الأول ـ تقدم الدين عليها كالوصية لأن الثلث لا يكون إلا بعد إخراج الدين وعلى نفوذها من الأصل تقدمها على الدين ، إذ على القول بالأصل لم يفرق المنجز بين وقوعه في المرض أو في الصحة التي لا إشكال في تقدمه على الدين وان لم يكن له مال غيره ، فيبقى الدين حينئذ بلا وفاء.

والعجب من شيخنا في (الجواهر) بني على تقديم الدين عليه عند أهل القول بنفوذه من الأصل أيضا غير الحلي منهم ، حيث قال ـ بعد أن حكي عن ابن إدريس نفوذ عتق المريض من الأصل وسقوط الدين من رأس ـ ما لفظه : «وأصحابه الموافقون له في كون المنجزات من الأصل لا يوافقونه فيما إذا زاحم التنجيز الدين ، بل يخصونه بالنسبة إلى الورثة والا كانوا محجوجين بهذا الصحيح وغيره ، بل لعل مقابلته بالقول بالخروج من الثلث المعلوم كون المراد منه بعد خروج الدين تشهد بعدم المزاحمة المزبورة» انتهى (١).

ولعل مراده تقديم الدين عليه في خصوص العتق إذا كان على المعتق دين يبلغ نصف قيمة العبد فما دون ، للأخبار المتقدمة ، لا تقديمه عليه مطلقا ، إذ مع عدم مساعدة دليل عليه لا يقول به أحد من أهل القول بالنفوذ من الأصل ، بل يوافقون الحلي في تقديمه المنجز على الدين. نعم في خصوص العتق المذكور ربما يقال به ، تعبدا بالنصوص الواردة فيه

__________________

(١) راجع : هذا المطلب ونص العبارة المذكورة في أوائل كتاب الحجر من الجواهر ، أثناء العرض المفصل عن منجزات المريض ، في شرح قول المحقق : «وفي منعه من التبرعات المنجزة الزائدة عن الثلث خلاف بيننا ، فالوجه المنع».

٦١

وإطلاق الحلي بتقديم المنجز مطلقا على الدين مبني على أصله : من عدم العمل بأخبار الآحاد» (١)

__________________

(١) الخبر الواحد : هو غير البالغ درجة التواتر المفيد للقطع ، وان تعددت رواته.

وهو نوعان : منه ـ ما يفيد القطع ، وان كان مخبره واحدا ، كما إذا احتف بقرائن تفيد اليقين بصدوره ، وهذا النوع مما لا شك في حجيته ـ لا لذاته ـ بل لانتهائه إلى القطع المفروض الحجية.

ومنه ـ ما ليس بتلك الدرجة من افادة القطع. وفي حجية مثل هذا النوع من الخبر الواحد وعدمها وقع الخلاف بين السيد المرتضى وأتباعه والشيخ الطوسي وأتباعه ، فأنكر السيد حجيته إذا لم يكن محفوفا بقرائن تدل على صحته ، وتبعه من الخاصة : القاضي ابن البراج ، وأبو المكارم ابن زهرة. والطبرسي صاحب المجمع ، وابن إدريس الحلي صاحب السرائر ، وغيرهم. ومن العامة : ابن علبة ، والأصم ، والقاشاني من أهل الظاهر ، وغيرهم.

وقال شيخ الطائفة الطوسي بحجيته ، وان لم يفد العلم ولم يكن محفوفا بقرائن تدل على صحته ، وعليه عامة الفقهاء المتأخرين من الإمامية.

وربما نسب القول بالحجية أيضا إلى كثير من العامة كابن شريح والحسن البصري والصيرفي ـ من الشافعية ـ وأحمد بن حنبل ، وداود الظاهري ، والحسين الكرابيسي ، وحكي ذلك عن مالك بن أنس أيضا ـ كما ذكر ذلك ابن حزم في الأحكام.

وفي الحقيقة إن مركز الخلاف بين الفريقين في وجود الدليل على الجواز وعدمه ، فالمنكر ـ كفريق السيد المرتضى علم الهدى ـ ينكر وجود الدليل القطعي على الحجية. والقائل بالحجية كفريق الشيخ الطوسي

٦٢

وبالجملة فالأخبار المفصلة في عتق المديون ان قلت بظهورها في الوصية ـ كما عرفت ـ قلت بتقديم المنجز على الدين مطلقا ، بعد البناء على نفوذه من الأصل ، عملا بالقاعدة مع عدم المخرج عنها ، وان قلت

__________________

يرى قيام الدليل على ذلك.

