بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

أيجبر وليه على أن يطلقها؟ قال : نعم ، وان لم يكن ولي طلقها السلطان قلت فان قال الولي : أنا أنفق عليها؟ قال : فلا يجبر على طلاقها ، قال قلت : أرأيت ان قالت : أنا أريد ما تريد النساء ولا أصبر ولا أقعد كما أنا؟ قال : ليس لها ذلك ، ولا كرامة إذا أنفق عليها» (١).

والجمع بينها موجب لاعتبار الطلاق الا أن عدتها عدة الوفاة على القولين تعبدا بالنص المقدر لها ذلك.

(واحتمال) كون وجه الجمع بين الطلاق وكون عدتها عدة الوفاة هو إحراز ما يوافق الواقع من كونه إما ميتا ، فالعدة عدة الوفاة ، وإما حيا فالفرقة بالطلاق ، وعدة الوفاة مشتملة على عدة الطلاق ، وتظهر الثمرة فيما لو آب فيما بين العدتين لم يملك رجوعها لانكشاف الواقع بانقضاء عدتها (حسن) لو لا أنه اجتهاد في مقابل النص المصرح في مضمر سماعة بما لو قدم وهي في عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام كان أملك برجعتها ، الشامل لما لو كان وقت قدومه بين زمن العدتين ، فلا مندوحة عن الالتزام تعبدا بكون عدة هذا الطلاق بخصوصه مساوية لعدة الوفاة.

هذا ، ولعل المراد بالولي المأمور من الحاكم بالطلاق : هو من كان متصرفا بالولاية الإذنية ، لا خصوص الوكيل لمنافاته لعطفه عليه في الصحيحة المتقدمة ، فلا ينافي عطفه عليه لكونه أخص منه ، أو الأولى بميراثه من أولى الأرحام ، أو الولي الإجباري باعتبار سبق ولايته في حال الصغر ، وان زالت عنه في الكبر.

وكيف كان ، فان رجع بعد انقضاء العدة أربعة أشهر وعشرة أيام كان أجنبيا لم يملك الرجوع بها ، تزوجت بغير أم لا ، وان رجع في

__________________

(١) الوسائل ، المصدر الآنف الذكر حديث (٥) وفي الكافي : كتاب الطلاق ، باب المفقود حديث (٣).

٢٤١

في أثنائها مطلقا ، كان أملك برجعتها.

ومنها ـ الولاية على المحجور عليه. وهو : اما لجنون أو لسفه أو لصغر بالنسبة إلى نكاحهم.

أما المحجور عليه للجنون مع مسيس الحاجة الضرورية اليه ، وكان له صلاحا ، فجملة صورة هي أنه : لا يخلو : إما أن لا يكون لهما (١) ولي إجباري من الأب أو الجد له ، أو كان. وعلى التقديرين : فأما أن لا يكون جنونهما متصلا بالبلوغ ، بل تجدد وطرء عليه بعده ، أو كان متصلا به.

وعلى التقادير : فاما أن يكون جنونه إطباقيا أو أدواريا يجن في وقت ويفيق في آخر.

أما إذا لم يكن لهما ولي ومسته الضرورة اليه وكان إطباقيا ، فلا إشكال في كون الولاية حينئذ للحاكم مطلقا ، تجدد جنونه بعد بلوغه أو بلغ مجنونا ، بل لعل الإجماع بقسميه عليه.

وأما لو كان له ولي وكان الجنون طارئا عليه بعد البلوغ والرشد ، فالأقوى ـ ولعله الأشهر ـ كون الولاية فيه له أيضا ، دون الولي الإجباري لانقطاع ولايته بالبلوغ والرشد. (رد دعوى) كون الولاية ذاتية لهما باقتضاء الأبوة والجدودة ذلك ، غير أن البلوغ مانع عنه فتعود بطروه عليه (موقوفة) على استفادة ذلك من الأدلة ، ودونها خرط القتاد ، فالولاية للحاكم ، لأنه ولي من لا ولي له. نعم إذا اتصل جنونه ببلوغه أشكل الحكم بانقطاع ولايته بمجرد البلوغ مع اقتضاء الأصل بقاءها ، بناء على جريان الاستصحاب ، فيما لو كان الشك في المقتضي ، مع ظهور آية

__________________

(١) الملاحظ أن الضمائر في ـ التقسيم ـ تثني وتفرد بلحاظي الذكر والأنثى ، أو المحجر عليه ، والمقصود واحد.

٢٤٢

(الإيناس) (١) في ذلك وان كان موردها المال ، لتعليق الحكم بالدفع على البلوغ وإيناس الرشد القاضي بعدمه والحبس عنه بانتفاء أحدهما ، والمخاطب بالدفع بعد تحقق الشرطين بمقتضى السياق هو المخاطب بالحبس قبله ، وهو الولي الإجباري المقدم على غيره مع وجوده ـ مراعاة الإذن منهما في هذه الصورة ، بل وفي ما قبلها أيضا هو الأحوط.

هذا إذا كان الجنون إطباقا ، وأما إذا كان أدوارا ، فقد صرحوا بعدم الولاية لأحد عليه ، بل ينتظر به إلى وقت الصحة ويوكل فيه الى نفسه.

وبالجملة : يظهر من اعتباراتهم اعتبار الأمرين : مسيس الحاجة الى النكاح وكون الجنون إطباقا ، مع أن الأول يغني عن الثاني ان كانت الحاجة في مجموع الوقتين ، لعدم المسيس إليه في دور الجنون وان كان في جميعها فلا وجه للانتظار به إلى دور الإفاقة بعد تنزيل الولي منزلته ، بل يزوجه فيه دفعا للضرورة عنه وان كان أدواريا.

