بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

بعنوانه المخصوص ، والأخذ بالقدر المتيقن لا يكشف عن رأي المعصوم عليه ، فلعل رأيه موافق لما يعمه. وعليه فيكون مباينا لتلك الأخبار لا أخص منه ، وهو واضح.

بقي هنا أمور ينبغي التنبيه عليها :

الأول : الظاهر من كلام من خص الحرمان بالرباع ، كالمفيد ومن تبعه : ارادة ما يعم الدار وغيرها من مطلق الأبنية الشامل لبيوت الدواب والغنم ومحارز الغلة وعلف الدواب وغير ذلك من الخانات والدكاكين والحمامات والمسابك ، بل كل بنية أعدت لأي مصلحة كانت ، فتحرم من أرضها وترث من بنائها ، في مقابل الأرض الفارغة أو المشغولة بغير البناء : من زرع أو نخل أو شجر أو غير ذلك. قال جدنا في (الرياض) : «الظاهر كما صرح به جماعة من غير خلاف بينهم أجده : أنه لا فرق في الأبنية والمساكن ـ على القول باعتبارها ـ بين ما يسكنه الزوج وغيره ولا بين الصالح للسكنى كالحمامات والأرحية وغيرها ، إذا صدق عليه اسم البناء» (١) وفي المختلف : «قال المفيد : ولا ترث الزوجة شيئا مما يخلفه الزوج من الرباع وتعطى قيمة الخشب والطوب والبناء والآلات فيه ، وهذا منصوص عليه عن نبي الهدى عليه وعلى آله السلام ، وعن الأئمة عليهم السلام ، من عترته عليهم السلام. والرباع هي الدور والمساكن دون البساتين والضياع» (٢) انتهى.

__________________

(١) ذكر ذلك في آخر المقصد الثاني في ميراث الأزواج من كتاب المواريث ، وأول العبارة هكذا : «وهنا فوائد مهمة يطول الكلام بذكرها جملة إلا أنا نذكر منها ما لا بد منه وهو أن الظاهر ..»

(٢) هذه العبارة ضمن : «مسألة قال الشيخ في النهاية : المرأة لا ترث من زوجها». في بحث إرث الزوجة من كتاب الفرائض وأحكامه.

١٠١

ولعله مستفاد من مقابلته للبساتين والضياع ، والا فالظاهر عدم شمول المنازل والمساكن المفسرة بهما الرباع ، لمطلق الأبنية حتى الدكاكين والحمامات ونحوهما ، ولكن الظاهر ذلك بقرينة المقابلة ، ورواية يزيد الثانية عن النساء : «هل يرثن الأرض؟ فقال : لا ولكن يرثن قيمة البناء» والبناء في كلامه مطلق ، وكل بناء ترث من قيمته لا من عينه تحرم من أرضه عينا وقيمة ، بل لعل الكلية عكسا أيضا مسلمة ، فكل أرض تحرم منها عينا وقيمة ، يقوم ما عليها من البناء والآلات ، فنرث منها قيمة لا عينا.

ومنه يظهر دخول النخل والشجر في الآلات ، ولذا نسب القول بإرثها من قيمتهما إلى المشهور ، والى الشيخ وأتباعه أيضا ـ كما في المختلف ـ مع أنه لا نص عليهما في كلامهم ،

الثاني : الآلات التي تحرم من عينها وترث من قيمتها.

منها ـ ما هو معلوم الدخول فيها كالطوب ، وهو الآجر المفخور المستدخل في البناء الثابت في الأرض ، ومطلق الأخشاب والأعتاب والشبابيك ، ولو كانت حديدا المستدخلة في البناء ، بل الثابتة بنحو العمود ، لوضع البناء وآلاته عليه كالدلقات (١) المعمولة للطوارم في عصرنا ، بل والسلم المنصوب للصعود والنزول المستدخل في البناء ولو كان من الخشب ، بل والمرآة والزجاج المستدخلة في البناء والأبواب والشبابيك. ومن ذلك أيضا حائط البستان المعبر عنه بالطوف ، سواء قلنا بإرثها من عين النخل والشجر أو من قيمتهما ، لكونه من البناء المقوم ، خلافا للمحكي عن ثاني الشهيدين في (رسالته) حيث قال : «وأما حيطان البساتين وغيرها من

__________________

(١) الدلقات بفتحتين مصطلح خاص في الأسطوانات الخشبية ، المستعملة ـ يومئذ ـ

١٠٢

الأملاك فبحكم البناء إن لم نقل باختصاصه بالرباع ، وان قلنا بإرثها من عين الأشجار تبعه البناء» (١) انتهى. وفيه : أنه لا ملازمة بين حكم المحاط والمحيط بعد صدق البناء عليه ، إذ كل منهما يتبع دليله.