فالخلاف ليس في حجية الخبر غير المفيد للعلم وعدم الحجية. وانما في قيام الدليل على الحجية وعدمه ، فهو صغروي في الحقيقة مع اعتراف كل من الفريقين بحجية الخبر المفيد للعلم.

وكل من الفريقين يعضد رأيه بالأدلة الأربعة ، الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، وبالمؤيدات الكثيرة ، ولا يسع المجال لاستعراضها ومناقشتها وابن إدريس الحلي من مؤيدي السيد المرتضى في إنكار حجية الخبر الواحد غير المفيد للعلم ـ كما في المتن ـ ولكن الذي يستعرض أدلة الفريقين ويستوعب المسألة درسا وتحقيقا في مظانها من كتب أصول الفقه للعامة والخاصة ، لا يجد بدا من موافقة الشيخ الطوسي من القول بحجية الخبر الواحد ـ بحد ذاته ـ وان لم يفد القطع ، وذلك لكثرة الآيات الواردة في هذا الخصوص كمفهوم آية النبإ ، ومنطوق آية النفر ، وآية حرمة الكتمان ، وآية الذكر.

وكذلك لورود السنة النبوية عملا وقولا في ذلك : فمن العملية ـ ما تواتر نقله من إنفاذ رسول الله (ص) امراءه وقضائه ورسله وسعاته إلى الأطراف ـ وهم آحاد ـ لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ الأحكام ، وذلك يدل بالملازمة على حجية أقوالهم ووجوب الأخذ منهم ، ومن القولية : روايات متواترة لفظا ومضمونا ، استعرضتها عامة كتب الأصول وقد ذكرت منها طوائف كثيرة ، منها ـ ما ورد في مقام الترجيح بين الخبرين المتعارضين بالأعدل والأشهر والأصدق والقول

٦٣

بظهورها في المنجز حملا للماضي على معناه الحقيقي أو الأعم منه ومن الوضعية من باب عموم المجاز ، التزمنا بالتفصيل المتقدم تعبدا بالأخبار

__________________

بالتخيير عند التساوي ، ومنها ـ ما ورد في إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمة عليهم السلام ، ومنها ـ ما دل على وجوب الرجوع الى الرواة والثقات والعلماء ، ومنها ـ ما دل على الترغيب في كتابة الروايات وحفظها وبثها. ومنها ـ ما دل على ذم الكذب والتحذير من الكذابين والوضاعين. ومنها ـ ما ورد في تسويغ الرجوع إلى أمثال كتب الشلمغاني وبني فضال ، ونحوهم من المنحرفين في الرأي ، الصدوقين في النقل ، إلى غير ذلك من طوائف الروايات التي يستفاد من مجموعها رضي الأئمة عليهم السلام ، بل رغبتهم بالعمل بالخبر الواحد ، وان لم يفد القطع ـ هكذا في رسائل الشيخ الأنصاري وكفاية الآخوند وغيرهما من كتب الأصول ـ وأما دعاوي الإجماع على العمل بالخبر الواحد مطلقا ، فقد تواترت ـ باستمرار ـ على ألسنة عموم الفقهاء منذ عهد الشيخ الى اليوم.

وأما دليل العقل واستقراء طريقة العقلاء في ذلك ، فعن الحجة النائيني ـ كما في تقريرات تلميذه الكاظمي ـ قدس سرهما ـ قوله : «واما طريقة العقلاء ، فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض أنه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتكال عليه في محاوراتهم».

وأخيرا ، نقول ان من يستعرض المسألة في مظانها من كتب أصول الفريقين : الخاصة والعامة ، ويتأمل في أدلة الطرفين ، لا يجد مناصا إلا الاعتراف بحجية العمل بالخبر الواحد ـ أفاد العلم أم لم يفد.

ولزيادة التفصيل في هذا الموضوع يراجع بابه من كتب الأصول للفريقين ككفاية الآخوند ورسائل الأنصاري وإرشاد الفحول والأحكام لابن حزم وغيرها.

٦٤

الخاصة مع الاقتصار على موردها من التفصيل في دين المعتق من غير تعد منه إلى غيره من سائر المنجزات ، فيرجع فيها إلى تقديم المنجز على الدين مطلقا.