وأما المحجور عليه للتبذير كالسفيه : فأما أن لا يستلزم نكاحه إتلافا لما له ، أو يستلزم وعلى التقديرين : فأما أن لا تكون له بالنكاح حاجة ضرورية ، أو تكون.

فان لم يستلزم ذلك صح نكاحه بنفسه مطلقا ، وان لم تكن له به حاجة ، لأنه ليس محجورا إلا في ماله الذي ليس النكاح منه.

وان استلزم ذلك غير أنه لا ضرورة تحوجه اليه لم يصح نكاحه ، وان أذن له الولي ، لعدم الضرورة المسوغة لإتلاف ماله بعد الحجر عليه للحفظ له.

__________________

(١) وهي قوله تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا» سورة النساء آية ـ ٤.

٢٤٣

وان كان له به حاجة يتضرر بتركه كانت الولاية فيه للحاكم مع فقد الأولى منه ، كما صرح به غير واحد من الأصحاب ، قال في (المبسوط) «وان كان محجورا عليه بسفه ، نظرت : فان لم يكن به حاجة الى النكاح لم يكن لوليه تزويجه ـ إلى أن قال ـ : وان كانت به حاجة اليه ، أن يطالبه وعرف من حاله الحاجة فعلى وليه أن يزوجه ، لأنه منصوب للنظر الى مصالحه» (١). وقال في (الشرائع) : «والمحجور عليه للتبذير لا يجوز له أن يتزوج غير مضطر ، ولو أوقع كان العقد فاسدا ، فان اضطر الى النكاح جاز للحاكم أن يأذن له ، سواء عين الزوجة أو أطلق ، ولو بادر قبل الاذن ـ والحال هذه ـ صح العقد ، فان زاد في المهر عن المثل بطل في الزائد» (٢). وإذا زوج الأجنبي وقف على اجازة من اليه العقد. وقيل : يبطل ، والأول أظهر. وقال في (القواعد) : «والمحجور عليه للسفه لا يجوز له أن يتزوج إلا أن يكون مضطرا إليه ، فإن تزوج من غير حاجة كان العقد فاسدا ، ومع الحاجة يأذن له الحاكم فيه» (٣) انتهى فلو استقل به ـ والحال هذه ـ بطل عقده لاستلزامه التصرف في ماله الممنوع عنه بالحجر عليه من المهر والنفقات ، مضافا الى مفهوم صحيحة الفضلاء : «عن أبي جعفر عليه السلام قال : المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة ولا المولى عليها تزويجها بغير ولي جائز» (٤) ويتم في السفيه

__________________

(١) راجع : كتاب النكاح من (مبسوط الشيخ) أوائل : فصل في ذكر أولياء المرأة.

(٢) أوائل الفصل الثالث في أولياء العقد. من كتاب النكاح.

(٣) راجع : قواعد العامة ، كتاب النكاح ، الفصل الثاني في الأولياء.

(٤) المراد بالفضلاء هم الأربعة الموثقون : الفضل بن يسار ومحمد

٢٤٤

بعدم القول بالفصل بينه وبين السفيهة ، فتأمل. فلو استقل فيه بنفسه ـ والحال هذه ـ بطل عقده على الأقوى ، لكون الولاية فيه للحاكم لما ذكرنا ، لا لما توهم من التلازم بين ولاية النكاح وولاية المال ، لانتقاضه بالمفلّس وطلاق زوجة المفقود.

ويحتمل ـ كما قيل ـ الصحة ، لأنه بنفسه ليس تصرفا ماليا ، والمهر غير لازم في العقد بنفسه ، والنفقة تابعة كتبعية الضمان للإتلاف.

وفيه : ان صحة العقد مع عدم المهر أو فساده لا ينفي لزوم الخسارة في ماله ، وقياس تبعية النفقة للنكاح بتبعية الزمان للإتلاف ، قياس مع الفارق لأن الضمان مرتب على تحقق الإتلاف في الخارج وان كان محرما ، والنفقة مرتبة على العقد الصحيح وهو ـ لاستلزامه التصرف في المال ـ يقع فاسدا لا تأثير له. وأما الكلام فيه بالنسبة إلى وليه الإجباري ، فهو الكلام في المجنون بالنسبة إليه حرفا بحرف.

وأما المحجور عليه للصغر فلم أعثر على من صرح بثبوت الولاية عليه للحاكم في نكاحه ، وان نسب القول بالعدم في (الروضة) و (الرياض) إلى المشهور في الأول ، وإلى الأشهر في الثاني (١) الا ان ظاهر الأصحاب

__________________

ابن مسلم وزرارة بن أعين وبريد بن معاوية. والصحيحة مذكورة بسندها ونصها في الوسائل كتاب النكاح ، باب ٣ حديث (١).

(١) قال : الشهيد الثاني في الروضة : كتاب النكاح ، أوائل الفصل الثاني في العقد في شرح قول الشهيد الأول في اللمعة : «والحاكم والوصي يزوجان من بلغ فاسد العقل» قال : «ولا ولاية لهما على الصغير مطلقا في المشهور» وقال : السيد الطباطبائي في الرياض ، كتاب النكاح في فصل أولياء العقد شارحا عبارة (المختصر النافع للمحقق) : «ولا يزوج الوصي إلا من بلغ فاسد العقل. وكذا الحاكم» معلقا على الفقرة الأولى هكذا : ولا يزوج

٢٤٥

ـ كما في (الحدائق) وغيره (١) ـ اتفاقهم عليه ، بل الذي يظهر منهم كونه من المسلمات عندهم حتى أن من تنظر فيه انما تنظر في الدليل ـ كما ستعرف.