ومنها ـ ما هو معلوم الخروج عنها ، فترث من عينها ، لا من قيمتها ، وهو الآلات المنفصلة عن البناء ، سواء كانت مبنية ثم انفصلت بالهدم والقلع ، أم أعدت للبناء والوضع فيه ، ولكن بعد لم يوضع فيه ، بل ولو وضع على البنيان بنحو السقف ولكن بعد لم يثبت فيه بالبناء عليه ولو ببناء أطرافه ، ترث من عينها أيضا.

ومنها ـ ما هو مشكوك كالجذوع المنصوبة على الأرض لوضع أغصان الكرم عليه ، والقدور المنصوبة في الدكاكين لطبخ (الهرايس) والرؤوس ومحال صنع الحلوى ، فيرجع في حكمه إلى الأصل الموجب للإرث من عينها ويمكن جعل الضابط فيما يقوم وتعطى من القيمة ، وما لا يقوم وتعطى من العين : جزئيته من بناء ذلك المحل والعقار من دار ودكان أو حانوت أو حمام أو مسبك فما عد جزء منها تعطى من قيمته ، والا فترث من عينه ، لا كل ما يثبت في الأرض بحيث لا يعد من أجزاء البناء ، والعمارة كالتخت المنصوب في البيت ، وان ثبت أركانه في الأرض ، والمنبر من الخشب المثبت كذلك ، فإنها ترث من أعيانها ، لا من قيمتها. والظاهر دخول (صفرية الحمام) فيما تقوم ، لثبوت جزئيتها منه ، وان لم نقل بجزئية القدور المنصوبة في الدكاكين للمطابخ المذكورة ، إذ لا أقل من الشك في جزئيتها منها.

__________________

(١) هي رسالته المطبوعة ضمن مجموعة رسائله الصغيرة : في صلاة الجمعة ، والحبوة وكشف الريبة وغيرها ، راجع هذه العبارة في الرابع من مباحث المطلب الخامس من الرسالة.

١٠٣

الثالث في كيفية التقويم. والكلام فيه يقع في مرحلتين :

الأولى : يقوم ما ترث من قيمته من الأعيان ثابتة مستحقة للبقاء. إلى أن تفنى مجانا ، لا بأجرة ، أما كونها ثابتة ، فلكونها موروثة كذلك ولو بالقيمة. وأما كونها مجانا ، فلعدم وجود موجب لاستحقاق الأجرة لأن السبب لها أشغال ملك الغير بوضع ما يملكه فيه. والمرأة ـ على الأقوى ـ لم تملك العين الشاغلة لملك الغير حتى تستحق عليها الأجرة ، وليس إعطاؤها القيمة بدلا عن العين المملوكة لها ، بل تملكها للقيمة بأصل الإرث ، ولو بنحو البدلية عن العين (١) والتدارك لماليتها.

ومما ذكرنا ظهر لك ضعف ما احتمله ثاني الشهيدين في (رسالته) من تقويمها باقية بأجرة ، معللا بأن الأرض لا تستحق فيها شيئا ، وما تستحق

__________________

(١) توضيح المطلب : أن من ملك المحال أو المظروف ولم يملك المحل والظرف فتملكه للحال بمجرده لا يوجب استحقاق البقاء في محل يملكه غيره ولو ثبت استحقاقه للبقاء بدليل خارج ، فبمجرده لا يثبت أيضا ، للوضع بنحو المجانية لأن جواز الوضع يمكن بنحو المجان أو بالعوض ، والعام لا يدل على خصوص الخاص ، فما لم يثبت من الخارج كون الوضع بنحو المجان اقتضت القاعدة كونه بالأجرة ، لأنه شاغل لملك الغير ، فلا بد من تداركه بالأجرة عوضا عن المنفعة المستوفاة ، ومعلوم أن لزوم التدارك انما هو مسبب عن التصرف في ملك الغير بإبقاء ملكه فيه فهذا السبب مفقود في المقام ، إذ الزوجة لم تملك العين أولا ، ثم ينتقل حقها الى البدل ، بل تملك القيمة من أول الأمر ، ولو بدلا عن العين وتداركا لماليتها فالموجب للأجرة بوضعه لم تملكه أبدا ، وما ملكته ـ وهو القيمة ـ غير موجب للأجرة (منه دام ظله).