الثاني ـ بتعيين المنجز ثلثا ، إن كان بقدره ، وتعيينه من الثلث ، ان كان دونه لأن ذلك بحكم تعيين الميت ثلثه في مال مخصوص بعد أن كان له تعيين ذلك ، وليس للوارث مزاحمة المنجز له في العين المنجزة وتبديلها بغيرها.

الثالث ـ كون العبرة بثلث المال عند الموت لا حين التنجيز كالوصية التي يعتبر فيها الثلث حين الموت لا حينها.

الرابع ـ تقديم المتقدم منها فالمقدم في المنجزات المرتبة مع زيادتها على الثلث مطلقا. وان كان فيها عتق متأخر ، فيقدم المنجز المتقدم عليه إجماعا كالوصايا المتزاحمة ، غير أنه في الوصايا قيل بتقدم العتق وإن كان متأخرا في الذكر كما عن الشيخ والإسكافي ، ولكن المشهور فيها بنوا على العمل بالترتيب المذكور فيها ، وإن كان فيها عتق متأخر ولعل مستند الشيخ وابن الجنيد (١) ما تقدم من قوله : «يبدأ بالعتق» في الأخبار المتقدمة.

__________________

(١) ابن الجنيد هو الإسكافي ، وهو محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي ، من أعاظم الفرقة وأعيان الطائفة وأفاضل قدماء الإمامية وأكثرهم علما وفقها وأدبا ، وأكثرهم تصنيفا وأحسنهم تحريرا ، وأدقهم نظرا ، متكلم فقيه ، محدث أديب ، واسع العلم ، صنف في الفقه والكلام والأصول والأدب والكتابة وغيرها. تبلغ مصنفاته ـ عدا أجوبة مسائله ـ نحوا من خمسين كتابا ..» هكذا ذكره وأطراه السيد بحر العلوم في فوائده الرجالية (ج ٣ ص ٢٠٦ طبع النجف) ويستمر في استعراض كتبه ومؤلفاته ـ إلى قوله في آخر ص ٢٠٧ ـ : وهذا الشيخ على جلالته في

٦٥

ولو اجتمعت منجزات ووصايا وزاد المجموع على الثلث ، فلا اشكال بل لا خلاف في تقديم المنجزات على الوصايا مطلقا ، وان تأخر عنها في الذكر وكان النقصان في الوصية ، لأن التنجيز تمليك فعلي ، وقد تم السبب من قبل المعطى ، وإن كان مراعى في التخريج بالموت. ولا كذلك الوصية فإنها معلقة على الموت الذي هو بمنزلة الجزء من السبب.

هذا كله في المنجزات ، وأما الإقرار في مرض الموت ، فلا يخلو :

أما أن يكون الإقرار بدين أو بعين ، وعلى التقديرين : فاما أن يكون لأجنبي أو للوارث. وعلى التقادير : فاما أن يكون متهما في إقراره أو لا يكون متهما فيه :

اختلفت كلماتهم في نفوذه من الأصل مطلقا ، أو التفصيل بحسب الصور المتقدمة والقيود الواردة في بعض النصوص من التقييد بكونه عدلا أو مرضيا أو مليا أو مصدقا : على أقوال.

وليعلم أولا كما سبق أنه لا ملازمة بين القول بنفوذ المنجزات من الأصل ونفوذ الإقرار منه أيضا ـ كما ادعاه في (المهذب) ـ (١) لإمكان

__________________

الطائفة ورئاسته وعظم علمه : قد حكي القول عنه بالقياس ، ونقل ذلك عنه جماعة من أعاظم الأصحاب ، ومع ذلك فقد أثنى عليه علماؤنا وبالغوا في إطرائه ومدحه وثناؤه ..». وهو من أعلام القرن الرابع الهجري ومن معاصري الشيخ الكليني ـ قدس سرهما.

(١) المهذب البارع في شرح المختصر النافع للمحقق الحلي ، تأليف الشيخ أحمد بن محمد بن فهد الحلي المتولد سنة ٧٥٧ ه‍ ـ والمتوفى سنة ٨٤١ ه‍ ، ولا يزال الكتاب من نفائس المخطوطات في مكتبة آل كاشف الغطاء الخاصة ، وهو مجلد ضخم مستوعب للشرح والتفصيل والتحقيق ، قال ـ في آخر كتاب الوصايا منه في شرح قول المحقق : «أما الإقرار للأجنبي

٦٦

التخلف في الثاني بنفوذه من الثلث في مورد التهمة ، تعبدا بالأدلة الخاصة فيه ، كما أنه لا ملازمة بين القول بنفوذ المنجز من الثلث ونفوذ الإقرار منه أيضا وإن نسب إليه ذلك أيضا في (ملحقات البرهان) (١) إلا أني لم أجده فيما حضرني من نسخة (المهذب) بل الموجود فيه التصريح بالعدم (٢).