قال : في (المبسوط) فيما حضرني من نسخته : «النساء على ضربين عاقلة ، ومجنونة ، فإن كانت مجنونة ، نظرت : فان كان لها أب أو جد كان لهما تزويجها ـ صغيرة أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا فان لم يكن لها أب ولا جد ولها أخ أو ابن أخ أو عم أو ابن عم أو مولى نعمة فليس له إجبارها بحال ـ صغيرة أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا ـ بلا خلاف ، ولا يجوز للحاكم تزويجها. وعند المخالف : للحاكم تزويجها ، ان كانت كبيرة بكرا كانت أو ثيبا ـ الى أن قال : وان كانت عاقلة ، نظرت : فان كان لها أب أو جد أجبرها ، ان كانت بكرا ـ صغيرة كانت أو كبيرة ـ وان كانت ثيبا كبيرة لم يكن لهما ذلك وان كانت ثيبا صغيرة كان لهما ذلك. وفيهم من قال : ليس لهما ذلك على حال وان كان لها أخ أو ابن أخ أو عم أو ابن عم أو مولى نعمة لم يكن له تزويجها صغيرة بحال وان كانت كبيرة كان له تزويجها بأمرها ـ بكرا كانت أو ثيبا ـ والحاكم

__________________

الوصي للأب والجد صغيري الموصي مطلقا على الأشهر كما في المسالك : وهو الأظهر ، وعلى الفقرة الثانية هكذا : وكذا الحاكم .. فلا يزوج الصغيرين مطلقا في المشهور» فالملاحظ ان كلمة الأشهر وردت في الوصي لا في الحاكم ـ كما يقول السيد المتن فلاحظ.

(١) قال : الشيخ البحراني ـ قدس سره ـ في الحدائق الناضرة أوائل كتاب النكاح ، في ولاية الحاكم : «وتثبت ولايته على من تجدد جنونه أو سفهه بعد البلوغ من غير اشكال عندهم ولا خلاف وتنتفي عن الصغير مطلقا عند الأصحاب».

٢٤٦

في هذا كالأخ والعم سواء في جميع ما قلناه ، إلا في المجنونة الكبيرة فإن له تزويجها وليس للأخ والعم ذلك. ثم قال : فهذا ترتيب النساء على الأولياء : فإن أردت ترتيب الأولياء على النساء قلت : الأولياء على ثلاثة أضرب : أب وجد ، وأخ وابن أخ وعم وابن عم ومولى نعمة ، والحاكم : فان كان أب أو جد ـ وكانت مجنونة ـ أجبرها ، صغيرة كانت أو كبيرة ثيبا كانت أو بكرا. وان كانت عاقلة أجبرها ان كانت بكرا ، صغيرة كانت أو كبيرة ، وان كانت ثيبا لم يجبرها صغيرة عندهم ، وعندنا : ان لهما إجبارها إذا كانت صغيرة ، وله تزويجها بإذنها إذا كانت كبيرة ، فإن كان لها أخ وابن أخ وعم وابن عم ومولى نعمة لم يجبرها أحد منهم ، صغيرة كانت أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا عاقلة كانت أو مجنونة ، والحاكم يجبرها إذا كانت مجنونة ، صغيرة أو كبيرة ، وان كانت عاقلة فهو كالعم» (١) انتهى.

ولعل كلامه هنا في الصغيرة المجنونة بالنسبة إلى ولاية الحاكم عليها ينافي كلامه المتقدم فيها فلاحظ (٢) وعنه في (التبيان) : «لا ولاية لأحد عندنا إلا للأب والجد على البكر غير البالغ فاما من عداهما فلا ولاية له» (٣) انتهى وهو بالنسبة إلى الصغيرة غير البكر مسكوت عنه ،

__________________

(١) راجع ذلك من المبسوط : كتاب النكاح في أوائل : فصل في ذكر أولياء المرأة ..

(٢) أي كلامه في العبارتين مختلف بالنسبة إلى الصغيرة المجنونة ففي العبارة الأولى يقول : «ولا يجوز تزويجها ..» أي مطلقا ، وأخيرا يقول : «والحاكم يجبرها إذا كانت مجنونة صغيرة أو كبيرة».

(٣) بهذا المضمون ذكر في تبيان الشيخ في تفسير الآيات الأولى من سورة النساء.

٢٤٧

عاقلة كانت أو مجنونة. نعم بالنسبة إلى البكر الصغيرة ، عاقلة كانت أو مجنونة ، ظاهره الإجماع على عدم الولاية لغير الأب والجد له ، وان كان الحاكم.

وقال في (السرائر) «عندنا : أنه لا ولاية على النساء الصغار اللاتي لم يبلغن تسع سنين ، إلا للأب والجد من قبله» (١) انتهى. وهو ظاهر في الإجماع على اختصاص الولاية على الصغيرة بالأب والجد له.

وقال في (التذكرة) في ولاية السلطنة : «المراد بالسلطان هنا الامام العادل أو من يأذن له الامام ، ويدخل فيه الفقيه المأمون القائم بشرائط الاقتداء والحكم ، وليست ولايته عامة ، وليس له ولاية على الصغيرين ولا على من بلغ رشيدا ، ذكرا كان أو أنثى ـ إلى أن قال في المسألة الثالثة ـ قد بينا أنه ليس للسلطان ولاية في تزويج الصغائر وبه قال الشافعي ، خلافا لأبي حنيفة فإنه قال : له تزويجها الا أنه لا يلزم ، فاذا بلغت كان لها الرد ، بخلاف تزويج الأب والجد ، وعلى هذا التفسير فهو موافق لمذهبنا لأنه فضولي لا فرق بينه وبين الأجنبي» (٢).