١٠٤

فيه موضوع في تلك الأرض (١) ، وان ضعفه هو بما يرجع محصله الى التمسك في نفيها بإطلاق النصوص باستحقاقها قيمة ذلك ، وبالاقتصار على القدر المتيقن : من تخصيص عمومات القرآن تقليلا للتخصيص بقدر الإمكان (٢) ، الا أن التضعيف ضعيف ، لإمكان دعوى كون المطلقات مهملة من حيث الكيفية ، وانما هي مسوقة لبيان توريثها من القيمة ، لا من العين (ودعوى) التقليل والاقتصار على القدر المتيقن (موهونة)

__________________

(١) قال : في رسالته الصغيرة المطبوعة في ضمن رسائل صغيرة أخرى من مباحث المطلب الخامس في بيان الحكمة في هذا الحرمان : «الخامس : كيفية التقويم لما تستحق فيه القيمة من البناء والشجر على القول به : أن يقوم مستحق البقاء في الأرض مجانا الى أن يفنى ، ثم تعطى من قيمة الربح أو الثمن ، هذا هو الظاهر الموافق للأصول ، لأن الأصل إرثها من عين كل شي‌ء ، فإذا عدل عنه إلى القيمة في بعض الموارد وجب الاقتصار فيما خالف الأصل على ما به يتحقق المعنى المخصص ، وهنا كذلك ، ولان البناء والشجر موضوع بحق في ملك مالكه ، فلا وجه لتقويمه مستحقا بأجرة ، ويحتمل تقويمه كذلك بأجرة ، التفاتا إلى أن الأرض لا يستحق فيها شيئا ، والبناء والشجر الذي يستحق فيه موضوع في تلك الأرض التي ليست لها ، ومشغل لها ، فيجمع بين حقها وحق الورثة في الإرث بتقويمها مستحقة البقاء بأجرة» وأشار بذلك إلى المرحلة الثانية من التقويم.

(٢) قال ـ بعد ذلك ـ : «ويضعف بأن النصوص مطلقة في استحقاقها قيمة ذلك ، والأصل فيه كونه على هيأته التي هو عليها وقت التقويم ، ولأن ذلك تخصيص لعموم القرآن ، فيقتصر فيه على موضع اليقين تقليلا للتخصيص بقدر الإمكان ، فيجب زيادة القيمة ما أمكن لكونه خلاف الأصل ..».

١٠٥

جدا (كما أن) ما ذكره وجها للمجانية بقوله : «هذا هو الظاهر الموافق للأصول لأن الأصل إرثها من عين كل شي‌ء ، فإذا عدل عنه إلى القيمة في بعض الموارد وجب الاقتصار فيما خالف الأصل على ما به يتحقق المعنى المخصص ، وهو هنا كذلك. ولان البناء والشجر موضوع بحق في ملك مالكه ، فلا وجه لتقويمه مستحقا بأجر (١) انتهى (ليس) بوجيه من وجوه غير خفية.

الرابع : لو لم يكن مع الزوجة وارث غير الامام ، وقلنا بعدم الرد عليها ، فهل تحرم مما كانت تحرم منه ، لو كان معها وارث أم لا؟ وجهان :

من دعوى عدم انصراف المطلقات في الأخبار المخصصة إليها مع عدم إتيان حكمة الحرمان هنا أيضا ، ومن اقتضاء التدرج في طبقات الإرث وقيام اللاحقة مقام السابقة الحرمان أيضا ، مضافا الى مفاد الاخبار عدم استحقاقها الإرث ، لا تقديم الوارث عليها من باب المزاحمة والتقديم.

الخامس : هل يتعين على الوارث دفع حصة الزوجة من القيمة ، أم له الدفع من العين وتجبر الزوجة حينئذ على القبول؟ قولان :

اختار ثانيهما جماعة نظرا الى ظهور علة الحرمان في الإرفاق بالوارث والتوسعة له ، وعدم ظهور الأمر بالتقويم والدفع من القيمة على أزيد من الجواز لكونه في مظنة توهم إرثها من العين ، فلا يفيد أزيد من الجواز كالأمر الوارد في مورد الحظر الذي لا يفيد أزيد من الإباحة ، والى أنه إبقاء لآية المواريث على عمومها في الآلات والأبنية ، لأنه على تقديره يتعلق إرثها بنفس الأعيان ، وان كان الموارث غيرها ولاية التبديل والمعارضة

__________________

(١) وهذه الجملة بعض عبارته التي نقلناها بنصها ـ آنفا ـ في كيفية المرحلة الثانية من التقويم ، فلاحظ.

١٠٦

عنها بالقيمة كالزكاة ، بناء على تعلق حق الفقراء بالعين (١) ولمالك النصاب دفع بدله من القيمة.