وانما نمنع الملازمة فيه لخروج المقر به عن كونه تركة الميت وماله ومتعلقا به حق الغير بعمومات أدلة (إقرار العقلاء) فيكون خارجا من

__________________

فان كان متهما على الورثة فهو من الثلث ، وإلا فهو من الأصل» : «أقول : إقرار المريض هل يمضي من الأصل ، أو يتقيد بالثلث كالوصية؟ ابن إدريس على الأول ، وهو لازم لكل من جعل المنجزات من الأصل».

(١) هي مجموعة صغيرة تحتوي على أربعة رسائل موجزة : في المسافة الملفقة ، والرجوع عن قصد الإقامة ، وميراث الزوجة ، وتصرفات المريض اعتبرها مصنفها ـ وهو الفقيه المحقق السيد علي بحر العلوم الطباطبائي صاحب البرهان القاطع ـ من ملحقات كتابه (البرهان).

قال ـ أعلى الله مقامه ـ في آخريات الرسالة الرابعة من المجموعة ـ : «وأما الإقرار من المريض بمال للغير ، فربما استظهر ـ من اتفاق الأصحاب غير الحلي وسلار على عدم نفوذه مطلقا من الأصل ـ القول بخروج المنجزات من الثلث ـ إلى قوله : وعن المهذب : إن القول بكون المنجز من الأصل يلزمه القول بنفوذ الإقرار من الأصل ، والقول بكونه من الثلث يلزمه القول بأن الإقرار من الثلث ..».

(٢) ففي المهذب تتمة العبارة الآنفة الذكر هكذا : «ومن قال : انها من الثلث : منهم من قال : الإقرار من الأصل .. ومنهم من فصل والتفصيل في موضعين : (١) في الفرق بين العين والدين (٢) وفي الفرق بين الوارث والأجنبي ـ إلى آخر كلامه ..

٦٧

الأصل ، وإن قلنا بخروج المنجزات من الثلث.

هذا واستدل شيخنا في (الجواهر) على خروج المنجزات من الثلث بالأدلة الدالة على نفوذ الإقرار منه في مورد التهمة ثم قال : «ولا ينافيه النفوذ من الأصل مع عدم التهمة ، إذ لعله تعلق لا يمنع من الإقرار مع عدم التهمة ، فإن تعلق الحقوق بالنسبة إلى ذلك مختلف» (١) انتهى.

وتقريب الاستدلال بها على مدعاه في المنجز انما هو لكون المانع عن النفوذ فيما زاد على الثلث في غير مورد التهمة تعلق حق الوارث به وهو كما يمنع من نفوذ الإقرار فيه كذلك يمنع من نفوذ المنجز فيه أيضا لوجود الملاك ، وهو تعلق حق الغير به ، فيكون من تنجيز ما تعلق به حق الغير ، وهو باطل.

قلت : لنا ـ في كلا طرفي كلامه ـ تأمل أما التعليل بعدم المنافاة ففيه أن حق الغير ـ بعد فرض تعلقه ـ لا يمكن نفوذ الإقرار في متعلقة وان لم يكن متهما ، لعدم شمول دليل الإقرار له ، بعد أن كان مورده النفوذ على نفسه دون غيره. (ودعوى) اختلاف الحقوق بالنسبة إلى ذلك (أمر) لا نعقله بعد فرض التعلق.

وأما التقريب ، ففيه أنه كما يحتمل أن يكون المانع تعلق حق الغير به ـ وعليه فيمنع في المنجز أيضا ـ كذلك يحتمل أن يكون المانع لزوم التفويت على الوارث والإضرار به ، وان لم يتعلق له به حق فعلي ، وحيث

__________________

(١) فقد ذكر قبل هذه الجملة قوله : مضافا إلى نصوص الإقرار المتضمنة لنفوذه من الثلث مع التهمة ، وبدونها من الأصل ولو لا تعلق حق الوارث في الجملة بحيث لا يمضي الإقرار عليه ، لم يكن وجه للنفوذ من الثلث .. ولا ينافيه .. راجع : كتاب الحجر في أخريات شرح قول المحقق : وفي منعه من التبرعات المنجزة الزائدة عن الثلث خلاف بيننا.