وقال في (الشرائع) : «ولو زوج الصغيرة غير الأب والجد توقف على رضاها عند البلوغ وكذا في الصغير» انتهى ، وقال : مثله في (النافع) (٣).

__________________

(١) السرائر لابن إدريس الحلي ، ذكر ذلك في أوائل كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء.

(٢) راجع ذلك في تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي ، أوائل كتاب النكاح ، البحث الثاني في أسباب الولاية الخمسة ، السبب الرابع :

السلطنة :

(٣) لم نجد في الشرائع هذه العبارة بنصها في الفصل الثالث في

٢٤٨

وقال في (القواعد) : «وأما الحكم فإن ولاية الحاكم تختص في النكاح على البالغ فاسد العقل أو من تجدد جنونه بعد بلوغه ، ذكرا كان أو أنثى ، مع الغبطة ، فلا ولاية له على الصغيرين ، ولا على الرشيدين ، وتسقط ولايته مع وجود الأب أو الجد له» (١) وقال الكركي في شرحه ـ بعد ذكره المراد من الحاكم : «إذا تقرر ذلك فولاية الحاكم في النكاح انما تثبت على من بلغ فاسد العقل أو تجدد فساد عقله بعد البلوغ ، ذكرا كان أو أنثى ، إذا كان النكاح صلاحا له» (٢).

وقال في (الحدائق) : «وتنتفي أي ولاية الحاكم عن الصغير مطلقا عند الأصحاب» (٣).

وقال في (المسالك) : «قد ذكر المصنف وغيره : أنه لا ولاية للحاكم على الصغير مطلقا ، وعللوه بأنه لا حاجة له الى النكاح ، والأصل عدم ثبوت ولايته فيه ولا يخلو من نظر ، ان لم يكن إجماعيا» (٤).

وقال : سبطه السيد السند في (شرحه على النافع) : «وهذا التفصيل أعني اختصاص ولايته بمن بلغ فاسد العقل هو المعروف من مذهب الأصحاب

__________________

أولياء العقد من كتاب النكاح ، بل الموجود مضمونها ، ولكنها بنصها موجودة في نفس الباب من (المختصر النافع) للمحقق نفسه :

(١) يراجع من قواعد العلامة : الفصل للثاني في الأولياء من كتاب النكاح

(٢) جامع المقاصد للمحقق الكركي ، أوائل كتاب النكاح ، في أولياء العقد.

(٣) نقلنا نفس العبارة عنه آنفا

(٤) راجع ذلك في خلال الفصل الثالث في أولياء العقد من كتاب النكاح من مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام للشهيد الثاني.

٢٤٩

ولم نقف لهم في هذا التفصيل على مستند والحق ، انه : ان اعتبرت الإطلاقات والعمومات المتضمنة لثبوت ولاية الحاكم وجب القول بثبوت ولايته في النكاح على الصغير والمجنون مطلقا كما في ولاية المال ، وإلا وجب نفيها كذلك. أما التفصيل فلا وجه له ، ولعلهم نظروا في ذلك إلى أن الصغير لا حاجة له الى النكاح ، بخلاف من بلغ فاسد العقل ، وهو غير واضح ، فإن الحاجة للكبير ، وان كانت أوضح ، لكنها ليست منتفية في حق الصغير ، خصوصا الأنثى. والمسألة محل إشكال ، وللنظر فيها مجال» (١).

وقال في (الكشف) : «ولا ولاية له على الصغيرين للأصل ، وعدم الحاجة فيهما ، وفيه نظر ظاهر ، فان استند الفرق إلى الإجماع صح ، والا أشكل» (٢) انتهى.

__________________

(١) يقصد بالسيد السند : السيد محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي الجبعي صاحب المدارك المتوفى سنة ١٠٠٩ ه‍ ، العليم المحقق تلمذ على أبيه ـ تلميذ الشهيد الثاني ـ وعلى المقدس الأردبيلي وغيرهما من فحول الفقهاء. وكان الشهيد الثاني ـ صاحب المسالك ـ جده لأمه ، فلذلك غير عنه سيدنا في المتن بسبطه. من آثاره العلمية ـ غير المدارك ـ شرح مفصل على المختصر النافع للمحقق الحلي ، ولعله لم يزل من نفائس المخطوطات. ولقد نقل نفس العبارة المشار إليها في المتن شيخنا المحقق البحراني في حدائقه في باب (ولاية الحاكم).

(٢) يقصد (كشف اللثام في شرح قواعد الأحكام) تأليف المحقق محمد بن الحسن الأصبهاني الشهير بالفاضل الهندي المتوفى سنة ١١٣٧ ه‍ بأصبهان والمدفون فيها. راجع هذه العبارة في كتاب النكاح منه ، الفصل الثاني في الأولياء ، في قول العلامة : وأما الحكم فإن ولاية الحاكم تختص في النكاح.