الا ان الأقوى : هو الأول ، نظرا الى ظاهر الاخبار الدالة على نفي إرثها من العين وانما ترث من القيمة ، وان مفادها تعلق إرثها بالقيمة من أول الأمر ، الا انها ترث حينئذ من العين ، ثم ينتقل حقها إلى القيمة (وكون) العلة هي الإرفاق والتوسعة (فمع) أنها حكمة ، وأن عبر عنها بالعلة (٢) يمكن أن تكون منشأ لتشريع الحكم بذلك يجعل إرثها من القيمة ولو حسما لمادة الفساد غالبا ، (وكون) الأمر بالتقويم في مظنة توهم الإرث من العين ، ليس بأولى من كونه في مظنة توهم حرمانها من العين والقيمة معا كالأرض فيكون ظاهرا في تعيين الإرث من القيمة ، وبقاء العام على عمومه يرجع اليه عند الشك في التخصيص ، لا مع وجود المخصص ، لما عرفت من كون الإرث من القيمة مفاد ظواهر الأخبار المستفيضة ، بل المتواترة معنى وقياسه بالزكاة قياس مع الفارق

__________________

(١) المشهور ـ بل عن مصابيح السيد بحر العلوم ـ : انه كاد أن يكون إجماعا ، تعلق الزكاة بالعين ، لا بالذمة بدليل قوله عليه السلام :

«فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بالدوالي نصف العشر وبغيرها من الروايات الكثيرة المذكورة في الوسائل باب ٤ من أبواب زكاة الأنعام وباب ١ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ثم اختلف القائلون بالتعلق بالأعيان هل على نحو الإشاعة في الكل والشركة ، أم على نحو الكلي في المعين (التفصيل في كتاب الزكاة من كتب الفقه).

(٢) والحكمة ليست كالعلة في دوران الحكم مدارها وجودا وعدما ـ كما هو المسلم في باب الأصول ـ

١٠٧

لظهور أخبارها نحو قوله عليه السلام : فيما سقت السماء العشر» (١) في تعلق حق الفقراء بالعين ، غير أنه قام الدليل على جواز إعطاء القيمة بدلا عن العين ، وتكون من قبيل المعاوضة القهرية على الفقراء ، ولم يقم مثله دليل هنا على تعلق إرثها بالعين الا ظاهر العموم الذي قد عرفت تخصيصه بظواهر المستفيضة الدالة على كون إرثها من القيمة دون العين ، مع احتمال جريان ذلك في الزكاة أيضا ـ كما ستعرف.

السادس : هل يجوز للوارث قبل إعطاء الزوجة حقها من القيمة التصرف في تلك الأعيان بالتصرفات المتلفة أو الناقلة ، أو يكون كالمحجور عليه ليس له ذلك ، بل يكون مراعى بدفع القيمة لها؟ وجهان ، بل قولان :

اختار الأول منهما : شيخنا في (الجواهر) تبعا لثاني الشهيدين في (رسالته) نظرا إلى أن القيمة حق لها في ذمته كسائر ديونه التي لا يمنع الامتناع عن أدائها عن التصرف في أمواله. نعم يجبر على الوفاء ، مع المماطلة ويجوز التقاص من ماله ، حيث لا يمكن جبره.

قلت : الأقوى هو الثاني ـ على كل من القولين في التنبيه السابق.

أما بناء على تعلق حقها بالعين وللوارث دفع القيمة فواضح ، لأن الحق لا يتحول عن العين ، الا بدفع القيمة ، فهو ثابت ما دام لم يدفع البدل لان النقل لا يحصل إلا بالدفع ، وليس كالبيع الذي فيه يحصل النقل والانتقال بالعقد ، ووجوب دفع العوضين حينئذ من آثار ملك العينين ، بل يشبه المقام بالمعاطاة التي يحصل فيها النقل بنفس التسليم والتعاطي ،

__________________

(١) بهذا النص وبمضامينه روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ذكرت في أبواب زكاة الغلاة من كتاب الزكاة في الوسائل وغيرها من كتب الأخبار.

١٠٨

فما دام لم يدفع القيمة إلى الزوجة لم ينتقل حقها من العين الى البدل ، فلا ينفذ التصرف فيه قبله ، لكونه من التصرف في متعلق حق الغير أيضا.