٦٨

لا ضرر ولا تفويت على الوارث لو نفذ من الثلث التزمنا بنفوذه فيه ، عملا بدليل الإقرار ـ في الجملة ـ (١) ولا يتوهم على هذا الوجه لزوم القول بالتفصيل بين التهمة وعدمها في المنجز أيضا. مع أنه لا قائل به لأن التنجيز إنشاء للنقل وإيجاد لسببه وداعي التفويت لا يوجب سقوط أثر الإنشاء وليس هو كالإقرار من مقولة الخبر المحتمل فيه الصدق والكذب حتى يلغي الشارع احتمال الكذب في غير التهمة ويعتبره فيها.

وبعبارة أخرى : الإقرار ، وان كان خبرا عن أمر سابق يحتمل فيه الصدق والكذب ، الا أن غلبة الصدق فيما عليه أوجب جعله الشارع طريقا إلى الواقع ، لأن العاقل لا يقر غالبا بما فيه ضرر عليه ، وفي مورد التهمة يضعف ذلك الظهور ، ويقوى احتمال الكذب فيه لداع من الدواعي ، فيسقط عن الطريقية ، ولا كذلك الأسباب والانشائات في تأثيرها وإيجاد مسبباتها ، وان اختلفت الدواعي ، نعم يلزم القول بالتفصيل في المنجز أيضا ، لو كان وجه المنع في الإقرار مع التهمة تعلق حق الوارث وهو مما يضعف كونه الوجه في ذلك أيضا.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ذكر الأقوال وأدلتها فنقول : اختلفت كلماتهم في نفوذ الإقرار في مرض الموت على أقوال :

__________________

(١) إشارة إلى الحديث النبوي المشهور على ألسنة الفقهاء والمذكور في كتبهم الفقهية في مقام الاستدلال على إلزام المقر بما أقر به ، وهو قوله (ص) : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» قال : الحر العاملي في الوسائل أوائل كتاب الإقرار ، باب صحة الإقرار من البالغ العاقل : «وروى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي (ص) أنه قال : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز».

٦٩

أحدها : نفوذه من الأصل مطلقا وهو المحكي عن السرائر ، والغنية ، والمراسم وكشف الرموز. وعن الأولين : دعوى الإجماع عليها (١).

__________________

(١) ففي أخريات كتاب الصدقات من (كتاب السرائر) لمحمد ابن إدريس الحلي ، باب الإقرار في المرض ص ٣٩١ طبع حجري ، قوله : «إقرار المريض على نفسه جائز للاجنبيين وللوارث وعلى كل حال ، إذا كان عقله ثابتا في حال الإقرار ، يكون ما أقر به من أصل المال ، سواء كان عدلا أو فاسقا ، متهما على الورثة أو غير متهم ، وعلى كل حال سواء كانت مع المقر له بينة أو لم تكن ، لإجماع أصحابنا المنعقد : أن إقرار العقلاء جائز فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام».

وفي كتاب الغنية للسيد أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني بعنوان (فصل في الإقرار) ضمن كتاب التجارة ، عبارته في أول الفصل هكذا : «ويصح إقرار المحجور عليه وإقرار المريض للوارث وغيره بدليل الإجماع المشار إليه ..» وعبارته في آخر الفصل هكذا : «ومن أقر بدين في حال صحته ثم مرض فأقر بدين آخر في حال مرضه صح ، ولا يقدم دين الصحة على دين المرض إذا ضاق المال عن الجميع بل يقسم على قدر الدينين بدليل قوله تعالى : «من بعد وصية يوصي بها أو دين» من غير فضل» :

ومن ملاحقة العبارتين يظهر رأيه جليا في تقديم الإقرار بالدين من الأصل مستدلا بالإجماع.

وفي كتاب المراسم العلوية في الأحكام النبوية المطبوع ضمن الجوامع الفقهية في إيران للشيخ حمزة أبي يعلى سلار بن عبد العزيز الديلمي من أعلام القرن الخامس الهجري ، قال ـ في أخريات كتاب العتق والتدبير

٧٠

ثانيها ـ التفصيل بين التهمة ، فينفذ من الثلث مطلقا ، وعدمها فينفذ من الأصل كذلك ، سواء كان بدين أو بعين لأجنبي أو للوارث ، وهو المنسوب إلى الأكثر.