٢٥٠

قلت : والأقوى عندي : هو القول بالعدم. ويدل عليه ـ بعد الأصل ـ مفهوم الأخبار المعتبرة التي : منها ـ خبر محمد بن مسلم : «عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ في الصبي يزوج الصبية : يتوارثان؟ قال : إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم» (١). ومنها ـ خبر عبيد بن زرارة المروي في (البحار) : «عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ في الصبي تزوج الصبية هل يتوارثان؟ فقال : ان كان أبواهما اللذان زوجاهما حيين فنعم» (٢) ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم : «قال سألت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن الصبي يتزوج الصبية؟ قال : إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز ، ولكن لهما الخيار إذا أدركا ، فإن رضيا بذلك ، فان المهر على الأب ، قلت : فهل يجوز طلاق الأب على ابنه ، في صغيره؟ قال : لا» (٣) واشتمال ذيله على ما لا نقول به : من الخيار بعد الإدراك لا يضر في الاستدلال بصدره على المدعى. ومنها ـ ما رواه في (الكافي) في الصحيح (والتهذيب) في الموثق : «عن أبي عبيدة الحذاء ، قال : سألت أبا جعفر (ع) : عن غلام وجارية زوجهما وليان لهما ، وهما غير مدركين فقال : النكاح جائز ، وأيهما أدرك كان له الخيار ، وان ماتا قبل أن يدركا ، فلا ميراث

__________________

(١) تهذيب الشيخ الطوسي (قده) ، كتاب النكاح باب ٣٤ عقد المرأة وأولياء الصبية حديث (٣٢) ، وتكملة الحديث ، قلت : فهل يجوز طلاق الأب؟ قال : لا».

وفي الوسائل ، كتاب الطلاق باب ٣٣ من أبواب مقدماته يذكر نص الحديث بسنده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع).

(٢) ذكر ذلك في الوسائل ، كتاب الفرائض باب ١١ حديث (٣) بعدة أسانيد

(٣) تهذيب الشيخ : كتاب النكاح باب ٣٢ حديث (١٩) ،

٢٥١

بينهما ، ولا مهر الا أن يكونا قد أدركا ورضيا ، قلت : فإن أدرك أحدهما قبل الآخر؟ قال : يجوز ذلك عليه ان هو رضي ، قلت : فان كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية ورضي بالنكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أترثه؟ قال : نعم يعزل ميراثها منه حتى تدرك ، فتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث الا رضاها بالتزويج ، ثم يدفع إليها الميراث ونصف المهر قلت : فان ماتت الجارية ولم تكن أدركت : أيرثها الزوج المدرك؟ قال : لا ، لأن لها الخيار إذا أدركت ، قلت : فان كان أبوها هو الذي زوجها قبل أن تدرك؟ قال : يجوز عليها تزويج الأب ، ويجوز على الغلام ، والمهر على أب الجارية ..» (١) الخبر. واختصاص المورد بالأب ، وان وقع في فرض السؤال ، الا أن مساقها مساق غيرها من الأخبار ، وذكر الأب قرينة إرادة غيره من الوليين المذكورين أولا ، ولذا كان لهما الخيار عند البلوغ لكونه حينئذ فضوليا موقوفا على الإجازة. ومنها ـ رواية داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام ، وفيها : «واليتيمة في حجر الرجل لا يزوجها إلا برضاها» (٢) بناء على ارادة البلوغ كناية من المستثنى الشامل بإطلاق المستثنى منه لما لو كانت في حجر الحاكم ، ويؤيد القول به كونه من المسلّم عندهم بل يمكن استفادة الإجماع عليه من كلامهم ، فان الفاضل في (التذكرة) قال ـ في البحث التاسع في المولى عليه ، في كتاب النكاح في المسألة الثانية ـ : «المجنون الصغير يجوز للأب والجد له أن يزوجاه مع المصلحة كالعاقل ، وليس لغيرهما ذلك

__________________

(١) الكافي للكليني ، كتاب المواريث باب ميراث الغلام والجارية يزوجان : حديث (١). والتهذيب للطوسي كتاب النكاح ، باب ٣٢ عقد المرأة وأولياء الصبية ، حديث (٣١).

(٢) التهذيب ، كتاب النكاح باب ٣٢ حديث (٢٦).

٢٥٢

من عصبة وسلطان إجماعا» (١) انتهى.

ونفي الولاية عن غيرهما في المجنونة الصغيرة بالإجماع يعطي نفيها كذلك في الصغيرة الخالية عن الجنون بالأولوية التي كادت أن تكون قطعية بل هي كذلك ، لأن السبب الموجب للولاية في الصغيرة المجنونة أكثر منه في الصغيرة المجردة عن الجنون. بل في (الرياض) صرح بالإجماع على ما يشمله حيث ، مزج قول مصنفه : ولو زوج الصغيرة غير الأب والجد توقف على رضاها عند البلوغ ، وكذا في الصغير ، بقوله : إجماعا (٢).

هذا مضافا إلى أن الولاية له ، ان سلمت. فإنما هي فيما إذا اضطر الصبي إلى النكاح بحيث يتضرر بتركه ، والمفروض عدم الحاجة الى الوطء لصغره حتى يتولاه الحاكم ، دفعا للضرر عنه. وهذا بخلاف المجنون والسفيه لتمكن في حقهما الحاجة اليه والتضرر بتركه. (ودعوى) إمكان فرض الحاجة إليه لعدم انحصارها بالوطء حتى يقال بانتفائها بالنسبة إليه كما في (الجواهر) تبعا لغيره (واضحة) الضعف ، إذ المصلحة الموجبة له :

أما أن تكون لجلب المنفعة له ، أو لدفع المضرة عنه ، فان كان من القسم الأول ، فواضح ، وان كان من القسم الثاني فإنما يجب مقدمة ، دفعا للضرورة وجوب وجود ما يتوقف عليه ذو المقدمة من حيث الإيجاد والعمل لا من حيث السببية ، ومقتضاه الاكتفاء فيه بالصورة الظاهرية التي لم يترتب عليها أثر في الواقع.