وأما بناء على تعلق إرثها بالقيمة من أول الأمر ـ كما هو الأقوى ـ فلأن إرثها ، وإن لم يتعلق بعين البناء والآلات ، الا أنه متعلق بماليتها ، ولزوم دفع القيمة من باب التدارك لمالها من مالية الأعيان فأشبه الضمان بالقيمة لما يتلفه من القيميات من كونه تداركا لمالية التآلف بعد إلقاء الخصوصيات المشخصة عند العقلاء في التالف القيمي ، فالتصرف في العين بإتلافها أو نقلها بماليتها موقوف على تدارك ما للزوجة في ماليتها بالإرث. وبالجملة : نسبة مالية الأعيان المقومة المتعلق بها حق الزوجة ، نسبة نفس الأعيان ، لو كان حقها متعلقا بها في عدم نفوذ التصرف الا بعد التدارك.

وبما ذكرنا : يظهر لك دفع توهم ورود التوالي الفاسدة على القول بإرثها القيمة من أول الأمر : من وجوب دفع القيمة على الوارث ، وان لم يتمكن من العين ، كالمغصوبة عند الموت لدخولها في ملكه قهرا الموجب لشغل ذمته لها بالبدل ، ومثله ما لو تلفت بعد الموت فورا باستقرار القيمة في ذمته ، مع أنه لا أظن أحدا يلتزم به ، وان التزم به الأستاذ عمنا ـ رحمه الله ـ في (ملحقات برهانه) (١) أو ليس الا لكون القيمة تداركا للمالية ، فإذا تلفت بتلف العين لا بتفريط لم يضمنها الوارث ، وانما يضمنها لو تأخر التدارك وكان بتفريط منه ، فتستحق القيمة عليه حينئذ.

وأما النماء المتحقق بعد الموت كأجرة المساكن وثمرة النخل ، بناء

__________________

(١) ففي آخر الرسالة المخطوطة ضمن رسائل أخرى يقول في عرض ذكره لثمرات المسألة : «منها ان تلف البناء أو الشجر بعد الموت بأن جاء سيل وأخذ ما على الأرض طالبت الزوجة الورثة بثمنها أو ربعها من قيمتها لأن محل القيمة التي للزوجة هو ذمة الورثة ..»

١٠٩

على حرمانها من العين دون القيمة ، فهو مختص بغيرها من الورثة لا تستحق هي منه مطلقا ، وان تأخر التدارك ، وكان بتفريط ، لان النماء من توابع ملك العين ، لا ملك المالية.

وبذلك يظهر ضعف ما في (ملحقات البرهان) : من ابتناء ذلك على ما قواه : من دخولها بمجرد الموت في ملك الوارث واشتغال ذمته بالقيمة ، حيث قال : «منها ان تلف البناء والشجر بعد الموت ، بأن جاء سيل وأخذ ما على الأرض طالبت الزوجة الورثة بثمنها أو ربعها من قيمتها لان محل القيمة التي للزوجة هو ذمة الورثة ، وبمجرد الموت تنتقل العين الى ملك الورثة ، وبمجرده أيضا تستقر قيمتها في ذمتهم ، ولذا لو نمت بعد الموت بأن أثمر الشجر بعد موت الزوج ليس للزوجة في الثمر شي‌ء وإذا تلف ملك أحد لا يوجب سقوط حق الآخر. لكن في (مفتاح الكرامة) : ان هذه القيمة مستحقة من التركة ، وليست متعلقة في ذمة الورثة ، فلو غصبت التركة من الورثة لم يضمنوا لها ، وان عادت بعد الغصب عاد حقها ، وهذا غير موافق لظاهر الأدلة» (١) انتهى.

ولا يخفى عليك مواقع التأمل في كلامه ، ولعل ما عن (المفتاح) إشارة إلى ما ذكرنا.

__________________

(١) (ملحقات البرهان) هي مجموعة من رسائل أربعة صغار : في المسافة الملفقة ، والرجوع عن قصد الإقامة ، وتصرفات المريض وميراث الزوجة ، تأليف الحجة آية الله المحقق السيد علي بحر العلوم صاحب (البرهان القاطع) اعتبرها من ملحقاته وهذه العبارة توجد في أخريات رسالته الأخيرة ، في ميراث الزوجة وتاريخ خط هذه المجموعة من الرسائل بخط المؤلف سنة ١٢٨٦ ه‍.