ثالثها ـ إنه من الأصل مع العدالة وعدم التهمة مطلقا ومن الثلث مع عدمها مطلقا ، وهو المحكي عن القاضي ، ونهاية الشيخ (١).

رابعها ـ ان كان المقر عدلا فهو من الأصل ، والا فمن الثلث حكاه في مفتاح الكرامة والجواهر قولا ولم ينسباه إلى قائل.

خامسها ـ انه للأجنبي من الأصل مطلقا ، وللوارث كذلك مع عدم التهمة ، ومن الثلث معها ، وهو محكي عن ابن حمزة (٢).

__________________

والمكاتبة ، بعنوان ذكر الإقرار في المرض : «من كان عاقلا يملك أمره فيما يأتي ويذر ، فإقراره في مرضه كإقراره في صحته» أي في الإخراج من الأصل.

(١) لم نجد ذلك جليا في مظانه من كتاب جواهر الفقه للقاضي ابن البراج ، ولكن رأيه هذا منقول في عامة الموسوعات الفقهية ، وفي نهاية الشيخ الطوسي ـ قدس سره ـ آخر كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض والهبة ، ص ٦١٧ طبع دار الكتاب العربي في بيروت هكذا : «إقرار المريض جائز على نفسه للأجنبي وللوارث على كل حال إذا كان مرضيا موثوقا بعدالته ، ويكون عقله ثابتا في حال الإقرار ، ويكون ما أقر به من أصل المال ، فان كان غير موثوق به ، وكان متهما ، طولب المقر له بالبينة ، فإن كانت معه بينة أعطي من أصل المال وإن لم يكن معه بينة أعطي من الثلث ، إن بلغ ذلك. فان لم يبلغ فليس له أكثر منه».

(٢) قال ابن حمزة المشهدي في كتاب الوسيلة المطبوع بالحجر ضمن الجوامع الفقهية ، في فصل الإقرار ، قبل كتاب النفقات : «وإقرار

٧١

سادسها ـ ما هو المحكي عن المقنع : من نفوذه من الثلث في حق الوارث ، ولم يعلم فتواه في الأجنبي (١).

سابعها ـ ما هو المحكي عن المقنعة : من أنه ان كان بدين فهو من الأصل مطلقا ، وان كان بعين وكان عليه دين يحيط بما في يده قبل إقراره ان كان عدلا مأمونا ، ولم يقبل إقراره ان كان متهما (٢).

ثامنها ـ انه ان كان مأمونا فهو من الأصل ، صحيحا كان أو مريضا لوارث أو لأجنبي بدين أو بعين ، وان كان متهما فهو من الثلث مطلقا وهو المحكي عن أبي الصلاح ، ولم أجد موافقا له في التفصيل بين التهمة وعدمها في حال الصحة ، بل قبل ـ بعد حكايته عنه ـ لا خلاف في نفوذه من الأصل في الصحة مع التهمة أيضا.

تاسعها ـ نفوذه من الثلث للورثة مطلقا مع التهمة وعدمها ، وللأجنبي

__________________

المريض إذ كان صحيح العقل مثل إقرار الصحيح إلا في حق بعض الورثة لشي‌ء إذا كان متهما ، فإذا أقر له ولم يكن للمقر له بينة على ما أقر له به ، كان في حكم الوصية».

(١) المقنع للصدوق ـ رحمه الله ـ طبع بالحجر في إيران مع الجوامع الفقهية ، قال ـ في أوائل باب الوصايا ـ «وإذا أقر الرجل ـ وهو مريض لوارث بدين ، فإنه يجوز إذا كان الذي أقر به دون الثلث» ولم يذكر غير الوارث.

(٢) كمال العبارة في مقنعه الشيخ المفيد طبع حجري في إيران ، باب الإقرار في المرض هكذا : «وإقرار العاقل في مرضه للأجنبي والوارث سواء ، وهو ماض واجب لمن أقر به. وإذا كان على الرجل دين يحيط بها في يديه ، فأقر بأنه وديعة لوارث وغيره ، قبل إقراره إن كان عدلا مأمونا ، وإن كان متهما لم يقبل إقراره ..»

٧٢

التفصيل بين التهمة وعدمها ، وهو اختيار النافع (١).

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار التي :

منها خبر منصور بن حازم : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا؟ فقال : ان كان الميت مريضا فأعطه الذي أوصى له» (٢).

ومنها خبر أبي أيوب عنه أيضا (٣).