وبالجملة : إذا توقف دفع الضرر عن الصغير في نفسه أو ماله على انتسابه ـ مثلا ـ إلى ذي شوكة بالتزويج ، ولم يمكن التخلص بغيره ،

__________________

(١) البحث التاسع من بحوث الركن الثاني في العاقد ، وهي الزوجة أو وليها ، المسألة الثانية منه.

(٢) راجع ذلك في أوائل الفصل الثاني في أولياء العقد.

٢٥٣

وجب على الولي ، وان كان الحاكم ، إيجاده بحسب الصورة ، توصلا ، لعدم توقفه على النكاح الصحيح المؤثر لعلقة الزوجية في الواقع ، إذ ليس ذلك مشرّعا له ، كما لا يكون مشرّعا ومسوغا في غيره كالمجبور على البيع والطلاق ونحوهما ، فان بيع المجبور عليه والطلاق كذلك لا يؤثران تمليكا ولا بينونة قطعا بالضرورة ، بخلاف المجنون والسفيه ، فان ضرورتهما غالبا تتعلق بالوطء والمحرمية للخدمة ونحوها المتوقف دفعها على صحيح النكاح لا صوريته ، فالتعليل لعدم الولاية بما عللوه : من عدم حاجة الصغير الى النكاح متين جدا.

وأقصى ما يمكن أن يستدل به للقول بثبوتها له : عموم ما دل على ولاية الحاكم المستفاد من نحو قوله (ص) : «للسلطان ولي من لا ولي له» وغيره المراد به أنه قائم مقام الولي ، حيث لا ولي غيره ، مضافا الى خبر أبي بصير الوارد في تفسير : «من بيده عقدة النكاح» (١) ، بل في صحيح ابن سنان : «(الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو ولي أمرها» (٢) وبذلك يقطع الأصل المستدل به على النفي ، ويخصص به ، سيما بالنبوي منها عموم ما دل بالمفهوم عليه ، لأن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق.

توضيح ذلك : ان ما دل بالمفهوم على نفي الولاية عن غير الأب والجد له يعمّ الحاكم وغيره ، وما دل على ولاية الحاكم أخص منه مطلقا من حيث ذات الولي ، وان كان عاما في نفسه بالنسبة إلى متعلق الولاية ، نكاحا

__________________

(١) الوسائل ، كتاب النكاح ، باب حديث (٤) بإسناده : «عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)»؟ قال : هو الأب والأخ والرجل يوصي اليه ، والذي يجوز أمره في مال المرأة فيبتاع لها ويشتري».

(٢) المصدر نفسه حديث (٢) بسنده عن عبد الله بن سنان.

٢٥٤

كان أو غيره ، بعموم ، حذف المتعلق ، بناء على أن المنساق من النبوي ونحوه : ان كل مورد يتعلق به ولاية الولي من الأب والجد والسلطان قائم مقامه ، ومنه النكاح بالنسبة إلى الصغير.

ولكن فيه ما لا يخفى : أولا ـ إنه لا جابر نضيف سنده بعد ما عرفت من فتوى الكل أو الجل بالعدم وثانيا ـ لا عموم له. من حيث المتعلق بل هو من هذه الحيثية مهمل مسوق لإثبات الولاية ـ في الجملة ـ ، ولأن سلمنا عمومه من حيث المتعلق فالنسبة بينهما حينئذ نسبة العموم والخصوص من وجه ، لأن مفاد المفهوم : ان غير الأب لا ولاية له في نكاح الصغير ـ سلطانا كان أو غيره ـ ومفاد الحديث ، بناء على العموم : السلطان له ولاية على المولى عليه في النكاح وغيره ، واللازم حينئذ الرجوع إلى المرجحات الخارجية الموجودة لعموم المفهوم ، فيخصص بها عموم الحديث المستفاد من حذف المتعلق ، لو سلم (لا يقال) ولاية الفقيه فرع ولاية الإمام (ع) : وهي ثابتة له بالضرورة بالولاية العامة ، فيثبت للفرع ما هو ثابت للأصل بعموم النيابة (لأنا نقول) : غير معلوم ثبوتها في الأصل حتى يلتزم به في الفرع بعموم النيابة ، ويكفي الشك فيه ـ بعد أن كان مقتضى الأصل عدمه ، ولا ينافي ذلك ولايته العامة الموجبة لوجوب التسليم له في امتثال أوامره وتنفيذ تصرفاته لو أمر أو تصرف من غير رد له واعتراض عليه ، لما مرت إليه الإشارة : من أن الكلام في الشي‌ء بعد فرض وقوعه منه غير الكلام فيه من حيث أن له إيقاعه أم لا ، وان ذلك الا كما لو قيل : لو جعل الله فرعون في الجنة وموسى في النار لا يعترض عليه. وقد تقدم أن المشاهد من أحوالهم والمعروف من سيرتهم جريهم على ما أسسوه من القواعد الشرعية والقوانين الإلهية من غير فرق بينهم وبين غيرهم من الرعية في الفروج والأموال ونحوهما. وتأخر ولايتهم

٢٥٥

على الصغير عن وليه الإجباري أقوى دليل لما ذكرنا ، مع أنه أولى بالولي من نفسه ، فضلا عن المولى عليه. وقد تقدم من (الفاضل) (١) نفي الولاية عن السلطان ، المراد منه الامام (ع) فالفقيه منفية عنه بالأولوية وأما تفسير (من بيده عقدة النكاح) بالولي في الرواية ، فهي مجملة من حيث الذات ومهملة من حيث المتعلق. والمتيقن هو الولي الإجباري ، وارادة مطلق من يتولى أمرها مقطوع بعدمها ، لشمول سعته حينئذ ، العصبة المقطوع بعدمه.