١١٠

ثم انه يحتمل قويا جريان مثل ما ذكرناه هنا في الزكاة أيضا ، بدعوى تعلق حق الفقراء بمالية الأعيان الزكوية ، فللفقير العشر من المالية أو مالية العشر من النصاب. ودفع القيمة تدارك لماله من مالية الأعيان دون البدلية عن نفسها ، غير أنه مخير في تداركها بدفع المالية القائمة بتلك الأعيان أو بغيرها ، وهو مقتضى الجمع بين ما ورد مما هو ظاهر في التعلق بالعين كالعشر في الغلات (١) ، وما هو ظاهر في التعلق بالمالية كالشاة في الإبل (٢) ، الظاهر من كون ذلك تقديرا للمالية المجعولة للفقير في نصاب الإبل ـ مثلا ـ بل وكذلك الشاة من نصب الغنم مما هو من جنسه (٣) ، فان مرجع ذلك تعيين ما يستحقه الفقير من المالية

__________________

(١) كرواية زرارة : عن أبي جعفر عليه السلام : ـ كما في أبواب زكاة الغلات من الوسائل ـ قال : «ما أنبتت الأرض من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ما بلغ خمسة أوسق ، والوسق ستون صاعا ، فذلك ثلاثمائة ففيه العشر وما كان منه يسقى بالرشاء والدوالي والنواضح ، ففيه نصف العشر» وأمثالها في الباب كثير.

(٢) كما ورد كثيرا في باب تقدير النصب في الإبل من كتاب زكاة الوسائل كصحيحة زرارة : عن أبي جعفر عليه السلام قال : «ليس فيما دون الخمس من الإبل شي‌ء ، فإذا كانت خمسا ففيها شاة ، إلى عشرة ، فاذا كانت عشرا ، ففيها شاتان ، فاذا بلغت خمسة عشر ففيها ثلاث من الغنم ، فاذا بلغت عشرين ففيها أربع من الغنم ، فاذا بلغت خمسا وعشرين ففيها خمس من الغنم ، فاذا زادت واحدة ففيها ابنة مخاض الى خمس وثلاثين ..».

(٣) كرواية الفضلاء الخمسة ـ كما في المصدر الآنف الذكر ـ باب تقدير النصب في الغنم : «عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام :

١١١

القائمة بتلك الأعيان المنتشرة في جميع أجزائها بما يساوي شاة ـ مثلا.

وبذلك يظهر : ان ما ثبت جوازه للمالك من العزل والقسمة والتبديل ونحو ذلك مما هو مخالف لقواعد الشركة ، كله جار على القاعدة ، لا مخالف لها ، وانما ثبت تخصيصها بدليل خاص.

السابع : انه على القول بالتفصيل بين ذات الولد وغيرها ، لو اجتمعتا فهل يجوز الأولى ـ كمال النصيب من العراص وغير البناء ، وعليها دفع نصف قيمة البناء للأخرى ، لأنها ترث الثمن في ذلك بالفريضة ، غير أنه مع التعدد تقسم بينهن والمحرومة بحكم المعدومة في ذلك ، فتختص هي بها ، وعليها دفع ما ترث الأخرى منها؟ أم لها نصف ذلك ، ويرجع الباقي الى الورثة ، وعليهم دفع نصيب الأخرى من القيمة ، لأنها تحجب الاولى عن الكمال ، لصدق التعدد بوجودها ، وان لم ترث لحرمانها بالدليل؟ وجهان : والأول هو الأقوى ، لما عرفت من عدم الدليل على الحجب ، مع الحرمان.

الثامن : الأقوى توزيع الدين على ما ترث منه الزوجة وما تحرم منه لتعلق الدين استيفاء بمجموع التركة ، وليس للوارث ، غيرها ، إخراج الدين كله مما ترث منه ليسلم له ما تحرم منه ، كما أن ليس لها إخراجه بكله مما تحرم منه ، لأن في كل منهما ضرارا على الآخر ، وهو منفي عقلا ونقلا ، مضافا الى أن العدل والإنصاف يقتضيان التوزيع.

__________________

في كل أربعين شاة ، وليس فيما دون الأربعين شي‌ء ، حتى تبلغ عشرين ومائة ، فاذا زادت على مائة وعشرين ففيها شاتان .. فاذا زادت على المائتين شاة واحدة ، ففيها ثلاث شياه ، فاذا بلغت ثلاثمائة ففيها مثل ذلك ثلاث شياه ، فاذا زادت واحدة ففيها أربع شياه حتى تبلغ أربعمائة ، فإذا تمت أربعمائة كان على كل مائة شاة ..»