ومنها خبر العلا بياع السابري : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن امرأة استودعت رجلا مالا فلما حضرها الموت قالت له : ان المال الذي دفعته إليك لفلانة ، وماتت المرأة فأتى أوليائها للرجل فقالوا له : انه كان لصاحبتنا مال ولا نراه إلا عندك فاحلف لنا مالها قبلك شي‌ء ، ا فيحلف لهم فقال : ان كانت مأمونة عنده فيحلف لهم ، وان كانت متهمة فلا يحلف لهم ويضع الأمر على ما كان فإنما لها من مالها ثلثه» (٤).

ومنها خبر أبي بصير : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل معه مال مضاربة ، فمات وعليه دين وأوصى ان هذا الذي ترك لأهل

__________________

(١) تمام العبارة في المختصر النافع للمحقق آخر كتاب الوصايا هكذا «.. أما الإقرار للأجنبي ، فإن كان متهما على الورثة فهو من الثلث وإلا فهو من الأصل. وللوارث من الثلث على التقديرين.

(٢) الوسائل ، كتاب الوصايا ، باب ١٦ صحة الإقرار للوارث حديث رقم (١).

(٣) في نفس المصدر آخر الحديث الثاني يشير الحر العاملي إلى خبر أبي أيوب عن الامام الصادق (ع). وبهذا النص برقم (٨) بنفس الباب.

(٤) المصدر نفسه حديث رقم (٢)

٧٣

المضاربة أيجوز ذلك؟ قال : نعم إذا كان مصدقا» (١).

وصحيح الحلبي : «قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الرجل يقر لوارث بدين فقال يجوز إذا كان مليا» (٢).

ومنها خبره الآخر : «انه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أقر لوارث بدين في مرضه أيجوز ذلك قال : نعم إذا كان مليا» (٣).

ومكاتبة محمد بن عبد الجبار إلى العسكري عليه السلام : «عن امرأة أوصت إلى رجل وأقرت له بدين ثمانية آلاف درهم وكذلك ما كان لها من متاع البيت من صوف وشعر وشبة وصفر ونحاس وكل مالها أقرت به للموصى له وأشهدت على وصيتها وأوصت أن يحج عنها من هذه التركة حجتان ويعطي مولى لها أربعمائة درهم وماتت المرأة وتركت زوجها ، فلم ندر كيف الخروج من هذا واشتبه علينا الأمر ، وذكر كاتب ان المرأة استشارته فسألته أن يكتب لهم ما يصح لهذا الوصي فقال لها لا تصح تركتك لهذا الوصي إلا بإقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود وتأمريه بعد أن ينفذ ما توصيه به ، فكتبت له بالوصية على هذا. وأقرب للوصي بهذا الدين ، فرأيك أدام الله عزك في مسألة الفقهاء قبلك عن هذا وتعريفنا ذلك لنعمل به ان شاء الله تعالى؟ فكتب عليه السلام بخطه ان كان الدين صحيحا معروفا ومفهوما فيخرج الدين من رأس المال ، وان لم يكن الدين حقا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف» (٤).

ومنها خبر إسماعيل بن جابر : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

__________________

(١) المصدر نفسه حديث رقم (١٤).

(٢) المصدر نفسه بنفس الباب. حديث رقم (٥).

(٣) المصدر نفسه بنفس الباب. حديث رقم (٧).

(٤) المصدر نفسه حديث رقم (١٠)

٧٤

رجل أقر لوارث وهو مريض بدين له عليه؟ قال : يجوز إذا أقر به دون الثلث» (١).

ومنها خبر سماعة : «سألته عمن أقر لوارث بدين عليه وهو مريض قال يجوز عليه ما أقر به إذا كان قليلا» (٢).

ومنها خبر أبي ولاد : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل اعترف لوارث له بدين في مرضه؟ فقال لا تجوز وصيته لوارث ولا اعتراف له بدين» (٣).

ومنها خبر السكوني : «قال أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أقر عند موته لفلان وفلان : لأحدهما عندي ألف درهم ثم مات على تلك الحال أيهما أقام البينة فله المال فان لم يقم واحد منهما البينة فالمال بينهما نصفان» (٤).

ومنها خبر سعد بن سعد : «عن الرضا عليه السلام قال : سألته عن رجل مسافر حضره الموت فدفع مالا الى رجل من التجار فقال له إن هذا المال لفلان ابن فلان ليس لي فيه قليل ولا كثير فادفعه اليه يصرفه حيث شاء ، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمر ولا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال يضعه حيث شاء» (٥).