ومنها ـ ولايته على المفلس في التحجير عليه عن التصرف في ماله دون غيره بعد اجتماع شرائطه : من ثبوت الدين عند الحاكم ، وحاوله ونقصان ماله عنه ، والتماس الغرماء له في التحجير عليه ، لأن الحق لهم فيتوقف على مطالبتهم ، فان ولايته في التحجير عليه حينئذ ثابتة بالإجماع ـ بقسميه ـ ومنقوله فوق حد الاستفاضة ، المعتضد بدعوى غير واحد عدم الخلاف فيه ، وان خلت النصوص ـ كما في الحدائق ـ عما يدل عليه صريحا بل وظاهرا ولذا توقف في أصل الحجر بالفلس ، محتجا عليه بذلك (٢) الا انه غير ملتفت اليه ، بعد ما عرفت من الإجماع عليه.

نعم ادعى شيخنا في (الجواهر) اشعار النصوص به ، بل ظهورها

__________________

(١) وهو العلامة في (التذكرة) ـ كما تقدمت عبارته آنفا.

(٢) أي بخلو النصوص عن الدلالة على الولاية صراحة وقوله : (غير ملتفت إليه) أي إلى احتجاج الحدائق بذلك. قال ـ في حدائقه : كتاب الحجر ، أوائل المطلب الثالث في المفلس : «بقي هنا شي‌ء لم أقف على من تنبه له وهو أن ما اشتهر في كلام الأصحاب ، بل الظاهر أنه لا خلاف فيه من كون المفلّس يجب المحجر عليه كما يجب على الصبي والسفيه والمجنون لم أقف فيه على نص واضح».

٢٥٦

فيه حيث قال في الرد عليه بعد نقله عن التوقف في أصل المسألة : «وفيه مع عدم انحصار الحجة فيها ، بل الإجماع بقسميه هنا كاف في ذلك على أن الموجود منها غير خال من الاشعار ، بل الظهور ، سيما النبوي المتقدم آنفا ، كموثقة عمار عن الصادق عليه السلام : «كان أمير المؤمنين (ع) يحبس الرجل إذا التولي على غرمائه ثم يأمره فيقسم ماله بينهم بالحصص فان أبى باعه ، فيقسمه بينهم ، فإن الأمر بقسمة ماله ظاهر في رفع اختياره في التخصيص لو أراده ، بل هو ظاهر في رفع اختياره لو أراد التصرف فيه على وجه يخرجه عن ملكه حتى لا يستحق الدّيانة منه ، بل لعل المراد من قوله : (يحبس) المنع من التصرف ، كما يرشد اليه خبر غياث : عن جعفر عن أبيه عليهما السلام : إن عليا عليه السلام كان يفلّس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر به ، فيقسم ماله ـ الحديث ـ ضرورة عدم معقولية إرادة غير ذلك من التفليس خصوصا بعد قوله (ع) ثم إلخ ، ومنه حينئذ تظهر دلالة خبر الأصبغ بن نباتة : عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنه قضى أن الحجر على الغلام حتى يعقل ، وقضى في الدين أنه يحبس صاحبه ، فان تبين إفلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا ، وقضى عليه السلام : في الرجل يلتوي على غرمائه انه يحبس ثم يأمر به فيقسم ماله بين غرمائه بالحصص فان أبي باعه فيقسم بينهم ، بل وخبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام : انه كان يحبس في الدين ثم ينظر فان كان له مال أعطى الغرماء وان لم يكن له مال ، دفعه الى الغرماء وقال لهم : اصنعوا به ما شئتم «ان شئتم فأجروه ، وان شئتم فاستعملوه» (١) انتهى.

__________________

(١) هذه العبارة بطولها ذكرها في (الجواهر) : كتاب المفلس في شرح قول المحقق : «وكذا لا يحجر. عليه الحاكم لو سأل هو الحجر

٢٥٧

وفيه : ان الإنصاف عدم ظهور هذه النصوص في المدعى من الحجر بالفلس ، وانما هي ناظرة إلى حكم الممتنع من حيث هو ممتنع المماطل عن أداء ما عليه من الحق من أمره بالوفاء وحبسه على تقدير العدم ، والتصدي معه لبيع ماله للوفاء عنه ، وهو حكم مرتب على تحقق عنوان الامتناع المأخوذ في موضوعه بحيث لا يترتب الحكم المذكور مع عدم تحققه في الخارج وان كان كارها للوفاء في الباطن. وأين ذلك من التحجير عليه بالتماس الغرماء الذي يكفي في تسويغه مجرد خوفهم على تلف أموالهم ، امتنع المديون عن الوفاء أو لم يمتنع ، ومنعه عن التصرف في ماله وسلب اختياره عنه والتقسيم بين غرمائه حكم مشترك بين المفلّس والممتنع ، وبينهما عموم من وجه يجتمعان ويفترقان ، فلا يستدل بنصوص الحكم في أحدهما على ثبوته في الآخر. نعم ربما يشعر به خبر غياث المتقدم ، بناء على إرادة تنزيل الملتوي منزلة المفلّس في تقسيم ماله بين غرمائه المشعر بمفروغية كون ذلك حكم المفلّس ، مع أنه يحتمل ـ قريبا ـ إرادة صيرورته مفلسا بعد سلبه خيار ماله وقسمته بين غرمائه. ولو سلّم ، فان هو إلا إشعار لا ترفع به اليد عن الأصول المعتبرة. وأما النبوي المروي عنه ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنه حجر على معاذ بالتماسه ، فهو مرمي بالضعف لكونه عاميا ، وبعدم العمل بمضمونه من الحجر عليه بالتماسه دون غرمائه ، وان استقر به في

__________________

على نفسه ، ويستعرض الأدلة على ذلك من الأصل والروايات وتحققها ويردها ـ الى قوله في رد الخبر ـ مع كون المشهور على خلافه ـ كما في المسالك ـ إلى قوله ـ وما أبعد ما بينه وبين المحدث البحراني الذي توقف في أصل الحجر بالفلس ، ولو مع الشرائط ، محتجا بأنه ليس في النصوص ما يدل عليه ، وفيه ..» إلخ. والروايات المذكورة في عبارته ذكرت في الوسائل كتاب الحجر (باب ٦ ، ٧).