١١٢

التاسع ـ حق الزوجة حق مالي يجوز الصلح عليه ، فلو صالح المحرومة ـ عن حقها ـ مصالح وجب دفع القيمة إلى من انتقل الحق إليه بالصلح ، سواء كان أجنبيا أو بعض الورثة ، وهو واضح ، وان توهم بعض المعاصرين بطلان الصلح مطلقا ، بناء على ما احتمله في دفع القيمة من كونه حكما تكليفيا محضا لا شائبة فيه للوضع كما لو نذر إعطاء درهم لزيد ، وفساد المبني بمكان من الوضوح لمخالفته صريح الأخبار الناطقة بإرثها من القيمة ، وما أبعد ما بين هذا القول ، والقول بتعلق حقها بالأعيان ، وللوارث تبديله بالقيمة.

العاشر الأقوى ـ على القول بالتفصيل بين ذات الولد وغيرها ـ أنه لا فرق في الولد بين الذكر والأنثى والخنثى ، ولا بين الولد وولد الولد ، وان لم يكن وارثا ، لوجود الولد الصلبي ، ولا بين كونها ولدته في نكاح ترث به أولا ، كما لو أولدها في المتعة ثم تزوجها بعقد دائم ومات عنها كذلك ، بل ولا بين ما لو أولدها بنكاح صحيح أو ملحق به كالشبهة لو تزوجها بعد ذلك ومات عنها ، إذا كانت الشبهة لهما ، بل وان اختصت به دونها لكونها ذات ولد منه. وفيما لو اختصت بها دونه إشكال : من أنه زان ، فليست بذات ولد منه شرعا ، ومن أنها ذات ولد صحيح بالنسبة إليها ، كل ذلك لإطلاق (المقطوعة) بناء على الاعتماد عليها في التفصيل بين ذات الولد وغيرها. و (دعوى) الانصراف في بعض الصورة المذكورة ـ ان سلمت ـ (فهو) من الانصراف البدوي الذي لا تعويل عليه.

الحادي عشر ـ لو ملكت الزوجة شيئا من رقبة الأرض يساوي فرضها أو أزيد في حياة زوجها بأحد الأسباب المملكة ، فحكمها بالنسبة

١١٣

إلى البناء والآلات حكم ما لو لم تملك شيئا من العراص ، لان ذلك حكمها بالإرث ، فلا ينافي ملكها الرقبة بغيره من الأسباب.

الثاني عشر إذا كان في الأرض التي لم ترث منها ـ لا عينا ولا قيمة ـ زرع ولم يبلغ أو ان حصاده ، ورثت من عين الزرع ، فهل لمالك الأرض أمرها بالقلع ، أو عليه التبقية بالأجرة؟ وجهان :

وهذه من فروع مسألة من ملك زرعا في أرض لم يملك بقاءه فيها وكان الوضع فيها بحق ، وقد اختلفوا هناك على أقوال :

وتنقيح المسألة هو أن يقال : ان الملكية بهذا النحو (مرة) تكون بالإجارة (وأخرى) بالمزارعة (وثالثة) بالانتقال بالإرث.

أما إذا كانت بالإجارة ، كما لو استأجر أرضا مدة لم يدرك الزرع فيها ، فأما أن تكون المدة غير كافية لبلوغ الزرع عادة ، أو كانت كافية غير أنه اتفق تأخيره. وعلى الثاني : فأما أن يكون التأخير بتفريط من المستأجر ، أولا بتفريط منه. فان كان الأول ، بأن استأجر مدة تقصر عادة عن ادراك الزرع فيها ، فلمالك الأرض بعد انقضاء المدة أمره بقلعه من دون أرش عليه ، وان تضرر به الزارع ، لأنه أتى من قبله ، حيث أقدم على مدة لا تفي للزرع فيها ، وإلزام مالك الأرض بالتبقية ، ولو يأجره ، نوع ضيق عليه لا يجب تحمله ، ولا يجدي كون الزرع في مدة الإجارة كان بحق ، إذ لا يوجب ذلك حقا له فيما زاد عليها ، فهو فيه ظالم مندرج في منطوق : «ليس لعرق ظالم حق» (١) ومثله ما لو كانت المدة كافية ، ولكن التأخير كان بتفريط من الزراع ، لوحدة المناط.

__________________

(١) حديث نبوي شريف وقوله : «لعرق ظالم» بالتنوين في كليهما. وغلط من قرأه بالإضافة ، هكذا رواه أبو داود عن سعيد بن بريد والنسائي والترمذي كذلك ، وأخرجه الطيالسي وغيره عن زمعة بن صالح