__________________

(١) الوسائل كتاب الوصايا ، باب الإقرار للوارث ، حديث رقم (٣).

(٢) المصدر نفسه ، حديث رقم (٩).

(٣) في الوسائل ، كتاب الوصايا ، باب ١٥ جواز الوصية للوارث حديث (١٢) هكذا : وعنه عن القاسم بن سليمان قال : سألت أبا عبد الله .. إلخ

(٤) راجع : مستدرك الوسائل ، كتاب الوصايا باب ٢٤ إن من أقر الواحد من اثنين.

(٥) الوسائل كتاب الوصايا ، باب ١٦ حديث رقم (٦)

٧٥

وأنت خبير بأن القول المشهور وهو التفصيل بين التهمة وعدمها بالنفوذ من الثلث مطلقا أو من الأصل كذلك هو مقتضى الجمع بين هذه الأخبار بعد إرجاع بعض القيود التي فيها ككونه عدلا أو مرضيا أو ثقة أو مصدقا أو مليا ، سيما بناء على تفسير الملأة بالوثاقة ـ كما عن الصحاح ـ إلى المأمونية المقابلة للتهمة ، فيكون مرجح الكل إلى التفصيل بين التهمة وعدمها ، بها تخصص عمومات أدلة الإقرار التي مقتضاها نفوذه من الأصل ولو مع التهمة في مرض الموت ، ضرورة ان في كل من الأقوال المتقدمة ـ عدا القول بالتفصيل المذكور ـ طرحا لبعض هذه النصوص أو جلها مع عدم الداعي إليه ، فراجع.

بقي هنا إشكال في ضمن إشكال. الأول ـ ان مقتضى مفهوم النصوص المتقدمة ـ كما قيل ـ سقوط الإقرار مع التهمة رأسا ، لا نفوذه من الثلث.

الثاني ـ بعد فرض النفوذ عليه يقتضي نفوذه على قدر نسبة ما يخصه من المال وهو الثلث ، لا نفوذ كله منه كما ينفذ على المعترف من الورثة مع إنكار الباقي بدين على مورثهم بقدر نصيبه من الإرث ، لا كله.

والجواب : اما عن الأول ، فمع قيام الإجماع ـ بقسميه ـ على عدم حرمان المقر له مما أقر به المقر ونفوذه من ثلثه ، إشعار جملة من النصوص به بل دلالتها عليه ، كما في ذيل خبر العلا من التعليل لعدم الحلف بأنما لها من مالها الثلث ، فإنه لا ربط لذكر ذلك إلا من حيث نفوذ ما أقرت به من الثلث ، وذيل روايتي إسماعيل بن جابر ، وسماعة ، بناء على ظهور إرادة الثلث فما دون من الأولى ، وإرادة الثلث من القليل في الثانية.

ومنه يعلم الجواب عن الثاني أيضا ، مضافا إلى وضوح الفرق بينه وبين اعتراف أحد الورثة بدين على الميت ، ضرورة ان المخاطب بالوفاء

٧٦

هنا هو المقر بعد ثبوت الدين عليه بإقراره ، فيكون وفاء ما عليه مما له من المال وهو الثلث ، ولا كذلك في الوارث ، فان المخاطب بالوفاء جميع الورثة ، فعلى المعترف بنسبة ما يخصه من الإرث باعترافه ، فما أبعد ما بين المقيس والمقيس عليه. نعم يقاس المقام بما لو علم الوصي بدين على الميت مع إنكار الورثة وعجزه عن إثباته ، فإنه يجب عليه وفاؤه من الثلث مع عدم التمكن من غيره وليس إلا لكون الدين على الميت ، والوصي نائب عنه ومخاطب به ، حيث لا طريق له على الوارث ، فظهر لك من مجموع ما ذكرنا أن الأقوى في مسألة المنجزات في مرض الموت نفوذها من الأصل وفي مسألة الإقرار فيه نفوذه منه أيضا ، سواء كان بدين أو بعين لأجنبي كان أو للوارث ، إلا في صورة التهمة ، فإنه ينفذ من الثلث مطلقا في الصور المزبورة. وحيث قوينا نفوذ المنجز من الأصل كفينا مؤنة التعرض لبقية الفروع المبتنية على نفوذه من الثلث.

والله

العالم بحقائق أحكامه

٧٧
٧٨

رسالة

في حرمان الزوجة من بعض الإرث

٧٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٠