٢٥٨

(التذكرة) مستدلا به عليه (١) ومع طرح الحديث بتمام مضمونه ـ كما فعله في (الجواهر) ـ كيف يستدل به على المدعى من ثبوت الحجر بالفلس. وبالجملة : فالمسألة من حيث النصوص المذكورة كما ذكره صاحب (الحدائق) إلا أنه من حيث الفتوى لا إشكال فيها ، لعدم انحصار الحجة بها ، بعد ما عرفت من الإجماع بل الضرورة عليه.

ومنها ـ ولايته على الممتنع عن أداء ما عليه من الحقوق المستحقة عليه ونحوها ، حتى على قبض الثمن المردود له في زمن الخيار لو امتنع عن قبضه في بيع الخيار ونحوه ، ولم يمكن إجباره عليه ، فيتولى قبضه الحاكم ويفسخ بالخيار بعد قبضه وكذا بيع ماله للوفاء عنه (٢) ، ويدل عليه ـ بعد الإجماع بقسميه ـ النصوص المتقدمة وغيرها ، بل هو المعنّي بقولهم : «الحاكم ولي الممتنع».

ومنها ولايته على الأوقاف العامة مع عدم تعيين الواقف وليا عليها فإن الولاية ثابتة له عليها نصا وإجماعا بقسميه ، ولأنه من المصالح العامة التي يرجع بها إلى الامام (ع) وإلى نائبه بعموم النيابة :

وجملة الكلام في الولاية الوقف ـ بعد ثبوت ان للواقف جعل ولاية

__________________

(١) قال العلامة في (التذكرة) : كتاب الحجر ، أواخر الفصل الثاني في شرائط الحجر : فروع ـ ج ـ : «لو لم يلتمس أحد من الغرماء الحجر ، فالتمسه المفلّس ، فالأقرب عندي جواز الحجر عليه لأن في الحجر مصلحة للمفلس ، كما فيه مصلحة للغرماء ـ الى قوله ـ : وقد روي أن حجر النبي (ص) على معاذ كان بالتماس من معاذ دون طلب الغرماء».

(٢) وذكر الفقهاء ـ في هذا الباب مواضيع كثيرة ـ في متفرقات أبواب الفقه ـ تكون للحاكم الولاية فيها على مطلق الممتنعين عن الالتزام بحقوقهم وواجباتهم من الماليات وغيرها ، لا يسع المجال استعراضها.

٢٥٩

الوقف لنفسه أو لغيره بالنص والإجماع (١) ـ هو : أن الواقف : (مرة) يوقف العين وقفا عاما على نوع أو جهة ويجعل وليا عليه من دون أن يعين كيفية خاصة زائدة على عنوان الوقف على ذلك النوع أو تلك الجهة بل يجعل كيفيات التصرف والصرف في مصرفه موكولا إلى نظر الولي ، فله بحسب الجعل من الواقف أنحاء التصرف فيه إلا ما ينافي عنوان الوقف إذا لم يعيّن عليه كيفية خاصة ، بل جعلها موكولة اليه ومنوطة بنظره ، فليس لأحد الرد عليه في تصرف من تصرفاته إلا ما كان منافيا للوقف وعنوانه.

(وأخرى) يعين كيفيات مخصوصة ، ويقررها في جعل الوقف ، ويجعل وليا عليه بحسب ما قرره وعينه من الكيفية المخصوصة ، إلا أن غرضه من جعل النظارة على الواقف إعطاء منصب له عليه وعود منفعة ـ مالية كحق التولية أو اعتبارية أو هما معا ـ اليه بحيث يكون جلّ مقصوده مصلحة الولي مقدما على مصلحة الموقوف عليه ، كما لعله يقصد ذلك كثيرا في جعلهم النظارة لأولادهم للتوصل به إلى أغراضهم الدنيوية في حق أولادهم وعليه فليس له أن يتصرف فيه لغير ما قرره من الكيفية المجعولة بأصل الوقف ، لأنها غير موكولة إلى نظره كالأول : (وثالثة) يجعل وليا وغرضه

__________________

(١) وخالف ابن إدريس في (السرائر) في جواز جعلها للنفس مطلقا ، ولكنه خلاف الإجماع. قال العلامة في (التذكرة) : في مسألة أن الواقف أحق بالتولية : «حق التولية للواقف في الأصل ، لأن أصل قربة الوقف منه ، فهو أحق أن يقوم بايصائها وصرفها في مظانها ومواردها. فاذا وقف ، فلا يخلو : إما أن يشترط التولية لنفسه أو لغيره أو يطلق ولا يذكر شيئا. فإن شرطها لنفسه صح ولزم لأنه أكد بشرطه بمقتضى الأصل ـ إلى قوله ـ : ولا نعلم فيه خلافا. وإن شرطها لغيره لزم ـ عندنا ـ ولم يجز لأحد مخالفته عند علمائنا ..».

٢٦٠