١١٤

وأما لو كان التأخير بغير تفريط منه ، بل بآفة سماوية من كثرة برد أو قلة الأمطار ، فعليه التبقية ، ولكن بأجرة لا مجانا ، لأن في القلع قبل بلوغه ضررا على الزارع من غير تسبيبه ، والاقدام منه عليه ، وإبقاؤه في المدة الزائدة ضرر على المالك ، وكل منهما منهي عن الإضرار ، فلا بد من تدارك هذا الضرر الحادث بآفة سماوية ، وهو انما يحصل بأحد وجهين أما القلع مع الأرش ، أو الإبقاء مع الأرش ، أو الإبقاء بأجرة (١) إلا أن التدارك هنا يتعين على الزارع بدفع الأجرة ، لأن الضرر ، وان لم يأت منه ، الا أنه جاء من قبل زرعه ، دون الأرض ، فعليه تداركه ان أراد الإبقاء ، والا فله قلع زرعه ، وان كان قصيلا. وبعبارة أخرى ، شمول (لا ضرر) للضرر المجبور بالأجرة ، وتوجهه نحو الزارع أضعف ظهورا من شموله لضرر القلع المجبور بالأرش المتوجه نحو مالك الأرض فإذا قدم دليل نفي الضرر في جانب الزارع عليه في جانب المالك فلا يتمسك حينئذ ، بعموم (الناس مسلطون) لكونه محكوما لدليل نفي الضرر.

وأما إذا كان بالمزارعة ، فإذا كان التأخير بتفريط من الزارع ، فحكمه حكم الإجارة فيه : من أنه للمالك قلعه بلا أرش عليه ، وان لم يكن بتفريط منه ، فيتخير المالك بين القلع وعليه الأرش ، والإبقاء وله

__________________

وعبد الله بن عمر وذكرته عامة كتب الأخبار من العامة والخاصة كما ورد ذكره في كتاب كشف الخفاء. للعجلونى وغيره من معاجم الحديث.

(١) في النسخ المطبوعة والمخطوطة ذكر وجهين في حين أن الصور المذكورة ثلاثة. فلا بد من تأويل الوجهين ، من حيث القلع والإبقاء ، وان كان الإبقاء بصورتين.

١١٥

الأجرة ، وانما كان له الخيرة بينهما في المزارعة دون الإجارة ، لأن الزرع مشترك بينهما ، ولا يجبر المالك على إبقاء حصته من الزرع ، فله قلعه قصيلا كما كان للمستأجر ذلك ، غير ان قلعه لحصته مستلزم لضرر الزارع في حصته ، فوجب عليه حينئذ تداركه بالأرش ، ولذا كان مالك الأرض في المزارعة مخيرا. بين القلع وعليه الأرش ، وبين الإبقاء ، وله الأجرة وليس له القلع في الإجارة ، وان كان بأرش ، بل يتعين عليه الإبقاء بالأجرة.

والى ما ذكرنا ـ من الفرق في الحكم بالتخيير والتعيين ، بين المزارعة والإجارة ـ صرح العلامة في (القواعد) حيث قال : في باب الإجارة :

«فإن استأجر للزرع وانقضت المدة قبل حصاده : فان كان لتفريط المستأجر كأن يزرع ما يبقى بعدها فكالغاصب ، وان كان لعروض برد أو شبهه ، فعلى المؤجر التبقية ، وله المسمى عن المدة وأجرة المثل عن الزائد» (١).

وقال ـ في باب المزارعة منه : «فلو ذكر مدة يظن فيها الإدراك فلم يحصل ، فالأقرب ان للمالك الإزالة مع الأرش ، أو التبقية بالأجرة سواء كان بسبب الزارع كالتفريط بالتأخير أو من قبل الله كتأخير الأهوية وتأخر المياه» (٢) انتهى. غير أن حكمه في التسوية بين التفريط وعدمه في المزارعة ، ينافي قوله : في الإجارة مع التفريط «كالغاصب الذي حكمه جواز القلع للمالك بلا أرش».

__________________

(١) راجع كتاب الإجارة الثالث في إجارة الأرض والعقارات.

(٢) راجع : الفصل الثاني من المقصد الثاني في المزارعة ، وأوله : الثاني في تعيين المدة.

١١٦

وأما فيما نحن فيه ، وهو الانتقال بالإرث فحكمه حكم المزارعة ، لكون الزرع أو الثمرة على النخل والشجر مشتركة بين الزوجة لكونها ترث من عين ذلك ، وبين الوارث غيرها ، فيتخير الوارث غيرها بين القلع ودفع الأرش إليها والإبقاء وأخذ الأجرة منها ، لوجود ما ذكرنا من ملاك التخيير في المزارعة هنا أيضا ، فافهم :

هذا آخر ما أردنا بيانه في هذه المسألة.

ولله الحمد أولا وآخرا

١١٧
١١٨

رسالة

في الرضاع

١١٩

بسم الله الرحمن الرحيم

١٢٠